فالتخصص قد يكون هو نفسه سببا في بُعد بعض الباحثين عن التخصص الحقيقي! إذا كانت منطلقات التخصص عندهم ودوافعهم إليه لم تعرف التجرد، وإذا كان الباحث لم يكن متحليا بقدر وفير من الاعتدال وهذا النمط من البحوث والدراسات غير الموضوعية يتجلى بكثرة في دراسات الأديان والطوائف!!.
فلقد تخصص المستشرقون في الدراسات الإسلامية دينا وتاريخا وحضارة ولغة، فما كان تخصصهم دليلا على مصداقيتهم، ولا سببا مانعا من التشكيك في موضوعية مناهج ونتائج بحوثهم؛ لأن قلة منهم أولئك الذين كانوا منصفين في منهج ونتائج دراستهم؛ وذلك لأن قلة منهم أيضا من كان هدفهم من التخصص هدفا علميا مجردا وموضوعيا خالصا.
وكذلك أدعياء التخصص في الفرق والطوائف الإسلامية، فكم هي الدراسات والرسائل الجامعية التي يكتبها الشيعة عن السنة، والتي يكتبها السنة عن الشيعة، وما أقل ما يستحق منها القراءةَ فضلا عن الاعتماد!!.
فلم يعد يعنينا بكبير شيء (في غالب الأحيان) أن يقول شخص عن نفسه: ((بحكم تخصصي في عقائد السنة، أو طوائف الشيعة))، ثم يريد منا بمجرد هذا التقديم التسليمَ لأحكامه! إلا إذا ما أبرز هذا الباحث دليله العلمي السالم من النقض العلمي على ما يقول, وأثبت لنا إنصافه واعتداله وتجرده في بحثه، ومن حين أن تلحظ على استدلال مثل هذا الباحث المتخصص (بزعمه): وجودَ ثغراتٍ غير علمية، وقفزاتٍ على الحقائق بأنواع من التجاهل ونقصِ التوازن, وأنه يمارس سياسة الكيل بمكيالين فاعلم أنه قد خرج عن حدود البحث العلمي الموضوعي المجرد، إلى البحث العاطفي غير العلمي ولا العادل.
فمثلا: يتكلم الباحث الشيعي عن أهل السنة، فيصفهم بأبشع الصفات، ويحشر معهم كل من ليس بشيعي كالخوارج واليزيدية، فيضرب مثلا بالخوارج؛ لأنهم كانوا خصوما للشيعة، وهم قتلة آخر الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، على أنهم أنموذج سني، يسفك الدماء، ويستبيح الحرمات، وله تاريخ أسود في الفتن وفي إنهاك الدولة الإسلامية على مر التاريخ الإسلامي.
ويستدل هذا الباحث الشيعي باليزيدية (الذين يعبدون يزيد بن معاوية) على أنهم النموذج الصريح للنواصب، وعلى أن ما وصلوا إليه من الكفر إن هو إلا مآل مقالات أهل السنة، ونهاية تقريرات مذهبهم، واليزيدية طائفة في أصولها كانت سنية أثرية، ثم بدأت بالانحراف تدريجيا بسبب الفتن الطائفية مع الشيعة وغير ذلك من الأسباب، فازدادوا غلوا في الرد على الشيعة، حتى وصل بهم الحال إلى تأليه يزيد بن معاوية!!.
فهل سيكون هذا إنصافا من هذا الباحث؟! وهو يعلم أن أهل السنة يبدعون الخوارج المكفرة، ويغلظون القول فيهم، ويُصوّبون عليا (رضي الله عنه) في قتاله لهم، بلا خلاف بينهم في ذلك ولا تردد.
وفي المقابل: يأتي باحث سني ويُدخل في الشيعة الإمامية طوائف: السبئية، والقرامطة، والنصيرية، ونحوهم من الفرق الباطنية الخارجة عن الإسلام أصلا؛ بحجة أنهم غلاة في علي (رضي الله عنه) فيُدخل آراء هؤلاء ضمن آراء الشيعة، وينسب مواقفهم السوداء المخزية (كاستباحة القرامطة للكعبة سنة 317هـ) إلى الشيعة.
فهل سيكون هذا إنصافا؟! والشيعة الإمامية يكفرون السبئية، ويعلنون براءتهم من غلوهم الذي وصل حد تأليه علي (رضي الله عنه) البراءة الكاملة.
فما الفرق بين الموقفين؟
لماذا يقبل بعض أهل السنة إدخال السبئية والقرامطة في الشيعة، ولا يقبلون إدخال الخوارج واليزيدية فيهم؟!
ولماذا يقبل بعض الشيعة إدخال الخوارج واليزيدية في أهل السنة، ولا يقبلون إدخال السبئية والقرامطة فيهم؟!
وسنكمل بقية هذا الموضوع في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.
الجمعة 03/05/2013