قال أبو داود : " ما كان في كتابي من حديث فيه وَهَنٌ شديد فقد بيَّنته ، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح ، وبعضها أصح من بعض "
رسالة أبي داود إلى أهل مكة (27). البدر المنير (1/300) . النفح الشذي (1/24) . التقييد والإيضاح (52) . تدريب الراوي (1/167) . وانظر : رسالة أبي داود إلى أهل مكة (25)
قال الذهبي في السير (13/214) : " قلت : فقد وفَّى رحمه الله بذلك بحسب اجتهاده ، وبيَّن ما ضعفُه شديدٌ ، ووهنُه غير محتمل ، وكاسَرَ عن ما ضعفه خفيف محتمل، فلا يلزم من سكوته والحالة هذه عن الحديث أن يكون حسناً عنده ، ولا سيما إذا حكمنا على حد الحسن باصطلاحنا المولَّد الحادث ، الذي هو في عرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح الذي يجب العمل به عند جمهور العلماء ، أو الذي يرغب عنه أبو عبد الله البخاري ويمشيه مسلم وبالعكس ، فهو داخل في أداني مراتب الصحة ، فإنه لو انحط عن ذلك لخرج عن الاحتجاج ولبقي متجاذباً بين الضعف والحسن .
فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت : ما أخرجه الشيخان ، وذلك نحو من شطر الكتاب ، ثم يليه : ما أخرجه أحد الشيخين ورغب عنه الآخر ، ثم يليه : ما رغبا عنه وكان إسناده جيداً سالماً من علة وشذوذ ، ثم يليه : ما كان إسناده صالحاً وقبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين فصاعداً يعضد كل إسناد منهما الآخر ، ثم يليه : ما ضعُف إسناده لنقص حفظ راويه فمثل هذا يمشيه أبو داود ويسكت عنه غالباً ، ثم يليه : ما كان بَيِّن الضعف من جهة راويه فهذا لا يسكت عنه بل يوهنه غالباً ، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته ، والله أعلم " وانظر : تاريخ الإسلام (20/360) .
ولابن حجر في تفسير عبارة أبي داود كلام نفيس أسوقه بتمامه لفائدته ، فإنه يغني عن كلام كثير غيره ، قال في النكت (1/435-445) : " وفي قول أبي داود : " وما كان فيه وهن شديد بينته " : ما يُفهِم أن الذي يكون فيه وهنٌ غير شديد أنه لا يبينه ، ومن هنا يتبين أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي بل هو على أقسام :
1- منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة .
2- ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته .
3- ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد ، وهذان القسمان كثير في كتابه جداً .
4- ومنه ما هو ضعيف ؛ لكنه من رواية من لم يُجمَع على تركه غالباً .
وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها ، كما نقل ابن منده عنه : أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره ، وأنه أقوى عنده من رأي الرجال .
وكذلك قال ابن عبد البر : " كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده ، لاسيما إن كان لم يذكر في الباب غيره " .
ونحو هذا ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل فيما نقله ابن المنذر عنه : أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره ، وأصرح من هذا ما رويناه عنه فيما حكاه أبو العز ابن كادش ، أنه قال لابنه : " لو أردت أن أقتصر على ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء ، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث أني لا أخالف ما يضعف إلا إذا كان في الباب شيء يدفعه " ، ومن هذا ما روينا من طريق عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل بالإسناد الصحيح إليه ، قال : سمعت أبي يقول: " لا تكاد ترى أحداً ينظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل ، والحديث الضعيف أحب إليَّ من الرأي " ، قال : فسألته عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث ، لا يدري صحيحه من سقيمه ، وصاحب رأي ، فمن يسأل ؟ قال : " يسأل صاحب الحديث ، ولا يسأل صاحب الرأي " .
فهذا نحو مما حكي عن أبي داود ، ولا عجب فإنه كان من تلامذة الإمام أحمد ، فغير مستنكر أن يقول قوله ، بل حكى النجم الطوفي عن العلامة تقي الدين ابن تيمية أنه قال : " اعتبرت مسند أحمد فوجدته موافقاً لشرط أبي داود " .
وقد أشار شيخنا في النوع الثالث والعشرين إلى شيء من هذا ، ومن هنا يظهر ضعف طريقة من يحتج بكل ما سكت عليه أبو داود ، فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها ، مثل : ابن لهيعة ، وصالح مولى التوأمة ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ، وموسى بن وردان ، وسلمة بن الفضل ، ودلهم بن صالح ، وغيرهم .
فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ، ويتابعه في الاحتجاج بهم ؛ بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به ، أو هو غريب فيتوقف فيه ، ولاسيما إن كان مخالفاً لرواية من هو أوثق منه ؛ فإنه ينحط إلى قبيل المنكر .
وقد يخرِّج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير : كالحارث بن وجيه ، وصدقة الدقيقي، وعثمان بن واقد العمري ، ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني ، وأبي جناب الكلبي، وسليمان بن أرقم ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، وأمثالهم من المتروكين .
وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة ، وأحاديث المدلسين بالعنعنة ، والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم ، فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود ؛ لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه ، وتارة يكون لذهول منه ، وتارة يكون لشدة وضوح ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته ، كأبي الحويرث ، ويحيى بن العلاء ، وغيرهما .
وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه وهو الأكثر ؛ فإن في رواية أبي الحسن ابن العبد عنه من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية اللؤلؤي وإن كانت روايته أشهر ، ومن أمثلة ذلك : ما رواه من طريق : الحارث بن وجيه ، عن مالك بن دينار ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : حديث «إن تحت كل شعرة جنابة ...» الحديث ، فإنه تكلَّم عليه في بعض الروايات ، فقال : " هذا حديث ضعيف ، والحارث : حديثه منكر " ، وفي بعضها اقتصر على بعض هذا الكلام ، وفي بعضها لم يتكلم فيه .
وقد يتكلم على الحديث بالتضعيف البالغ خارج السنن ، ويسكت عنه فيها ، ومن أمثلته : ما رواه في السنن من طريق : محمد بن ثابت العبدي ، عن نافع ، قال : انطلقت مع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في حاجة إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فذكر الحديث في الذي سلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد عليه ، حتى تيمم ثم رد السلام ، وقال : «إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني لم أكن على طهر» ، لم يتكلم عليه في السنن ، ولما ذكره في كتاب التفرد قال : " لم يتابع أحدٌ محمد بن ثابت على هذا " ثم حكى عن أحمد بن حنبل أنه قال : " هو حديث منكر " .
وأما الأحاديث التي في إسنادها انقطاع أو إبهام : ففي الكتاب من ذلك أحاديث كثيرة ، منها : وهو ثالث حديث في كتابه : ما رواه من طريق : أبي التياح قال : حدثني شيخ ، قال : لما قدم ابن عباس البصرة كان يحدِّث عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه ، فذكر حديث : «إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله» : لم يتكلم عليه في جميع الروايات ، وفيه هذا الشيخ المبهم ، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يمنع من الاحتجاج بها ما فيها من العلل .
فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته ؛ لما وصفنا أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ، ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه ، والمعتمد على مجرد سكوته لا يرى الاحتجاج بذلك فكيف يقلده فيه .
وهذا جميعه إن حملنا قوله : " وما لم أقل فيه شيئاً فهو صالح " على أن مراده : أنه صالح للحجة ، وهو الظاهر ، وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك ، وهو الصلاحية للحجة أو للاستشهاد أو للمتابعة : فلا يلزم منه أنه يحتج بالضعيف .
ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي يسكت عليها وهي ضعيفة : هل فيها إفراد أم لا؟ إن وجد فيها إفراد : تعين الحمل على الأول ، وإلا حمل على الثاني ، وعلى كل تقدير: فلا يصلح ما سكت عليه للاحتجاج مطلقاً .
وقد نبه على ذلك الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى ، فقال : " في سنن أبي داود أحاديث ظاهرة الضعف لم يبينها ؛ مع أنه متفق على ضعفها ، فلابد من تأويل كلامه " ، ثم قال : " والحق : أن ما وجدناه في سننه مما لم يبيِّنه ، ولم ينصَّ على صحته أو حسنه أحد ممن يعتمد : فهو حسن ، وإن نصَّ على ضعفه مَن يعتمد ، أو رأى العارف في سنده ما يقتضي الضعف ولا جابر له : حكم بضعفه ، ولم يلتفت إلى سكوت أبي داود " .
قلت : وهذا هو التحقيق ، لكنه خالف ذلك في مواضع من شرح المهذب وغيره من تصانيفه ، فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل سكوت أبي داود عليها ؛ فلا يغتر بذلك والله أعلم " انتهى كلام ابن حجر بنصه من النكت
وانظر : البحر الذي زخر (3/1075-1108) . ختم سنن أبي داود لعبد الله بن سالم البصري (78) .