اسباب الاختلاف والتناحر بتوصيف الشاطبي _رحمه الله_
.


قال الإمام الشاطبي _رحمه الله تعالى_:" فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العادة الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى العالمين بمواردها ومصادرها والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفاً بل كل على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق:

أحدها: أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ولم يبلغ تلك الدرجة فيعمل على ذلك ،ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من: الفروع وتارة يكون في كلي أصل من أصول الدين كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية فتارة آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها حتى يصير منها ما ظهر له بادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها ، وهذا هو المبتدع.


وعليه نبه الحديث الصحيح أنه _صلى الله عليه وسلم_قال:" لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم إتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ". قال بعض أهل العلم: تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم ، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم. فيؤتى الناس من قبله وقد صرف هذا المعنى تصريفاً فقيل:" ما خان أمين قط ولكنه ائتمن غير أمين فخان". قال ونحن نقول:" ما ابتدع عالم قط ، ولكنه استفتى من ليس بعالم".

والثاني: من أسباب الخلاف إتباع الهوى: ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها ،حتى يصدروا عنها ،بل قدموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم ،ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك,وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم.

والثالث: من أسباب الخلاف التصميم على إتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق وهو إتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ ،وأشباه ذلك ،وهو التقليد المذموم ،فإن الله ذم بذلك في كتابه بقوله:( إنا وجدنا آباءنا على أمة) الآية. ثم قال: ( قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون). وقوله: (هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون) فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء فقالوا: (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)" ( 1).



______________
( 1) ينظر الاعتصام ( ج2_ص128_ص141 ) بتصرف واختصار.