إن إبراز جوانب شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - الإنسانية ، والاستفادة من مواطن العبر والدروس فيها ، حري أن يحيي في الأمة روح العزة والسُّؤدد ، ويُصلح ما فسد من أخلاقها وآدابها ، بسبب الزحف الحضاري للأمم المختلفة التي سيطرت بقوتها وثقافاتها وإعلامها على وسائل التوجيه والتربية في شتى المجالات . وإن إظهار ما جُبل عليه من حسن الخلق ، والرِّفق في المعاملة ، والعدل في الغضب والرِّضا ، والحلم والأناة ، لهو من أكبر الدواعي على يؤثر تأثيرًا بالغًا في إقبال الناس على دعوته ، والسماع له ، ولا غرو فقد زكَّاه الله - عز وجل - من فوق سبع سماوات ، زكى عقله فقال : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } زكى لسانه فقال : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } زكى قلبه فقال : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } زكى بصره فقال : {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } زكى صدره فقال : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } زكى خلقه فقال : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } زكاه كله فقال : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }
وقد قال له ربه : { فَبِمَا رَحْمَة مِّنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَو كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }
وكان لهذا الخلُق الرَّفيع أكبر الأثر في الإقبال على هذا الدين العظيم ، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان بعيدا عن أساليب العنف والشدة والغلظة ، فاستطاع بحسن عرضه وكمال خلقه وصدقه ، أن تتسلل دعوته إلى بيوت مكة شيئا فشيئا ، حتى غزت بيوت كبار كفار مكة ؛ فاتهمه حينها كفار مكة بأنه ساحر : يفرق بين المرء وابنه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته .
وإن هناك مواقف عديدة وعظيمة تدل على عظيم رحمته وشفقته بأمته وأنه بهم رءوف رحيم ، قال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }.
من صور رحمته صلى الله عليه وسلم :
1ـ عن أنس - رضي الله عنه - قال : كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : أسلم ، فنظر إلى أبيه ، وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ، فأسلم فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار . أخرجه البخاري في صحيحه . وهذا يدل على رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأفته بالناس على وجه العموم ، حيث استبشر بإسلام هذا الغلام . . وإن تعجب فعجب من موقف والده هذا .
2ـ ومن مواقفه معهم ما قالته عائشة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال : لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ؛ إذ عرضت نفسي على عبد يا ليل بن عبد كلال ، فلم يُجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرتُ فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إنَّ الله - عز وجل - قد سمع قول قومك لك ، وما ردُّوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال : فناداني ملك الجبال وسلَّم عليَّ ، ثم قال : يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت ؛ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بل أرجو أن يُخْرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا .متفق عليه
وفي هذا الموقف العظيم منه - صلى الله عليه وسلم - دليل على فرط رحمته وشفقته بهم ، رغم الأذى الشديد الذي لقيه من المشركين ، والقدرة على الانتقام والتشفي.
واستمر صلى الله عليه وسلم في دعوته ولم ييأس ، صابرا مثابرا مرابطا ، وأحزنه عدم استجابة كثيرٍ منهم فأنزل الله عليه : { لَعَلَّكَ بَاخِع نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ }.
قال ابن كثير رحمه الله : وهذه تسليةٌ من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفَّار كما قال تعالى : { فَلاَ تَذهَبْ نَفْسُكَ عَلَيهِمْ حَسَرَاتٍ } وكقوله { فَلَعَلَّكَ بَاخِع نَّفْسَكَ عَلَى آثَرِهِم } (1) الآية .قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعطية والضحَّاك والحسن وغيرهم : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } أي : قاتل نفسك ، قال الشاعر :
ألا أيّهذاَ البَاخعُ الحُزنُ نفسَه ... لشيء نَحَتْهُ عَنْ يَدَيه الَمقَادِرُ أهـ
فهذا موقف عظيم منه - صلى الله عليه وسلم - ؛ فمع ما ناله منهم لم ينتقم وصبر وتحمل الأذى ، في سبيل أن يسلموا . وكان كذلك فقد دخلوا بعد فتح مكة في دين الله أفواجًا كما قال الله - عز وجل - : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ ، وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ، فَسَبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } .
3ـ موقف آخر يدل على كما رحمته بأمته صلى الله عليه وسلم
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله - عز وجل - في إبراهيم : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } .وقال عيسى - عليه السلام - : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }
فرفع يديه وقال : اللهُمَّ أمَّتي أمَّتي ، وبكى فقال الله - عز وجل - : يا جبريل ، اذهب إلى محمد - وربُّك أعلم - فسله ما يُبكيك ؟ فأتاه جبريل - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال - وهو أعلم - فقال الله : يا جبريلُ اذهب إلى محمد فقل : إنَّا سنُرضيكَ في أمَّتك ولا نسُوءك . أخرجه مسلم في صحيحه .قال القاضي عياض : هذا موافق لقول الله عز و جل ولسوف يعطيك ربك فترضى ]
وإلى لقاء آخر إن شاء الله .