ن الإسلام والاستشراق


يعتبر الاستشراق جزأً لا يتجزأ من قضية الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب , ويذهب المفكر الإسلامي د.حمدي زقزوق إلى أن الاستشراق " يمثل الخلفية الفكرية لهذا الصراع , ولهذا فلا يجوز التقليل من شأنه بالنظر على أنه قضية منفصلة عن باقي دوائر الصراع الحضاري , فقد كان للاستشراق – من غير شك – أكبر الأثر في صياغة التصورات الأوربية عن الإسلام , وفي تشكيل مواقف الغرب إزاء الإسلام على مدى قرون عديدة "*1

تعد دراسة الفكر الاستشراقي أمراً ذا أهمية لمفكري العرب والمسلمين خاصة في هذه المرحلة من مراحل تاريخنا الحديث والمعاصر , لا على أساس أنها دراسة متوجهة بنزعة الإدانة أو الرفض , بل على أساس أنها تمثل شيئاً من وعي الذات أو اليقظة الفكرية, والتي يتم بموجبها رؤية الذات من خلال ملاحظة اتجاهات الآخرين وتصوراتهم , ومن ثم تبين ما يستحق المعالجة الذاتية أو الاعتراف ببعض هنات هذه الذات والسعي لتصويبها , أو بعكس ذلك , تقصي الصورة المشوهة أو المغلوطة على أساس أن بعض هذا التشويه جرى أو حصل عمداً أو قصداً , بينما يظهر بعضه عن جهل أو إخفاق أو نقص في المعلومات والتصورات .



ولا يهدف الجهد في مثل هذه الحالة أو لا ينبغي له – أن يطوف في هذا الميدان بقصد التسلية أو تقريع الذات أو إدانة الآخر , بل يلزمه على حد توضيح د . محسن جاسم الموسوى – أن يتبين تبعات هذا الأمر في القرار السياسي , وما يتتبع ذلك من توفير فرصة أحسن للمواجهة أو التحاور .

والاستشراق من هذه الزاوية , وفي ضوء ما قدمه " إدوارد سعيد " , يقصد به مجموع الجهود التي بذلت لدراسة الشرق على أنه تكوين ثابت بمعنى خضوعه للوصف والتحليل والمعالجة ,ومن ثم الاحتواء .

ورغم أن الاستشراق ينبغي أن يعني بالشرق , إلا أنه في واقعه معنى بالإسلام وتحديدا في المنطقة العربية , على أساس أن عظمة الإسلام كما يقول " بيرجر" طابقت عظمة العرب, لكن العظمة المقصودة لا تنحصر في نطاق المنجزات المعرفية , بل تتجاوز ذلك كثيراً إلى المواصفات الجغرافية لما سمى في الأدبيات الاستشراقية بـ ( الإمبراطورية ) , حيث تقترن العظمة بالاتساع بينما يترادف الأفول مع الانحسار .

وعلى الرغم من التغيرات الطارئة على حركة الاستشراق , قبل المؤتمر الأول في عام 1873 وبعده , إلا أن مراحله التاريخية لا تعني موت هذه الحركة بل تلونها واتساعها في منظومات معرفية وعملياتية جديدة لها علاقة وطيدة بما يجري في عالم اليوم , *2 , ويذهب د . محسن جاسم الموسوى , إلى أن الاستشراق مر في تاريخه بطورين كبيرين :

الأول : شغلت فيه أفكار أرنست رينان مكانة رئيسية .

والثاني : شغلت فيه النزعة الأمريكية للدراسة الميدانية حيزاً واضحاً *3 أما أفكار رينان المستندة إلى التوزيع العرقي للحضارة وصراعها فقد أثرت تأثيراً بالغاً في الكتابات المختلفة عن الشرق العربي , كما أنها أسقطت نفسها بقوة على اتجاهات السياسة الاستعمارية , سواء تجسدت عند نابليون أو عند كرومر .

وبينما يفترض أن تقود الاهتمامات الجديدة بالدارسات الميدانية في الخمسينات من القرن العشرين – إلى وضوح أكبر في الرؤية إلا أن صعوبة تخلصها من ذلك الإرث المتراكم في الذاكرة يجعل مثل هذا الخلاص أمراً مستحيلاً .

ويؤكد الباحث إن واقع الحال في الدراسات الاستشراقية الميدانية عكس استمرار الروح الاستشراقية في التكوينات الحلقية الجديدة بل كانت هذه الأخيرة في مجملها اعتراف يتزايد بأهمية دراسة المنطقة في ضوء تزايد المصالح الأمريكية فيها ولهذا لم يكن تولي المستشرق جب Gibb إدارة معهد دراسات الشرق الأوسط في هارفارد في الخمسينات غير تعميد لهذا المنهج الذي يستدعي الدراسة المتخصصة المتنوعة , انسجاماً مع دعوات كثيرة متكررة لبلوغ دراسات غنية بالاستقصاء الدقيق حول منطقة الشرق الأوسط كما سميت في أدبيات المعاهد الجديدة التي انتشرت فجأة في الحياة الأكاديمية الأمريكية .

4- الاستشراق في جانبيه الإيجابي والسلبي:

في كتابه هموم" الأمة الإسلامية " ,استعرض د . حمدي زقزوق في نظرة تاريخية – حديثاً موجزاً عن حركة الاستشراق وتطورها *4 مشيراً إلى ما لهم من ايجابيات, وما عليهم من مآخذ وسلبيات , وينبه إلى أن بعضاً من إيجابيات المستشرقين تعد من الأمور التي تخص المستشرقين أنفسهم, وتتصل بأسلوب عملهم ومدى ترابطهم والقصد من ذكرها هو مجرد الاعتبار بها فقط , وبعضها الأخر تتصل ايجابياته بإنتاجهم العلمي الذى يعود بعضه بالفائدة على الدارسين العرب , وإن كان المستشرقون قد قصدوا به في المقام الأول خدمة أنفسهم , ولكنهم مع ذلك لم يحجيوه عن غيرهم .


ومن الجوانب الإيجابية التي يشير إليها :

1- إن المستشرقين يخدمون أهدافهم التي وضعوها لأنفسهم بإخلاص تام لهذه الأهداف وتفان إلى أقصى حد وبكل الوسائل , وأنهم بصفة عامة لديهم صبر عجيب ونادر في البحث والدرس وإحاطة تامة بالعديد من اللغات القديمة .

2- الترابط والتنسيق المستمر بين جماعات المستشرقين في مجالات الدراسات العربية والإسلامية واستمرارية قنوات الاتصال فيما يبنهم .

3- إنجازهم لدائرة المعارف الإسلامية – على ما لنا نحن المسلمين عليها من مآخذ .

4- إنجاز " بروكلمان " لتاريخ الأدب العربي – وهو كتاب أساسي في الدراسات العربية والإسلامية , فضلاً عن أنه سجل للمصنفات العربية المخطوط منها والمطبوع .

5- باعهم الطويل في مجال المعاجم .

6- الحفظ والعناية الفائقة والفهرسة الدقيقة للمخطوطات سواء الذي انتقل إليهم بوسائل شرعية أو غير شرعية , ونشر الكثير من أمهات كتب التراث .

أما الجوانب السلبية :

فهي تنصب بصفة أساسية على دراستهم عن الإسلام وما يتصل به ويعرض د . زقزوق نماذج منها فيما يلي :

1- اعتماد الاستشراق أسلوباً خاصاً في التفكير يقوم على التفرقة الأساسية ين الشرق والغرب ينتج عنه إسناد السمات الإيجابية للغرب وإلصاق السلبية منها إلى الشرق .

2- عدم اهتمام الاستشراق بتطوير الكثير من أساليبه ومناهجه , فدراسته للإسلام لم يتخلص فيها من الخلفية الدينية للجدل اللاهوتي العقيم الذى انبثق منه الاستشراق أساساً.

3- تعمد المستشرقين تطبيق المقاييس المسيحية على الدين الإسلامي وهو خطأ فكري ومنهجي كبير يترتب عليه مغالطات عظيمة ومنها إطلاقهم على الإسلام اسم " المذهب المحمدي " , وإعطاء الانطباع بأن الإسلام دين بشري من وضع محمد وليس من عند الله , أما بالنسبة للمسيحية فهي تنسب للمسيح إلا أنها لا تعطي هذا الانطباع لديهم لاعتقادهم أن المسيح ابن الله .

4- الخلط بين الإسلام كدين وتعاليم ثابتة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة وبين الواقع المتردي للمسلمين في عالم اليوم .

5- التأكيد على أهمية الفرق المنشقة عن الإسلام , كالبابية والبهائية والقاديانية , وغيرها من فرق قديمة وحديثة , وتعميق الخلاف بين السنة والشيعة .

6- افتقاد الموضوعية في كتابات معظم المستشرقين عن الدين الإسلامي في حين أنهم عندما يكتبون عن ديانات وضعية مثل البوذية والهندوكية وغيرها يكونون موضوعيين في عرضهم لها .

7- يعطي الاستشراق لنفسه في دراساته للإسلام موقف ممثل الاتهام والقاضي معاً, فبينما نجد مثلاً أن علم التاريخ يحاول أن يرصد ويفهم , نجد الاستشراق يعطي لنفسه حق الحكم , بل حق الاتهام والرفض للأسس الإسلامية التي يقوم عليها المجتمع المسلم وذلك ناتج عن نوايا مسبقة لا يمكن بحال من الأحوال أنن تكون نوايا علمية صافية كما يدعي المستشرق رودي بارت .

8- تحالف فريق من المستشرقين مع الاستعمار في حقبة من العصر الحديث ومنهم " كارل هينرش " توفى 1933 , وهو مؤسس " مجلة الإسلام " الألمانية , وأيضاً " بارتولد " توفى 1930 وهو مؤسس مجلة " مير إسلاما " الروسية , وأيضاً العالم الهولندي الشهير " سنوك هور جورنيه " توفى 1936 , وقد شغل مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولاندية في إندونيسيا, أما المستشرق الفرنسي المعروف " ماسينيون " فقد كان مستشاراً لوزارة المستعمرات الفرنسية في شئون شمال إفريقيا .

9- الدعوة إلى إصلاح الإسلام بالزعم بأن الإسلام دين جامد , وأنه لم يعد مسايراً لروح العصر ولذلك فهو في حاجة إلى إصلاح جذري وهي دعوة يوجهها غريب عن الإسلام للمسلمين بشأن ما ينبغي عليهم أن يفعلوه في دينهم , وهذا الإصلاح المزعوم يمثل محاولة من محاولات تغيير وجهة نظر المسلم عن الإسلام

في نقد الاستشراق:

منذ مطالع النهضة العربية الحديثة والاستشراق خاصة في جوانبه السلبية , يتعرض لعملية نقد وفحص وتصحيح لكثير من مقولاته – من مفكري العرب والمسلمين, ومن بعض المستشرقين أنفسهم , وتكاد هذه العملية النقدية تشمل كل جوانب الإستشراق ؛ منطلقات وأيديولوجيات ورؤى , مواد وموضوعات,مناهج وأدوات, ونتج عن ذلك أيضاً تراكم درسي وبحثي نستطيع أن نطلق عليه دراسات " نقد الاستشراق" وهو مصطلح استخدمه أساتذة كبار كتبوا في هذا الميدان باستفاضة , كأنور عبد الملك وفؤاد زكريا وإدوارد سعيد *5

والمعروف أن هذه العملية في الرد على المستشرقين ونقدهم لما تزل مستمرة منذ رفاعة الطهطاوي حتى هذه اللحظة , ونستطيع أن نذكر على سبيل المثال وليس الحصر بعض الأسماء المؤثرة في هذا المجال منهم :

الشيخ جمال الدين الأفغاني وتلميذه الإمام محمد عبده , محمد رشيد رضا , شكيب أرسلان , محمد كرد علي , خير الدين التونسي , نجيب العقيقي, عباس العقاد , أنور الجندي , مصطفى الغلاييني , علال الفاسي , قاسم السمرائي , مصطفى السباعي , محمد محمود شاكر , مصطفى عبد الرازق , أحمد شلبي , أحمد الشرباصي , أنور عبد الملك , فؤاد زكريا , حسين مؤنس , حسن حنفي , إدوارد سعيد , عبدالله العروي, محمد أركون , محمد البهي , محمد عمارة , مالك بن نبي , عبد الرحمن بدوي , حمدي زقزوق , عبد الصبور مرزوق , أحمد عبد الرحمن , عبد العظيم المطعني , وغيرهم كثيرون .

وسأورد مثالين مختلفين لنقد الاستشراق أحسبهما تركا أثراً قوياً ,ورسخا لمرحلة جديدة في نقد الاستشراق ربما كان من أهم سماتها :

- الندية في المثاقفة والحوار .

- التقدم خطوات نحو الموضوعية العلمية والمنهجية .

- إلغاء اسم " الاستشراق " في معظم المعاهد والأكاديميات الغربية خاصة الأمريكية , على نحو ما سنرى لاحقاًـ لما ارتبط به هذا المصطلح من إيحاءات سلبية , والاتجاه إلى استبداله بأسماء أخرى مع محاولة القائمين على هذه الدراسات بعملية إعادة نظر لكثير من آساليبها ومناهجها, خاصة في مجال الاستشراق السياسي .

أما المثال الأول :

فهو للفيلسوف المصري , الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي وهو يأتي في مجال الرد على أكاذيب ومطاعن كثير من المستشرقين ضد الإسلام بصفة عامة والقرآن الكريم ورسول الإسلام بصفة خاصة , وجاء ذلك في صورة ثلاثة كتب أصدرها د. بدوي باللغة الفرنسية , والواضح أن هذا المثال من نقد الإستشراق , يتناول مجالاً دينياً بحتاً وموجه بصفة أساسية للقارئ الأوربي.

والصفحات التالية ستعرض لهذه الأعمال اعتماداً على دراسة مقدمة للقارئ العربي , قام بها الأستاذ الدكتور عطية القوصي , أستاذ التاريخ بأداب القاهرة .. يقول :

" أصدر الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي من باريس مجموعة كتب إسلامية باللغة الفرنسية , يدافع فيها عن الإسلام , وعن نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام , وعن كتاب الإسلام المقدس القرآن الكريم .وقد أعلن الدكتور بدوي في مقدمة كتبه هذه , أنه كتبها ليدافع بها عن الإسلام المستهدف هذه الأيام من قبل كتاب الغرب , وبسبب الحملة المسعورة التي تشن الآن في أوربا وفي أنحاء كثيرة من العالم ضد الإسلام وضد المسلمين , لا لذنب اقترفوه ولكن بسبب عداء قديم للإسلام مارسوه عن سوء فهم كتاب الغرب لطبيعة هذا الدين , خلال العصور الوسطى وخلال العصر الحديث .

وقد صدر الكتاب الأول سنة 1989تحت عنوان " دفاع عن القرآن ضد منتقديه "

Defense Du Coran Ses Critiques وصدر الكتاب الثاني في العام التالي تحت عنوان : " دفاع عن حياة النبي محمد ضد المنتقصين لقدره " Defense Du La Vie Du Orophete Muhammad Contr Ses Detracteurs. وجعل عنوان الكتاب الثالث , الذى لا يزال تحت الطبع : " الإسلام كما أرتاهَ فوليتر , وهيردو , وجيبون وهيجل " L ' Islam Vu Par Voltaire , Herder , Gibbon , Hegel . وفي مقدمة الكتابين اللذين صدرا أوضح الدكتور بدوي سبب تصديه لهذا العمل ليصحح به الفكر المغلوط عند كتاب الغرب والمستشرقين , وليبين لهم الحقائق التاريخية , التي أعمى تعصبهم ضد الإسلام معرفتها .

يقول د . بدوي في مقدمة كتابه ( دفاعاً عن القرآن ) ما نصه ( القرآن , وكونه الأساس الجوهري للإسلام , كان هدفاً رئيسياً لهجوم كل من كتب ضده , في الشرق مثلما في الغرب , وذلك منذ قبيل النصف الثاني للقرن الأول الهجري / السابع الميلادي , حتى الأن , ولقد بدأ يوحنا الدمشقي ( حوالي 650-750م ) هذا الهجوم بتوجيه عدة انتقادات على النسق العام للقرآن , ثم تبعه في ذلك إثيوميوس زيجابنيوس و ثم نيكيتاس البيزنطي في مقدمة كتابه " نقض الأكاذيب الواردة في كتاب العرب المحمديين ( المسلمين ) "

Confutatio Falsi Libri Quem Muhamades Arabs ولقد صدرت هذه الكتابات , وغيرها , باللغة اليونانية , غير تلك التي تضمنت الهجوم على القرآن بالسريانية والأرمانية والعربية . 6

والمثال الثاني لنقد الاستشراق :

ويتجلى عن المفكر الفلسطيني – الأمريكي الدكتور إدوارد سعيد وهو يأتي في إطار نقد الاستشراق الأيديولوجي والسياسي .

وقد تخصص إدوارد سعيد في الأدب الإنجليزي في جامعة برنستون وجامعة هارفارد العريقتين وعمل بصفة أساسية في جامعة كولومبيا , تقول د . فريال جبورى غزول , وكانت إحدى طالباته في جامعة كولومبيا " لقد قدم لنا إدوارد سعيد – فوكو ودريدا وبارت في مطلع السبعينات حينما كانت هذه الأسماء مجهولة تماماً في السياق الأمريكي , ولم يكن سعيد يستورد الفكر الأوربي للتباهي والاستعراض , وإنما كان يقدمه نقدياً ويعرف الآخرين بعمقه الفلسفي والراديكالي من جهة , ومن جهة أخرى يكشف عن المسكوت عنه والمغيب في هذا النقد " *7

لقد عكف سعيد على تقديم المدارس النقدية والنظريات الأدبية من الداخل , فكان يتمثلها , لكنه كان يقوم بتعرية مقوماتها وآثارها بحيث يستوعب ما لها وما عليها , وهذه خاصية ملازمة لفكر سعيد فعندما يطرح أي مقولة , فسرعان ما يستدرك كي يأخذ في الحسبان ما تسقطه المقولة من اعتبارات ومن استثناءات .

ولم يكتف إدوارد سعيد بالاهتمام بالفكر الأوربي ابتداءً من الإغريق والرومان وانتهاءً بأوربا المعاصرة وأمريكا الشمالية , فقد كانت موسوعيته ذات طابع عالمي . وظف سعيد في كتاباته النقدية والنظرية والتطبيقية مفاهيم ورؤى مستقاة من التجربة العربية الإسلامية , ومن مفكرين وأدباء من القارات الثلاث إفريقيا وأسيا وأمريكا الجنوبية . إن الثقافة لديه ذو خيوط متنوعة وإن التقوقع الثقافي ابتسار مخل .

عالج سعيد التحيز في المنظور إلى الآخر في كتابه الشهير " الاستشراق " وشرح كيفية خلق مجال معرفي مزيف يدعى " الشرق " بدون تمييز جغرافي وتاريخي بين الثقافات المختلفة في هذا الشرق المزعوم والمصور باعتباره الآخر المناقض للغرب .

وصاحب نشر كتاب " الاستشراق " عام 1978 " في لندن "- جدال عنيف في الأوساط الأكاديمية والصحفية , فهاجمه المستشرقون لأنه يكشف الأسس اللاعلمية والبعد الكولونيالى في " المعرفة " الاستشراقية , وأصبح مصطلح " الاستشراق " بعد الانتشار الواسع للكتاب وترجمته إلى كل اللغات الحية , يعطي انطباعاً سلبياً , فسارعت الجامعات بحذف " الاستشراق " من أقسامها وغيرت من مناهجها .

لقد أحدث سعيد ثورة أكاديمية عبر كتابه وما أفرزه من عروض وتعليقات وتحليلات فضحت الأوهام الاستشراقية .

وعوضاً عن المعرفة " المتحيزة " السائدة والنابعة من الأفق الاستعماري المضمر أو المكشوف ,قدم سعيد عبر كتاباته منظورا بديلاً عن المسألة الفلسطينية وكشف عن دور الإعلام في تشويه الإسلام والعرب .

لقد أثبت سعيد عبر دراسته للمقهورين أن البحث الدقيق بمنظور يبتعد عن الاستعلاء العنصري والتحيز المسبق ويستمد رؤيته من فهم السياق الثقافي لدول العالم الثالث , سيؤدي حتماً إلى إدراك دور الاستعمار والاستغلال في استبعاد الشعوب وحجب حضارتهم .

إن هذه النقلة المعرفية التي قام بها إدوارد سعيد على صعيد مفهوم " الشرق " المفتعل والكشف عن التحيز مع صعيد العلم والإعلام , دفع كثير من المدافعين عن المستضعفين , إلى استلهام كتاب " الاستشراق لتقويض الفكر السائد حول الشرائح المهيمن عليها , لقد فتح سعيد بأعماله باب التمرد على ملامح التشويه الثقافي لشعوب وفئات وشرائح مستبعدة ومهشمة وأنزل العلم والبحث إلى أرض الواقع وجعل منه بوصلة يهتدي بها الإنسان في نضاله , دون التفريط في مبادىء العلم نفسه أو أدلجته .

وفي كتاب " الثقافة والامبريالية " ( 1993) , قدم سعيد رؤى المفكرين والنقاد والباحثين في العالم الذي سبق استعماره , راسماً ملامح ثقافة مضادة للهيمنة واستراتجيات التعامل مع الإرث الاستعماري عبر ثقافة المقاومة والمعارضة .وهكذا بين إدوارد سعيد , أن الصور الشمولية التي قام الاستشراق الأكاديمي الثقافي ببنائها عن الشرق , تنطوي أساساً على مواقف عنصرية تماماً وعلى تفسيرات اختزالية بواقعه , وعلى أحكام تقيمية لا إنسانية بحق شعوبه ومجتمعاته , وعلى أثار المصالح المادية النابعة من منافع إخضاعه واستغلاله ( بعد دراسته وأثنائها ).

إنها صورة لا يمكن أن تكون ناجحة عن تطبيق أي منهج علمى محايد في معرفة الشرق , أو عن أية دراسة تتحلى حقاً بالموضوعية العلمية والاستقلال الفكري والرغبة المتجردة في البحث عن الحقيقة بالنسبة للموضوع الخاضع للدرس والتمحيص .

يؤكد إدوارد سعيد , إن أبشع ما في هذه الصورة , هو القناعة المحورية التي تنطوي عليها بوجود فارق أساسي وجذري بين الجوهر المزعوم لكل من الطبيعة الشرقية من ناحية والطبيعة الغربية من ناحية ثانية لصالح التفوق الكامل للطبيعة الغربية المزعومة .

أي أن الصورة التي بناها الاستشراق الأكاديمي الثقافي الغربي عن الشرق , تقوم على التبني الكامل لأسطورة الطبائع الثابتة والمتميزة حكماً عن بعضها بدرجات تفوقها وكمالها ورقيها .

وبإمكاننا أن نسمي هذه القناعة بميتا فيزيقيا الاستشراق , لأنها تفسر الفوارق بين ثقافة وأخرى , بين شعب وأخر , بردها إلى طبائع ثابتة وليس إلى صيرورات تاريخية متبدلة .

فعلى سبيل المثال , ترى ميتا فيزيقا الاستشراق , ضمناً وأحياناً صراحة , أن الخصائص التي تميز المجتمعات الغربية ولغاتها وثقافتها ..ألخ هي على ما هي عليه في التحليل الأخير , لأنها تنساب عن طبيعة " غربية " معينة متفوقة على باقي الطبائع وبخاصة على الطبيعة الشرقية , لذلك يؤكد إدوارد سعيد بأن " جوهر الاستشراق وهو التمييز الذي لا يمحى بين التفوق الغربي والدونية الشرقية ".*8

ويقول الدكتور محمد عناني أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة :

" عندما تصدى إدوارد سعيد لكتاب " أين الخطأ " الذي أصدره المستشرق المؤرخ " برنارد لويس " في مطلع عام 2002م واستطاع به أن يركب موجة العداء للشرق – وذلك المفهوم الغامض الذي أثبت سعيد كيف " خلقه " الغرب خلقاً لخدمة مصالحه – تعجب البعض لأن إدوارد سعيد تبنى موقف المسلمين , والكثيرون من المسلمين الذين يعملون في جامعات أمريكا وبعض جامعات أوربا يهللون له ويحتفون به ! ولكن الحجة التي ساقها إدوارد سعيد كانت من القوة بحيث أخرست أصواتاً كثيرة , وبحيث دفعت الكثيرين إلى إعادة قراءة ذلك الكتاب بمزيج من التساؤلات عن صحة منهج ذلك المؤلف المغرض والشكوك في حيادة المزعوم , ولذلك فعندما أصدر المؤلف نفسه كتابه الثاني الذي طرح فيه ما كان يضمره من صورة زائفة " للشرق " – بعنوان " أزمة الإسلام " – في مطلع 2003م ,لم يكلف أحد نفسه مشقة الرد عليه , فسقط الكتاب سقطة لم يقم بعدها المؤلف بكتابة شيء , ولو حتى ليبرئ نفسه مما رماه به إدوارد سعيد.

كان تعجب القلة من دفاع إدوارد سعيد نابعاً من تصور ساذج مغلوط في الغرب عن الشرق الذي نجحت أجهزة الدعاية في تصويره بالصورة التي ترضي غروره وهي الصورة التي يسعد بها من اعتاد التغذي على طعام أجهزة إعلام ويصفها كل دارس لعلوم الدراسة الجماهيرية – بالمعنى العلمي – بأنها صورة مبسطة مخلة لا تتضمن سوى اللونين الأبيض والأسود , وقد غدا يشجع على استمرارها ذلك الفكر الساذج الذي تخاطبه الإدارة الأمريكية في تفريقها المضحك المبكي بين " من معنا أو مع الإرهاب "!

لقد كان هذا الفكر يمثل العدو الذي كرس إدوارد سعيد حياته للتصدي له , ولقد لقي من الاستجابة الصحيحة بين فئات المثقفين في شرق العالم وغربه ما هو حقيق بهذا التصدي , الذي قام دائماً على المنهج العلمي السليم . ولم يكن يحارب الرجل فيه إلا بسلاح العلم والعلم الحديث , حتى أن نظريته عن " الاستشراق" وارتباطه بالإمبريالية أصبحت جزءً لا يتجزأ من النظرية النقدية الحديثة , ولم يعد بمقدور أحد أن يتجاهل المدخل الذي وضع إدوارد سعيد أسسه وفصل فيه القول في أهم كتبه , بل لقد صارت المصطلحات التي أتى بها ممن أسس الفكر النقدي الحديث على امتداد العالم كله *9

الهوامش :

1- " هموم الأمة الإسلامية " د. محمود حمدي زقزوق صـ145- مكتبة ا؟لأسرة هـ . م . ع للكتاب – القاهرة 2001.

2- أنظر : " الاستشراف في الفكر الغربي " د. محسن جاسم الموسوي – مكتبة ا؟لأسرة هـ . م . ع للكتاب القاهرة 2005م .

3- المصدر السابق صـ29 .

4- أنظر : " هموم الأمة الإسلامية " د. حمدي زقزوق صـ145- مصدر سابق , وله أيضاً في الاستشراق والمستشرقين :

- " الإسلام في مرآة الفكر الغربي "

- " الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري "

- الإسلام في تصورات الغرب "

5- أنظر : د. أنور عبد الملك صـ 70- مجلة ( الفكر العربي ) عدد 31-فبراير , مارس 1983.

- و د. فؤاد زكريا مجلة ( فكر ) صـ38 – العدد 10 1986م

- و" الاستشراق " د. إدوارد سعيد صـ 337وما بعدها – لندن- روتلردج وكيجان عام 1978م .

6- أنظر : دراسة الدكتور القوصي " عبد الرحمن بدوي نجم في سماء الفلسفة " مجموعة دراسات , الهيئة العامة لقصور الثقافة , سلسلة الكتاب التذكاري , ط الثانية – القاهرة 2002 .

7- أنظر: مجلة " سطور " صـ 41 , العدد 84- القاهرة نوفمبر 2003م .

8- المصدر السابق صـ 11 .

9- المصدر السابق .