تحقيق المناط وأثره الكبير في الاختلاف بين أهل السنة والجماعة !!الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه ، أما بعد :-
علم أصول الفقه مهم جداً لطالب العلم لمساعدته على حسن فهم الأدلة من الكتاب والسنة ولعل من أسباب الوقوع في الفهم السئ لدين الله هو ترك هذا العلم الذي أحق الناس به اهل السنة والجماعة لأن اول من كتب فيه الامام الشافعي ( رحمه الله ) وهو من اساطينهم ثم دخل ما دخل على هذا العلم مما ليس منه - هذا العلم هو الذي يرشدك إلى معرفة قواعد ( مقيدات المطلق ، وتخصيص العام ، وبيان المجمل ، ودوران الحكم مع العلة ، والفتوى وتعلقها بالزمان والمكان ، والعالم من هو وخطأه وتقليده ، وغير ذلك من المهمات ) التي يحتاجها الداعية في ضبط كثير من فهمه وتصوره ومواقفه -
وتحقيق المناط أحد فروع هذا العلم الجليل -
1- ( تعريفه ) :-
تحقيق المناط ينقسم إلى قسمين ( عام ، وخاص ) والخاص من القسمين هو الذي يتكلم عنه القياسيين من الأصوليين وليس هو مقصودي بالحديث ،
وإنما المقصود هو هو العام من القسمين ولقد عرفه الامام ابن تيمية فقال ( هو أن يكون الشارع قد علق الحكم بوصف ، فنعلم ثبوته في حق المعين ) ( الفتاوى ، 254/13)
قال الامام الشاطبي ( ومعناه أن يثبت الحكم بمُدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله ) ( 65/ 4)
ومن هنا يتبين لنا أن تحقيق المناط هو الركن الثاني المهم في عملية تطبيق الحكم الشرعي وبه يعرف المحل المعين الذي يلائم الدليل والحكم الشرعي فلا بد منه في التنزيل على المعين .
2- ( منزلته عند اهل العلم ):-
قال ابن تيمية عند بيانه أمثلة تحقيق المناط ( وهذا النوع مما اتفق عليه المسلمون بل العقلاء !!) ( /33022)
وقال الشاطبي ( وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله ) ( 65/4)
3- ( أمثلته ، وبالمثال يتضح المقال ):-
قال ابن تيمية ( فإن الحكم معلق بوصف يحتاج في الحكم على المعين إلى أن يعلم ثبوت ذلك الوصف فيه ، كما يعلم أن الله أمرنا باشهاد ذوي عدل منا ، وممن نرضى من الشهداء ، ولكن لا يمكن تعيين كل شاهد ، فيحتاج أن يعلم في الشهود المعينين :- هل هم من ذوي العدل المرضيين أم لا ؟
وكما أمر الله بعشرة الزوجين بالمعروف .. ولم يمكن تعيين كل زوج فيحتاج أن ينظر في الأعيان ... وكما قال تعالى ( ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن ) ويبقى النظر في تسليمه إلى هذا التاجر ، بجزء من الربح هل هو من التي أحسن أم لا ؟
وكذلك قوله ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) يبقى هذا الشخص المعين هل هو من الفقراء والمساكين المذكورين في القرآن أم لا ؟
وكما حرم الله الخمر والربا عموماً يبقى الكلام في الشراب المعين هل هو خمر أم لا ..) (الفتاوى ، 22/330)
وقال الشاطبي ( أن الشارع اذا قال ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) وثبت عندنا معنى العدالة شرعاً افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة .... وقوله تعالى ( فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم ) وهذا ظاهر في اعتبار المثل الا أن المثل لا بد من تعيين نوعه .. ) ( 4/66)
4- (حكمه وأثره في الخلاف ) :-
ينبغي أن يعلم أن الذي قرره اهل العلم في تحقيق المناط الذي نفتقر اليه في معرفة انطباق الحكم الشرعي على المعين أنه ( أمر اجتهادي ) ومعلوم أن الاجتهاد يختلف من عالم إلى عالم وأن ذلك سبب لوقوع الخلاف بينهم وإن كان في الحقيقة ليس خلافاً في الدليل والحكم والتأصيل وإنما هو في التنزيل
والتعيين !!
قال ابن تيمية ( وهذه الأنواع الثلاثة - تحقيق المناط - وتنقيح المناط - وتخريج المناط - هي جماع الاجتهاد ) ( الفتاوى 329-22)
قال الشاطبي ( الاجتهاد على ضربين :- أحدهما :- لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف ، وذلك عند قيام الساعة ...
فأما الأول : فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط ) (4-67)
5- ( أهميته والحاجة اليه ):-
قال ابن تيمية ( وهذا النوع مما اتفق عليه المسلمون بل العقلاء بانه لا يمكن أن ينص الشارع على حكم كل شخص ، إنما يتكلم بكلام عام ، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم )
قال الشاطبي ( فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه ، فان العامي اذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها أن كانت يسيرة فمغتفرة وان كانت كثيرة فلا ، فوقعت له في صلاته زيادة ، فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ، ولا يكون ذلك الا باجتهاد ونظر ..)
فيحتاجه العامي كما يقول الشاطبي فكيف بطالب العلم أو الداعية بل العالم وهو مبني على الاجتهاد فقد يخطئ أو يصيب !
6- ( أثره في الخلاف بين السلفيين ):-
إن كثيراً من الخلاف الجاري السلفيين يمكن أن يدخل في اجتهادهم في المناط ومدى تحققه وتنزله في المعين !!
فالسلفيون متفقون على التأصيل مثلاً في باب البدعة وأحكامها التقعيدية وإنما يحدث التنازع في تحقيق المناط في المعين هل هو ( مبتدع ، مجروح )
قال شيخ الاسلام ( تحقيق المناط وهو أن يكون الشارع قد علق الحكم بوصف فنعلم ثبوته في حق المعين كأمره باستشهاد ذوي عدل ولم يعين فلاناً وفلاناً فإذا علمنا أن هذا ذو عدل كنا قد علمنا أن هذا المعين موصوف بالعدل المذكور في القرآن وكذلك لما حرم الله الخمر والميسر فإذا علمنا أن هذا الشراب المصنوع من الذرة والعسل خمراً علمنا انه داخل في هذا النص ، فعلمنا بأعيان المؤمنين وأعيان المنافقين هو من هذا الباب ، وهذا هو تأويل القرآن ) (13/ 254)
قال الشاطبي ( ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين الا في الذهن ، لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك ، منزلات على أفعال مطلقات كذلك والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة ، وإنما تقع معينة مشخصة ، فلا يكون الحكم واقعاً عليها الا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون ، وكله اجتهاد !!) ( 67/4)
وهنا دقيقة لطيفة ذكرها الامام الشاطبي في هل يصح التقليد في باب التنزيل على المعين قال ( وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد ، وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط اذا كان متوجهاً على الأنواع لا إلى الأشخاص المعينة ) وهذا كلام في غاية النفاسة ! فتدبر
وقال الشاطبي ( فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلاً، ووجد هذا الشخص متصفاً لها على حسب ما ظهر له ! أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول ... وهكذا اذا نظر في الأوامر والنواهي .....) قال الشاطبي ( وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء ، بل ذلك يختلف اختلافا بينا فانا اذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة :-
طرف أعلى في العدالة لا أشكال فيه كأبي بكر الصديق !
وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الاسلام فضلاً عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها !
وبينهما مراتب لا تنحصر ، وهذا الوسط غامض لا بد فيه من بلوغ حد الوسع وهو الاجتهاد ) وهذا والله كلام نفيس غاية فيها بيان من يعلو أو ينزل في تحقيق المناط عنده بحسب النظر الاجتهادي في المناط .
7- توصيات للدعاة
يستفاد مما سبق أنه ينبغي مراعاة ما يلي عند تنزيل التأصيل على المعين :-
1- أهمية التعمق في مبحث تحقيق المناط بالمعنى العام لضبط كثير من الخلاف الجاري
2- من أسباب الخلاف ( تحقيق المناط)
3- أن الخلاف فيه اجتهادي وليس قطعي أو مما يوجب التبديع والتجريح مع الاتفاق في التأصيل والحكم الشرعي فمثلاً ابن صياد اختلف الصحابة فيه هو هو الدجال أم لا مع الاتفاق على وجود الدجال والتحذير منه لان الخلاف في تحقيق المناط
4- التفريق بين القول والفعل والقائل والفاعل
وذلك لان القول والفعل من باب الكلام في الأصل الشرعي أما القائل والفاعل من باب تحقيق المناط الشرعي
5- تحقيق المناط وأثره في المصالح والمفاسد وارتباطه بتغير الزمان والمكان وهذا من دلائل أن الشريعة صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان
والله الموفق لا رب سواه