ماذا أضاف عبد القاهر إلى علم الدّلالة ؟

عبد القاهر الجرجاني استطاع بحسّه البلاغيّ المرهف أنْ يتوخّى الوَحْدَةَ التركيبيّةَ الواحدةَ في النّصّ الواحد ، وأنّ الكلمةَ وحْدها أو الجملةَ وحدَها لا تسهمُ في بناء كلّها إلا من خلال نصٍّ كاملٍ مُتكامل ، ويُنظر إلى ما فيه من معانٍ كبناءٍ واحدٍ مرصوص ، لا خيار فيه للكلمة أو الجملة إلا أنْ تتسقَ في سياقٍ كليٍّ مُحكم ، في القصيدة الشعريّة أو الخطبة النثريّة وغيرها من النّصوص الأدبيّة .

واستلهم عبد القاهر هذا الإحساسَ منْ واضع لبنات السّياق ألا وهو الجاحظ ، فيكون عبد القاهر بذلك باني صرح السّياق كما تجلّى له ذلك في نظريّة النّظم .

فالمعنى ظاهرةٌ بالغةُ الدّقة ، شديدةُ التعقيد ، لا يمكن معالجتها من زاويةٍ واحدةٍ ، فالدّلالة المعجميّة للمفردة الواحدة لا تمثّل إلا جانباً واحداً محدوداً من دلالتها . فهي لا تحدّد لنا تحديداً واضحاً كيف يجري استخدام الكلمة في التركيب اللغويّ أو الجملة استخداماً صحيحاً معبّراً . والدّلالة المعجميّة العامة تقتصر في العادة على ما تمثّله المفردة في العالم الخارجيّ أو في حقل الخبرة العامة[1] .

ونستطيعُ القولَ : إنّ علماءنا القدماء وعوا أنّ السّياقَ يلعبُ دوراً هاماً في تقرير معنى المفردة وتحديده ، وكيف أنّ المفردةَ إلى جانب أختها والجملةَ إلى جانب أختها تَبْنِيَانِ نصَّاً متكاملاً ، ولا مناصَ من اتحادهما في لُحْمَةٍ واحدةٍ ليصل إلى مستوىً لغويٍّ رفيع الشأن .

ماذا أضاف الغربيّون ؟

بدأ المحدثون من النّقطة التي وصل إليها عبد القاهر . ونظريّته في النّظم هي نفسها التي سمّاها المحدثون بعلم الصّيغ أحد فروع علم اللسان . فهم يرون أنّ اللغة البشريّة لا تقفُ عند استعمال الألفاظ المفردة ، إذ تنتظم تلك الألفاظ مجموعاتٌ تختلف تبعاً للمعنى الذي تريد العبارة عنه وهي ما يُسمّى بالجمل ، وجمع الكلمات في جمل ، ومن الواجب أنْ تؤلّف تلك الجمل تبعاً لطرقٍ تحدّدها طبيعةُ كلّ لغةٍ ، وتلك الطرق تُسمّى بعوامل الصيغة[2] .

والإضافة الجديدة في هذا المجال هي أنّ الفصلَ بين الألفاظ ودلالاتها المختلفة وبين الجمل هو ضربٌ من المستحيل . وقد رأى الأستاذ أنطوان ماييه أنّ التمييز بين الجمل المؤلّفة في مجموعةٍ من الكلمات حسب قواعد النّحو المقرّرة ، وبين وظيفة تلك الصّيغ المتكوّنة من جرّاء ذلك ، إنّما هو تمييزٌ أحمق[3] .

وفيرث وغيره من اللغويّين الغربيّين ، لهم شأنهم وقدرهم فيما خاضوا فيه في هذا المضمار ، إلا أنّهم لم يقرؤوا ما سطّرته أنامل الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني ، أو أنّهم قرؤوا وتجاهلوا صُنعَ أولئك العِظام ، تفرّداً بالعظَمَة وقصب السّبق ، ولا يسعني إلا أنْ أقول : إنّ تراثنا حمل إلينا عبر هذه الأزمان المتلاحقة أنفاسَ علمائنا ليوقّعوا توقيعاتهم في السّياق من خلال حقائقَ أوصلوها إلينا لا يختلفُ عليها اثنان .


أنماط السياق :

تتطلب دراسة معاني الكلمات عند أصحاب نظرية السياق تحليلاً للسياقات والمواقف التي ترد فيها، حتى ما كان منها غير لغوي[4] . ولذلك اقترح k. Ammer تقسيماً للسياق ذو أربع شعب[5] . وهذا التقسيم الذي اقترحه هو كالآتي :

النمط الأول ، السياق اللغوي :

هو حصيلة استعمال الكلمة داخل نظام الجملة، عندما تتساوق مع كلمات أخرى، مما يكسبها معنى خاصاً محدداً. فالمعنى في السياق هو بخلاف المعنى الذي يقدمه المعجم، لأن هذا الأخير متعدد ومحتمل، في حين أن المعنى الذي يقدّمه السياق اللغوي هو معنى معين له حدود واضحة وسمات محددة غير قابلة للتعدد أو الاشتراك أو التعميم[6] .


[1] التطوّر الدّلاليّ بين لغة الشعر الجاهليّ ولغة القرآن الكريم ، ص : 74 .

[2] انظرْ : التطوّر الدّلاليّ بين لغة الشعر الجاهليّ ولغة القرآن الكريم ، ص : 71 .

[3] النّقد المنهجيّ عند العرب ، مقال مترجم للأستاذ انطوان ماييه ، للدكتور : محمد مندور ، دار نهضة مصر للطباعة والنّشر ، 1969 ، ص : 446 .

[4] مبادئ اللسانيات ، أحمد محمد قدور ، دار الفكر ، دمشق ، ط : 2 ، 1999م ، ص : 295 .

[5] علم الدلالة ، أحمد مختار عمر ، عالم الكتب ، القاهرة ، ط : 2 ، 1988م ، ص : 69 .

[6] الألسنية محاضرات في علم الدلالة ، نسيم عون ، دار الفارابي بيروت ، ط : 1 2005م ، ص : 159 .