ثورة على المستشرقين والاســــــــــ تشراق ودراسات الأدب العربي

علم الشرق.. من طه حسين إلى إدوارد سعيد ودوراكوفيتش

عرض: خالد عزب - باحث مصري

صدر عن مؤسسة البابطين كتاب «علم الشرق» للعالم البوسني أسعد دوراكوفيتش وترجمه إلى العربية عدنان حسن.. هذا الكتاب هو إلى حد كبير وبشكل جوهري عن شعرية الأدب العربي القديم، مع ذلك فإن البحث المتساوق لهذه المنظومة الهائلة استتبع دراسة بعض المظاهر الأخرى من الروحانية الإسلامية الشرقية أيضًا، وبالدرجة الأولى تلك المسلمات الشعرية التي يمكن التعرف عليها في الفنون الإسلامية الشرقية عمومًا، كمبادئ الإبداعية في منظومة مؤثرة تمتد، على السلم التاريخي، من الشعر العربي الجاهلي إلى نهضة القرن الثامن عشر، وفي «البعد المكاني»، من الشعر نفسه في الجزيرة العربية القديمة إلى المؤلفين البوسنيين في اللغات الشرقية في القرون الخامس عشر أو السادس عشر أو السابع عشر. hewaars7_opt.jpeg

يرى المؤلف أن الأدب العربي القديم هو مملكة الشعر، فقد ظهرت الأشكال الأدبية النثرية في وقت متأخر نوعًا ما، لذلك حتى في يومنا هذا ليس مفاجئًا أن اللغة العربية لا تمتلك مصطلحًا آخر لـ Poetics سوى فن الشعر. من الطبيعي أن تكون هذه الحقيقة قد أثرت على مضمون كتابه، فهو يقوم على شعرية الشعر العربي القديم الذي يشمل عصر الكلاسيكية، الذي تطلق عليه تسمية غير ملائمة من قبل المؤرخين الأدبيين.

في الواقع كانت مشكلة تحقيب الأدب العربي هي التي حضت المؤلف على إنتاج هذا الكتاب. في الوطن العربي، كما في الدراسات الشرقية عمومًا، لم يكن ثمة أي تحقيب متأصل؛ بل تحقيب مشتق من العصور السياسية في تاريخ الوطن العربي– الإسلامي (الأدب الأموي، الأدب العباسي...الخ) ومسمى وفقًا لها. توحي هذه المقاربة بأن الأدب العربي، كونه قد تطور على أرض شاسعة على مدى قرون، لا يعامل في شكل متأصل وكمنظومة، بل بالأحرى يجزَّأ إلى حقب منفصلة لا تكشف شيئًا عن الأدب نفسه.

خلال ثلاثة عقود من دراسة المؤلف للأدب العربي كأستاذ جامعي، كان دائمًا مستاء بشدة من مقاربات الأدب العربي القديم التي قدمته بمصطلحات وضعية، كوصف كرونولوجي واستعراض مرتب فيلولوجيًا يعين موقع هذا الإنتاج الأخاذ ضمن حقب تاريخية وسياسية مختلفة محددة على نحو صارم. كان من سوء حظ هذا الأدب أن الفيلولوجيين (العرب والمستشرقين) هم أكثر من تعامل معه: ففي حين أن الفيلولوجيين يعود إليهم الفضل الكبير في اكتشاف وتقديم المصادر بلغة فيلولوجية، فإنهم بسبب طبيعة حقلهم المعرفي، لا يقدرون على فهم الأدب كقيمة فنية يتم تحقيقها، خصوصًا كقيمة، في علاقات دينامية إلى أقصى درجة بأعمال أخرى، وعهود أدبية- وليست سياسية- أخرى. لكي نفهم ونقدم هذا التراث الأدبي المؤثر كتراث تحديدًا- وبالتالي، كاستمرارية مصانة من خلال إعادة إنتاج وتجاوز القيم المبتدعة قبل إذٍ- يجب تأسيس شعريته كمنظومة متصورة على نحو عريض جدًّا تنبذ في شكل معقول التجزؤ الذي لا أساس له والتسميات المشوشة.

هذا التراث الغني بوفرة يرى المؤلف أنه يجب أن يفهم من الداخل، من التراث نفسه، ويجب تحديد وشرح المسلّمات الجمالية للأدب العربي القديم بواسطة المنهج العلمي المناسب الخاص بالشعرية. من الضروري بالقدر نفسه أن نبرهن على درجة استمرارها في التراث، أو مقدرتها على التكيف لكي تبقي التراث نابضًا بالحياة. هذه المقاربة فقط هي التي ستكشف، كما يؤكد المؤلف عدم كفاية التحقيب المقبول عمومًا للأدب العربي القديم (الكلاسيكي).

في الوقت نفسه يستخدم المؤلف مصطلحًا جديدًا هو Orientology (علم الشرق)، ليبعد نفسه بقوة عن مصطلحي الاستشراق Orientalism أو الدراسات الشرقية oriental studies الملوثين إيديولوجيًّا، فباستعمال مصطلح علم الشرق يشير إلى نهج علمي، لامركزي أوروبي في مقاربة هذا الحقل من البحث، إضافة إلى الطبيعة المتأصلة للتحليل وأحكام القيمة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للقارئ النبيه أيضًا رغم كونه مشدوهًا أن يكتشف عددًا من الدلالات أو المضامين الأخرى في مصطلح علم الشرق- بما في ذلك وجود تواصل معين مع أعمال إدوارد سعيد وجاك دريدا.

لكن أسعد دوراكوفيتش بهذا ينحت علمًا جديدًا خارجًا عن نسق إدوارد سعيد وثائرًا على الاستشراق حينما يجعل الشرق موضوع علم، لكنه هنا لم يخرج عن الشعر كحقل لدراسته، وفي الوقت نفسه يعترض منهج بروكلمان في دراسته للأدب العربي، ويثور على شوقي ضيف في تحقيبه لدراسة الأدب العربي عبر العصور، مما يجعل هذا الكتاب محط تساؤلات ونقد ونقاش، لكنه يقترب أكثر فأكثر إلى منهجية طه حسين في كتابه «الشعر الجاهلي» وكأنه يعيد اكتشاف طه حسين وقدراته التنظيرية لنا.

لقد قاده بحثه إلى استنتاج أن الأدب العربي القديم هو منظومة مترابطة في شكل ملحوظ، بالمصطلحات الشعرية، أي أنه يمتلك تفرده الخاص به الذي يتم تبريره، في جوانب كثيرة في هذا الكتاب، وأن بعض المفاهيم التقليدية له والأحكام حوله- كالحكم السلبي حول «الطبيعة المادية» للشعر العربي القديم- تنشأ عن الإخفاقات في فهم المبادئ الجمالية لهذا التراث. عمومًا، إن مظاهر كثيرة في هذا الأدب تكتسي مظهرًا مختلفًا تمامًا عندما يتم تقديمها باستخدام منهج متأصل في منظومة شعرية حية. علاوة على ذلك، إن تعريفًا صحيحًا للعناصر الجمالية المكونة، وتحليلًا متأنيًا لوظيفتها ضمن الثقافة العربية- الإسلامية يكشفان عن الدرجة العالية لكونيتها. أي بمعنى أنها من ناحية أولى، تبدو قوية بما يكفي لتشكيل منظومة مستقلة خارج الأدب العربي، حتى خارج أدب الشعوب الإسلامية الأخرى في تطورها ما قبل الحديث. ومن الناحية الأخرى فإن هذه العناصر الجمالية يتم كشفها كمكونات لأشكال فنية أخرى- من الأرابيسك الزخرفي إلى أشكال أخرى.. هذا يصور في الواقع (الشعرية) التي تُجعل كونية في الوطن العربي- الإسلامي، كمنظومة واسعة جدًّا من الإبداع الفني عمومًا.

إن التوازي بين الأدب العربي القديم وأدب اليونان وأوروبا القديمين، سيفرض نفسه بقوة على قارئ غير مطلع على الأول (الأدب العربي). على رغم أن هذه الآداب تطورت في شكل مستقل، فيجب الاعتراف بأن مهد الأدب العربي هو عصره القديم ما يدعى «الأدب الجاهلي»، وأن هذا العصر القديم قد أثر على الأدب العربي لاحقًا بطريقة مشابهة لكيفية تأثير الأدب اليوناني القديم على ما أصبح يُعرف باسم الأدب الأوروبي، أو الأدب اللاتيني القروسطي. بالتأكيد، ثمة اختلافات ملحوظة بينهما، لكن أوجه تشابههما كثيرة ويمكن أن تكون ذات أهمية لدارسي الأدب المقارن.

قاد البحث المترابط في جماليات الأدب العربي القديم إلى استنتاج غير متوقع، وهو أن النص القرآني يبدو أنه النص المحوري لهذا الأدب، على رغم أنه تطور بعد مئات السنين من تقدم النص في التاريخ. ومن المعروف جيدًا أن القرآن قد واجه شعر العصر مباشرة، لكن البحث في جماليات الأدب العربي القديم يكشف أن كل الأدب (ما بعد القرآني)، وخصوصًا الشعر، صار يُعرف وفقًا له. أثبتت قوة النص القرآني أنها فعالة في شكل لا يمكن التنبؤ به هذه القوة يُسلط المؤلف الضوء عليها وتمنح معنى كاملًا من طريق دراسة متأصلة للأدب بوصفه منظومة جمالية، لهذا، وعلى نحو غير متوقع تمامًا، فإن تكوين وتفسير الأدب العربي القديم يفرض نفسه أيضًا كتفسير خاص لجمالية النص العربي في القرآن الكريم، نظرًا للموقع المحوري للنص القرآني.

إن تحليل دوراكوفيتش لعلاقة القرآن بالشعر على مستوى الإيديولوجيا ومستوى الشكل- في مظاهر تجاورهما الإيديولوجي والشعري- قد يبدو أحيانًا استنتاجيًّا، أو يعطي تحليلًا في شكل متحيز موقعًا استثنائيًّا للنص المقدس بالنسبة إلى الأشكال الأخرى للتراث، فهو يدرك أنه لا تحيز يليق بالعلم الذي يصبو إليه هذا الكتاب. فإن المؤلف قدّر أن الشعرية، كمنظومة متماسكة موطدة على مبدأ التأصل، لا يمكن أن تحتمل أي شكل من التحامل مهما يكن، وهو ما ينطبق على العلم عمومًا، وأدرك أن الشعرية لا يمكن الإفصاح عنها بهذه الطريقة، ولفت انتباه القارئ إلى حقيقة أن مقاربته المنهجية هي متأصلة بطبيعتها، هذا يعني أن الكتاب يقدم تفسيرًا متسقًا للمسلمات الشعرية المتأصلة للقرآن من جهة، ولمسلمات الشعر من جهة أخرى، بالإضافة إلى تفسير لعلاقاتهما الضمنية أيضًا في التراث نفسه. ومن هنا يجيء اختلافه المنهجي عن طه حسين في رؤيته لعلاقة النص الشعري بالقرآن الكريم في كتابه «الشعر الجاهلي».

لهذا، فإن القارئ الذي يكون خارج هذا التراث وغير مطلع تمامًا على القرآن كنص أساسي له، يمكن في أحيان قليلة أن يتولد لديه الانطباع بأن المؤلف له موقف متحامل. الأهم من ذلك أن الباحث لا يمكنه أن يستبعد إمكانية أن مثل هذا التصور يمكن أن ينتج من الموقف المسبق للقارئ. ولكون المؤلف مدركًا لخطر الاعتراضات الممكنة وفق هذه الخطوط، فقد أجرى تحليلًا دائمًا وتوصل إلى استنتاجات من موقع النص القرآني، متحررًا من أي تحامل. إن تأثير النص القرآني في هذا التراث هو حقًّا قوي ومتنوع، بحيث إنه في جوانب كثيرة أيضًا قد مثّل اكتشافًا قاده إلى الاتساق في هذه المقاربة المتأصلة، بسبب ذلك قدمت هذا الكتاب للقارئ والباحث كي نفتح به نقاشًا موسعًا حول ما توصل إليه مؤلفه.

الكتاب: علم الشرق

المؤلف: أسعد دوراكوفيتش

الناشر: البابطين- الكويت 2010

المترجم: عدنان حسن

عدد الصفحات: 384