وهـو عقـلٌ/نـمـوذجٌ اختـزالـيٌّ([1])؛ ولعل أكبـر تـجسيـدٍ لـهذا نـجده فـي أعمال النحَّـات السويسري الـمشهور (جياكوميتـي)؛ الذي اعتمد الأسلاك فـي نـحتـه، للتَّـعبيـر عن مأساة الإنسان الـمعاصر. لقد حقق فـي حقل النَّـحت، مبادئ عن الـجمال الـمذكر والـمؤنث- التـي حققتها الـحضارة الـمعاصرة فـي الـحياة العمليـة- بتبديد الدُّهـن، واللحـم من الأجساد البشريـة؛ فأخذ الـجسم البشري مقياسًـا واحـدًا، لقد أخذ أشكالاً مـحددةً، جافـةً، لا تزيد على حجم سلك حديـدي (!)

و هذا تـمامًـا ما يـحكيـه الأديب الروماني (كونستانتـان جيوروجـيو) فـي روايتـه (السَّـاعة الـخامسة، والعشـرون)؛ أيـن تبدو أزمة الـحضارة الغربيـة واضحـةً للعيـان؛ إنَّ مآسيها تعرض علينا كما لو كنا نشهد مسرحـيةً حاضرةً: الإنسان الذي سُلبت حريتـه، وأدخـل فـي دوَّامـةٍ مـن آليـةٍ قاسيـةٍ؛ أحالتـه إلـى (رقيـق)؛ وأفقدته حريتـه، وإرادتـه الذَّاتيـة. (الـمواطنون) الذين مـلئـوا الشَّـوارع، ودور الـحكومـة، والـمؤسسات؛ فـي جـماعيـةٍ سحقت كلَّ مـا هو فـردي، وتشابهيـةٍ دمـرت كل إمكانيـةٍ للتَّـنوع، والإبداع، وتعميميـةٍ مـحقت كل اتـجـاهٍ شخصيٍّ، وماديـةٍ ردمت كل منابـع الـحب، والإيـمان فـي وجـدان الإنسان.
النُّـظم الصَّارمـة التـي أوجدت جحـرًا خانقًا بات لا يصلح للـتَّـنفس؛ الصِّـراع مـن أجل تأكيدٍ أكثـر للآليـة، واستعبادٍ أشد للإنسان، وتـحطيمٍ أعنف للقيَّـم، وتـجفيفٍ لا يرحم لـمنابع الوجـدان؛ كل منكم سيصرخ بعد مشاهدة منظرين، أو ثلاثة مـن مسرحيـة الـحضارة الغربيـة/ الـعلمانيـة الـمعاصرة.
(الآن لست أريد متابعة النَّـظـر، لأننـي تعبت؛ ولأنَّ الـمشهد طال أكثر من الـمعتاد، إنَّنـي -إذا استمريت على الـمشاهدة- فسوف لا أرى إلاَّ الأنقاض؛ سأرى مدنًا متهدمـةً، ورجالاً متهدميـن، وبلدانًـا، وكنائس، وآمالاً كلها متهدمـةٌ مـحطمـةٌ).
صحيح أنَّ (جيوروجيـو) يعالج فـي روايتـه هذه، مأساة الإنسان الغربي فـي النظم الشُّموليـة، أمـميةً كانت؛ أم قوميـةً شوفينيـةً، إلاَّ أنَّـه لا يغفل عن إدانة النُّظـم الرأسماليـة بـما تنطوي عليـه من آليـةٍ، وذرائعيـةٍ ساقت الإنسان هي الأخـرى إلـى التَّـعاسـة، والعـذاب.
إنَّ جانبًـا من الأدب الغربي اليوم –وبـخاصة الرِّوايـة، والـمسرحيـة- يشكل أهميـةً كبـرى فـي أية دراسـةٍ جـادة للحضارة الغربيـة الـمعاصرة؛ لأنَّـه يعكس -بصدقٍ فنِّـي مدهشٍ- الأزمـة التـي تعانيها هذه الـحضارة فـي جناحيها الـجماعي، والفـردي، والضُّـغوط القـاسية التـي تسلطها على الإنسان فتمـزِّقـه، وتسحـقـه.
إنَّ ردود الفعل التـي يـجابـه بها الإنسان الغربي الـمعاصر حضارتـه الـمتأزمـة هـذه، تبدو واضحـةً للعيان عبـر عددٍ كبيـرٍ مـن الرِّوايـات، والـمسرحيات التـي كتبها أدبـاء، وفنانون كبـار أدركوا جوانب عميقة من الأزمـة؛ وكلهم بلغ درجاتها الدُّنيـا، وجاس فـي سراديبها، وكهوفها؛ وما إن وصل بعدها الأخيـر حتى غطَّـاه الظِّـل، وأغـرقــه الظَّـلام؛ فهل ننتظر نـحن منه أن يـجد لنا مصدر الضَّوء، ويدلنا على طريق الـخـروج؟ إنَّ مـا تقدمه لنا هذه الآداب، والفنون يقتصر على الـخطوة الأولـى: تـحديد ملامح الـمأساة؛ أمَّـا الـخطوة التَّـاليـة التـي ترسم لنا طريق الـخلاص؛ فما ينتظر مـن هؤلاء أن يتقدمـوا إليهـا، لأنَّـهم ليسوا (على شريعة من الأمـر)، وهي خطوةٌ نلقي مسؤوليتها العظمى على أعنــاق أولئك الذين حـملـوا أمــانـة (الكتاب).
لـماذا (السَّـاعة الـخامسة، والعشرون)؟. جيوروجيـو يـجيبنا على هذا السُّـؤال: (إنَّ الـجو بات لا يصلح للتَّـنفس... إنَّ الـجو بات خانقًـا... الـجـو الذي يعيش فيـه الـمجتمع الـحاضر... إنَّ الكائن البشري لن يستطيع احتمالــه... إنَّ البيـروقراطيـة، والـجيش، والـحكومـة، والتَّـنظيم الـحكومـي، والإدارة؛ كل هذه الأشياء تساهم فـي تسميم الـجو ليخنق الإنسان... إنَّ الـمجتمع الـحاضر يستخـدم الآلات، والـرَّقيـق العنصري... لقد خـلق من أجلها...؛ ولكنَّ الإنسان مـحكومٌ عليـه بالاختناق؛ غيـر أنَّ بنـي الإنسان لا يشعرون بذلك... لقد وضعت فـي روايـتـي الطَّـريقة التـي يـموت بها رجال هذه الأرض الذين يـحيون فـي عذابٍ مـريعٍ، وقلقٍ قاتـلٍ؛ تـخنقهم الأجـواء غيـر الصَّـالـحة للحيـاة).
إنَّ التَّـقدم التِّـقنـي الذي أحـرزته الـحضارة الغربية؛ لـم توجهه قيـم الدِّين يومًـا؛ لا بل ولا حتـى قيـمٌ إنسانيـةٌ مشتـركـةٌ؛ بل إنَّـه انطلق أساسًا، وأخذ طريقه يوم أعلـن العلم انتصاره على الدِّين -أو هكذا يتوهمـون- فلا تعجب -إذن- إذا ما تضاءل الإنسان يومًا بعد يوم إزاء هذا التَّـضخم الآلي؛ لأنَّـه فقد الإيـمان بكرامتـه كإنسـان، وغض بصره عن التَّـطلع إلـى قيمٍ علويـةٍ، وسجد للآلـة؛ وها هـو كاتبٌ غربـيٌّ يقدم تـحليلاً رائعًا يتميِّـز بالـجِّـدة، والـحيوية لـهذه العلاقـة غيـر الـمتكافئة بيـن الإنسـان، والآلـة.
لقد مضى على احتجاج الرجليـن: النَّحـات، والأديب، أكثر من نصف القـرن، ولا تزال عملية اختزال الإنسان ماضيةً فـي طريقها؛ تـحت مظلة الـمطالب الـحضارية (!)، ومقتضيات السُّرعـة، والاقتصاد، والانـجـاز؛ ولا يزال الإنسان فـي مطالبه الـحيويـة، والوجدانية، والـحسِّية، والرُّوحيـة؛ فـي علاقاتـه الاجتماعية، وفـي وضعه الـحضاري. ساحـةً للتَّـجريب، والاختبـار اللامـحدود [ومـن أيـن تأتـي الـحدود؟] من أجـل الوصول إلـى تلك الـحالة، التـي لا يستهلك فيها طعامًا، مستغنيًا عنه بالـحبوب، والأقراص، ولا يـمارس حبًّـا، وأشواقًـا؛ لأن إفرازاتـه الـجنسية، يـمكن أن تتحقق مـن أقرب طريـقٍ؛ ولا يأوي إلـى بيتٍ، أو زوجٍ، أو ذرَّيـةٍ، لأنَّ استمراريـة الـحياة بالـمعدلات الـمرسومـة، لن تسمح للرجل أن يتزوج على هـواه، وينجب كما تـملي عليه رغبـاتـه، ونزوعـه الإنساني.
الاختـزال فـي كل مكانٍ، وعبـر كل مـمارسةٍ، صغيـرةٍ، وكبيـرةٍ، فـي الشَّأن الـعام، والـخاص؛ وكأنَّ الـحياة البشريـة، قد تـحولت إلـى ورشةٍ كبيـرةٍ، أو حقـل للتَّـجـارب العلميـة، من أجل الوصول إلـى أقصى درجـات الإنتاجيـة الـمتوخـاة مـن الإنسان، فـي مقابل أقل قدرٍ مـمكنٍ مـن الاستهلاك فـي الزمـن، والطَّـاقـــة، والـجهد، والــرَّغبـات، والــدَّوافع، والـميـول، والأشـواق.
اختزالٌ فـي الـجسد؛ إذ يكفي، أن يعيش الإنسان، بأقل وزنٍ مـمكنٍ؛ تكفيـه الكيلوات الأربعـون، أو الـخمسون؛ بل إنَّـها تضمن له قدرة أكبـر على الفاعليـة، والإنـجـاز. اختزالٌ فـي الرَّغبة الـجنسية، تكفي معها نظرية كأس الـماء، التـي نادى بها الـمنظرون الـماركسيون يومًـا؛ والتـي تتمثل بإفراغ سريع للشَّهوة، من أقرب طريق، أسوةً بـما يـحدث إزاء إلـحـاح العطش، للانصراف؛ مـن ثـمَّ، وبعد تفريغ الشحنـة الـمقلقة، ينطلـق إلـى العمل، والإنتـاج.
اختـزالٌ فـي الأحاسيس، والـمطالب الـحيويـة؛ إذ تكفي ثلاثـة أقراصٍ فـي اليوم، للتَّـعويض عن الطعام، ويكفي فيلمٌ تليفزيونـيٌّ، للتَّـعويض عن رحلةٍ فـي الـهـواء الطَّـلـق؛ وتكفي زجاجـة عطـرٍ مركـزٍ معدٍ بعنايـةٍ فائقـةٍ، للتَّـعويض عن النُّزهات الدَّوريـة فـي الـحدائق، والـمتنزهات.
اختـزالٌ فـي العلاقـات، والـممارسات الاجتماعية؛ إذ تكفي حديقةٌ واحدةٌ، لكل مـجموعةٍ سكنيـةٍ؛ وتكفي تـحيةٌ سريعةٌ عابرةٌ، بيـن الـجـار، والـجـار؛ بدلاً من تبـادل الزيارات الطَّـويلة، وتكفي الانـحناءة الـمهذبـة، بدلاً من عبارات الـمودَّة، والسَّلام؛ وتكفي ساعةٌ واحدةٌ مع الزَّوجـة، والأطفال، فـي نهاية يوم من الكدح الصَّعب، بدلاً من (تضييـع) السَّـاعات الطِّـوال بصحبتهم؛ وتكفي سنوات ما قبل الرشد، لكي يظل الأولاد ملتصقيـن بالأب، والأم؛ أمَّـا بعدها فإنَّ عليهم أن يرحلـوا، حيث لا يقتضي الأمـر عند ذاك، سوى زيارات مـجاملةٍ متباعدةٍ، لبيت العائلة؛ وقد لا يكون لـهذه الزيارات مبـررٌ أساسًا؛ لأنَّـهــا مـضيعــةٌ للوقت.
اختـزالٌ فـي الأحاديث الـمباشرة؛ لأنَّ تكنولوجيا التَّـواصل، ألغتها من الـحساب؛ وفـي تبادل الأشواق، لأنَّ عصر السُّرعـة، لا يسمح بها (!)
اختزالٌ فـي الـرُّوح، حيث لا وقت لصلاةٍ، أو صيامٍ؛ حيث تـحجَّـم هـذه فتغدو مـمارسةً روتينيـةً، مـحددةً بساعـةٍ مــا، فـي يـومٍ مـن أيــــام الأسبوع.
اختـزالٌ فـي الرَّاحـة، والاستـرخـاء؛ حيث تضيِّـق زحـمة الـمطالب خناقها على الإنسان؛ وحيث يكفي قـرصٌ مـن (الأتيفـان)، أو (الفاليوم)، لا ستدعـاء النَّـوم؛ فـي الوقت الـمطلوب، واستعـادة التَّـوازن، والقـدرة على العمـل مـن جـديــدٍ.
اختـزالٌ فـي منظور الرؤيــة للعالـم؛ حيث لا مبـرر لتجـاوز العالـم، إلـى ما وراءه، والـمنظور إلـى الـمخفي، والظاهر إلـى الباطن، والـملموس إلـى الغيب، والقريب إلـى البعيد، والأرضي إلـى السَّـماء، والدنيا إلـى الآخـرة.
إنَّ هذا كله، نوعٌ من التَّـرف الزَّائد؛ وأحـرى بالإنسان أن يـحيا فـي عالـمه الـمباشر، وأن يكون واقعيًـا؛ فـي عصر يرفض الـمثاليات، والأحـلام، وينسحق كل من لا يركض مع الرَّاكضيـن، للحصول على مغنمٍ أكبـر، وضمـان لقمة أكثـر إشعاعًـا؛ عصر يـجعل توقف الـمرء فيه لـمراجعة الـحساب، عرضة لكي يدوسه الآخـرون، والـمندفعون إلـى أهدافهم، بـحتميـةٍ جـماعيةٍ، وإحساسٍ بالضغوط الـمنصبة على كل إنسانٍ، وكأنَّـها قدرٌ لا فكاك منه.
اختزالٌ فـي التَّـفكيـر؛ لأنَّ الـحاسب الآلي، أغنى الإنسان عن التَّـفكيـر؛ وفـي التَّـأمل الــذَّاتـــي، لأنَّ عجلة الـحياة، لا تسمح بالإيـغــال فيــه.
اختـزالٌ فـي الإبداع؛ لأنَّ ألعاب الفيديـو امتصت حـاجـة الإنسان إلـى الإبداع. اختـزالٌ فـي كل شيءٍ، وفـي كل مـمارسةٍ، وفـي كل نشاطٍ، وفـي كل ما يهم الإنسان فـي ذاته، وفـي تكوينه البشري، وفـي ملذاتـه، ومطالبـه الـحيويـة، وأحاسيسه؛ بل فـي آمالـه، وأحـلامـه. فـي أشواقـه، ومطامـحـه الرُّوحيـة. فـي علاقاتـه الاجتماعية. فـي رؤيتــه للكون، والعالـم، والـحيـاة.
الإنسان يتحول إلـى سلكٍ، والعلاقـات الاجتماعية، تصيـر شبكةً مـن الأسلاك؛ والأنشطة الـحضاريـة، تنبض عبـر حُزم الأسلاك الدَّقيقـة، التـي لا ترى بدلاً مـن أن يكون مـحلها القلب، والعقـل، والوجـدان.
والتِّـكنولوجيا التـي لـم يعد يقف أمام زحفها، شيءٌ فـي العالـم، تـمضي مسرعةً هي الأخـرى؛ فـي مـزيـدٍ مــن الاخـتـزال اللامتنـاهـي.
اختزالٌ فـي كل صغيـرةٍ، وكبيـرةٍ؛ والتِّـكنولوجيـ ا، تـمضي أبدًا، للإعانة عليه بـحجـة أنَّـه مطلبٌ حضاريٌّ، وأنَّ عصر البطء، والتَّـثاقـل، عصر الأدوات، والأشياء الكبيـرة، التـي تـحتل مكانًا أكبـر، فـي حياتنـا اليوميـة، مضى إلـى غيـر رجعـةٍ........). [عود الربيـع. كيف تنسج النَّماذج المعرفية خيوط الأدب (38-43)].



([1]) رؤيـةٌ إسلاميـةٌ فـي قضايـا معاصـرة. (فصل: عصـر الاختـزال).