بسم الله الرحمن الرحيم
(زبدة القول فيما جاء في صفة النزول)
الحمد لله العظيم المتعال، المتسمي بأسماء الكمال، والمتصف بصفات الجلال، ، جل أن يشبه أحدا من خلقه، وتعالى أن يشبهه شيء من خلقه، بل هو الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، سبحانه جل عن تعطيل أهل التجهم والتأويل، وتنزه عن تكييف أهل التشبيه والتمثيل، وصلى الله على من أثبت لربه الأسماء والصفات، ونزهه عن مشابهه المخلوقات، حاشاه أن يكون قد وصف ربه بالمعايب، أو نسبه للنقائص والمثالب، كما يدعي من جحد فضله، وتنقص علمه، وترك هديه، فزاغ وزل، وضل وأضل.
فهو - عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم- أكثر الخلق بربه علما، وأجودهم لسانا وأفصحهم نطقا، وارحمهم قلبا وأكثرهم حرصا، صلى الله عليه وسلم صلاة تامة كاملة، دائمة باقية، وعلى الآل والأصحاب، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب.
أما بعد:-
فهذا بحث مختصر ميسر، يتعلق بنزول ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا، هذه الصفة التي كثر حولها الجدال، وكثر فيها القيل والقال، وأورد عليها أهل البدع الإشكال بعد الإشكال.
حاولت في هذا البحث أن اختصر فيها المقال، وأبين فيها الحق الزلال، وأرد على أهل البدع والضلال، مع أني لم آت فيه بجديد، وإنما هو جمع وترتيب، وتنقيح وتهذيب، لما جاء في كلام الله وسنة الرسول، وأقوال الأئمة الفحول. مستمدا قوتي وعزيمتي من ذي القوة والطول، وأحببت أن أسميه ((زبده القول فيما جاء في صفة النزول)) ، وأسأل الله العون والتسديد والتوفيق والتأييد فإنه:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ** فأول ما يجني عليه اجتهاده
تمهيد:
عندما يخيم الليل بظلامه، ويذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه الأخير، في تلك الساعات ينزل رب الأرض والسماوات إلى السماء الدنيا – نزولا يليق بجلاله وعظمته سبحانه – وينادي: ((من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ )).
نعم ... يقرب رب العزة من عباده ليغفر للتائبين النادمين، ويعطي السائلين المحتاجين، ويستجيب لعباده المؤمنين.
نعم ... إنه الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فهو أرحم بعباده من أهليهم ووالديهم، بل وحتى من أنفسهم. يتفقد عباده، ويقرب منهم، ليجيب دعاءهم، ويكشف كربتهم، ويفرج همهم، ويقبل توبتهم.
يقول نبينا –صلى الله عليه وسلم-: (( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له ))[1].
في هذا الحديث العظيم، يبين لنا النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- صفة عظيمة من صفات الله عز وجل - وكل صفاته عظيمة كريمة – ألا وهي صفة النزول.
ولنقف أيه الأحبة مع هذا الحديث الشريف، ومع هذه الصفة الكريمة لنعرف معناها وأدلتها وأقوال سلف الأمة فيها، ونكشف خطأ وضلال من أولها، أو حرفها، فضلا عمن أنكرها، أو جحدها، من أهل الزيغ والضلال.
المبحث الأول: معنى صفة النزول:
اعلم أخي الحبيب أن النزول في اللغة كما يعرفه أهل العلم واللغة: هو حقيقة في إتيان الشيء ومجيئه من علو إلى سفل، ولا تعرف العرب غير هذا المعنى من لفظ النزول[2].
والقرآن والسنة إنما جاءا بلسان العرب ولغتهم، فلم يأت النزول فيهما إلا بهذا المعنى، وهذا المعنى هو الذي يعرفه الناس بفطرتهم، ويرتكز في نفوسهم، وهو أول ما يتبادر إلى أذهانهم عند إطلاق هذا اللفظ.
إذا علمت هذا؛ فاعلم أن نزول الله عز وجل الذي جاء في القرآن والسنة إنما هو نزول حقيقي يليق بجلالته وعظمته، وهو صفة من الصفات الفعلية التي يتصف الله عز وجل بها، ويفعلها كيف شاء، ومتى شاء، فهو سبحانه فعال لما يريد، وهو على كل شيء قدير.
المبحث الثاني: ثبوتها:
أخي المسلم قد ثبتت صفة النزول في الأخبار النبوية المتواترة القطعية التي لا يبقى معها أي مجال للشك أو التردد، وقد جاءت في أصح كتابين بعد كتاب الله عز وجل -صحيح البخاري ومسلم- اللذان أجمعت الأمة على قبولهما. قال الحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله-: (( وتواترت الأخبار وصحت الآثار أن الله -عز وجل- ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا )).[3]
وقد روى أحاديث النزول نحو ثمانية وعشرين صحابيا[4]، قال الإمام أبو بكر بن أبي داود -رحمه الله-:
روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا
وقد أجمعت الأمة على إثبات هذه الصفة، وقد نقل الإجماع عليها أكثر من تسعة عشر إماما: منهم الأوزاعي، والترمذي، والدارمي، وابن سريج، والكرماني، ومحمد بن الحسن الشيباني، والصابوني، وابن عبد البر، وأبو نعيم، وغيرهم كثير.
المبحث الثالث: أنواع النزول الواردة:
ثبت نزول الله عز وجل بأنواع مختلفة، منها النزول للسماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير من الليل، والنزول إلى السماء الدنيا عشية عرفة، وليلة النصف من شعبان، والنزول لفصل القضاء وغيرها من الأنواع الثابتة في الكتاب والسنة[5].
المبحث الرابع: أوقات النزول :
جاء في وقت النزول ست روايات وهي كالآتي:
1) حين يبقى ثلث الليل الأخير.
2) إذا ذهب ثلث الليل الأول[6].
3) إذا مضى ثلث الليل الأول أو نصف الليل[7].
4) إذا مضى شطر الليل[8] -أي نصفه-.
5) النصف أو الثلث الأخير[9].
6) الإطلاق بدون تقييد بزمن معين[10].
والرواية المعلومة المشتهرة، والصحيحة الثابتة المتفق عليها هي رواية النزول في ثلث الليل الأخير.
وأما عن توجيه بقية الروايات فإننا نقول: إن المطلق منها يحمل على المقيد، وأما الروايات التي جاءت بـصيغة " أو" التي هي للشك والتردد فالمجزوم به مقدم على المشكوك فيه.
وأما بقيه الروايات فقد اُختلف في الجمع بينها اختلافا كثيرا، وأولى ما قيل فيها: هو أن تسمية النزول في الثلث الأول وفي النصف نزولا إنما هو من باب تسمية الشيء بمقدماته، فسمي نزولا لأنه من مقدمات النزول، ولأنه متصل به، كما أطلق سبحانه على وقت الزلزلة والرجفة المتصلة بيوم القيامة أنها يوم القيامة، فمقدمات الشيء ومبادئه كثيرا ما يسمى الشيء بها.
قال ابن القيم -رحمه الله-: (الثالث: أن للنزول الإلهي شأنا عظيما ليس شانه كشأن غيره، فإنه قدوم ملك السموات والأرض إلى هذه السماء التي تلينا، ولا ريب أن للسماوات وأملاكها عند هبوط الرب تبارك وتعالى ونزوله إلى سماء الدنيا شأنا وحالا. وفي بعض الآثار: (( إن السماوات تأخذها رجفة ويسجد أهلها جميعا )). قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه، أخبرني عبيد بن السباق أنه بلغه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (( ينزل ربنا من آخر الليل فينادي مناد في السماء العلياء: ألا نزل الخالق العليم، فيسجد أهل السماء وينادي فيهم مناد بذلك، فلا يمر بأهل سماء إلا وهم سجود )). ومن عوائد الملوك –وله المثل الاعلى – أنهم إذا أرادوا القدوم إلى بلد أو مكان غير مكانهم المعروف بهم أن يقدموا بين يدي موافاتهم إليه ما ينبغي تقديمه، وهذا من تمام مصالح ملكهم، وهكذا شأن الرب تبارك وتعالى أنه يقدم بين يدي ما يريد فعله من الأمور العظام كتابة ذلك أو إعلام ملائكته به، أو إعلام رسله، كما قال تعالى " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" وقوله لنوح: "ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون" وقال لإبراهيم: "يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود" وإذا كان الله تعالى يتقدم إلى ملائكته ورسله بإعلامهم بما يريد أن يفعله من الأمور فلا ينكر أن يتقدم لأهل سماواته بنزوله ويحدث للسماوات وللملائكة من عظمة ذلك الأمر قبل وقوعه ما يناسب ذلك الأمر، وهكذا يفعل سبحانه إذا جاء يوم القيامة فتتأثر السموات والملائكة قبل النزول، فسمى ذلك نزولا لأنه من مقدماته ومتصل به، كما أطلق سبحانه على وقت الزلزلة والرجفة المتصلة بالساعة أنها يوم القيامة والساعة، وذلك موجود في القران، فمقدمات الشيء ومباديه كثيرا ما يدخل في مسمى اسمه وهذا الوجه أقوى الوجوه)[11] ا.هـ.
النبي – صلى الله عليه وسلم -: يقول: (( ينزل ربنا )). وهم يقولون: لا ينزل!!.
إن من العجيب أخي المؤمن أن يوجد هناك كثير ممن ينتسبون للإسلام ويتسمون باسم الإيمان، وهم مع ذلك ينكرون كثيرا مما أثبته الله لنفسه، ويعطلونه عن معناه.
نعم..لقد قدم أهل الكلام عقولهم على كلام ربهم، وقدموا أهواءهم على سنة نبيهم، فجعلوا عقولهم القاصرة حكما على كلام من خلقهم، وخلق عقولهم، فلم تتصور عقولهم تلك الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ولم يستطيعوا إدراكها لنقص في عقولهم، وضعف في إدراكهم مع تلبيس الشيطان عليهم، وإغوائه لهم، فقاموا بتأويل النصوص وتحريفها، وتعطيلها وتفويضها كما قال شاعرهم:
وأي نص أوهم التشبيها أوله أو فوضه رم تنزيها !
وإن من أعظم الصفات التي أغاظت القوم، وضجت مضاجعهم هذه الصفة -صفة النزول- ، ورحم الله الإمام الدارمي عندما قال عن حديث النزول: إنه (( أغيظ حديث للجهمية، وأنقض شيء لدعواهم ))[12]. وذلك؛ لأن إثبات هذه الصفة يعني هدم كل أصول الجهمية، وقواعدهم الفاسدة، وبراهينهم المتهاوية. وقد أنكر القوم هذه الصفة بشبهات زائفة، وأدلة متهاوية، وحجج داحضة، وسأذكر بإذن الله أبرز هذه الحجج التي يحتج بها القوم وأبين فسادها باختصار.
المبحث الخامس: مجمل الشبهات والرد عليها باختصار:
الشبهة الأولى:
إن إثبات النزول لله عز وجل يلزم منه إثبات الحركة، وهي من صفات الأجسام.
وهذه شبهة باطلة لأمور:
أولا: أن لفظ الجسم لا يطلق على الله نفيا ولا إثباتا، لأنه لم يرد في النصوص نفيه ولا إثباته، ولأنه من الألفاظ المجملة التي يحتمل نفيها حقا وباطلا، فإن أراد بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يليق به، فنفي هذا المعنى عن الله باطل لأننا نؤمن بأن لله ذاتاً موصوفة بصفات الكمال .
وإن أراد بالجسم الجسد البشري أو الشيء المكوَّن من أعضاء ولحم ودم المفتقر بعضه إلى بعض وما أشبه ذلك ـ فنعم هذا صحيح.[13] ولكن الكلام الذي بعده باطل، فليس كل ما يتحرك جسم، فالهواء يتحرك وليس بجسم، والأرواح تتحرك وليست بأجسام، وبهذا يتبين بطلان هذا القول.
ثانيا: أن الحركة لفظ مجمل أيضا يحتمل حقا وباطلا.[14] وهم يريدون من نفيها معنى باطل، وهو نفي الفعل عن الله عز وجل، وفي الحقيقة أنهم هربوا بزعمهم من تشبيهه بالأجسام والمخلوقات، فشبهوه والعياذ بالله بالأموات والجمادات التي لا تفعل ولا تتحرك –تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا -.
الشبهة الثانية:
إن حديث النزول من أخبار الآحاد.
وهذا باطل من وجهين:
الأول: ما تقدم من أن حديث النزول من الأحاديث المتواترة بلا نزاع.
ثانيا: أن الحديث حتى لو كان من الآحاد لما جاز لهم رده بهذه الحجة، فإنما هي حجة أهل البدع من المعتزلة وغيرهم كما قال ابن العربي -رحمه الله-: " ومن الناس من رد حديث النزول لأنه خبر واحد وهم المبتدعة"[15].
الشبهة الثالثة:
إن القرآن قد ثبت أنه يجئ يوم القيامة ومجيئه كما هو معلوم مجيء ثوابه، فكما جاز تأويل مجيء القرآن، يجوز تأويل مجيء الرب ونزوله كذلك!
وهذا أيضا ظاهر البطلان؛ لأن القرآن كلام والكلام لا يقوم بنفسه، ولا يجئ، ولا يتحرك بنفسه إلا أن يؤتى به، والله تعالى قائم بنفسه يفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير.
قال الإمام الدارمي – رحمه الله -: (( فيقال لهذا المعارض: لقد قست بغير أصل ولا مثال، لأن العلماء قد علموا أن القرآن كلام، والكلام لا يقوم بنفسه شيئا حتى تقيمه الألسن ويستلين عليها، وأنه بنفسه لا يقدر على المجيء والتحرك والنزول بغير منزل ولا محرك، إلا أن يؤتى به وينزل، والله تعالى حي قيوم ملك عظيم قائم بنفسه في عزه وبهائه يفعل ما يشاء كما يشاء، وينزل بلا منزل ويرتفع بلا رافع، ويفعل ما يشاء بغير استعانة بأحد ولا حاجة فيما يفعل إلى أحد، ولا يقاس الحي القيوم الفعال لما يشاء بالكلام الذي ليس له عين قائمة حتى تقيمه الألسن، ولا له أمر ولا قدرة ولا إرادة ولا يستبين إلا بقراءة القراء ... ))[16].
الشبهة الرابعة:
إن النزول قد جاء في القرآن لغير معنى الإتيان من علو إلى سفل.
وهذا باطل من وجوه:
أولا: أن القرآن قد جاء بلغة العرب، والعرب لم تستخدم لفظ النزول إلا بهذا المعنى.
ثانيا: أنه لو احتمل لفظ النزول المجاز فماذا نفعل بالألفاظ الأخرى الثابتة التي جاءت في روايات مختلفة للحديث: كالهبوط، والتدلي، والدنو؟! وهذه الروايات لا تحتمل معنى آخر، وهي تدل دلالة واضحة على أن النزول في الحديث إنما هو على حقيقته.
وأيضا ماذا نصنع بما جاء في بعض الروايات" ثم يصعد" وفي بعضها "ثم يرتفع" وفي بعضها " ثم يعلو"؟ أليست تدل أيضا على أن النزول على حقيقته؟
فكل هذه حجج دامغة، على رؤوس الجهمية الفارغة.[17]
وأما ما استدلوا به من أن النزول قد يأتي مجازا لغير معناه الحقيقي، فكلها استدلالات غير صحيحة، بل النزول باق على معناه الحقيقي فيها جميعا:
فنزول الأنعام على ظاهره وهو نزولها من بطون أمهاتها، ومن أصلاب آبائها، وهذا نزول من علو إلى سفل، وذكر بعض أهل العلم أنه كما أنزل أصل الإنسان وهو آدم من السماء للأرض، فما المانع أن يكون أصل الأنعام أنزل مع أصل الأنام كذلك.
وأما نزول السكينة والإيمان فهو أيضا على حقيقته، فإن الله ينزلها من عنده إلى خلقه، وتنزل بها الملائكة على قلوب بني آدم.
وأما نزول القرآن فهو أيضا على حقيقته فإن جبريل نزل به على النبي – صلى الله عليه وسلم-.
وأما نزول الحديد فهو كذلك على ظاهره؛ لأنه ينزل من رؤوس الجبال كما هو معلوم، وقد أثبتت الحقائق العلمية اليوم أن أصل معدن الحديد ليس من كوكب الأرض بل من الفضاء الخارجي، وأنه من مُخلّفات الشهب والنيازك.
وأما إنزال اللباس والريش فإنه ينزل من ظهور الأنعام، والأنعام أيضا منزلة من البطون والأصلاب، فهو منزل من علو إلى سفل من الجهتين، وقيل: هو ما نزل من اللباس مع آدم وحواء ليكون مثالا لغيره[18].
الشبهة الخامسة:
إن الليل يختلف باختلاف البلدان والفصول فقد يكون عند قوم أول الليل، وعند آخرين نصفه، وعند آخرين ثلثه الآخر، وعند قوم لا زال النهار طالعا، فكيف ينزل عند هؤلاء وعند هؤلاء؟
وهذه الشبهة هي أكبر شبه القوم التي يدندنون عليها، ويحومون حواليها، والقوم إنما جاءتهم هذه الشبهة؛ لأنهم تخيلوا أن نزول الله عز وجل من جنس نزول خلقه، فكما أنك لو نزلت من على السطح إلى الأرض فإن السطح يصير فوقك، ويصبح خاليا، فكذلك ظنوا أنه يلزم من نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا أن يكون العرش خاليا، وكما أنه لا يستطيع الإنسان أن يكون في البيت وفي السوق وفي المسجد وفي العمل في وقت واحد، ظنوا أن الله عز وجل لا يمكنه أن ينزل عند هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء، كل في ثلث ليلهم الآخر، وهو مع ذلك فوق عرشه في وقت واحد.
وإن عجبت أخي الفاضل فحق لك أن تعجب!!!
كيف ساغ لهؤلاء القوم أن يقيسوا ربهم العلي القدير بالمخلوق الضعيف الحقير؟!
كيف جوزت لهم عقولهم أن يقيسوا الخالق بالمخلوق؟
وأن يقيسوا رب الأرباب بالتراب؟
وأن يقيسوا خالق الأرض والسماوات بغيره من المخلوقات؟!
إن هذا لشيء عجاب!
لقد نسي هؤلاء القوم أو تناسوا أنه الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
لقد نسوا أو تناسوا أنه على كل شيء قدير.
لقد نسوا أو تناسوا أنه (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )).
وأما عن جواب هذه الشبهة مفصلا فأوجزه لك في هذه النقاط:
أولا: اعلم أخي وفقك الله أن الله عز وجل هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي خلق الأزمنة والأمكنة والقوانين المنظمة التي تحكم البشر وتسيرهم، أما هو عز وجل فلا تحكمه هذه الأزمنة والأمكنة، ولا تحكمه هذه النظريات والأنظمة فهو خالقها وواضعها ومنشئها عز وجل، فهو يحكم عليها ولا تحكمه فتبارك الله أحسن الحاكمين.
ثانيا: أن الله عز وجل لا يشبه خلقه في شيء من صفاته، ولا يعلم أحد كنه ذاته، ولا كيفية صفاته، فهو سبحانه ينزل ولا نعلم كيف ينزل، ولكننا نعلم أن نزوله ليس كنزول البشر، كما أن سمعه ليس كسمعهم، وبصره ليس كبصرهم، وحياته ليست كحياتهم، وقدرته ليست كقدرتهم.
وإنما تتأتى هذه الشبه إذا علمنا أن نزوله عز وجل كنزول المخلوقين، أما ونحن لا نعلم كيفيه نزوله، ونعلم أن نزوله غير نزول المخلوقين؛ لأنه ليس كمثله شيء، فلا يمكننا أن نقول مثل هذه الأقوال، ولا أن نورد مثل هذا الإشكال.
ثالثا: أن نزول الله عز وجل ليس من جنس نزول عباده، ولا يعلم كيفيته إلا هو، فهو ينزل للسماء الدنيا وهو فوق عرشه، ولا يمتنع في حق الله عز وجل وعظيم قدرته أن ينزل في وقت واحد لخلق كثير فينزل لهؤلاء وهؤلاء وأولئك، أليس الله على كل شيء قدير؟!
ولكي تتضح لك الصورة أخي الموفق؛ هذه أمثله أضعها بين يديك توضح لك الصورة:
1-أليس الله عز وجل يحاسب الخلق كلهم في ساعة واحدة، وكل منهم يخلو به ويكلمه في ساعة واحدة، لا يشغله حساب هذا عن ذاك ولا ذاك عن هذا ؟![19]
2- أليس الله عز وجل يرزق الناس في كل وقت وكل حين، فيرزق في الساعة الواحدة خلقا كثيرا لا يشغله رزق هذا عن رزق ذاك، ولا رزق ذاك عن رزق هذا؟!
3- أليس الله عز وجل يسمع ويرى كل شيء حتى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فهو في الساعة الواحدة يرى جميع خلقه في السماوات والأرض، ويسمع كلام الخلق كلهم على اختلاف لغاتهم في آن واحد، لا يشغله سمع عن سمع، ولا نظر عن نظر؟!
فكما يفعل الله عز وجل ذلك كله، فهو كذلك ينزل إلى سماء أهل كل بلد في ثلث ليلهم الآخر، لا يشغله شأن عن شأن، ولا حال عن حال، سبحانه هو العظيم المتعال.
وكما قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: (( إذا قال لك الجهمي: أنا كفرت برب ينزل. فقل له: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء))[20].
رابعا: ونضرب هنا بعض الأمثلة مما خلقه الله عز وجل من مخلوقاته يتضح بها المقال، ويزول بإذن الله الإشكال:
المثال الأول: الروح، لا تزال في بدن العبد ليلا ونهارا، ولا تخرج من جسد الإنسان إلا بعد موته، ومع ذلك فهي في وقت النوم تعرج إلى السماء وهي في الوقت نفسه لم تفارق البدن لأنها لو فارقته لمات فهي في السماء وفي البدن في وقت واحد، وكذلك أيضا تصعد من الساجد في وقت سجوده، وتقرب من الله عز وجل مع بقائها في جسده[21].
المثال الثاني: أرواح الشهداء، تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي مع ذلك تسمع سلام المسلم عليها عند قبرها، وتدنو حتى ترد عليه السلام[22].
المثال الثالث: النبي –صلى الله عليه وسلم-. يقول: (( ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه))[23] ففي هذا الحديث أن الله يرد عليه روحه كل ما سلم عليه مسلم، ويرد النبي –صلى الله عليه وسلم- على كل من سلم عليه، ولك أن تتخيل كم هم الذين يصلون على النبي –صلى الله عليه وسلم- في الوقت الواحد، والساعة الواحدة، بل وفي الدقيقة الواحدة، ومع هذا فهو يرد على الجميع لا يشغله الرد على هذا عن الرد على غيره.
المثال الرابع: كل إنسان يجد نفسه تقرب من نفوس كثير من الناس وتميل إليها في الوقت نفسه من غير أن يصرفها قربها لهذا عن قربها لهذا.
المثال الخامس: الشمس جسم واحد متحرك بحركة واحدة متناسبة لا تختلف، وبهذه الحركة الواحدة تكون طالعة على قوم، وغاربة عند آخرين، وقريبة من قوم، وبعيده عن آخرين، ويكون عند قوم منها ليل وعند قوم نهار، وعند قوم شتاء، وعند قوم صيف، وعند قوم حر، وعند قوم برد، فهذه حركة واحدة من مخلوق واحد يكون عندها ليل ونهار في وقت واحد وشتاء وصيف وحر وبرد في وقت واحد.
فإذا كانت هذه المخلوقات قادرة على فعل مثل هذه الأمور المذكورة في وقت واحد، فكيف يمتنع على خالق كل شيء الواحد القهار أن ينزل على قوم في ثلث ليلهم الأخير، وينزل على آخرين في ثلثهم الأخير، ولا يشغله شأن عن شأن، سبحانه هو الواحد القهار؟![24]
ولكن صدق الله عز وجل عندما قال: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ" [ الزمر:67 ]
خامسا: إنما زين الشيطان لهؤلاء القوم هذه الشبهة لأنهم أقحموا عقولهم القاصرة في الغيبيات، وكان الواجب على المؤمن أن يصدق بما جاء به الله ورسوله من أمور الغيب، ويسلم لها، سواء أدركها العقل القاصر أم لم يدركها، وهذا هو موجب الإيمان بالله عز وجل، وتصديق أخباره، وهذا هو الفارق بين المؤمن والكافر، فالكافر لم يصدق الله عز وجل فيما أخبر به من الأمور الغيبية، ولم يؤمن بها؛ لأن عقله لم يتصورها، فلم ينكر كفار قريش البعث والنشور إلا لأن عقولهم لم تتصوره، فإذا رد المؤمن قول الله ورسوله لأن عقله لم يتصوره، فما الفرق بينه وبين هؤلاء؟!
قال حماد بن أبي حنيفة -رحمه الله-: (( أرأيتم من أنكر أن الملك – أي الملائكة- لا يجيء صفا صفا، ما هو عندكم؟ قالوا: كافر مكذب. قلنا: فكذلك من أنكر أن الله -سبحانه- لا يجيء فهو كافر مكذب))[25].
الشبهة السادسة:
لقد تكلف القوم في رد حديث النزول وأولوه بتأويلات لا تستقيم شرعا ولا عقلا:
فقالوا المراد بالنزول نزول رحمته أو المراد نزول ملك من الملائكة وهذه التأويلات باطلة ومن وجوه عديدة أكتفي بذكر بعضها في هذا المقام:
1- قوله (( ينزل ربنا )) نسب النبي –صلى الله عليه وسلم- النزول إلى لله عز وجل ولم يقل ينزل الملك، ولم يقل تنزل رحمته، وهو أفصح الخلق وأعلمهم بالله عز وجل.
2- أن ألفاظ الحديث ترفض هذا التأويل بتاتا ولا تحتمله، ومنها ما جاء من قوله: (( أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فاستجيب له...)) فهل الملائكة تقول هذا؟ وهل الرحمة تقول مثل هذا؟؟
وقوله: (( من ذا الذي يدعوني فاستجيب له )). وقوله: (( لا اسأل عن عبادي أحدا غيري )) فهل يستطيع الملك أن يقول هذا أم أن الرحمة هي التي قالت هذا؟!
3- أن رحمه الله عز وجل وملائكته لا يزالان ينزلان ليلا ونهارا، ولا يختص نزولهما بالثلث الأخير من الليل فقط كما هو في الحديث.
4- أن الحديث جاء مخصصا للنزول بأنه للسماء الدنيا فقط، فإذا كانت الملائكة، وكانت الرحمة لا تنزل إلا إلى السماء الدنيا، ثم تصعد ولا تنزل إلى الأرض، فما الفائدة منها ومن نزولها إذا؟
هذا ما تيسر جمعه وتلخيصه واختصاره وتنقيحه
هذا ما تيسر جمعه وتلخيصه واختصاره وتنقيحه في هذا البحث المختصر، والله أسأل أن ينفعنا بما كتبنا، ويجعله حجة لنا لا حجة علينا.
أخيرا أقول:
" أخي المسلم
كريم هو ربنا،
ينزل إلى السماء الدنيا لأجل مستغفر يغفر له،
أو سائل يعطيه، أو داع يستجيب له،
فهنيئا لمن قام بين يدي ربه عند نزوله في الثلث الأخير،
مشتاقا لمخاطبته، ومناجته، ودعاءه، ولقاءه
قال النبي –صلى الله عليه وسلم- (( مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ ))
والمحروم من حرم هذا والله المستعان".
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تنبيه: من أراد التوسع في المسألة فعليه بكتاب الرد على الجهمية للإمام الدارمي، وشرح حديث النزول وبيان تلبيس الجهمية لشيخ الإسلام ابن تيميه، ومختصر الصواعق المرسلة لابن القيم، وكتاب صفة النزول الإلهي ورد الشبهات حولها لعبد القادر الجعيدي وهو أفضل وأوسع كتاب في بابه، ومعظم البحث مستفاد من هذه الكتب فلتراجع.
كتبه
أبو عبد العزيز هيثم بن قاسم الحمري
بلغه الله آماله
وجعل الجنة داره ومآله