((أكثر أهل الجنة البُـلْـه)) هل هو حديثٌ يصححه واقعُ الأمة ؟!!


د. الشريف حاتم العوني
الجمعة 30/08/2013

سألني أحدهم عن حديث يُنسب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : (( أكثر أهل الجنة البُـلْـه )) .
فقلت له : هو حديث باطل ، نبه العلماء على بطلانه .
ومنهم من تأول البلاهة الواردة فيه وفسرها ( فيما لو صح الحديث ) بالغفلة عن المحارم ، أو بالغفلة عن التكالب على الملذات ، وبالتَّسمُّحِ في حقوق الدنيا ، زهدًا فيها ، لا عجزًا عنها .
فقال : ألا يمكن أن يكون في الحديث خلاف ، ويكون تصحيحه محتملا !!
فعلمت ماذا يريد محاوري العفريت ، وأردت استدراجه ، بذكر تقليعةٍ (حديثيةٍ) جديدة ، فقلت له : هناك دعاوى حديثة ، تدعي إمكان تصحيح الحديث الضعيف ، إذا ما وافق الواقع !! بشروط ، أو مطلقا !
فقال لي : لو صحت هذه الدعاوى الحديثة ، ونظرنا إلى مستوى البلاهة التي وصل إليها المسلمون = لكان هذا الحديث مثالا رائعا لحديث ضعيف يصححه الواقع !!
فقلت : لا تحتاج لتصحيح الحديث لإثبات بلاهتنا ، فبلاهتنا أقوى من خبر آحاد ظني الثبوت ، فكيف والحديثُ باطلٌ مقطوعٌ بعدم ثبوته :
- فالاحتراب الطائفي يمزقنا ، ويشفى عدونا فينا . وبفضل العنصرية الطائفية تنازَعْنا دعاوى (الفرقة الناجية) حتى لم (يَـنْجُ) من أُمتنا أحدٌ ، وتفاخرت كلُّ طائفةٍ بأنها هي (الطائفة المنصورة) فما انتصر فينا أحدٌ .
- والاحتقان الفكري يؤزم مجتمعاتنا ، حتى تبادلنا التهم والتكفير والتفسيق والتبديع والتشاتمَ بالرجعية والتطرف ، وأصبحنا كـ( الإخوة الأعداء ) : يبلغون من أنفسهم ما لا يبلغه عدوُّهم فيهم .
- والاحتراب الأهلي يُهدِّدُ شعوبَنا كلها ، وأصبح واقعا مؤلما في بعض بلداننا .
- وشيوعُ التصورات الخاطئة والمفاهيم المغلوطة جعلت الخطأ فينا صوابا والغلط عندنا هو الصحة ، فانحطَّ حالُ الأمة ، وتخلفت عن ركب الحضارة .
- وشراء الذمم وخيانة المبادئ وغياب الأخلاق تحت سلطة شهوة المال والمناصب : جعلنا متسولين على باب إهدار الكرامة وبيع المبادئ .
ومع ذلك كله ، ومع هذه البلاهة كلها : فنحن مسلمون ، وما زلنا ممن يستحق النجاة من النار ودخول الجنة .
ما أكرم الله تعالى ! وما أعظم قدر الشهادتين ! حتى استحق البلهُ دخولَ الجنة ؛ لأنهم من أهل الشهادتين .
ثم أتممتُ الكلامَ لصديقي قائلا : فاطمئن ، فإنه لا تَنافي بين بلاهتنا وكوننا أهلا لاستحقاق دخول الجنة برحمة الله تعالى ومغفرته .
فقال صديقي : إذن فقانون الله تعالى ليس كقانون البشر ، من جهة أن القانون البشري لا يحمي المغفلين ، وأما قانون الله تعالى ففقد حمى البُله !
فقلت له : بل حتى قانون الله تعالى لا يحمي المغفلين ، وأي حماية بعد كل هذا الضعف والتخلف الذي حلّ بنا ؟! بل السنة الكونية جارية على الجميع ( مسلمين وكفارا ) ، فبلاهتنا استنجزنا عقوبتَها في الدنيا ، وأما التوحيد والإقرار بالشهادتين فاستحقاقه استحقاقٌ أخروي ، ولذلك كان جزاؤه مُدّخرٌ للآخرة .
فقال لي صديقي : لو سمع بعضُهم حوارَنا هذ لقال : لماذا تستلذون جلدَ الذات ؟! وربما استشهد أحدهم بقوله صلى الله عليه وسلم : (( ‏ ‏إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ ‏)) .
فقلت له : وهذا الاعتراض هو جزء من البلاهة المتفشية ؛ فواقعنا المؤلم هو الذي يجلدنا صباح مساء ، ولن يكون وصفنا بالبلاهة إلا أخفَّ تربيتةٍ على أكتافنا وألطفَ مسحةٍ على وجوهنا أمام صفعات الواقع وجلده ورجمه !
وأما الحديث الصحيح الذي يستشهدون به (( ‏ ‏إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ ... ‏)) .، فهو أيضا استشهاد أبله ؛ لأن المقصود به ذم من تصاغر الناس وعظّم نفسه بقوله ( هلك الناس ) ، أما من قالها حكاية لواقع صحيح ، وحزنا على أمته وما وصلت إليه من ضعف في الدين والدنيا ومن تسلط دول العالم على قراراتها ومُقدّراتها ، فهذا ليس أهلَكَ الناس ، بل ربما كان هو منقذَهم ؛ لأنه عرف الداء ، وأحرى الناس بمعرفة الدواء هو الذي عرف الداء .