تمام حسان*: نحن وسيبويه
يولد الطفل اليوم مثلا غير قادر علي الكلام والتفاهم‏,‏ حتي إذا بلغ الثالثة من عمره أتقن بالسماع والممارسة للكلام استعمال لغة قومه دون أن يعرف لها نحوا ولا صرفا‏.‏ لهذا كانت برامج التعليم في مدارسنا تشتمل إلي جانب درس النحو علي دروس أخري طابعها الممارسة‏.‏ وذلك كالإنشاء والمطالعة والمحفوظات والتعبير‏,‏ وهي جميعا من وسائل كسب المهارة في الكلام‏.‏ والنحو للكلام كالمنطق للفكر‏,‏ كلاهما يستعمل لضبط الأداءلا لكسب المهارة‏.‏ أما اكتساب المهارة فوسيلته استعمال الكلام والاتصال‏.‏ومن المعروف أن اللغة نظام أكبر‏,‏ مؤلف من أنظمة فرعية مترابطة ومتصاعدة أدناها نظام الأصوات‏,‏ وفوقه نظام الصرف‏,‏ وفوقهما نظام النحو‏.‏ ومن مظاهر ترابط هذه الأنظمة أن نتائج علم الأصوات تعد من وسائل الوصول إلي فهم نظامي الصرف والنحو‏,‏ وأن نتائج الأصوات والصرف معا تعد من لبنات بناء نظام النحو‏.‏ ونحن لاننطق اللغة وإنما ننطق الكلام بحسب نظام اللغة‏,‏ فالكلام سلوك واللغة قانون هذا السلوك‏.‏ ودراسة اللغة تتم من خلال الكلام‏.‏ليس من شأن النحو إذن أن يطلق اللسان بالكلام الصحيح‏,‏ وإنما شأنه أن يدل المتكلم والسامع كليهما علي مبلغ الكلام الذي قيل من الصواب‏,‏ وأن يجعل الكلام مادة صالحة للدرس واستخراج القواعد منه‏.‏ هكذا كان شأن النحاة في درسهم للنحو العربي‏.‏
عمد النحاة إلي كلام العرب فاختاروا منه نصوصا بعينها لقبائل معينة تعرف باسم‏:‏ قبائل وسط الجزيرة‏,‏ أو قبائل الفصاحة‏,‏ أخضعوا هذا المسموع للاستقراء الناقص فوجدوا أن ضبط بعض مكوناته يفتقر إلي الطرد‏(‏ أو الاطراد كما يسمونه‏),‏ فلو نظرنا إلي أفعال الأمر التالية‏:(‏ اضرب ـ قل ـ ق‏)‏ لوجدناها تستعصي علي الخضوع لقاعدة واحدة تجمعها ومن هنا لجأ النحاة إلي تجريد ماسموه‏:‏ أصل الوضع‏,‏ وبهذاجعلوا لكل واحدة من هذه الصيغ حروفا ثلاثة أصلية‏,‏ هي بالترتيب‏:‏ ضرب ـ قول ـ وقي بالبناء علي الفتح‏,‏ ومنها جاءت صيغة الأمر‏.‏ يفهم من قولنا‏:(‏ بالبناء علي الفتح‏)‏ أن أصل الوضع يشتمل علي الحروف الصحيحة والحركات في الوقت نفسه‏,‏ ويتضح صدق هذه الدعوي من عبارات الرد إلي الأصل كما في قولهم‏:(‏ نقلت حركة كذا إلي الساكن الصحيح قبله‏..)‏ كما في تصريف الفعل استقام‏.‏
من جهة أخري جرد النحاة مايسمي‏:(‏ أصل الاشتقاق‏),‏ وهو مكون من الحروف الصحيحة التي اشتمل عليها أصل الوضع دون الحركات كما يتضح من مداخل المواد المعجمية مثلا‏.‏ وتتمثل قيمة هذا الأصل في تحديد العلاقة بين المفردات وفي بيان الأصلي والزائد من حروف الكلمات‏,‏ والنص علي رتبة الحروف وعلي حذف بعضها عندما يقع الحذف‏,‏ والزيادة عندما تقع الزيادة‏.‏وثالث الأصول التي تكلم عنها النحاة أصل القياس‏.‏ لقد كان من أسباب إنشاء نحو اللغة العربية أن يتكلم الناس كلاما فصيحا سليما كما كان الفصحاء يتكلمون‏.‏ ومن الأقوال المأثورة في هذا المجال قولهم‏:‏ ما قيس علي كلام العرب فهو من كلام العرب‏.‏ ويختلف أصل القياس عن سابقيه في أنه ينتمي إلي الكلام لا إلا اللغة‏,‏ أي أنه من قبيل المنطوق لا من قبيل المجرد‏.‏ وجعلوا للقياس أركانا أربعة هي‏:‏ المقيس والمقيس عليه والعلة والحكم‏,‏ وسنعود إلي الكلام في بعض ذلك بعد قليل‏.‏كما تكلم النحاة في مجال أصل الوضع عن أصل وضع الصوت وأصل وضع الصيغة الصرفية نراهم عند الوصول إلي النحو يتكلمون عن أصل بناء الجملة‏,‏ وأنها مركبة من مسند إليه ومسند‏,‏ وما عداهما لا يعد من موضوعات الأصول‏.‏ ومن الطبيعي عند الكلام عن أصل وضع الجملة أن تقودنا المناسبة إلي تناول مصطلحات وضعها النحاة لمفاهيم يشتمل عليها الكلام في هذا الموضوع‏,‏ ومنها‏:‏ القاعدة ـ الاستصحاب ـ العدول ـ الرد ـ النقل‏(‏ كما في المجاز‏)‏ ـ المعاقبة‏(‏ كما في حلول إذ محل أن في قوله تعالي‏:[‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ـ الطرد ـ العلة ـ الحكم ـ القرينة ـ الرخصة‏...‏ الخ‏.‏فالقاعدة من شأنها أن تكون عبارة واصفة مختصرة توضح مايميز حكم عنصر ما من مكونات الجملة أو علاقته بما حوله‏,‏ كأن نقول‏:‏ الفاعل مرفوع‏,‏ أو الفاعل يأتي بعد الفعل‏.‏ هذا هو الشأن في لغة الباحث‏,‏ أما في حجرة التعليم فمن شأن لغة المعلم أن يقول‏:‏ يجب أن يكون الفاعل مرفوعا ويجب أن يذكر بعد الفعل‏.‏ أي أنه يقف من تلاميذه موقف من يردد ماسعي إليه أصحاب أصل القياس‏,‏ فيأمرهم أن يتكلموا كما تكلمت العرب من قبل‏.‏المفروض في القاعدة أن تكون كالتعريف جامعة مانعة‏,‏ ولكنها قد لاتكون كذلك أحيانا‏.‏ فإذا صدقت القاعدة صدقا تاما فإن النحاة يقولون إنها مستصحبة‏,‏ أي تحققت لها كل الصفات التي نسبت إليها كما في الفعل ضرب مسندا إلي المفرد الغائب‏.‏ أما إذا لم يتحقق في القاعدة ماذكره النحاة من خصائصها فإنها عندئذ تعد معدولا بها عن أصلها‏.‏ وهنا تكون مناسبة الكشف عن علل العدول عن أصل الوضع وعن رد المعدول به إلي أصل وضعه‏.‏ فالفعل قال مثلا عدل به عن أصله هو قول بفتح حروفه جميعا وهكذا يكون رده إلي أصل وضعه علي النحو التالي‏:(‏ تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت الواو ألفا‏)‏ فصار الفعل إلي قال‏.‏أما الطرد‏(‏ أو الاطراد‏)‏ فهو مع أنه من خواص القاعدة فإن من المألوف أن لكل قاعدة استثناء يطعن في القول بمطلق اطرادها‏.‏ ولكن النحاة لم يترددوا أن يجعلوا الطرد في بعض الصور علاجا لبعض الظواهر غير المطردة‏.‏ مثال ذلك أن الأصل في مضارع الفعل أكرمت أن يكون‏(‏ أؤ كرم‏)‏ فلما كان التقاء الهمزتين ثقيلا حذفت إحدي الهمزتين طلبا للخفة‏.‏هذا باختصار شديد هو شأن اللغة العربية في نظامها وطرق استعمالها‏.‏ إنها لغة ثرية بطرق الأداء وجمال التركيب‏,‏ يشهد بذلك تاريخها وتراثها العظيم وقرآنها الكريم‏.‏ فمن هتف بحياتها فنحن معه‏.‏ لكن ماذا جني سيبويه ليهتف أحد بسقوطه؟ لقد ولد سيبويه ونشأ في منطقة تقع علي الحدود بين لغتين فكان يتكلم هاتين اللغتين‏Bilingual‏ ولم يكن سيبوبه ممن رحلوا إلي الصحراء ليجمعوا المسموع من لغة العرب‏,‏ ولم يبدأ حياته التعليمية في طلب اللغة‏,‏ بل بدأها طالبا للحديث النبوي ولم يتحول إلي طلب اللغة إلا بعد أن نبهه شيخه إلي أنه يلحن في كلامه‏,‏ عندئذ دفعه الضيق بهذا اللحن إلي طلب النحو فتتلمذ علي عدد من الأئمة اللغويين وسمع منهم وروي في كتابه ماسمع منهم‏.‏ليس من العدالة أن نلقي اللوم في جهلنا باللغة وسوء موقفنا منها علي سيبويه‏.‏
إن سيبويه صاحب أول كتاب نحو في العربية‏,‏ هذا معروف‏.‏ لكن المادة التي يعرضها هذا الكتاب هي ماسمعه سيبويه من شيوخه وماتعلمه منهم‏.‏ وبعد ظهور هذا الكتاب اتخذه النحاة دستورا لمادة النحو‏,‏ وكما تختلف القوانين في ظل الدستور اختلف النحاة في ظل الكتاب‏.‏ ثم مرت القرون بعد سيبويه والناس يضيفون إلي جهوده النحوية حتي أصبح كتاب سيبويه واحدا من كتب النحو‏,‏ وإن كان اعظمها احتراما بين طلاب النحو‏.‏ وبهذا اصبح النحو أوسع ساحة من أن يصبح سيبويه مسئولا عنه‏.‏ بل أصبح النحاة جميعا اصحاب المسئولية عن علم النحو تراثا وتطورا‏.‏ ومن التطور بعض ماعرضه هذا المقال‏.‏ فهل يقصد المنادي أن ينادي بسقوط الجميع متخذا سيبويه رمزا للنحاة في كل العصور؟ وماموقع المنادي في هذه الساحة الواسعة؟ أهو من أعضائها أم هو دخيل عليها؟ لست أدري‏!.‏
*عضو مجمع اللغة العربية