وردت القصة من عدة أوجه: ثلاثة مراسيل صحاح الأسانيد إلى مرسليها وهي مرسل الشعبي وقتادة وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأوجه أخر لم تصح أسانيدها وتفصيل تلك الأوجه:
أولا مرسل الشعبي:
أخرجه عبد الرزاق (12586 و12587) – ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط"7541)-، وابن سعد في "طبقاته" (9/ 91)، وابن أبي الدنيا في "النفقة على العيال" (498) – ومن طريقه الدولابي "الكنى والأسماء" (2/ 593)-، ووكيع القاضي في "أخبار القضاة" (ص176 ـ 177)، وأبو العباس اليشكري في "اليشكريات" (عمرية م 11/ق136/ب ـ 137/أ)، والمعافى بن زكريا في "الجليس الصالح" (2/377 ـ 378)، والعسكري في "الأوائل" (ص 359)، وأبو نعيم "معرفة الصحابة" (5844)؛ جميعهم من طرق عن الشعبي، - بعضهم مختصرا وبعضهم ذكر القصة - قال: أتت امرأة عمر فقالت: يا أمير المؤمنين، زوجي خير الناس يصوم النهار، ويقوم الليل، والله إني لأكره أن أشكوه، وهو يعمل بطاعة الله عز وجل والسلام عليكم ورحمة الله. فقال كعب بن سور ما رأيت كاليوم شكوى أشد ولا عدوى أجمل. فقال عمر: «ما تقول؟» قال: تزعم أنه ليس لها من زوجها نصيب. قال: «فإذا فهمت ذلك فاقض بينهما» قال: يا أمير المؤمنين أحل الله من النساء مثنى وثلاث ورباع فلها من كل أربعة أيام يوم يفطر، ويقيم عندها، ومن كل أربع ليال ليلة يبيت عندها
واللفظ لعبد الرزاق وجميعهم بلفظ مقارب، إلا أن لفظ رواية ابن أبي الدنيا كلفظ رواية الزبير بن بكار الآتية، والإسناد فيه مغيرة بن مسلم القسملي عن الشعبي وروايته عنه محتملة لكني لم أقف على روايته عنه ولم أجد من ذكره في جملة الرواة عن الشعبي ولا من ذكر الشعبي في جملة شيوخه، وأما الأسانيد الأخر عن الشعبي فأكثرها صحيح ولم يُتابع المغيرة على هذا اللفظ من طريق الشعبي.
ثانيا مرسل قتادة:
أخرجه عبد الرزاق (12588) عن معمر عن قتادة قال: جاءت امرأة إلى عمر، فقالت: زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار. قال: «أفتأمريني أن أمنعه قيام الليل وصيام النهار؟» فانطلقت، ثم عاودته بعد ذلك، فقالت له: مثل ذلك ورد عليها مثل قوله الأول، فقال له كعب بن سور يا أمير المؤمنين: إن لها حقا. قال: «وما حقها؟» قال: أحل الله له أربعا فاجعل لها واحدة من الأربع لها في كل أربع ليال ليلة، وفي أربعة أيام يوما قال: فدعا عمر زوجها، وأمره أن يبيت معها من كل أربع ليال ليلة، ويفطر من كل أربعة أيام يوما.
ثالثا مرسل أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف:
أخرجه عبد الرزاق (12589) عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي لبيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن امرأة جاءت عمر فقالت: زوجي رجل صدق يقوم الليل، ويصوم النهار، ولا أصبر على ذلك. قال: فدعاه، فقال: «لها من كل أربعة أيام يوم، وفي كل أربع ليال ليلة»
وابن جريج قد صرح بالتحديث
رابعا معضل عن محمد بن معن الغفاري
أخرجه الزبير بن بكار في "الموفقيات" كما في "التفسير" للقرطبي (5/19/ط دار الكتب المصرية)، و"الإصابة" لابن حجر (9/ 340/ط هجر) - ومن طريقه ابن الجوزي في "المنتظم" (5/ 115) وابن العديم في "بغية الطلب" (5/ 2444) – عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن معن الغفاري – معضلا – ولفظه: أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه، وهو يعمل بطاعة الله عز وجل. فقال لها: نعم الزوج زوجك. فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب. فقال له كعب الأسدي: يا أمير المؤمنين، هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه. فقال عمر: كما فهمت كلامها فاقض بينهما. فقال كعب: علي بزوجها، فأتي به فقال له: إن امرأتك هذه تشكوك. قال: أفي طعام أم شراب؟ قال لا.
فقالت المرأة:
يا أيها القاضي الحكيم رشده ... ألهى خليلي عن فراشي مسجده
زهده في مضجعي تعبده ... فاقض القضا كعب ولا تردده
نهاره وليله ما يرقده ... فلست في أمر النساء أحمده
فقال زوجها:
زهدني في فرشها وفي الحجل ... أني امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة النحل وفي السبع الطول ... وفي كتاب الله تخويف جلل
فقال كعب:
إن لها عليك حقا يا رجل ... نصيبها في أربع لمن عقل
فأعطها ذاك ودع عنك العلل
ثم قال: إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك. فقال عمر، والله ما أدري من أي أمريك أعجب؟ أمن فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما؟ اذهب فقد وليتك قضاء البصرة.
والأثر في "الموفقيات" برقم (432) في القسم المستدرك من ط عالم الكتب بتحقيق سامي العاني مستدركا إياه من كتاب "تحفة العروس" لمحمد بن أحمد التيجاني.
خامسا معضل الحسن بن أبي جعفر:
أخرجه وكيع القاضي في "أخبار القضاة" (ص177) من طريق عمر بن عمران السدوسي عن الحسن بن أبي جعفر، معضلا، بنحو لفظ رواية الزبير بن بكار.
قال وكيع القاضي: ورواه المدائني عن الحسن بن أبي جعفر، عن ليث، عن مجاهد.
وسنده ضعيف جدا، فالحسن بن أبي جعفر هو أبو سعيد الأزدي ضعيف الحديث مع عبادته وفضله، وكذا شيخه ليث وهو ابن أبي سليم - في الوجه الثاني الذي ذكره وكيع- وعمر بن عمران السدوسي – في الوجه الأول - مجهول وقال الأزدي: منكر الحديث. وانظر: "ميزان الاعتدال" (3/ 215)، "لسان الميزان" (6/ 128).
قلت: ذكر وكيع القاضي روايته هذه عن ثلاثة أسانيد الأول سنده عن محمد بن سيرين – سيأتي- والثاني سنده عن الحسن بن أبي جعفر والثالث وفيه: وأخبرني محمد بن أبي علي القيسي عن محمد بن صلح العدوي، يزيد بعضهم على بعض ... وذكر الأثر، والذي يظهر لي أن الإسناد به سقط وتصحيف وأصله: عن محمد بن صالح البغدادي – وهو الخياط - عن أبي عبيدة الحداد عن المغيرة بن مسلم عن الشعبي، وهو إسناد رواية ابن أبي الدنيا المتقدمة في طريق الشعبي.
سادسا مرسل محمد بن سيرين:
أخرجه وكيع القاضي في "أخبار القضاة" (ص177)، وابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 1319 ـ 1320) من طريق محمد بن سيرين ... وذكر القصة بنحو هذا اللفظ الأخير.
قلت: والإسناد إليه فيه إبراهيم بن عثمان بن زياد المصيصي، ذكره الخطيب في تلخيص المتشابه (ص79)، وذكره المزي في جملة شيوخ محمد داود بن صبيح المصيصي من تهذيبه ولم أجد من ذكره غيرهما، وبقية رجال الإسناد ثقات.
وعزاه الحافظ العسقلاني في "الإصابة" (9/ 340) لابن أبي شيبة في المصنف من طريق محمد بن سيرين. ولم أجده في طبعات المصنف من طريق ابن سيرين، والذي وقفت عليه في المصنف من طريق الشعبي ، قال : استقضى شريحا عمر على الكوفة في قضية واستقضى كعب بن سور على البصرة في قضية.
انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (36946/عوامة) وانظر أيضا الأثر (23046).
وعزاه الحافظ أيضا لغيره فقال: وأورده ابن دريد في الأخبار المنثورة، عن أبي حاتم السجستاني، عن أبي عبيدة وله طرق.
قلت: مجيء القصة من هذه الطرق جميعا ترجح أن لها أصلا غير أن الروايات التي جاءت بلفظ رواية الزبير بن بكار والتي فيها الحوار أشبه بسجعية القصاص والأدباء أشد ضعفا من غيرها كما تقدم، وأن الأوجه التي صحت إلى قائليها كرواية الشعبي وأبي سلمة وقتادة - وإن ضعفت لإرسالها- ترجح مجتمعة سياق اللفظ الصحيح لأصل القصة وأنه هو الأشبه بالصواب، لذا قال ابن قدامة: وقد اشتهرت قصة كعب بن سور، ورواها عمر بن شبة في كتاب " قضاة البصرة " من وجوه؛ إحداهن عن الشعبي، ... وذكر الأثر ثم قال: وهذه قضية انتشرت فلم تنكر، فكانت إجماعا.اه. وانظر: "المغني" (8/ 140/ط الكتاب العربي).
والله أعلم.