من شعراء الحجاز في القرن الثالث عشر الهجري شاعر بدوي ، يعرفه جيدا يدو الجزيرة والحجاز خاصة ، ألا وهو بُديوي الوقداني (وهو من قبيلة عتيبة ) (ت 1296هـ) .
وهو من أشهر شعراء العامية في الجزيرة العربية ، ولكن له قصائد فصيحة جميلة .
وله قصة تشبه ما يُزعم أنه وقع لأحد شعراء الدولة العباسية (يقال : إنه هو علي بن الجهم ، ولا يصح ) ، من أنه دخل على الخليفة المتوكل ، فمدحه بقصية يقول فيها :
أَنْتَ كَالْكَلْبِ فِي حِفَاظِكَ لِلوُددِّ
وَكَالتَّيْسِ فِي قِرَاعِ الخْطُوبِ
أنْتَ كَالدَّلْو لاَ عَدِمْتُكَ دَلْوًا
مِن كِبَارِ الدِّلا كَثِير الذّنُوبِ
فعلم الخليفة أنه شاعر ، لكن غلظ حياة البادية وضيق العيش هما اللذان جعلاه يمدحه بهذه الأوصاف ، التي هي بالشتم أشبه !
فأمر بأن يُغمس في نعيم بغداد ، ويتلذذ في قصورها .
وما مرت مده ، حتى كتب قصيدته التي تفيض لطافة ، والتي يقول فيها :
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أَعَدْنَ لِيَ الشَّوْقَ القِدِيم وَلَمْ أَكُنْ
سَلَوْتُ ، وَلكنْ زِدْتُ جَمْراً إِلَى جَمْرِ
سَلِمنْ وَأَسْلَمْنَ العُيُونَ كَأَنَّما
تُشَكُّ بأَطْرَافِ الرُّدَيْنِيَّة السُّمْرِ
وَقُلْنَ لَنَا نَحْنُ الأَهِلَّةُ إِنَّمَا
تُضِيء لِمَنْ يَسْرِي بِلَيْلٍ وَلاَ تَقْرِي
فَلاَ نَيْلَ إلاّ مَا تَزَوَّدَ نَاظِرُ
وَلاَ وَصْلَ إلاَّ بالْخَيَالِ الَّذِي يَسْرِي
هذه هي قصة وقصيدة علي بن الجهم ، كما قيل .
أما بديوي الوقداني فقد كان شاعرا بدويا ، فورد مكة ، ومدح أميرها الشريف عبدالله بن محمد بن عبد المعين بن عون بالعامية . فوجده الشريف شاعرا تتوفر فيه موهبة شعرية كبيرة ، فأمر بتعليمه الفصحى والنحو , وألحقه بحلقات التعليم في الحرم المكي .
فمكث كذلك زمنا يسيرا .
ثم خرج الأمير في رحلة ، ومعه حاشيته ، وكان ممن اصطحبه الشاعر بديوي . وفي أحد أيام الرحلة ، قام الشريف يغسل يديه على أحد الآبار ، وكان يلبس خاتما عزيزا على نفسه ، وفيه فص من حجر كريم نادر . فسقط الحجر في البئر ، وحاول السباحون إيجاده في البئر ، فلم يجدوه . فتكدر خاطر الأمير ، وكأنه تطير من هذا الأمر . فوقف بديوي الوقداني ، وارتجل أول قصيدة له بالفصحى ، قال في مطلعها :
لا تأسَ يا ابن رسول من حجر
رأى المكارم في كفيك فانفجرا
وافاك سعدك إذ وافى السعود ، وقد
أعطاك ربك حظا يفلق الحجرا
فكانت قصيدته هذه فاتحة شعره العربي ، وهي بهذا الذكاء واللطف .
ومن قصائده الفصيحة قوله في شعر رمزي ، يبين فيه ذل الناس للدنانير :
رأيت شاة وذئبا وهي ماسكة
بأذنه ، وهو منقاد لها ساري
فقلت : أعجوبةٌ ! ثم التفت إلى
ما بين نابيه ملقى نصف دينار
فقلت للشاة : ماذا الإلف بينكما
فالذئب يسطو بأنياب وأظفار ؟!
تبسمت ثم قالت وهي ضاحكة
بالتبر يُكسر ذاك الضيغم الضاري
وله قصيدة يرثي بها الأمير المذكور ، يقول فيها :
الملك لله ، والدنيا مداولةٌ
فما لحي على الأيام تخليدُ
والناس زرع الفنا , والموت حاصدهم
وكل زرع إذا ما تم محصودُ
حاتم العوني.