السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (2)
د / عبد الرحمن علي الحجي
قيام المجتمع المسلم في المدينة وَفرَ كُلَّ الأسباب التي تُعِين على الأخذ بتعاليم الإسلام، متاحة لمن يريد من أفراد مجتمعه، وحَجْب الأسباب التي تفتح أبوابَ البعد عنه.. ويسّر كل وسائل الأخذ به مشجعاً له.. لذلك لابد من العمل لقيام مجتمع مسلم، كي تحيا فيه هذه المشاهد وتقوم ماثلة، كما أسقط كل المخلّفات والمثقلات والمعوقات، هو ما حدث في السيرة النبوية الشريفة، وعبر عن ذلك الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم في التعامل والتوجيه والعمل، ومحا بذلك آثاره مبتدئاً بنفسه، سنةً متبعة حاضرة.
هكذا وَضَعَ (أبطل) الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم كُلَّ أمورِ الجاهلية – في أكثر من مناسبة – تحت قدميه الشريفتين.. انظروا التعبيرَ الباتَّ كان ذلك في فتح مكة المكرمة (صُبْحَ يوم الجمعة 20 رمضان 8هـ = 630م)، وتكرر في حجة الوداع (ذو الحجة 10هـ): "لا إله إلا الله وَحْدَه لا شريك له، صَدَقَ وَعْدَهُ ونَصَرَ عَبْدَهُ وهَزَمَ الأحزابَ وَحْدَهُ، ألا كُلُّ مَأْثُرة أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قَدَمَيَّ هاتين إلَّا سِدانة البيت وسِقاية الحاج ]فإني أمضيتُهما لأهلهما على ما كانت[.. يا معشرَ قريش، إن الله قد أذهب عنكم نَخْوَةَ الجاهلية وتَعَظُّمَهَا بالآباء، الناس مِنْ آدم وآدم من تراب، ثم تلا الآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13})(الجُجُرات)"..(1 ).
انظروا خطبة حجة الوداع يومَ عَرَفَة التاسع من ذي الحجة السنة العاشرة للهجرة النبوية الشريفة: "... أيها الناسُ، إن دماءَكم وأموالَكم ]وأعراضكم[ حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بَلّغْت.. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، ألا كُلُّ شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضع من دمائنا دَمَ ابنِ ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب كان مسترضَعاً في بني سعد فقتلته هذيل، ورِبا الجاهلية موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون، قضى الله ألا ربا، وأول ربا أضع ربانا ربا (عمي) العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوعٌ كُلُّه..
أيها الناس، إن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم ويحرموا ما أحل الله.، (وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)..
أما بعد أيها الناس فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بالنساء خيراً.. فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أبداً أمراً بيناً إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة نبيه.. أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه.. وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟ اللهم هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم، نشهد أنك قد بلغتَ وأديتَ ونصحتَ، فقال بإصْبَعِه السَبّابَة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد"(2).
يتبين من كل ذلك أن اتِّبَاع المنهجَ الإسلامي يجنبُ الأفرادَ والمجتمعاتِ والدولةَ كافةَ المشكلات بسهولة، وعدل وأناة قبل الوقوع فيها – إلى ما مضى – والمعافاة منها قبل خوضها، الخفية والجلية المنظورة والمستورة القادمة والنائمة، إلى جانب المنظورة، منها ما هو طريف، سمعت منذ قريب (العاشر من رمضان 1434هـ) قصة نُشِرَت بين الكثير: أن امرأة مسلمة في ألمانيا ولَّدَتْها طبيبةٌ ألمانية، التي أخذت تقدم للمرأة بعض التوجيهات التي تهمها في حالتها تلك، من أن عليها ألا تعاشر زوجها لمدة أربعين يوماً بعد الولادة، حيث قد اكتُشِفَ حديثاً أن في ذلك ضرراً كبيراً، لكن لاحظت الطبيبة أن المرأة تبتسم، فسألتها عن ذلك؟!
فقالت: إن المسلمين يعرفون ذلك من دينهم منذ أربعة عشر قرناً، فدهشت قائلة: من أين لكم هذا وهذه مكتشفات حديثة تمت معرفتها بعد بحوث متتابعة حديثة؟ مما دعاها لدراسة الإسلام الأمر الذي قادها إلى الإسلام، الله أكبر! يلتحق بهذا كل ما يتعلق بالولادة وما يليها من أمور الرضاعة والفطام وحقوق الطفل، كلها تجنبها المشكلات وتحفظ نشأته في طفولة سليمة مؤهلة تسير متعافية. هذه نماذج لمشكلات وقعت، ويمكن أن تقع في المجتمع المسلم القائم على شرع الله تعالى، الذي يجنبها إياها، يلزم الحاكم نفسَه بتحري حلها وقوفاً عند تعليمات الإسلام ملتزماً تنفيذها بحرص شديد.
خرج الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سوق الخيل لشراء فرساً اتفق مع أحدهم بسعر، ولما ركبها للتجربة عثرت فأصيبت، أعادها إلى صاحبها رافضاً أخذَها بحالتها هذه، لكن المالك رفض ذلك بعد الاتفاق على كل شيء، مثلما رفض الخليفة قبوله بعد تجربتها، بقي الخلاف قائماً، اقترح أحدُهم اختيارَ مَنْ يقضي بالأمر من الحاضرين، دُعِيَ أحدُهم للمهمة الذي نظر في الأمر وأعلن حكمه قائلاً للخليفة: يا أمير المؤمنين، حُزْ ما ابتعتَ أو رُدُّ كما أخذتَ (الحكم ضد الخليفة)، الذي نظر في الأمر متعجباً وقال: والله لا يكون القضاء إلا كذلك، وخاطب القاضي بقوله: عينتُكَ قاضياً! إنه القاضي الشهير شُرَيْح الذي بقي في القضاء ستين عاماً..
هل رأتْ البشريةُ يوماً – أو يمكنها رؤية – مثل هذا البناء للإنسان بهذه الرتبة والرفعة والروعة؟ نعم، ولكن في ظل هذا المنهج الرباني القرآني الفريد وَحْدَه! (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {10}) (الحجرات)(3)..
أَيُّ حل نموذجي لخلاف يقوم في المجتمع المسلم بين مجموعتين منه لا يتوافر إلا في منهج الله تعالى! (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ {58}) (الأنفال)، حل لا مثيل له ليس فحسب في نوعيته وعدالته، ولكن كذلك في صدقه وقوته ورفعته وإنسانيته ومثاليته، مما لا يتوافر في كل التاريخ الإنساني، الذي يحمل الدلالة على أنه من عند الله تعالى..
الحق أني لا أعرف أدنى مستوى في الوفاء بالعدل خلال دراستي للدكتوراه (جامعة كيمبردج – إنجلترا) في موضوع: "العَلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوروبا الغربية خلال المدة الأموية"، كما لم أجد أن الأندلسيين نقضوا عهداً واحداً، بينما لم أجد غيرَهم وَفَّوْا عهداً واحداً إلا ما كان لمنفعة، لكن ذلك وضع طبيعي لكلا الحالتين، حيث إن المسلمين أتباع منهج إلهي ديناً وعقيدة ومنهج حياة، وأولئك بعيدون عن مثل هذا النهج، وهو ما نراه دوماً في ظل المناهج الأرضية، التي تسير مع منافعها مهما كانت ما أمكنها ذلك، بل تتبع التبريرات وهي تخفي الكالح من الأفعال، التي كثيراً ما تظهر دون أن تقود إلى التخلي عنها، بل تتبجح بها وتدعي أنها الحضارة وممارسة للديمقراطية. هذه الفروق تؤكد أن هذا المنهج الإسلامي من عند الله سبحانه وتعالى ..
وأن الإنسانية لا تسعد إلا به وحده، تأخذه إلى الكرامة الإنسانية وحضارتها الفاضلة اللائقة، تُرْسِي الحل الأكيد الحقيقي لكل المشكلات بالشكل الكريم، متمتعاً بأعلى الإمكانية التامة لمواجهتها بكل أنواعها، حتى تلك الجديدة تقدم لها أنجع الحلول التي تحتذى ويُسْتَرْشَدُ بها دوماً في كل زمان ومكان وإنسان، منهج ملتزم بمنهجه في كل الظروف ومع كل أحد مهما كان دون اعتبار لكل الظروف والمؤثرات والأحوال، لا تحول ولا تبدل ولا تعلل عن الأخذ بالمنهج مع كائن من كان، هذا المنهج بهذا التعامل جعل حتى من تقع عليه عقوبة أو أذى أو حرمان يكون به فرحاً ويرضاه بطيب نفس.
خلاصة ذلك كله: أن الأخذ بالحد الأدنى من تعاليم الإسلام، منذ أداء الفروض والأمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، مؤدياً الحقوق عارفاً الواجبات ملتزماً بالآداب العامة، يجعل عمله متقناً.. بذلك يكون سيره آمناً في الأرض الفسيحة، عندها يبدأ الارتقاء في سلم التقدم يستجيب حتى للمندوبات، مشاركاً في رعاية المجتمع وبنائه وحمايته والارتقاء به ونشر دعوته والجهاد من أجله.. كل تلك الأمور ليس فحسب مما تقيه من مشكلات كثيرة، بل به تختفي من أمامه فلا تقوم، بل وتأخذ به إلى المرتقيات التي تعينه مره أخرى عل إلغاء مشكلات غيرها كثيرة تنتفي من حياته فلا تقوم، وما يكون منها يجد نفسه مؤهلاً على مواجهتها وحلها حلاً يجعله نموذجاً في عبرته واعتباره واقتفائه والأمثلة كثيرة.
بل المشكلة المثارة - داخلية أو خارجية - تؤول إلى منفعة لمجتمعه، كما جرى حين هاجم مفاجأةً النورمانُ الأردمانيون: الفايكنج The Vikings الدنماركيون لأول مرة السواحلَ الغربية للأندلس في ذي الحجة عام 229هـ (844م) بأعداد كبيرة بسفنهم المجهزة، متجهزة بما يناسب ذلك الهجوم المباغت.. تمت مواجهتهم ورُدُّوا على أعقابهم خائبين، بل وأرسلوا سفارة يرجون حسن العَلاقة والصداقة، نتج من هذا أن غدا للأندلس أكبر أسطول من 700 غُراب (سفينة) يجول في السواحل الغربية، إلى جانب أن أعداداً منهم بقيت واستقرت في الأندلس بعد الهجوم، مجموعة كبيرة أسلمت تقوم ممتهنة رعاية الأبقار لتنتج الألبان والأجبان تمد الدولة بأجود أنواعها وفنياتها(4).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
الهوامش:
1 ـ أبو داود، كتاب الديات، باب دية الخطأ شبه العمد، رقم: 4547. ابن ماجه، رقم: 2628. مسند الإمام أحمد، 2 /11.
2 ـ السيرة النبوية، 937. زاد المعاد، 1/424. البداية والنهاية، 4/553 - 555. 2 ـ مسلم، رقم: 2950. أبو داود، أرقام: 1905، 1915 – 1918.
3 ـ السيرة النبوية، 1093 – 1094. ما بين القوسين [ ] من البخاري، أرقام: 67، 105، 1741، 7447. كذلك مابين هذين القوسين ( ) من البخاري، أرقام: 3197، 4662: 5550 = 7447. 3 ـ ممكن مراجعة سورة الحجرات كاملة للنظر في توجيهات قرآنية أخرى، حلاً لمشكلات متنوعة.
4 ـ العَلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوروبا الغربية، 229. النسخة الإنجليزية: Andalusian diplomatic relations with Western Europe *,
المصدر : مجلة المجتمع الكويتية