عجيبة من العجب من الحافظ ابن رجب
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الهادي النذير والسراج المنير محمد وعلى آله ، وصحبه أما بعد:
فهذه حكاية فيها عبرة ، وعظة ، ودرس لمن أراد لنفسه الخير والنجاة ..
ذكرها ابن عبد الهادي في ذيله على ذيل ابن رجب على طبقات الحنابلة في ص 39:
قال أخبرت عن القاضي علاء الدين ابن اللحام [البعلي المشهور صاحب الاختيارات والقواعد ] أنه قال: ذكرَ لنا مرة الشيخُ [ابن رجب] مسألة فأطنب فيها ، فعجبتُ من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعتْ بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب ، وغيرهم ؛ فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة !
فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمتَ فيها بذلك الكلام ؟!
قال : إنما أتكلمُ بما أرجو ثوابه ، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس ، أو ما هذا معناه .اهـ.
قلت: رحم الله ابن رجب فقد كان مدرسة في الإخلاص ، وفي التيقظ للنفس وحظوظها ، وهذه نتيجة لتعظيم الله عز وجل في قلبه ، وعدم الالتفات لغيره ، وهو كما لا يخفى من أكثر المتأخرين عناية بعلم السلف ، ونقل كلامهم ؛ فلعل هذا من نتاجه .
وأين فعله من فعلٍ آخر عكسه تماما ! فترى بعض المتعالمين ـ خصوصا في المنتديات ـ يرى سؤالا ، أو كلاما في مسألة ما ، هو خالِ الذهن منها ، فينطلق إلى أحد المراجع ؛ فينعم النظر فيها من كل جانب ، وربما توسع ، وذكر الخلاف أيضا ، ولا يشير إلى مرجع ولا كتاب ، وهو بهذا يشعر القارئ أنها من معلومه ، ومحفوظه !
وقد قال النبي :" المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور". متفق عليه.
فلينظر العاقل خلاص نفسه ، فوالله لن ينفعك مدح كاذب لست له بأهل .
ولو كنتَ تعقل لعلمتَ: أن من مدحك بما ليس فيك فقد بالغ في ذمك ؛ لأنه نبه على نقصك ، كما قال العلامة ابن حزم في مداوة النفوس ص14، هذا من جهة .
ومن أخرى: تكون قد وقعت في حبائل إبليس ، ويوم البعث ستسأل عن هذا التدليس ، ولا يقال: تَعلمت ليقال عالم وقد قيل ، بل قد يقال تعالمت ليقال عالم !
فإذا بطل سعي من تكبد مشقة التعلم لذاك الغرض ، فكيف سيكون حال مَن تعالم ؟!
اللهم جنبنا الخزي والخسارة .
ولو تبع المسلم ما روي عن النبي :" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ".
وقوله :" احرص على ما ينفعك ".
= لأراح ، واستراح .
وذكرتني هذا الحكاية ببعض ما وقع للسلف ، وهي تبين مدى عنايتهم ـ رحمهم الله ـ بأنفسهم ، وتعاهدها ، والتفكر في الغرض من الكلام ، والدافع له .
ذكر الذهبي في السير في ترجمة الفضيل 8/ 433:
روى أحمد بن إبراهيم الدورقي عن علي بن الحسن قال: بلغ الفضيل أن حريزا يريد أن يأتيه ، فأقفل الباب من خارج ، فجاء فرأى الباب مقفلا ، فرجع ، فأتيته فقلت له: حريز ! قال: ما يصنع بي يظهر لي محاسن كلامه ، وأظهر له محاسن كلامي ، فلا يتزين لي ، ولا أتزين له خير له .
وقال فيض سمعت الفضيل يقول: إن استطعت أن لا تكون محدثا ولا قارئا ولا متكلما .
إن كنتَ بليغا قالوا ما أبلغه ، وأحسن حديثه ، وأحسن صوته !
فيعجبك ذلك فتنتفخ ، وإن لم تكن بليغا ، ولا حسن الصوت ، قالوا: ليس يحسن يحدث ، وليس صوته بحسن أحزنك ذلك ، وشق عليك فتكون مرائيا ، وإذا جلست فتكلمت فلم تبال من ذمك ، ومن مدحك فتكلم.
قلت[الذهبي] : هكذا هو فقد ترى الرجل ورِعا في مأكله وملبسه ، ومعاملته ، وإذا تحدث يدخل عليه الداخل من حديثه ، فإما أن يتحرى الصدق ، فلا يكمل الصدق ، وإما أن يصدق ، فينمق حديثه ليمدح على الفصاحة ، وإما أن يظهر أحسن ما عنده ليعظم ، وإما أن يسكت في موضع الكلام ليثني عليه ، ودواء ذلك كله الانقطاع عن الناس إلا من الجماعة. اهـ مختصرا .
وفي 8/439:
قال أحمد بن أبي الحواري حدثنا أبو عبدالله الأنطاكي قال: اجتمع الفضيل والثوري فتذاكروا فَرَقّ سفيانُ ، وبكى ، ثم قال: أرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمة وبركة .
فقال له الفضيل: لكني يا أبا عبد الله أخاف أن لا يكون أضر علينا منه ! ألست تخلصت إلى أحسن حديثك ، وتخلصت أنا إليك أحسن حديثي ، فتزينت لي ، وتزينت لك ؟
فبكى سفيان ، وقال: أحييتني أحياك الله.
وفي الآداب الشرعية 2/29 :
قال المروذي: ذكرتُ لأبي عبد الله عبدَ الوهاب على أن يلتقيا ، فقال أليس قد كره بعضهم اللقاء ؟ وقال: يتزين لي ، وأتزين له ، وكفى بالعزلة علما ، والفقيه الذي يخاف الله .
وفي معجم الأدباء 5/ 250-251.
قال أبو بكر بن مجاهد : بلغنا أنه [ابن جرير الطبري] التقى مع المزني فلا تسأل كيف استظهاره عليه ، والشافعيون حضور يسمعونه ، ولم يذكر مما جرى بينهما شيئا .
قال أبو بكر بن كامل: سألت أبا جعفر عن المسألة التي تناظر فيها هو والمزني ، فلم يذكرها ؛ لأنه كان أفضل من أن يرفع نفسه ، وأن يذكر ظفره على خصم في مسألة.
منقول .