قَالَ الشَّوْكَانِيُّ - رحمه الله -: (الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِقَوْلٍ، وَيَنْتَشِرُ فِي الْمُجْتَهِدِين َ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ, فَيَسْكُتُونَ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمُ اعْتِرَافٌ، وَلَا إِنْكَارٌ)([1]).
وَالْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ:
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ - رحمه الله-:
(إِذَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ([2]) قَوْلًا، فَانْتَشَرَ فِي بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ، فَسَكَتُوا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلًا فِي تَكْلِيفٍ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ.
وَإِنْ كَانَ: فَعَنْ أَحْمَدَ رحمه اللهمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ([3])، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ حُجَّةً، وَلَا يَكُونُ إِجْمَاعًا([4]).
وَقَالَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ: لَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَا إِجْمَاعًا، وَلَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ، إِلَّا أَنْ تَدُلُّ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ عَلَى أَنْهُمْ سَكَتُوا مُضْمِرِينَ لِلرِّضَا، وَتَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِهِ)([5]).
وَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ إِجْمَاعًا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ([6]).
قلت: وَمِنَ التَّطْبِيَقاتِ الْعَمَلِيَّةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ:
ذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ – وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَحْنَافِ – مَسْأَلَةَ عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا, فَقَالَ: ((وَلَنَا حَدِيثُ عُثْمَانَ رضي الله عنه حَيْثُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي رَمَضَانَ: أَلَا إِنَّ شَهْرَ زَكَاتِكُمْ قَدْ حَضَرَ فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْتَسِبْ مَالَهُ بِمَا عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْقَدْرِ الْمَشْغُولِ بِالدَّيْنِ))([7]).
وَذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ – وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَحْنَافِ أَيْضًا – مَسْأَلَةَ زَوَالِ الْمِلْكِ عِنْدَ حُضُورِ مَرَضِ الْمَوْتِ, وَعَدَمِ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ, فَقَالَ: ((وَأَمَّا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لِعَائِشَةَ: إِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ, وَإِنَّكِ لَمْ تَكُونِي حُزْتِيهِ, وَلَا قَبَضْتِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ وَلَمْ تَدَّعِ عَائِشَةَ وَلَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَالَ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يَصِيرُ مِلْكَ الْوَارِثِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ))([8]).
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ مَسْأَلَةَ قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ, وَقَالَ: ((وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَى جَلَدَهُمْ عُمَرُ ﭬ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: تُوبُوا تُقْبَلْ شَهَادَتُكُمْ, فَتَابَ مِنْهُمُ اثْنَانِ, فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا, وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ))([9]).
وَذَكَرَ الْمَاوِرْدِيُّ – وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ – مَسْأَلَةَ تَغْطِيَةِ رَأْسِ وَوَجْهِ مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُحْرِمٌ, فَقَالَ: ((وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، رِوَايَةُ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِي مُحْرِمٍ خَرَّ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ فَمَاتَ: "لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَخَمِّرُوا وَجْهَهُ", وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْهُمْ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ، وَمَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَلَيْسَ مُخَالِفًا لَهُمْ))([10]).
وَذَكَرَ الْمَاوِرْدِيُّ أَيْضًا مَسْأَلَةَ شِرَاءِ الْغَائِبِ, فَقَالَ: ((وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ: رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَنَاقَلَا دَارَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِالْكُوفَةِ، وَالْأُخْرَى بِالْبَصْرَةِ، فَقِيلَ لِعُثْمَانَ: غَبَنْتَ فَقَالَ: لَا أُبَالِي لِي الْخِيَارُ إِذَا رَأَيْتُهَا، فَتَرَافَعَا إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، فَقَضَى بِالْخِيَارِ لِطَلْحَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اشْتَرَى أَرْضًا لَمْ يَرَهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ اشْتَرَى إِبِلًا لَمْ يَرَهَا.
فَصَارَ هَذَا قَوْلُ خَمْسَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ))([11]).
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ رحمه الله - وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ - مَسْأَلةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْربِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ، ثُمَّ قَالَ: ((وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفَعَلَهُ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبَعَةِ، وَمَالكٍ، وَالْأَوْزَاعِي ِّ، وَالشَّافِعيِّ، وَإِسْحَاقَ ... وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.اهـ([12]).
وَذَكَرَ أَيضًا - رحمه الله - مَسْأَلَةَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي حَالَةِ الْمَطَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَفَعَلَهُ أَنَسٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ عْنْ غَيْرِهِ خِلَافًا، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا)).اهـ([13]).
وَذَكَرَ - رحمه الله - مَسْأَلةَ صَلَاةِ الْأَمَةِ وَهِيَ مَكْشُوفَةُ الرَّأْسِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَنَا أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَنْهَى الْإِمَاءَ عَنِ التَّقَنُّعِ ... وَهَذَا اشْتُهِرَ فِي الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.اهـ([14]).
جَوَّزَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله - تَأْجِيرَ الْأَرْضِ الَّتِي بِهَا شَجَرٌ، وَإِنْ قَصَدَ فِي الْعَقْدِ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ وَالثَّمَرَةِ جَمِيعًا، وَهُو مَا مَنَعَهُ كَثْيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَاعْتَبَرَهُ بَيْعٌ لِلثَّمَرِ قَبْلَ بِدُوِّ صَلَاحِهِ؛ حَيْثُ اسْتَدَلَّ - رحمه الله - عَلَى الْجَوَازِ قَائِلًا: «الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ أُسَيدِ بْنِ الْحُضَيْرِ؛ فَإِنَّهُ قَبِلَ الْأرْضَ وَالشَّجَرَ الَّذِي فِيهَا بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ لِلْغُرَمَاءِ، وَهَذَا عَيْنُ مَسْأَلَتِنَا . . . ثُمَّ هَذِهِ الْقِصَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَشْتَهِرَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَهَا، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا»([15]).
[1])) «إرشاد الفحول» 1/ 223.
[2])) تخصيصه مسألة الإجماع السكوتي بالصحابة فقط، مخالف لما عليه جمهور الأصوليين من تعميمهما في كل الأعصار.
[3])) قال القاضي أبو يعلى ((العدة)) (4/ 1171): ((في رواية الحسن بن ثواب، قال أحمد: أذهبُ في التكبير غداةَ يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شىء تذهب؟ قال: بالإجماع: عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس.
وظاهر هذا: أنه جعله إجماعًا، لانتشاره عنهم، ولم يظهر خلافه.
وقد صرح به أبو حفص البرمكي، فيما رأيته بخطه على ظهر الجزء الرابع من شرح مسائل الكوسج، فقال: قال أحمد بن حنبل $ في رواية محمد بن عبيد الله بن المنادي: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المصحف.
قال أبو حفص: فبان بهذا أن الصحابة إذا ظهر الشىء من بعضهما، ولم يظهر من الباقين خلافهم: أنه عنده إجماع)).
[4])) الفرق بين الحجة والإجماع: أن الحجة يُستدَلُّ بها, ويجوز مخالفتها, إن كان هناك ما هو أقوى منها, وأما الإجماع فلا يجوز مخالفته.
[5])) «روضة الناظر» 1/ 434.
[6])) «المهذب في أصول الفقه» 2/ 933, 934.
[7])) «المبسوط» 2/ 160.
[8])) «بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع» 3/ 219.
[9])) «الذخيرة» 10/ 217.
[10])) «الحاوي الكبير شرح مختصر المزني» 4/ 101.
[11])) السابق 5/ 15.
([12]) «المغني» 2/132.
([13]) السابق، 2/325.
([14]) السابق، 2/332.
([15] ) «مجموع الفتاوى» (29/ 65).