بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى
وبعد ؛
فالحديث عن عبقرية اللغة العربية حديث ذو شجون ؛ لأن هذه اللغة الكريمة الشريفة تمتلك من وسائل الجمال ، وطرائق الحسن ، وأدوات التأثير ، وأساليب الروعة ، وأدلة الإقناع ، ما لاتمتلكه لغة أخرى على وجه هذه البسيطة من أقصاها إلى أقصاها .
أليس نزول القرآن الكريم " بلسان عربي مبين " دليلا على : " أن سائر اللغات قاصرة عنها ، وواقعة دونها " كما يقرر أحمد بن فارس في كتابه : ( الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها " ؟
لانقول هذا عن عصبية عمياء حين نفاخر بشرف لغتنا الفصحى ، بل نقوله عن تعصب محمود ؛ يعيدنا إلى التمسك بها ، والدفاع عنها ؛ لأنها لغة الكتاب " الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " ، وهذا وحده فخار ما بعده مجال للافتخار ، ولأنها – أيضا – مقوم من مقومات الإعلان عن أنفسنا وسط عالم تتعدد فيه نوافذ الانفتاح على الآخر ، وتتقارب فيه المسافات بين الناس .
يقول الأستاذ الكبير ، الشاعر أحمد السقاف – في كتابه ( أحاديث في العروبة والقومية ) :
" إن القومية العربية منذ معركة ( ذي قار ) بين ملك الفرس وقبيلة بكر بن وائل...لم تكن - حتى هذه الساعة – غير دفاع عن وجود الإنسان العربي ، وعن حقه كرامته ... وإن الدين الإسلامي تاج العروبة ، ومفخرة لا تضاهى للأمة العربية ، والقومية العربية بغير أن تعتز بالإسلام وتتمسك به ، قومية لا تستحق الاهتمام " .
وينقل الأستاذ السقاف الواقعة الآتية للأستاذ حنا خلف ؛ إذ يقول :
" وقعت في الأسر، خلال ثورة فلسطين على الإنجليز ،عام 1936م .
ولما قدموني إلى المحاكمة ، قال لي رئيس المحكمة - وهو بريطاني - : " كيف تحمل السلاح تحت قيادة عبد القادر الحسيني المسلم ، وأنت مسيحي مثلنا ؟ " ، فقلت له : " إنني مسيحي دينا / مسلم قومية ؛ فصرخ في وجهي غاضبا ، وأمر بسجني ، فهربت مع عبد القادر الحسيني إلى خارج فلسطين " .
من ثم لا غرو أن يكون شعار العربي – مسلما كان أو غير مسلم – هو قول الشاعر :
لغتي : ذات جمال دائمِ
لغتي أحلى لغات العالم
لغتي : الرحمن قد أوحى بها
في حراء ؛ فهْي بشرى العالِمِ
كل لفظ من علاها نغمةٌ
فهْي موسيقا المحب الهائمِ
كلما رددت منها جملةً
أطربتني بانسجام باسم
هي للعصر وللدهر ؛ فمن
شك ، ردته بقول حاسم
وسأحاول الاقتصار – في حديثي – عن " الكلمة " ؛ أي : اللفظ الذي يدل على معنى مفرد .
يأتي النظر إلى اللفظ المفرد من عدة زوايا ، كل زاوية من هذه الزوايا تجلي ما في الفظ من ملامح الجمال ، وروعة البيان .

( زاوية الضبط )
والضبط - في عبارة موجزة - : وضع رموز كل من المتحرك والساكن فوق الحرف أو تحته .
وهو إما أن يكون متحركا أو ساكنا ؛ فالحركة تكون ضمة أو فتحة أو كسرة ، والسكون دائرة صغيرة مغلقة ، وقد يأتي الحرف مع الحركة أو السكون مشددا أو خاليا من التشديد .
وللضبط أثره الكبير في تحديد معنى الكلمة، وتنوع دلالاتها، وتعدد معانيها.
ولنأخذ - لتنوع المعاني بتنوع الضبط - ثلاثة الأحرف:
" ق ، د ، م "
ضبطها من جانب كونها فعلا :
1 - الثلاثي المجرد:
*** قَدَمَ يقْدَم قُدُما : تَقَدَّم
*** قَدَمَ يقْدُم قَدْما: شَجُع
*** قَدَمَ - القومَ - يقْدُم قَدْما وقُدوما: سَبَقهم؛ فصار قدامهم.
*** قَدِمَ - على الأمر - يَقْدَم قٌدوما : أقبل عليه .
*** قَدِمَ - على العيب - يَقْدَم قٌدوما : رضي به .
*** قَدِمَ - إلى الأمر - يَقْدَم قٌدوما : قَصَد له .
*** قَدِم - من سفره – يَقْدَم قُدوما : رَجَع .
*** قَدِم - البلد – يَقْدَمها قُدوما : دخلها .
*** قَدُم – الشيءُ – يقْدُم قِدَما ، وقَدَامة : مضى على وجوده زمن طويل .
2 - المزيد بتضعيف العين ( أو تضعيف الدال ):
*** قَدَّم - فلانا – يُقَدِّمه – جعله قُدِّاما .
*** قَدَّم - الشيءَ إلى غيره – يُقَدِّمه : قرَّبه منه .
*** قَدَّم - رجله إلى هذا الأمر – يُقَدِّمها : أقبل عليه .
3 – المزيد بالألف في أوله :
*** أَقْدَم يُقْدِم : تَقَدَّم .
*** أَقْدَم – على العمل - يُقْدِم : أسرع في إنجازه بدون توقف .
*** أَقْدَم – على العيب - يُقْدِم : رضي به .
*** أَقْدَم - فلانا - يُقْدِمُه: جعله قُدَّامه.
*** أَقْدَم - فلانا على الأمر، وعلى قرنه -: جعله يسرع في الهجوم عليه بدون توقف.
4- المزيد بالتاء في أوله وتضعيف العين :
*** تَقَدَّم يَتَقَدَّم : صار قُدَّاما .
***تَقَدَّم - فلان إلى فلان - يَتَقَدَّم : تَقَرَّب منه .
*** تَقَدَّم - فلان إلى فلان بكذا - يَتَقَدَّم : أمره به ، أو طلبه منه .
*** تَقَدَّم - فلان بين يدي أبيه – يَتَقَدَّم: إذا عجَّل في الأمر والنهي دونه.
*** تَقَدَّم – القوم، وعليهم – يَتَقَدَّم: سبقهم في الشرف أو الرتبة؛ فصار قُدَّامهم.
ضبطها من جانب كونها اسما :
*** القَدْم: الشجاعة.
*** القَدْم: السبق.
*** القَدَم : ما يطأ الأرض من رجل الإنسان ، وفوقها الساق ، وبينهما المَفْصِل المسمى الرسغ ( مؤنثة ) .
*** القَدَم: التقدم والسبق في الخير أو الشر ؛ يقال : لفلان قَدَم في العلم أو الكرم ونحوهما ، ويقال : قدم صدق ، وقدم كرم .
وفي التنزيل العزيز : " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم قدم صدق عند ربهم " .
*** القدَم: المعروف؛ يقال: له عند فلان قدم.
*** القَدَم : ما قدَّمه الإنسان من خير أو شر .
*** القَدَم – من الرجال - : الشجاع ؛ لا يُعَرِّج ، ولا ينثني ؛ يتقدم الناس في الحرب .
} يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والمفرد والجمع {
يقال : رجل قَدَم ، وامرأة قَدَم ، ورجال قَدَم ، ونساء قَدَم .
***القَدَم : وحدة قياس تساوي ثلث ياردة .
***القَدِم – من الرجال – : الكثير الإقدام .
***القُدُم : التقدم .
***القُدُم : المضي إلى الأمام .
***القُدُم - من الرجال - : الشجاع .
***القُدُم – جمع تكسير - مفرده : القََدُوم ، وهي آالة للنجر والنحت ( مؤنثة ) ( وتجمع أيضا على : قدائم )
***القُدُم – جمع تكسير أيضا – مفرده : القَدوم ، وهو : الشجاع الجريء الكثير الإقدام .
***القُدُم - من ظروف - : إلى الأمام ؛ يقال : هو يمشي القُدُم .
ويقال ، هو يمشي في الحرب قُدُما : لايتوانى
***القُدْم : المضي إلى الأمام .
***القُدْم - من الرجال - : الشجاع .
*** القِدَم : القَدامة .
*** القِدْم: من أسماء الزمان؛ يقال: كان كذا قدما؛ أي: في الزمان القديم.
*** القُدْمة : كثرة الإقدام على العدو في الحرب .
*** القُدْمة : السابقة في الأمر .
*** القَدَمة : المرأة لها مرتبة في الخير .
*** القَدَمة : الشجاعة .
*** القَدَمة - من الغنم - : التي تكون أمام الغنم في المرعى .
*** القَدَمة : مقياس من المعدن ثُبِّت فيه سِنَّانِ مذَبَّبَتانِ : إحداهما ثابتة ، والأخرى متحركة ؛ تقاس به الأطوال .( وهي من الألفاظ الملدة عند علماء مجمع اللغة العربية بالقاهرة ) .
*** القَدُوم : الشجاع الجريء.
*** القَدُوم : آلة للنجر والنحت . ( مؤنثة ) .
*** القُدُوم : الإقبال على الشيء.
*** القُدُوم : الرضا بالشيء .
*** القُدُوم : القصد إلى الشيء.

( زاوية الاشتقاق )
من المعلوم أن للاشتقاق أنواعا ؛ لعل من أهمها :
الصغير ، والكبير ، والأكبر ، والكبار
الاشتقاق الصغير : يعنى بالمفردات المأخوذة من الأصل ؛ فعلا كان أو اسما، على اختلاف تتكفل به كتب النحو والصرف بين البصريين والكوفيين .
فمن المصدر نشتق كلا من : الماضي ، والمضارع ، والأمر ، واسم الفاعل ، واسم المفعول ، والصفة المشبهة باسم الفاعل ، وصيغ المبالغة ، واسم الزمان ، واسم المكان ، والمصدر الميمي ، واسم المرة ، واسم الهيئة .
وهنا أيضا نجد أن للضبط تخلا في تحديد معنى الكلمة المشتقة ليمكن التفريق بين : " المرمَى " ؛ مصدرا ميميا ، و " المرمِيِّ" ، اسم مفعول ، وكلاهما من " رمى " .
وايضا للتفريق بين : " جَلسة " ، اسم مرة ، و" جِلسة " اسم هيئة .
وبين " كُبار " و " كُبَّار" صفتين مشبهتين ، و" كِبار" جمع كبير ، و كُبار .
وبين " كَبُرَ " " يَكْبُرُ " " كِبَرا" و" كُبْرا " و " كَبَارة " إذا عَظُمَ وجَسُمَ ، و" كَبِرَ" " يَكْبَرُ" " كِبَرا" : أي طعن في السن .
وبين " مَضْرَب " مصدرا ميميا ، و" مَضْرِب " اسم زمان أو مكان حسب السياق .

الاشتقاق الكبير: هو تناسب في اللفظ والمعنى بين الكلمتين ، دون ترتيب بين أحرف كل منهما .
ويعرف أحيانا بالقلب المكاني .
مثل : "جبذ " و " جذب " ، ومثل : " أيس " و " يئس " .

الاشتقاق الأكبر : وهو تناسب بين الكلمتين تناسبا في مخارج الحروف ؛ مثل " نهق " و " نعق " ، ومثل " أز " و" هز " .

الاشتقاق الكُبَّار : وهو ما يعرف بالنحت ؛ أن نشتق أو ننحت من كلمتين أو أكثر كلمة واحدة تدل على المعنى كله بلا زيادة أو نقص .
مثل " درعمي " أي منسوب إلى دار العلوم ، و"عبدري " : منسوب إلى عبد الدار .
ومن ثم نستطيع اختصار جمل كاملة في مفردات تفي بالغرض من الكلام المنحوت منه .
مثل : " سبحل " ، " مشأل " ، " طلبق " ، بسمل " ، "حوقل" ؛ فكل من هذه المفردات يحل محل الجملة المنحوت منها تماما .


( زاوية الاستعمال )
وهذه الزاوية وحدها مدعاة للإطلال منها على على جمال الكلمة المفردة ؛ فقد عالجها العلماء والنقاد ، بحيث عبدوا الطريق أمام من يؤثر الحسن ، ويحرص على البلاغة بلا افتعال .
وجهود علماء البلاغة في التصدي للكلمة المفردة تكشف عن حس دقق بما تتطلبه الأساليب الناصعة في البيان عما في النفس من جهة ، ومخاطبة المتلقي بلا تعمل أو إجهاد من جهة أخرى .
وقد يكون على مقربة من هذا الذي نؤمه ، سؤال كثيرا ما يتردد في الأوساط الأدبية .
هل للأدب – والشعر بصفة خاصة – ألفاظ مخصوصة؟
وتوشك الإجابة المتسقة مع طبيعة البيان العربي أن تنفي اختصاص الإبداع الأدبي بألفاظ محددة ؛ فليس ثَم َّ ألفاظ شعرية وأخرى غير شعرية ؛ لأن مدار الإبداع متمثل في كيفية توظيف المدع ألفاظه توظيفا يقع في نفس المتلقي موقعه من نفس المبدع نفسه .
فلفظة " الطين " قد تكون سمجة في كثير من التعابير الأدبية ، ولكن أبا ماضي يحيلها لفظة شعرية بل شاعرية حين يقول :
نسي الطين ساعة أنه طـــــــــين حقير ؛ فصال تيها وعربد
وكسا الخزُّ جسمه ، فتباهى وحوى المالَ كيسُه ، فتمرد
وبالمثل لفظة الزيت التي ربما تكون سببا في الغثيان لدى بعض من عندهم حساسية مفرطة حيال إيحاء الألفاظ ، لكن بشارا يحيلها تاجا شعريا حين يقول :
ربابة ربة البيت تكب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت
ويجعل مثل هذا الشعر عند ربابة أحسن وقعا من معلقة امريء القيس الشهيرة .
وحين نسمع لفظة " قط " في قول الشاعر :
من ذا الذي ما ساء قط ؟ ومن له الحسنى فقط ؟
لا نجد غضاضة في تقبل قط وفقط لفظتين شعريتين موحيتين بالتفي الموميء إلى أن لكل منا هفواته وزلاته .
وقد وفى شويخ البلاغة الأجلاء الكلام حول تنافر الحروف في اللفظ المفرد ، وكونه مأنوسا ، أو مهجورا ، أو غريبا على الأذن بل على الذائقة العربية التي تميل إلى السلاسة والسلامة معا .
على أن من البارعين من أحرز تمكنا في الإحاطة بالغريب ، ليس للتقعر في البيان ، ولا لاستعراض العضلات اللغوية في المفردات ، بل للتدليل – فيما نحسب – على أن الإحاطة بالغريب المهجور لا تعني الاستئناس باستعماله .
ففي مقدمة القاموس المحيط إشارة إلى تمكن الفيروزآبادي من غريب اللغة بصورة معجبة .
فقد حكي عن الإمام علي ( رضي الله عنه ) أنه قال لكاتبه :
" ألصق روانفك بالجبوب ، وخذ المزبر بشناترك ، واحعل حندورتيك إلى قيهلي ؛ حتى لاأنغي نغية إلا أودعتها بحماطة جلجلانك "
ولما سئل الفيرزآبادي عن تفسير كلام الإمام ، قال من فوره :
" ألزق عضرطك بالصلة ، وخذ المسطر بأباخسك ، واجعل جحمتيك إلى أثعباني ؛ حتى لاأنبس نبسة إلا وعيتها في لمظة رباطك " .
ومثل هذا ما حدث مع أبي علقمة النحوي ؛ إذ قال لفتاه يوما :
" ياغلام ، أصعقت العتاريف ؟ فقال الغلام : " زقفيلم " أو : " قفزيلم " فقال له أبو علقمة : ما ذا قلت ؟
فسأله الغلام عن مقصده من سؤاله ، فقال أبو علقمة : أردي بسؤالي : أصاحت الديكة ؟ فقال الغلام : وأنا أردت : لم تصح !