أسامة غاوجي1/2/2014
نصوص الفكر العربي الحديث والمعاصر في معظمها نصوص استفتاحية ونصوص تأويلية؛ أي إنها نصوص على تخوم نصوص، النص الاستفتاحي قبلي وممهّد – فيما يُفترض – لولادة نص استئنافي، والنص التأويلي بعدي ولاحق على النص الاستئنافي، وهو في الآن ذاته يفتح الباب لنصوص استفتاحية جديدة.
ليس ثمة نصّ استئنافي خالص (إذا تعاملنا مع الاستئناف باعتباره نبتًا بلا جذر وإبداعًا بلا شبه أو مثال سابق)، كل نص له علاقات قبليّة وبعديّة بالضرورة، ولكن الإبداع هي ما يجعل نصًّا ما يراكم نصوصًا تأويلية على تخومه لاحقًا ، ويجعل له تحيّزًا خاصًا في فضاء الفكر، الأمر الذي يجعلنا نحكم عليه بأنّه نص استئنافي أو "النص". يمكن أن نوسّع دلالة "النص" من جهة علاقته بالنصوص التأويلية اللاحقة له لتشمل "الحدث". "الحدث" (وفق باديو) غير مفسّر وفق نسق المعرفة القارّ،إنه (الثورة ، العشق ، العمل الفني كأمثلة على الحدث) ميلاد الحقيقة وشكلها الأكثر بكارة.
"لم الخوف من الإبداع؟"، يقول طه عبد الرحمن. لنجب بأنّ الحالة العربية مخصية أمام الأب المهيمن، للآخر (الأب) قوة وفحولته من حيث إنّه يقف في وجه المستقبل بلا وسيط، قوته ليست فقط في الماكنة المعرفية الهائلة التي يملكها، إنما أيضًا في ثقته التي تمكنّه من التعامل مع المعرفة بلا أوهام، ولا خشية من الرقيب؛ إنه يصنع المعرفة ويهدمها، والأنا العارفة والمتعرّفة (الغربية اليوم) هي مؤسسة المنهج المعرفي والفلسفي وكاشفة عيوبه في اللحظة التالية، هذه الفحولة المعرفية لا يمكن تجاوزها في المدى المنظور إلا بحنوّ الأب وكسر نسق الهيمنة من قبله، أو بقتله من قبل الإبن إن لزم الأمر وخلق حالة من الاستقلالية والتثاقف العربي – العربي، بحيث تنحاز النصوص التأويلية لحساب "النص" العربي و"الحدث" العربي.
نحن نفتقد "النصوص" بشدّة. عادة ما يكون للإبداع القدرة على كسر الثنائيات المتوهّمة وعمل اختراقات معرفيّة، تصلح أن تؤسس نصوصًا جديدة أكثر تحررًا، ولكننا في زحمة النصوص الاستفتاحية المحكومة بمنطق الثنائيات المتوهّمة نلمح مئات العناوين التي تحاول التأسيس ورسم ملامح المقبل والتمهيد له وطرح الأسئلة ،ثم حين تحين لحظة ولادة "النص"، ويأتي دور النصوص التأويلية، نكون أمام تعاطٍ أيديولوجيّ معه أو أمام تجاهل مريب له، أو – وهو الأنكى – إعادة جرّه إلى الثنائيات الموهومة التي انطلقت منها النصوص الاستفتاحية؛ أي إن الطريق من النص الاستفتاحي إلى النص الاستئنافي إلى النص التأويلي ومنه إلى الاستفتاحي مرة أخرى يصبح حلقة مغلقة بدل أن يكون لولبيًا صاعدًا.
فإضافة إلى الندرة الحادّة "للنصوص" عربيًا، فإننا نقوم بحبس النص وقتل ممكناته بشكل متكرر. هذه المسرحية المؤلمة باستراتيجياتها الثلاث تكررت مع إقبال ومع قطب ومع الجابري ومع طه عبد الرحمن وغيرهم، وتكررت في السياق الأدبي كذلك. والأشد بعثًا على الخيبة، أنها تعود للظهور في تفسير "الحدث" الذي يخترقنا باستمرار ويحرجنا بعدم قدرتنا الأولية على تفسيره (كالثورة السورية مثلاً ولواحقها )، إلا أننا نصرّ على إعادة موضعته داخل بنية المعرفة السابقة للحدث، ولا نمتلك الجرأة على خلق حقيقة أو تأويل حقيقة برزت للوجود بالفعل.
أخـــيرًا، والخطاب موجّه للمفكرين الذين لم يُستدخلوا في بنية الفكر المشروخة هذه (أي لم يتم خصائهم بعد)، إذا كان من الضروري امتلاك الثقة المعرفية الكافية لإنتاج نصوص استئنافية بلا خوف من الإبداع وبلا خوف من شروط الفكر (النسبية والانطلاق من الخصوصية والانحيارات الواعية و... )، فإن العائق يكمن في أن إبداع "النص" لحظة لا يمكن القبض عليها وتوجيهها قصديًا، كما أنّها لحظة محكومة بالإبداع الفردي بالضرورة، ولكن ما يبدو أفقًا ممكنًا لكسر الطوق الحديدي وزيادة فرص احتمال ظهور نصوص استئنافية حقيقية، كامنٌ في الإصرار على بناء جهد تأويلي عربي يبقى وفيًّا "للنصوص " العربية و"الحدث " العربي، وكما أنّ العبور إلى النضج يتطلّب التشبّع بالاستقلالية، فإنّ العبور إلى أفق كوني وإنساني يتطلّب بالضرورة ثقة معرفية في قدرتنا الذاتية على إنتاج الحقيقة بعيدًا عن الرقيب المهيمن، ويتطلّب أيضًا أن نقفّ نحن والأخوة (الآباء السابقين) على رؤوس أسنان المشط المتساوية أمام المستقبل.