الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه
أما بعد :
قبل يوم من الآن زرت الأخ حمود العميري واستعرت منه كتاب (( مجموع فيه مشيخة ابن أبي الصقر ومعجم مشايخ أبي عبدالله الدقاق ومجلس إملاء في رؤية الله تبارك وتعالى للدقاق )) قدم لها وقرأها وعلق عليها الشريف حاتم بن عارف العوني _ حفظه الله _
وقد بذل الدكتور حاتم جهداً كبيراً يشكر عليه ولكنه كمثل أي جهدٍ بشري لا يخلو من أخطاء
ولا أرغب هنا باستقصائها إذ ليست ذات بالٍ عندي ولو أخذنا ننتقد مثلها على كل محقق لطال بنا المقام
غير أنه لفت نظري حكمه على حديث (( اللهم علم معاوية الحساب والكتاب وقه العذاب )) بالنكارة
وهذا الحكم لا يستقيم مع القواعد العلمية كما سترى
الحديث رواه معاوية بن صالح، عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رُهْم، عن العرباض بن سارية قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يَدعو إلى السحور في شهر رمضان: "هَلُمَّ إلى الغَدَاء المبارك"، ثمَّ سمعتُه يقول: "اللهم علِّم معاويةَ الكتابَ والحِساب، وقِهِ العذاب"
ورواه عن معاوية جماعة رواياتهم مبثوثة في كتب أهل العلم أقتصر على ذكر اثنين منهم مستفيداً من بحث الأخ الشيخ محمد زياد تكلة في فضائل معاوية
1) عبد الرحمن بن مهدي:
رواه أحمد في المسند (4/127) وفضائل الصحابة (1748) -ومن طريقه الخلال في العلل (141) والسنّة (2/449) ومصادر أخرى عزفت عن ذكرها طلباً للإختصار
2) أسد بن موسى:
رواه الطبراني في الكبير (18/251 رقم 628) وفي الشاميين (3/169) -وعنه أبونعيم في المعرفة (2/805)- وابن بشران (1/55) وابن أبي الصقر في مشيخته (31) وابن عساكر (59/76 عنده الشاهد فقط) من طريق أسد بن موسى به
وتجدر الإشارة إلى أن الحديث مخرج في صحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان وسنن أبي داود والمجتبى للنسائي
وهذه الطريق أعلها الشريف بعلتين ( انظر ص 100)
الأولى معاوية بن صالح وقال أن ابن عدي أورد هذا الحديث في مناكيره
الثانية جهالة الحارث بن زياد الشامي
واعتبر كل علة من العلتين موجبة للضعف الشديد
والحق أن الإعلال محل نظر من وجوه
الأول أن هذا الحديث رواه عبد الرحمن بن المهدي عن معاوية ومن المعلوم أنه من الأئمة المتيقظين الذين لا يروون مناكير شيوخهم
فإن العلماء إذا أرادوا التدليل على على أن الراوي لا يروي المناكير قالوا (( حدث عنه يحيى وعبدالرحمن ))
وخصوصاً أن يحيى كان التحديث بهذا الحديث يعرضه للخطر
قال الخلال في العلل (141): قال مُهنّا، سألتُ أبا عبد الله [وهو الإمام أحمد بن حنبل] عن حديث معاوية بن صالح، عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رُهم، عن العرباض بن سارية، قال: دعانا النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الغَداء المبارك، وسمعتُه يقول: "اللهم علّمه -يعني معاوية- الكتاب والحساب، وقِهِ العذاب".
فقال: نعم، حدّثناه عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح.
قلتُ: إن الكوفيين لا يذكرون هذا: "علّمه الكتاب والحساب وقِهِ العذاب"، قَطَعوا منه؟
قال أحمد: كان عبد الرحمن لا يذكُره، ولم يذكُرْه إلا فيما بيني وبينَه.
قلت فلو كان منكراً عنده لترك التحديث به وجمع بين أمن الدنيا وأمن الآخرة
الثاني أن معاوية بن صالح محتجٌ به في الصحيح فجعل العهدة عليه بعيدٌ عن القواعد العلمية خصوصاً مع وجود من هم أقل حالاً منه _ عند الشريف _
مثل يونس بن يوسف والحارث بن زياد
وعلى هذا ما كان ينبغي للشريف متابعة ابن عدي على ما ذهب إليه
هذا مع الإقرار بسعة اطلاع ابن عدي وقوة نفسه في النقد
الثالث أن أحمد سئل عن الحديث ولم يعله على عادته في إعلال المناكير وسكت عليه أبو داود
ومن هذا يعلم أن استنكار ابن عدي للخبر محل نظر
وأما العلة الثانية
فإليك كلام الشريف حاتم
قال حاتم في ص100 (( بل يقال عنه _ أي الحارث _ (( منكر الحديث )) وهو الصحيح عندي في شأنه فالمجهول إذا عرف باللأفراد أو الحديث المنكر ، هذا مما يدل على شدة ضعفه لأن عدم معرفته بطلب الحديث لا يجعله يتحمل التفرد ))
قلت هذا فيه نظرٌ شديد فالحارث ليس له إلا حديث واحد فأي أفراد هذه وأما الإستنكار فإن قصدت استنكار ابن عدي فقد جعل ابن عدي العهدة على غيره
وإن قصدت استنكار ابن عبدالبر فهو إن ثبت عنه فقد خولف فيه
فهذا أحمد لم يستنكر الخبر وكذا أبو داود وصحح الخبر ابن حبان وابن خزيمة
ولا يقال أنهما لم يسبرا مروياته وهو ليس له إلا حديث يتيم
وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال [ 2148 ] الحارث بن زياد يروى عن أبي رهم السمعى وقد أدرك أبا أمامة روى عنه يونس بن سيف
قلت وهذا يدل على أنه يعرف عين الحارث بن زياد وإلا من اين عرف أنه أدرك أبا أمامة
والحق أن ابن عبد البر لم يستنكر حديثه بل فقد قال فقط كما في الإستيعاب (3/1420) (( الحارث بن زياد مجهول لا يعرف بغير هذا الحديث))
والنقل الذي ذكره الحافظ في التهذيب وهمٌ تتابع عليه الحفاظ لمخالفته ما في الإستيعاب _ وهو الكتاب الوحيد الذي تكلم فيه ابن عبدالبر عن الحارث _
وقال الجوزقاني في الأباطيل والمناكير والصحاح المشاهير (: "هذا حديث مشهور، رواه عن معاوية بن صالح جماعةٌ، منهم: بشر بن السري، والليث بن سعد، وعبد الله بن صالح، وأسد بن موسى، وغيرهم"، وأخرجه ضمن الأحاديث الضدّية للأباطيل والمناكير"
قلت ولو رفع أحدهم الجهالة عن الحارث بن زياد بعد استنكار الجوزقاني لحديثه مع قوة نفسه في النقد لما أخطأ
ثم لا أعرف ما الذي جعل الدكتور يغفل عن كونه من طبقة التابعين وهي طبقة لها تعامل خاص كما قرر ذلك الدكتور في كتابه المرسل الخفي
والدكتور يرى أن الترمذي لم يكن متساهلاً كما في كتابه المرسل الخفي والترمذي قد صحح حديثاً لوكيع بن حدس وهو تابعي لم يروي عنه غير واحد
فبماذا يذكرك هذا ؟!!
وإن تعجب فاعجب من قول الدكتور في ص102 (( ولهذا الحديث شواهد لكنها كلها معلولة لا تنفع للإعتبار ))
وقال عن الشواهد التي أوردها ابن عساكر أنها كلها شديدة الضعف
قلت يتضاءل جميع ما سبق أمام هذا
فقد روى الحسن بن عرفة في جزئه (66) ومن طريقه ابن عساكر (59/79) بسند صحيح عن حَرِيز بن عثمان الرَّحَبي مرسلا.
وقال الألباني: "وهذا أيضا إسناد شامي مرسل صحيح".
فإن قال قائل حريز من صغار التابعين فقد يصلح مرسله للإعتضاد وهو في حقيقة الأمر معضل
قلت حريز هذا جميع شيوخه ثقات كما صرح بذلك أبو داود فإذا أرسل وجب عليه افتراض أن هناك ثقةً في السند فوقه هو المرسل وهو من كبار التابعين بطبيعة الحال
ورواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/913) بسند صحيح عن شُريح بن عُبيد مرسلا.
وقال الألباني: "وهذا إسناد شامي مرسل صحيح، رجاله ثقات"
قلت شريح بن عبيد هذا من طبقة أواسط التابعين وهو أعلى طبقةً من الحارث بن زياد فتأمل فالساقط في سنده ليس الحارث بن زياد قطعاً
وقد ذكر محقق بيان الوهم والإيهام أن للحديث شاهد من رواية سفيان عن ثور عن خالد بن معدان مرسلاً وصححه
ولم أهتد إليه ولو صح قيل فيه ما قيل في مرسل شريح
وأما اعتماد الشريف على ما نقل عن إسحاق في أنه لا يصح في فضل معاوية شيء
وحمله الشريف على الفضائل الخاصة وإلا فمعاوية ثبت له فضل الصحبة
والحق أن هذه المقولة مردودة فقد ثبتت له فضائل خاصة منها الفضيلة المذكورة
ويلزم الشريف نفسه ردها _ أي مقولة إسحاق _ أو على الأقل الإعتراف بمخالفة جماعة من النقاد لها كما سأبينه في المشاركة التالية فقد أدركتني الصلاة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم