تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (1)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    3,672

    Lightbulb السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (1)

    السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (1)
    د / عبد الرحمن علي الحجي
    إذا كانت رسالةُ الله تعالى التي بعث بها خيرَ الأنام محمد (صلى الله عليه وسلم) هي الرحمة المهداة، وهو لها المثال الفريد والأسوة الحسنة، فإن من مضامين هذه الرحمة أنها مؤهَّلة لحل كل مشكلة تواجه حامليها، تنطلق بهم في آفاق التعافي والبناء؛ لتقيم الحضارة الفاضلة والحياة الكريمة المنيرة، مُغَرْبِلَةً مُعَكَّرَاتِها مُعَدِّلَةً اعوجاجَها مُذْهِبَةً متاعبَها، خلال مسيرتها، يراها الناس من حولها متمثلة في أمته، بذلك يُقْبِل عليها مَنْ يبتغي السعادة هنا وهناك، كما يأخذ آخرون صيغاً منها لحل مشكلاتهم والقيام من أزماتهم والخروج من كوارثهم إن أرادوا، كما حَدَثَ مَرّاتٍ من أعلام الأقوام وأهل العلم فيهم! ..


    الحق أن الذي يعرف الجاهلية ويرى ما صنعه الإسلام يعرف حقيقة هذا المنهج ويرى ضرورته للحياة الإنسانية، الذي يصنع ما لا يُصْنَع إلا بهذا الدين ولا يمكن أن يتركه لغيره، ذلك ما فهمه المسلمون وأدركوه خلال أجيالهم، فلم يحدث أبداً أن فكروا في استعارة شيء من غيره، كان دوماً هو المرجعية الوحيدة، ذلك ما لم يحتاجوا من يقنعهم بذلك، بعد ما فهموه ومارسوه ورأوا ثماره، من هنا عبّروا عن ذلك قولاً وعملاً وواقعاً، فقال عمر كلمته الملهمة: "من لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام".


    تكريم الإنسان:
    مِثْلُ ذلك التدهور كان شائعاً في أمم الأرض كُلِّها حتى غدا السمة القائمة، حتى جاء الإسلامُ الذي حَمَى الإنسانَ وكَرَّمه وأظهرَ فعلياً وواقعياً ملموساً إنسانيته بأحلى وأجلى لوحة كريمة، أخذ الإنسان ابتداءً من بديهية معروفة غفلوا عنها وأهملوها ونسوها؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}) (النساء). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات).


    مِنْ هنا كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يؤكد دوماً هذا المعنى في مناسبات عِدَّة: "أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى"، الأخذ بهذا الفهم بداية الاستقامة ومن فاته ذلك فلا يستقيم له حال.


    هكذا تكون بداية النظر في هذه المسألة الأساسية المهمة المركزية في الموضوع، ذلك أن التشريع الإسلامي بذاته يلغي المشكلات ويحول دون ظهورها أصلاً، ليمضي منهجه الرباني في علاج بقاياها بأسلوب ذاتي يقود إليه الأخذ به، مع اختلاف كامل بنوعية الارتباط ببنية هذا المنهج الذي يُكَوّن رقابة ذاتية لدي تابعه، لارتباطه بالعقيدة الإلهية، التي يتوجه فيه الإنسان إلى الله تعالى والأخذ بمنهجه، متكاملاً دون أي انفصام ولا التواء.


    حل المشكلات:
    هكذا حَلَّ الإسلامُ كافة المشكلات التي كانت قائمةً، كذلك احتوى مُكْنَة لمواجهة القادمة منها بعد القائمة، ما كان لأحدٍ أنْ يُزحْزحَها. تقوم بها القيامَ المبارك متجهة بالإنسان والمجتمع والدولة نحو استكمال العافية والارتقاء بها في سلم الحضارة الكريمة الفاضلة، تليق بالإنسان الذي جعله الله مستخلفاً في هذه الأرض وبنائها على منهجه عامرة بالخير وسعادة الدارين، تلك مهمتُه الدائمة وميزتُه المتفردة ومُكْنَتُه الفائقة، معروف ذلك في كل زمان ومكان وإنسان، اعقلوه وجَرِّبوه وانظروه، تجدون تأكيد تلك مهمته للارتقاء بحياته وتحقيق خلافته في الأرض، الأمر الذي أراده الله تعالى له لتعميرها بما يرضاه الله تعالى له، تحقيقاً لبناء حضارته الفاضلة وسعادة الدارين.


    قواعد أساسية:
    لكن قبل الدخول في التفصيل لابد من ذكر ملاحظات في القواعد الأساسية التي تقدم السيرةَ النبوية بسماتها المتميزة، منها تلك التي لا تتوافر إلا في دين الله تعالى والسيرة الشارحة له والراسمة للوحاتها بألوانها الفريدة:
    1 ـ أن الإسلام دينٌ بالمعنى العام والإسلامي المؤكِّد المتمم المستوعب، الذي يؤكد أنه منهج حياة يقوم على عقيدة وينبثق عنها، تحكمه في كل الأحوال كافةُ تطبيقاته والتزاماته وتشريعاته مترابطة وقائمة ومؤسَّسة على هذه العقيدة التي تحكمها.
    2 ـ أن هذا المنهج يتحرك به مؤمنوه إيماناً واحتساباً ومحبة، يقوم العمل به محكوماً برعاية ورقابة ذاتية بآثارها وفعاليتها، قوتها أكثر فاعلية من أية رقابة بشرية، يمتلك هذا المنهج الرباني من القوة الغامرة تجعل تعاليمه ظاهرة في السلوك والواقع والتعامل.
    3 ـ بذلك يثمر المنهج - بمضامينه المتفردة ونوعيته الإلهية وتشريعاته المعبرة - تلبيةً واستجابةً وتحقيق حاجةَ الإنسان المتجاوبة مع نزعاته المهذبة الملبية لرغبات الفطرة النظيفة، متلائمة مع إنسانيته، التي تُوقِفُه عند حدوده في كل أموره وحاجاته وطموحاته في الظاهر والباطن، تجعله حريصاً عليها، تغمره الفرحة الكبرى، حين يُتِمّ عملَه منجِزاً ما ينسجم مع أهدافها، حيث يتحقق له رضا الله تعالى بذلك. بذلك يتفاوت الناس، ليس فيهم إلا متمكن من السير بقوة في الأرض الفسيحة مبتعداً عن الوقوع في المهاوي والمستنقعات، يحقق ذلك السيرُ المتمكن القوي الراسخ حداً أدنى لمن يريد الارتقاء، مجاله مفتوحاً متاحاً للجميع ومعاناً عليه، يجد دوماً فيه المتسّع للارتقاء بقدر ما لدية مِنْ مُكْنَة.


    أعنى بذلك أن الحد الأدنى هو القيام بالواجبات التي لابد منها، ولا يتم الأمر بدونها بأي مقدار، ثم من يريد أكثر فله ذلك ويجد العون عليه من المجتمع والدولة بكل مؤسساتها.


    هذا يعني الالتزام بالمنهج وقيام المجتمع والدولة التي تأخذ به بكل مؤسساتها، باعتبارها ديناً لأَتْباعه وقانوناً لغيرهم يضمن حقوقهم، كل ذلك نجده في السيرة النبوية الشريفة بشكلها العملي الواقعي التطبيقي، نجد من خلالها الفهم القويم للقرآن الكريم والسنة النبوية الكريمة منظورة في الواقع العملي، منهج لا يعرف الانفصام بين القول والعمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ {3}) (الصف).


    منهج رباني يقود هذا إلى الأخذ بأوامر هذا المنهج الرباني القرآني الفريد، التي تبدأ بالوقوف أولاً عند المحرمات تجنباً لها بكل منكراتها، إنساناً ومجتمعاً وكياناً، حين يبتعد عن ذلك سيجنبه كَمّاً هائلاً من المشكلات ويوفر عليه من الجهود والمتاعب والإنفاق. من أمثال: تحريم الخمر والميسر والزنا والربا والظلم والسرقة والغش والثأر والاعتداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ {91}) (المائدة)، وغيرها من النهي عن تناول أمور في المأكل والمشرب والتعامل، كتلك التي وردت في الآية الثالثة من سورة المائدة المدنية وما ورد في أحاديث شريفة، آخذاً بالحق والعدل والصدق والوفاء بالعهد والالتزام بالوعد وعدم العون على الباطل: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2}) (المائدة)، في الوقت نفسه أو يترافق متنافساً في تهيئة كل الأجواء التي تعينه في ذلك وتحقق له كل آماله وحاجاته وطموحاته النظيفة الكريمة اللازمة، تحقق ذلك في الواقع خلال الأجيال المتلاحقة أفراداَ ومجتمعاً بل وجيلاً بأكمله مما يعد إنجازاً تهب عليه نسائم المعجزات، ينفرد بذلك وَحْدَه.


    يؤكد منهجُ الله تعالى على أمور ضرورية فطرية طبيعية، غابت عن واقع الحياة في أوقات وحتى اليوم وهي كذلك دوماً، حتى لو بقيت ادعاءً في الذاكرة أحياناً مثل: المساواة بين الناس، وهو ما أُشْرِبه المسلمون حتى غدا لديهم من الأوليات، واضعاً الميزان بلا تمايز بأي سبب ولا تفاضل إلا بالتقوى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات).

    عدل الإسلام:
    بدا ذلك واضحاً في تصرفاتهم مما غدا واضحاً لديهم بادياً في تعاملاتهم وواقعهم ومسالكهم، تراه طبيعياً لديهم دواماً لا يتكلفونه، يتذوقون نكهته وطُعومه، كما عبر عنه بعفوية طبيعية معهودة: رِبْعِيّ بن عامر لرُسْتُم قائدِ الفرس قُبَيْلَ معركة القادسية (15 شوال 15هـ= أواسط/12/636م)، حين سَأله: ما جاء بكم؟! متعجباً من حالهم الجديدة وهو يعرفهم قبل ذلك بغيره، قال رِبْعِي: "الله ابتعثنا لنُخْرِجَ مَنْ شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.."، إنه الإخراج من الظلمات إلى النور الذي لا نور غيره: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ {40}) (النور).
    كل ذلك مرتبط بتقوى الله تعالى والوقوف عند حدوده، حيث: "المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يُسْلِمُه كل المسلم على المسلم حرام: مالُه ودمُه وعِرْضه"، كل ذلك يتم، مع مراعاة الضعفاء ومن لا حول لهم وغير المسلمين والوقوف إلى جانب المحتاجين والملهوفين والمظلومين، وأداء حقوق المرأة ومعرفة قدرها ووضعها في مكانتها اللائقة والجميع رجالاً ونساءً وأطفالاً.

    بل وَضَعَ قواعدَ التعامل مع الحيوان في مثل قوله (صلى الله عليه وسلم): "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة وليحد أحدُكم شفرتَه وليُرِحْ ذَبيحَتَه".

    تجاوز الأمرُ ذلك بل دعا إلى رعاية البيئة والتعامل معها بمحبةٍ، الأمر الذي يشمل كافة الظواهر الكونية: "أُحُدٌ جبل يحبنا ونحبه"، كل تلك الأمور واضحة وهي من أوليات هذا المنهج الرباني الفريد، التي تقدَّم للجميع حقوقهم وما يلزمهم للعيش الكريم والحياة الفاضلة والعيشة الآمنة دون مطالبة ولا مواجهة ولا صراع، أنجز ذلك في الواقع الملموس المشاهد المنظور، مما لم تعرفه الحضارات الإنسانية كافة، ولم تنجح حالياً في توفيره واقعاً ملموساً متعاملاً، حتى من أرادت ذلك فشلت فيه فأباحته، وما تدعيه ليس ألا التشدق والادعاء الخاوي، بالمناسبة إن الإسلام لا يعرف الدولة والمجتمع الكهنوتي الديني والدنيوي بل هي مدنية تقوم على الشرعية والشريعة والشورى الكل شركاء في البناء والمسؤولية والواجبات، وإن كان منهجه يقدم الحقوق دون مطالبة، بعدها يطالب بالواجبات دون عنف أو إساءة أو اتهام.

    مجتمع الإسلام الذي تقوم فيه هذه القيم البارة والتعامل والخلقيات، كم تُجَنّبه مِنَ المشكلات الضخمة الكبرى التي تنتج كثيراً من الأعباء والمتاعب والأثقال، وتستنزف الكثير من الجهد وتستهلك أجود الطاقات.


    هذا تم في المجتمع الإسلامي وَحْدَه، وأنه دين مازال مغروساً ممارساً ملموساً بأي مقدار، لكن لابد من توسيع ذلك وتعميقه وتفعيله بأوسع مقدار ليبلغَ الكتابُ أَجَلَه.
    الهامش:
    1ـ كنز العمال، البرهان بوري، رقم:5652. السيرة النبوية، الندوي، 652. كذلك: السيرة النبوية، 937. البداية والنهاية، جـ 4 صـ 553
    المصدر : مجلة المجتمع الكويتية
    ((إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةً))

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    3,672

    Lightbulb رد: السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (1)

    السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (2)
    د / عبد الرحمن علي الحجي

    قيام المجتمع المسلم في المدينة وَفرَ كُلَّ الأسباب التي تُعِين على الأخذ بتعاليم الإسلام، متاحة لمن يريد من أفراد مجتمعه، وحَجْب الأسباب التي تفتح أبوابَ البعد عنه.. ويسّر كل وسائل الأخذ به مشجعاً له.. لذلك لابد من العمل لقيام مجتمع مسلم، كي تحيا فيه هذه المشاهد وتقوم ماثلة، كما أسقط كل المخلّفات والمثقلات والمعوقات، هو ما حدث في السيرة النبوية الشريفة، وعبر عن ذلك الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم في التعامل والتوجيه والعمل، ومحا بذلك آثاره مبتدئاً بنفسه، سنةً متبعة حاضرة.

    هكذا وَضَعَ (أبطل) الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم كُلَّ أمورِ الجاهلية – في أكثر من مناسبة – تحت قدميه الشريفتين.. انظروا التعبيرَ الباتَّ كان ذلك في فتح مكة المكرمة (صُبْحَ يوم الجمعة 20 رمضان 8هـ = 630م)، وتكرر في حجة الوداع (ذو الحجة 10هـ): "لا إله إلا الله وَحْدَه لا شريك له، صَدَقَ وَعْدَهُ ونَصَرَ عَبْدَهُ وهَزَمَ الأحزابَ وَحْدَهُ، ألا كُلُّ مَأْثُرة أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قَدَمَيَّ هاتين إلَّا سِدانة البيت وسِقاية الحاج ]فإني أمضيتُهما لأهلهما على ما كانت[.. يا معشرَ قريش، إن الله قد أذهب عنكم نَخْوَةَ الجاهلية وتَعَظُّمَهَا بالآباء، الناس مِنْ آدم وآدم من تراب، ثم تلا الآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13})(الجُجُرات)"..(1 ).

    انظروا خطبة حجة الوداع يومَ عَرَفَة التاسع من ذي الحجة السنة العاشرة للهجرة النبوية الشريفة: "... أيها الناسُ، إن دماءَكم وأموالَكم ]وأعراضكم[ حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بَلّغْت.. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، ألا كُلُّ شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضع من دمائنا دَمَ ابنِ ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب كان مسترضَعاً في بني سعد فقتلته هذيل، ورِبا الجاهلية موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون، قضى الله ألا ربا، وأول ربا أضع ربانا ربا (عمي) العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوعٌ كُلُّه..

    أيها الناس، إن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم ويحرموا ما أحل الله.، (وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)..

    أما بعد أيها الناس فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بالنساء خيراً.. فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أبداً أمراً بيناً إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة نبيه.. أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه.. وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟ اللهم هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم، نشهد أنك قد بلغتَ وأديتَ ونصحتَ، فقال بإصْبَعِه السَبّابَة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد"(2).

    يتبين من كل ذلك أن اتِّبَاع المنهجَ الإسلامي يجنبُ الأفرادَ والمجتمعاتِ والدولةَ كافةَ المشكلات بسهولة، وعدل وأناة قبل الوقوع فيها – إلى ما مضى – والمعافاة منها قبل خوضها، الخفية والجلية المنظورة والمستورة القادمة والنائمة، إلى جانب المنظورة، منها ما هو طريف، سمعت منذ قريب (العاشر من رمضان 1434هـ) قصة نُشِرَت بين الكثير: أن امرأة مسلمة في ألمانيا ولَّدَتْها طبيبةٌ ألمانية، التي أخذت تقدم للمرأة بعض التوجيهات التي تهمها في حالتها تلك، من أن عليها ألا تعاشر زوجها لمدة أربعين يوماً بعد الولادة، حيث قد اكتُشِفَ حديثاً أن في ذلك ضرراً كبيراً، لكن لاحظت الطبيبة أن المرأة تبتسم، فسألتها عن ذلك؟!

    فقالت: إن المسلمين يعرفون ذلك من دينهم منذ أربعة عشر قرناً، فدهشت قائلة: من أين لكم هذا وهذه مكتشفات حديثة تمت معرفتها بعد بحوث متتابعة حديثة؟ مما دعاها لدراسة الإسلام الأمر الذي قادها إلى الإسلام، الله أكبر! يلتحق بهذا كل ما يتعلق بالولادة وما يليها من أمور الرضاعة والفطام وحقوق الطفل، كلها تجنبها المشكلات وتحفظ نشأته في طفولة سليمة مؤهلة تسير متعافية. هذه نماذج لمشكلات وقعت، ويمكن أن تقع في المجتمع المسلم القائم على شرع الله تعالى، الذي يجنبها إياها، يلزم الحاكم نفسَه بتحري حلها وقوفاً عند تعليمات الإسلام ملتزماً تنفيذها بحرص شديد.

    خرج الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سوق الخيل لشراء فرساً اتفق مع أحدهم بسعر، ولما ركبها للتجربة عثرت فأصيبت، أعادها إلى صاحبها رافضاً أخذَها بحالتها هذه، لكن المالك رفض ذلك بعد الاتفاق على كل شيء، مثلما رفض الخليفة قبوله بعد تجربتها، بقي الخلاف قائماً، اقترح أحدُهم اختيارَ مَنْ يقضي بالأمر من الحاضرين، دُعِيَ أحدُهم للمهمة الذي نظر في الأمر وأعلن حكمه قائلاً للخليفة: يا أمير المؤمنين، حُزْ ما ابتعتَ أو رُدُّ كما أخذتَ (الحكم ضد الخليفة)، الذي نظر في الأمر متعجباً وقال: والله لا يكون القضاء إلا كذلك، وخاطب القاضي بقوله: عينتُكَ قاضياً! إنه القاضي الشهير شُرَيْح الذي بقي في القضاء ستين عاماً..

    هل رأتْ البشريةُ يوماً – أو يمكنها رؤية – مثل هذا البناء للإنسان بهذه الرتبة والرفعة والروعة؟ نعم، ولكن في ظل هذا المنهج الرباني القرآني الفريد وَحْدَه! (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {10}) (الحجرات)(3)..

    أَيُّ حل نموذجي لخلاف يقوم في المجتمع المسلم بين مجموعتين منه لا يتوافر إلا في منهج الله تعالى! (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ {58}) (الأنفال)، حل لا مثيل له ليس فحسب في نوعيته وعدالته، ولكن كذلك في صدقه وقوته ورفعته وإنسانيته ومثاليته، مما لا يتوافر في كل التاريخ الإنساني، الذي يحمل الدلالة على أنه من عند الله تعالى..

    الحق أني لا أعرف أدنى مستوى في الوفاء بالعدل خلال دراستي للدكتوراه (جامعة كيمبردج – إنجلترا) في موضوع: "العَلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوروبا الغربية خلال المدة الأموية"، كما لم أجد أن الأندلسيين نقضوا عهداً واحداً، بينما لم أجد غيرَهم وَفَّوْا عهداً واحداً إلا ما كان لمنفعة، لكن ذلك وضع طبيعي لكلا الحالتين، حيث إن المسلمين أتباع منهج إلهي ديناً وعقيدة ومنهج حياة، وأولئك بعيدون عن مثل هذا النهج، وهو ما نراه دوماً في ظل المناهج الأرضية، التي تسير مع منافعها مهما كانت ما أمكنها ذلك، بل تتبع التبريرات وهي تخفي الكالح من الأفعال، التي كثيراً ما تظهر دون أن تقود إلى التخلي عنها، بل تتبجح بها وتدعي أنها الحضارة وممارسة للديمقراطية. هذه الفروق تؤكد أن هذا المنهج الإسلامي من عند الله سبحانه وتعالى ..

    وأن الإنسانية لا تسعد إلا به وحده، تأخذه إلى الكرامة الإنسانية وحضارتها الفاضلة اللائقة، تُرْسِي الحل الأكيد الحقيقي لكل المشكلات بالشكل الكريم، متمتعاً بأعلى الإمكانية التامة لمواجهتها بكل أنواعها، حتى تلك الجديدة تقدم لها أنجع الحلول التي تحتذى ويُسْتَرْشَدُ بها دوماً في كل زمان ومكان وإنسان، منهج ملتزم بمنهجه في كل الظروف ومع كل أحد مهما كان دون اعتبار لكل الظروف والمؤثرات والأحوال، لا تحول ولا تبدل ولا تعلل عن الأخذ بالمنهج مع كائن من كان، هذا المنهج بهذا التعامل جعل حتى من تقع عليه عقوبة أو أذى أو حرمان يكون به فرحاً ويرضاه بطيب نفس.

    خلاصة ذلك كله: أن الأخذ بالحد الأدنى من تعاليم الإسلام، منذ أداء الفروض والأمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، مؤدياً الحقوق عارفاً الواجبات ملتزماً بالآداب العامة، يجعل عمله متقناً.. بذلك يكون سيره آمناً في الأرض الفسيحة، عندها يبدأ الارتقاء في سلم التقدم يستجيب حتى للمندوبات، مشاركاً في رعاية المجتمع وبنائه وحمايته والارتقاء به ونشر دعوته والجهاد من أجله.. كل تلك الأمور ليس فحسب مما تقيه من مشكلات كثيرة، بل به تختفي من أمامه فلا تقوم، بل وتأخذ به إلى المرتقيات التي تعينه مره أخرى عل إلغاء مشكلات غيرها كثيرة تنتفي من حياته فلا تقوم، وما يكون منها يجد نفسه مؤهلاً على مواجهتها وحلها حلاً يجعله نموذجاً في عبرته واعتباره واقتفائه والأمثلة كثيرة.

    بل المشكلة المثارة - داخلية أو خارجية - تؤول إلى منفعة لمجتمعه، كما جرى حين هاجم مفاجأةً النورمانُ الأردمانيون: الفايكنج The Vikings الدنماركيون لأول مرة السواحلَ الغربية للأندلس في ذي الحجة عام 229هـ (844م) بأعداد كبيرة بسفنهم المجهزة، متجهزة بما يناسب ذلك الهجوم المباغت.. تمت مواجهتهم ورُدُّوا على أعقابهم خائبين، بل وأرسلوا سفارة يرجون حسن العَلاقة والصداقة، نتج من هذا أن غدا للأندلس أكبر أسطول من 700 غُراب (سفينة) يجول في السواحل الغربية، إلى جانب أن أعداداً منهم بقيت واستقرت في الأندلس بعد الهجوم، مجموعة كبيرة أسلمت تقوم ممتهنة رعاية الأبقار لتنتج الألبان والأجبان تمد الدولة بأجود أنواعها وفنياتها(4).
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
    الهوامش:
    1 ـ أبو داود، كتاب الديات، باب دية الخطأ شبه العمد، رقم: 4547. ابن ماجه، رقم: 2628. مسند الإمام أحمد، 2 /11.
    2 ـ السيرة النبوية، 937. زاد المعاد، 1/424. البداية والنهاية، 4/553 - 555. 2 ـ مسلم، رقم: 2950. أبو داود، أرقام: 1905، 1915 – 1918.
    3 ـ السيرة النبوية، 1093 – 1094. ما بين القوسين [ ] من البخاري، أرقام: 67، 105، 1741، 7447. كذلك مابين هذين القوسين ( ) من البخاري، أرقام: 3197، 4662: 5550 = 7447. 3 ـ ممكن مراجعة سورة الحجرات كاملة للنظر في توجيهات قرآنية أخرى، حلاً لمشكلات متنوعة.
    4 ـ العَلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوروبا الغربية، 229. النسخة الإنجليزية: Andalusian diplomatic relations with Western Europe *,
    المصدر : مجلة المجتمع الكويتية
    ((إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةً))

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    3,672

    افتراضي رد: السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (1)

    السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (3)
    د / عبد الرحمن علي الحَجِّي

    تناولنا في العددين الماضيين الحديث عن تفرد شريعة الإسلام في أنها صالحة لكل زمان ومكان، وأنها مؤهَّلة لحل كل مشكلة تواجه حامليها، كل ذلك يقوم على التربية بالمنهج الإسلامي والبناء عليه والالتزام به ديناً؛ إيماناً واحتساباً، مما يكون كل أحد قدوة في المجتمع الإسلامي وخارجه وكل أحواله، للمشاركة في بنائه المكين على منهج الله تعالى بالتضحية والحفاظ عليه والتمكين له والعمل على تحقيق أهدافه العليا، يتم ذلك بمعاملة الجميع بالخلق الإسلامي الكريم " اتقِ الله حيثما كنتَ وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحها وخالقِ الـناسَ بخُلُقٍ حَسَن" .

    وبالحب الغائر والإيثار: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9}‏ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {10}) (الحشر 8 – 10) ..

    والنصيحة: "الدين النصيحة" ثلاث مرات، قالوا: يا رسول الله لمن؟ قال : "لله ولرسوله, ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم" ، ارتقاءً في سلم التقدم في مدارج الرفعة واعتلاء القمم ما أمكن واحتواء تلك الدرجات المتقدمة في الترقي المستمر الذي لا يعرف التوقف، سعياً لبلوغ أعلى الرتب الإنسانية لا يمكن بلوغها إلا بهذا الدين وَحْدَه.

    الحق أنه لا علاج بحقيقة لمشكلات الإنسان وأحواله وحياته المزمنة التي ربما تزداد وتتسع إلا بهذا المنهج، الذي به وحده، تجد كل ذلك وتحيا به وتقوده إلى الحضارة الفاضلة وكمال الإنسانية والسعادة الهانئة في الدارين.- كل ذلك يتم بشعور الانتماء والالتحام والغيرة له والبذل للنفس والنفيس والمبادأة بالتجاوب والتقدم والهروع، يجري كله رغبة في رضى الله سبحانه وتعالى.

    هكذا يكون السير في الأرض الفسيحة بالحد الأدنى من الالتزام، ثم يكون الارتقاء في سلم التقدم .. وهذا الحديث الشريف يبين مراحل هذه المسيرة والتقدم والترقي: "عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثياب شديدُ سوادِ الشَّعْر لا يُرَى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد: أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً" قال: صدقتَ، قال: فعجبنا له يسأله ويُصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال:"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره" قال: صدقتَ، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال:"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قال: فاخبرني عن الساعة، قال:" ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال: فاخبرني عن أماراتها، قال: "أن تلد الأَمَةُ رَبّتَها وأن تَرى الحُفَاةَ العُرَاةَ رِعَاءَ الشَّاءَ يتطاولون في البنيان". قال: ثم انطلق، فلبثتُ مَلِيَّاً حتى قال لي:"يا عمر أتدري مَنْ السائل"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال:" فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دِينَكم" .

    هكذا يكون بناء الحياة لأفراد هذا المجتمع الذي يتكون بهذه المؤهلات لتقوم عليه دولته، محفوفاً بكل الأسباب التي تحافظ عليه وتحميه وتبنيه، ليبلغ نضجه بالارتقاء الذي يؤدي إليه مستمراً في حياته بطبيعته المعتادة، آخذاً بكل الأسباب التي ترافقه منها العلم. مجتمع يبدأ بالعلم منذ أول كلمة أنزلها الله تعالى إلى نبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم) إلى درجة يجعله فريضة على كل أحد ليغدو طلبه ديناً، لابد أن يكون متمكناً من حل مشكلاته، يجد التوجيهات اللازمة، تضعه في حالة يتجاوز الكثير من الرئيسة منها الذي يبدأ منها بناؤه ويَطْرُدُ مسبباتها، بتعليمه ومنزلتها البارة التي تقوده للأخذ بها بشكل طبيعي وللاقتداء بالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، ليكون هذا الجيل الذي رباه نموذجياً يعيش عمره على حب المنهج ومنَزِّله وحامله الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم).

    هكذا يظهر ذلك في الواقع العملي خلال أجياله المتلاحقة يحوز الحب والتوقير والنصرة النابعة من الدين، وهي جزء منه يستشعر الأمومة لأمهات المؤمنين، مرتبطاً بكافة المؤمنين بأجيالهم مواجهاً كل ما يخالف ذلك واحتمال أية تضحية وبذلها مهما كانت. مجتمع فيه هذه المواصفات والمؤهلات كلما يكبوا تراه يقوم، يتجاوز كافة المشكلات بأنواعها مهما كانت.

    هكذا عاشت أمته تقرأ كل ذلك في حياتها ومنه تستحضر هذه الأحوال وتستنتج ذلك بوضوح. المنهج هو الموجِّه له تربى عليه ليكون المرجعية الوحيدة، له الوِرْدُ والإصدار، حتى ليغدو هو حياتُه التزامُه طبيعياً لا يعرف غيره وهو سر قوته، يتقدم به ويجد أمنه وحياته ونفسه معه يكون أول مستجيب لندائه حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

    مجتمع لا بد أن يكون متمرساً جديراً مدركاً بمعالجة أية مشكلة وتقديم أفضل حل لها، مما جعل الآخرين يلجؤون أحياناً إليه وإلى أهله لحل مشكلاتهم.. لا غرابة وهو الذي أنزله الله تعالى خالق الإنسان ويعرف ما يصلحه وهو العليم الحكيم الخبير، الذي يتم كل ذلك بعلمه وإرادته الطليقة التي لا تحدها أية حدود، تقوم بها كافة المخلوقات والكون والحياة وهي جميعاً بحاجة إليه وبها وحدها تحيا وتدوم.

    هذا المنهج وحده يمنحه القوة في كل اتجاه تعليه وتزكيه وتطيل عمره المجيد، لكن ذلك يقوم فيه قوياً متمكناً حياً وبمجتمع ملتزم به ومنه لا يحيد وهو حياته وأعز منها، عند ذاك تتم هذه المنجزات.

    يتم هذا في الحد الأدنى – فكيف الحد الأعلى – حين السير في الأرض الفسيحة بيسر وسهولة دون الانغماس في أوحالها، ثم يأتي الأخذ بسلم الارتقاء ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.. السير الفسيح وحده كم يقي المجتمع من المشاكل القائمة والنائمة والعائمة فكيف بالارتقاء إلى قممه ما أمكن، ثم يعمل على حل ما يقع من مشكلات مهما كانت تجد لها حلاً، ولم تترك أية مشكلة مهما كانت دون حل بل والانتفاع بدروسها، بل إن الآخرين كانوا يلجؤون للمجتمع المسلم يحل لهم مشاكلهم.

    هذا ما أَحَسّ به بعضُ عقلاء علماء الأقوام الأخرى المكلفين بتوجيه المجتمعات الحاضرة التي عَقَمَتْ حضارتُها عن حَل مشكلات كثيرة فبقيت معلقة تتسع وتكبر وتزداد... وسيبقى الأمر كذلك حتى تأخذ المجتمعات بشرع الله تعالى، اقتداءً بالسيرة النبوية الشريفة وأخذاً بحالاتها. لكن ذلك يتأتي بالأخذ بشرع الله تعالى، الأولى أن يقوم المجتمع المسلم وحين يقوم هو بذلك أولاً ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103})(آل عمران: 103).

    ما كان يمكن أبداً بأي حال ألبتة أن يتم الذي تم بدون دعوة الله التي حملها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بها وَحْدَها تحل كل المشاكل، ويجرى الارتقاء بالإنسانية، حيث تكتسي بالمعافاة، يمكنها أن تحل مشاكلها بهذا المنهج الإلهي المتفرد المبارك. نعم بهذا وَحْدَه يكون الفلاح بأنواعه: "أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". لكن لذلك أركان وأعمال وجهود تُبْذَل مِنْ أهل الشريعة الإسلامية وحامليها وممثليها..

    هنا لا بد من التركيز على فهم هذه الأمور والأخذ بأسبابها والعمل لها من المهتمين والتركيز على خدمة مسيرتها ووضع البرامج لتحقيقها، ابتداءً من بلداننا، ثم الجاليات في غيرها، تركيزاً على معاونتهم في تحقيق ذلك في أنفسهم حتى تعلو راياتُه البيضاء. من المهم النظر في مضامين ومحتويات السيرة النبوية الكريمة، كيما نلمح الضياء المتدفق المتنور المتحرر.

    انطلق بضيائه ذلك الجيلُ القرآني الفريد ومَنْ تَبِعَهم يومَهم والآخرون من بعدهم الذين انطلقوا يخدمون منهج الله تعالى، بسلوكهم الواقعي المثال، في آفاق الأرض يهدون الناس إلى النور المبين. أَقْبَلت عليه أقوام وأمم وشعوب كثيرة، حين رأوه فيهم سلوكاً قبل أن يسمعوه من أفواههم منطوقاً:" إن المسلمين الأوائل لم ينقلوا الإسلام إلى الأمم، ولكن نقلوا الأمم إلى الإسلام".

    على ذلك ليس هناك أيةُ عَلاقة إطلاقاً بين الفتوحات الإسلامية وبين انتشار الإسلام، الفتح فتح القلوب، من هنا كان صلح الحديبية فتحاً: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً {1}) (سورة الفتح) التي نزلت عَقِبَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ. لما قرأ (صلى الله عليه وسلم) سورةَ الفتح، سأل أحد الصحابة:" أَيْ رسولَ الله أَوَ فتحٌ هُوَ؟ قال (صلى الله عليه وسلم):"إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح".


    المصدر : مجلة المجتمع الكويتية
    ((إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةً))

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,356

    افتراضي رد: السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (1)

    وفقكم الله، ونفع بكم
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  5. افتراضي رد: السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (1)

    جزاك الله خيراً

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    3,672

    افتراضي رد: السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (1)

    وأنت بمثل أخي الكريم..
    ((إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةً))

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •