كنت قد قمت بالرد على هذا الشخص المدعو عمر عبد الله كامل من قبل، الذي صنف كتابًا سماه ((نقض قواعد التشبيه)) وفي هذه المرة سأقوم بالرد ولكن بشكل أوسع، نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق
كنت قد قمت بالرد على هذا الشخص المدعو عمر عبد الله كامل من قبل، الذي صنف كتابًا سماه ((نقض قواعد التشبيه)) وفي هذه المرة سأقوم بالرد ولكن بشكل أوسع، نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق
وصفه الأشاعرة والماتريدية بأنهم أهل السنة والجماعةقال ص 29 :
(( ولنقف عند بعض الأمور في هذا النص ... ليفيد صحة ما ذكره علماء أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية )) .
قلت:
وصَفَ المؤلف الأشاعرة والماتريدية بأنهم هم أهل السنة والجماعة، وهذا خطأ بيِّن وتلبيس ظاهر، فإن أهل السنة والجماعة لهم اعتقادهم الواضح، ومنهجهم المستقيم الذي خالفهم فيه هؤلاء الخلف من الأشاعرة والماتريدية .
والحق أن الانتساب إلى أهل السنة والجماعة لا يتحقق بمجرد التسمي باسمهم، بل لا بد من الاتباع الكامل لمنهجهم، والعمل بقواعدهم التي يسيرون عليها، ويعملون بها، ويتميزون بها عمن عداهم مـن أهل الأهواء والبدع .
فأهم ما يتميز به أهل السنة والجماعة :
أولاً : أنهم يقدمون النقل على العقل .
وهذا أصل مهم يُميز أهل السنة والجماعة، فهم يعتقدون بأن النقل الصحيح لا يمكن أن يعارض العقل الصريح، لأن الذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل، ومن المحال أن يرسل إليه ما يفسده .
وإذا قصر عقل أحدهم عن فهم النص الصحيح اتهم عقله وفهمه دون التعرض لنص بتحريف ولا تعطيل .
فالشرع عندهم هو الأصل، والعقل تابع له، خادم لنصوصه ليس مقدَّماً عليها .
وهذا الأصل العظيم لا تعمل به فرقة الأشاعرة والماتريدية، بل هم على عكس ذلك، يقدمون العقل على النقل، فالعقل عندهم هو الأصل والنقل تابع له .
قال الفخر الرازي (606 هـ) في كتابه ((أساس التقديس)):
((الفصل الثاني والثلاثون في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النقلية فكيف يكون الحال فيها؟
اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة:
1- إما أن يُصدَّق مقتضى العقل والنقل؛ فيلزم تصديق النقيضين؛ وهو محال.
2- وإما أن نُبطلهما؛ فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال.
3- وإما أن تُصدَّق الظواهر النقلية وتُكذَّب الظواهر العقلية وذلك باطل؛ لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول ه وظهور المعجزات على يد محمده.
ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهماً غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة.
فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً، وإنه باطل.
ولما بطلت الأقسام الأربعة، لم يبق إلا أن يُقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة، بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال: إنها غير صحيحة. أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها .
ثم إنْ جوزنا التأويل، اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل.
وإن لَمْ يجز التأويل، فوضنا العلم بها إلى الله تعالى.
فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات وبالله التوفيق([1])))اهـ.
وقال الفخر الرازي أيضًا:
((التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين، والدلائل العقلية تفيد اليقين، والمظنون لا يعارض المقطوع؛ وإنما قلنا: إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين، لأن الدلائل اللفظية مبنية على أصول كلها ظنية والمبني على الظني ظني؛ وإنما قلنا: إنها مبنية على أصول ظنية؛ لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف، ورواة هذه الأشياء لا يُعلم بلوغهم إلى حد التواتر، فكانت روايتهم مظنونة، وأيضًا فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير، وكل ذلك أمور ظنية، وأيضًا فهي مبنية على عدم المعارض العقلي، فإنه بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معًا، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل؛ لأن العقل أصل النقل، والطعن في العقل يوجب الطعن في العقل والنقل معًا([2])))اهـ.
وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
((قوله: "إن العقل أصل للنقل" إما أن يريد به: أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، أو أصل في علمنا بصحته.
والأول لا يقوله عاقل، فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو بغيره هو ثابت، سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته، أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علماً بالعدم، وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسنا؛ فما أخبر به الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه.
ومن أرسله الله تعالي إلي الناس فهو رسوله، سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق، وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله فالله أمر به وإن لم يطعه الناس، فثبوت الرسالة في نفسها وثبوت صدق الرسول، وثبوت ما اخبر به في نفس الأمر، ليس موقوفاً علي وجودنا، فضلاً عن أن يكون موقوفاً علي عقولنا، أو علي الأدلة التي نعلمها بعقولنا.
وهذا كما أن وجود الرب تعالي وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر، سواء علمناه أو لم نعلمه.
فتبين بذلك أن العقل ليس أصلاً لثبوت الشرع في نفسه، ولا معطياً له صفة لم تكن له، ولا مفيداً له صفة كمال، إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم، تابع له، ليس مؤثراً فيه.
فإن العلم نوعان:
أحدهما: العملي، وهو ما كان شرطاً في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف علي العلم به محتاج إليه.
والثاني: العلم الخبري النظري، وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلي العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالي وأسمائه وصفاته وصدق رسله وبملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة؛ سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها، والشرع مع العقل هو من هذا الباب، فإن الشرع المنزل من عند الله ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، فهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه وإلي أن نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالماً به، وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به، وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكن جاهلاً ناقصاً.
وأما إن أراد أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل لنا علي صحته - وهذا هو الذي أراده - فيقال له: أتعني بالعقل هنا الغريزة التي فينا، أم العلوم التي استفدنا بتلك الغريزة؟
وأما الأول فلم تُرِدْهُ، ويمتنع أن تريده؛ لأن تلك الغريزة ليست علماً يتصور أن يعارض النقل، وهو شرط في كل علم عقلي أو سمعي كالحياة، وما كان شرطاً في الشيء امتنع أن يكون منافياً له، فالحياة والغريزة شرط في كل العلوم سمعيها وعقليها، فامتنع أن تكون منافية لها، وهى أيضاً شرط في الاعتقاد الحاصل بالاستدلال، وإن لم تكن علماً، فيمتنع أن تكن منافية له ومعارضة له.
وإن أردت بالعقل الذي هو دليل السمع وأصله المعرفة الحاصلة بالعقل، فيقال لك: من المعلوم أنه ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلاً للسمع ودليلاً علي صحته، فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر، والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف علي ما به يُعلم صدق الرسول صلي الله عليه وسلم.
وليس كل العلوم العقلية يُعلم بها صدق الرسول صلي الله عليه وسلم؛ بل ذلك يعلم بما يعلم به أن الله تعالي أرسله، مثل إثبات الصانع وتصديقه للرسول بالآيات وأمثال ذلك.
وإذا كان كذلك لم تكن جميع المعقولات أصلاً للنقل، لا بمعني توقف العلم بالسمع عليها، ولا بمعني الدلالة علي صحته، ولا بغير ذلك([3])))اهـ.
وقال أيضًا رحمه الله:
((ولا يجوز أن يخبر الرسل بشيء يُعلم بالعقل الصريح امتناعه، بل لا يجوز أن يخبروا بما لا يعلم بالعقل ثبوته؛ فيخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول، ويجوز أن يكون في بعض ما يخبرون به ما يعجز عقل بعض الناس عن فهمه وتصوره؛ فإن العقول متفاوتة، وفي عظمة الرب تعالى وملكوته وآياته ومخلوقاته ما لا يستطيع الناس أو كثير منهم أن يروه في الدنيا أو يسمعوا صوته أو يتصوروه.
وكثير من الناس يظن بعقله أشياء ممتنعة، ولا تكون ممتنعة؛ كما يظن أشياء جائزة أو واجبة، ولا تكون كذلك؛ ولهذا عامة الطوائف بالعقليات توجب هذا أو تُجَوِّز ما يقول الآخر إنه ممتنع. وكلاهما يزعم أن العقل دل على ذلك؛ فلهذا كان من الناس من يظن أن المعقولات الصريحة تخالف ما جاء به القرآن والحديث الصحيح من إثبات معاني أسماء الله وصفاته؛ كما يقول ذلك المعطلة الجهمية ومن يشاركهم في بعض ذلك؛ فالذين نفوا علو الله على خلقه ونحو ذلك، هم من هؤلاء، والرازي في هذا الكتاب قد يستوعب ما يحتج به طوائف النفاة من الحجج العقلية، وقد تقدم بيان فساد ذلك جميعه من وجوه متعددة تبين أن جميع ما يعتمدون عليه من الحجج التي يسمونها براهين عقلية التي عارضوا بها ما جاء به القرآن والحديث، باطلة وأن العقل الصريح موافق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يناقضه فالعقل الصريح لا يخالف النقل بل هو يوافقه ويعاضده ويؤيده، ويكفينا أن نبين فساد ما يعارضه، أما ذكر ما يوافقه من العقليات النظرية فهذا أبلغ وأحسن([4])))اهـ.
وقال شيخ الإسلام –أيضًا – رحمه الله:
((والمقصود أن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره كله حق يُصدِّق بعضه بعضًا، وهو موافق لفطرة الخلائق وما جعل فيهم من العقول الصريحة والقصود الصحيحة؛ لا يخالف العقل الصريح ولا القصد الصحيح ولا الفطرة المستقيمة ولا النقل الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما يظن تعارضها من صَدَّق بباطل من النقول، أو فَهِمَ منه ما لم يدل عليه، أو اعتقد شيئًا ظنه من العقليات وهو من الجهليات، أو من الكشوفات وهو من الكسوفات، إن كان ذلك معارضًا لمنقول صحيح، وإلا عارض بالعقل الصريح أو الكشف الصحيح: ما يظنه منقولًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون كذبًا عليه، أو ما يظنه لفظًا دالًّا على شيء، ولا يكون دالًّا عليه([5])))اهـ.
[1])) ((أساس التقديس)) (220، 221).
[2])) ((مفاتيح الغيب)) (2/ 298).
[3])) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 87- 90) مختصرًا.
[4])) ((بيان تلبيس الجهمية)) (8/ 534، 535).
[5])) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 580).
ثانياً : أن أهل السنة والجماعة لا يؤوِّلون بغير دليل :
والمقصود بالتأويل هنا المعنى الذي درج عليه المتأخرون وهو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فإنْ كان بدليل يقترن به فهو مقبول، وهذا ما يستعمله أهل السنة والجماعة وسلفنا الصالح - رضوان الله عليهم أجمعين -، وإن كان مِن غير دليل فهو مردود مذموم ، وهذا النوع - أعني التأويل بغير دليل - هو الذي يستعمله الخلف من الأشاعرة والماتريدية وأضرابِهم من أهل الكلام، حيث جعلوا العقل حكماً على النقل؛ بحيث إنهم إنْ جاءهم نصٌ صحيح، وقصرت عقولهم السقيمة عن فهمه أوَّلوه وصرفوه عن ظاهره بغير دليل شرعي، حتى قال قائلهم([1])، كما في ((جوهرة التوحـيد)) :
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا
أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّض وَرُمْ تَنْزِيهَا
وقد مر معنا قول الفخر الرازي: ((إنْ جوزنا التأويل، اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل ، وإن لَمْ يجز التأويل، فوضنا العلم بها إلى الله تعالى؛ فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات)).
أما أهل السنة والجماعة فلا يؤولون إلا بدليل يدل على أن المراد باللفظ غير الظاهر؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ إِخْبَارٌ عَنْ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، لَا إِنْشَاءٌ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فَهْمَ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ، فَإِذَا قِيلَ: مَعْنَى اللَّفْظِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ إِخْبَارًا بِالَّذِي عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْخَبَرُ مُطَابِقًا كَانَ كَذِبًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ .
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ رحمه الله: ((وَالتَّأْوِيلُ نَقْلُ اللَّفْظِ عَمَّا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُهُ وَعَمَّا وُضِعَ لَهُ فِي اللَّغَةِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ؛ فَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ قَدْ صَحَّ بِبُرْهَانٍ، فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ اطُّرِحَ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَحُكِمَ لِذَلِكَ النَّقْلِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ([2])))اهـ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: ((وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى صَرِفِ اللَّفْظِ عَنِ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ؛ كَتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ : اسْتَوَى، بِمَعْنَى اسْتَوْلَى، وَنَحْوِهِ؛ فَهَذَا عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بَاطِلُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَآيَاتِهِ([3])))اهـ.
[1])) هو برهان الدين إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللقاني، متصوف مصري مالكي.
نسبته إلى (لقانة) من البحيرة بمصر.
توفي (1041هـ) (1631م) بقرب العقبة عائدًا من الحج، ودُفن هناك. ((الأعلام)) للزِّرِكْلِي (1/ 28)، و((معجم المؤلفين)) (1/ 2).
[2])) ((الإحكام في أصول الأحكام)) (1/ 42).
[3])) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 352).
ثالثاً : أنهم لا يفرِّقون بين ما جاء به الكتاب وما جـاءت بـه السـنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فهم يُصدِّقون خبر الله، وينفذون أمره، سواء كان ذلك في كتاب أو سنة .
فإن السنة الصحيحة في العقائد كالقرآن تماماً عند أهل السنة والجماعة، يُثبتون بها أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، كما يثبتون بها حميع الأحكام الشرعية .
أما الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من أهل الكلام فليسوا على ذلك، بل هم يُنكرون ويَرُّدون كثيراً من السنة النبوية الثابتة الصحيحة بدعوى أنها تناقض النصوص القرآنية، ولو سلكوا مسلك أهل السنة والجماعة - في الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض - لَمَا وجدوا تعارضاً قط؛ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} النساء: ٨٢ .
فلما خالف هؤلاء ما عليه أهل السنة والجماعة في هذه الأصول وغيرها، امتنع أن يُطلق عليهم بعد ذلك : أهل السنة والجماعة، أو يُنسبون إليهم!
وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلًا بِلَيْلَى
وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَا
وكما قيل :
وَالدَّعَاوَى إِنْ لَمْ تُقَمْ عَلَيْهَا
بَيِّنَاتٌ أَصْحَابُهَا أَدْعِيَاءُ
المؤلف يزعم أنَّ مذهب السلف هو نَفْي الكيفية عن ذات الله وصفاته سبحانه وتعالىمن المعلوم - عند كل ذي علم وفهم - أنَّ ما عليه السلف في ذات الله وأسمائه وصفاته، هو إثبات كيفية حقيقية معلومة لله سبحانه وتعالى، مجهولة لنا لا نعلمها.
ولكن المؤلف قصُر فهمه عن إدراك ذلك، فَفَهِمَ عكسه.
قال ص 32 :
((قولهم : )بلا كيفية) يفيد نفي الكيفية عن الله تعالى وعن صفاته العلى، فالله سبحانه وتعالى لا كيف لذاته العلية، ولا كيف لصفاته العلى، كما دل عليه خبر البيهقي السالف، ويضاف إليه ما ذكره الذهبي عن ربيعة بن عبد الله العجلي في تاريخه : حدثني أبي قال : قال ربيعة : وسُئل كيف استوى؟ قال : الكيف غير معقول، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق)).
ثم ذكر المؤلف بعد ذلك قول أم سلمة ل: ((الاستواء غيـر مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر)).
وذكر قول أبي داود الطيالسي : ((كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدُّون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون : كيف، وإذا سُئلوا أجابوا بالأثر)).
قلت:
فيما ذكره المؤلف دليل على إثبات كيفية غير معلومة لنا، لا على نَفْي الكيفية، ويُدْرَك ذلك من قول ربيعة وأم سلمة: (الاستواء غير مجهول)؛ أي: معلوم المعنى، (والكيف غير معقول)؛ أي: غير معقول لنا، وإنْ كان معلومًا لله عز وجل، وإلا فيستحيل أنْ يُفهم من قولهم: (غير معقول)، أنه غير معلوم لله عز وجل، إذاً فمعنى قولهم : (غير معقول)، أي : غير معلوم ولا معقول لنا، ولو كانوا يريدون نفْي الكيفية لقالوا: (الكيف غير موجود). وهذا واضح والحمد لله.
وأيضًا فإن كلام أبي داود الطيالسي يدل على إثبات كيفـية لذات الله عز وجل وصفاته، لا نعلمها، ويُعلم ذلك من قوله: (وإذا سُئلوا أجابوا بالأثر).
أي أنهم إذا سُئلوا، هل ربنا جل وعلا سميع بصير؟، قالوا: نعم، قال تعالى:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
وإذا سُئلوا، هل ربنا جل وعلا عليم حكيم؟، قالوا: نعم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
وإذا سُئلوا، هل نُثبت لله سبحانه وتعالى صفة اليد؟، قالوا: نعم، قال تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: ٦٤ ].
وإذا سُئلوا، هل ربنا جل وعلا مُستو على عرشه؟ قالوا: نعم، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: ٤].
فهذا معنى قول أبي داود الطيالسي: (وإذا سُئلوا أجابوا بالأثر).
ومن المعلوم أن عدم العلم بكيفية الشيء؛ في قولهم: (والكيف غير معقول) أو (غير معلوم) لا يَعني انعدامه أو عدم وجوده، فكم من مخلوق لا نعلم كيفيته، والجميع مُقِّرون بوجوده، فالروح التي بين جنبينا لا يعلم أحد كيفيتها، والجميع مُقرِّون بوجودها، وكذلك فإن عالم الملائكة لا نعلم كيفيته، ومع ذلك فإننا مُقرِّون بوجوده. ولله المثل الأعلى.
فإنْ كان هذا جائز في حق المخلوق، فجوازه في حق الخالق من باب أولى.
ثم ذكر المؤلف قول الإمام الترمذي رحمه الله في «جامعه»: ((وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث - حديث الصدقة([1]) - وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا، ويؤمَن بها، ولا يُتوهم ولا يقال: كيف؛ هكذا رُوي عن مالك وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة))اهـ. كلام الإمام الترمذي.
قلت:
نقل المؤلف من كلام أئمة السلف عليهم رحمة الله ما يخالف مذهبه الخلفي، ويؤيد مذهب ابن تيمية السلفي؛ ويتبين هذا من قول الترمذي رحمه الله: ((وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا : قد ثبتت الروايات في هذا، ويؤمَن بها ولا يُتوهم ولا يقال: كيف)).
فقوله: ((قد ثبتت الروايات في هذا ويؤمَن بها)) نص صريح في الإيمان بما جاء في الروايات الثابتة، ومعنى الإيمان بها، أي: إثبات ما فيها، وهذا ما يفهمه العقلاء، وإلا فإنَّ عاقلًا لا يقول: إنَّ معنى الإيمان بها: نفيُ ما فيها!
هذا؛ ومما يوضح هذا أكثر ويُجلِّيه، بقيةُ كلام الإمام الترمذي رحمه الله تعالى، الذي قام المؤلف ببتره وعدم ذكره.
قال الإمام الترمذي رحمه الله بعد قوله: ((وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة)) قال: ((وأما الجهمية، فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا تشبيه، وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه: اليد، والسمع، والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسَّر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد ها هنا القوة، وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد أو مِثْلُ يد، أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر، ولا يقول: كيف، ولا يقول مثل سمع ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهًا، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}([2])))اهـ. كلام الإمام الترمذي رحمه الله.
قلت:
فكما رأيت أخي الكريم، فإن الإمام الترمذي رحمه الله تعالى يقرر من خلال هذا الكلام مذهبَ السلف الصالح رحمهم الله تعالى في إثبات صفات الله تعالى من غير تشبيه ولا تعطيل.
وهذا الذي قرره الإمام الترمذي رحمه الله ونقله عن أئمة السلف الصالح رحمهم الله، هو عين ما يقرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ويكرره دائمًا في كلامه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في «منهاج السنة النبوية» (2/ 523):
((وطريقة سلف الأمة وأئمتها: أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل؛ إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فهذا رد على الممثلة، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى: 11]، رد على المعطلة.
فقولهم في الصفات مبني على أصلين: أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقًا كالسِّنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات، ولكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبت شيئًا من الصفات مشبِّهًا؛ بل المعطلة المحضة الباطنية نفاة الأسماء يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبِّهًا، فيقولون: إذا قلنا: حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين، وكذلك إذا قلنا: هو سميع بصير، فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير، وإذا قلنا: هو رءوف رحيم، فقد شبهناه بالنبي الرءوف الرحيم))اهـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (3/200):
((فالقول في صفاته كالقول في ذاته، واللّه تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لكن يفهم من ذلك أن نسبة هذه الصفة إلى موصوفها كنسبة هذه الصفة إلى موصوفها، فعلم اللّه وكلامه ونزوله واستواؤه، هو كما يناسب ذاته ويليق بها، كما أن صفة العبد هي كما تناسب ذاته وتليق بها، ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفات العبد إلى ذاته؛ ولهذا قال بعضهم : إذا قال لك السائل : كيف ينزل، أو كيف استوى، أو كيف يعلم، أو كيف يتكلم ويقدر ويخلق؟ فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفية ذاته؛ فقل له: وأنا لا أعلم كيفية صفاته، فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف))اهـ.
وقال رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (12/ 244):
((وأن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ فكما لا يشبه علمُه وقدرتُه وحياتُه عِلْمَ المخلوق وقدرته وحياته، فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق ولا معانيه تشبه معانيه ولا حروفه تشبه حروفه ولا صوت الرب يشبه صوت العبد؛ فمن شَبَّهَ اللهَ بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته))اهـ.
وقال رحمه الله في «التدمرية» (44):
((الأصل الثاني؛ وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات.
فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟
قيل له - كما قال ربيعة ومالك وغيرهما -: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة))اهـ.
وقال أيضًا رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (2/ 126):
((واتفق سلف الأمة وأئمتها أن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وقال من قال من الأئمة: من شَبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهًا))اهـ.
فها هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مطابق لكلام الأئمة رحمهم الله؛ بحيث إنك لا تجد بين كلامه وكلامهم رحمهم الله أجمعين أدنى مخالفة.
[1])) وهو ما رواه الترمذي في ((جامعه)) (662): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ؛ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]، وَ {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]». والحديث في الصحيحين.
[2])) ((جامع الترمذي)) كتاب الزكاة، باب: ما جاء في فضل الصدقة (3/ 41).
أعانك الله يا شيخ محمد؛ جهد مشكور