كان كعب بن الأشرف اليهودي من الحاقدين علىٰ الإسلام والمسلمين بالمدينة، وهو من قبيلة طيء، وأمُّه من بني النضير، وكان يكتم غيظه وحقده علىٰ المسلمين، حتىٰ انتصر المسلمون علىٰ المشركين في موقعة بدر، وجاء الخبر، فلم يستطع كتم مَا بداخله من حقد وغيظ علىٰ النبي صلى الله عليه وسلم، وعلىٰ الإسلام والمسلمين، حتىٰ إنه قال حين بلغه الخبر: أحق هذا؟ أترون محمداً قتل هؤلاء، فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمدٌ أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.فلما تيقن عدوُّ الله الخبر خرج حتىٰ قدم مكة، فنزل علىٰ المطلب بن أبي وداعة بن ضُبيرة السهميَّ، وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، فأنزلته وأكرمته وجعل يحرَّض علىٰ الرسول صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر.ثم رجع كعب بن الأشرف إلي المدينة فشبَّبَ بنساء المسلمين([1]) حتىٰ آذاهم([2]) فقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لِكَعْبِ بن الْأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَىٰ الله وَرَسُولَهُ؟»، فَقَامَ مُحَمَّدُ بن مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَمُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ: «قُلْ»، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بن مَسْلَمَةَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً – يقصد النبي صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّهُ قَدْ عزَّانا([3])، وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: إِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّىٰ نَنْظُرَ إِلَىٰ أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ، قَالَ: نَعَمِ ارْهَنُونِي، قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ؟ قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؟ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ - يَعْنِي السِّلَاحَ- فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَجَاءَهُ لَيْلًا([4]) وَمَعَهُ أبو نَائِلَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وأبو عيسىٰ بن جبر، والحارث بن أوس وعباد بن بشر.ومشىٰ معه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىٰ بقيع الغرْقد، ثم وجههم، فقال: «انطلقوا علىٰ اسم الله اللهم أعنهم» ثم رجع رسول الله إلىٰ بيته، وهو في ليلة مقمرة، وأقبلوا حتىٰ انتهوا إلىٰ حصنه، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس، فوثب في مِلحفته، فأخذت امرأته بناصيتها، وقالت: إنك امرؤ محارَب، وإنَّ أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائمًا لما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال: لو يُدعىٰ الفتىٰ لطعنة لأجاب، فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماش إلىٰ شعب العجوز، فنتحدث به بقية ليلتنا هذه، قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شامَ يده في فود رأسه([5])، ثم شمَّ يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر قط، ثم مشىٰ ساعة، ثم عاد لمثلها حتىٰ اطمأنَّ، ثم مشىٰ ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله، فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئًا، قال محمد بن مسلمة: فذكرتُ مغولاً([6]) في سيفي، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئًا، فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حِصن إلا وقد أوقدت عليه نارٌ قال: فوضعته في ثُنَّته([7])، ثم تحاملتُ عليه حتىٰ بلغتُ عانته فوقع عدو الله، وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ فجرح في رأسه أو في رجله، أصابه بعض أسيافنا، قال: فخرجنا حتىٰ سلكنا علىٰ بني أمية بن زيد، ثم علىٰ بني قُريظة، ثم علىٰ بُعاث حتىٰ أسْندْنا([8]) في حرة العريض([9]) وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتْبعُ آثارنا، قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل علىٰ جُرح صاحبنا، فرجع ورجعنا إلىٰ أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو يخاف علىٰ نفسه([10]).
([1]) شبب بنساء المسلمين: أي تغزل فيهنَّ وذكرهنَّ في شعره.
([2]) من «سيرة ابن هشام» بتصرف.
([3]) أي: أتعبنا.
([4]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4037)، كتاب: المغازي، باب: قتل كعب بن الأشرف، ومسلم (1801)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود.
([5]) شام يده: أي أدخل يده، وفود رأسه: أي جانبه من جهة الأذن، ومعناه أدخل يده في رأسه.
([6]) المغول: السكين.
([7]) الثُنَّة: ما بين السرة والعانة.
([8]) أسندنا: ارتفعنا.
([9]) حرة العريض: مكان بالمدينة.
([10]) صحيح: أخرجه ابن هشام في «السيرة» 2/244، 245، عن ابن إسحاق بسند صحيح عن ابن عباس .