خطورة الترخص بالخلافقبل الخوض في هذه المسألة يجب أن نفرق بين نوعين من الرخص، فهناك رخص شرعية وهناك رخص مذهبية .
- النوع الأول : الرخص الشرعية :
وقد عرفها العلماء بأنها ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه( الموافقات (1/466) )
وهذا النوع من الرخص لا إشكال في الأخذ به بلا خلاف يذكر ، لأنها محل تشريع من الله جل جلاله، فلابد لها من ورود دليل شرعي يتجاوز العذر، وإلا أدى إلى تعطيل الدليل الشرعي العام بلا موجب أو دليل.
ومثالها : أكل الميتة عند الاضطرار والتلفظ بالكفر حال الإكراه وقصر الرباعية والجمع أثناء السفر ، والتيمم عند فقد الماء أو العجز عن استعماله، وإباحة الإفطار للمريض والمسافر أثناء السفر، إلى غير ذلك مما هو مذكور في الأمهات الفقهية.
قال السيوطي رحمه الله :
" قال الشيخ عز الدين : تخفيفات الشرع ستة أنواع :
الأول : تخفيف إسقاط ، كإسقاط الجمعة والحج ، والعمرة ، والجهاد بالأعذار .
الثاني : تخفيف تنقيص ، كالقصر .
الثالث : تخفيف إبدال ، كإبدال الوضوء ، والغسل بالتيمم ، والقيام في الصلاة بالقعود والاضطجاع ، أو الإيماء ، والصيام بالإطعام .
الرابع : تخفيف تقديم ، كالجمع ، وتقديم الزكاة على الحول ، وزكاة الفطر في رمضان ، والكفارة على الحنث .
الخامس : تخفيف تأخير ، كالجمع ، وتأخير رمضان للمريض والمسافر ؛ وتأخير الصلاة في حق مشتغل بإنقاذ غريق ، أو نحوه من الأعذار الآتية : السادس : تخفيف ترخيص ، كصلاة المستجمر ، مع بقية النجو ، وشرب الخمر للغصة ، وأكل النجاسة للتداوي ، ونحو ذلك .
واستدرك العلائي سابعا ، وهو : تخفيف تغيير ، كتغير نظم الصلاة في الخوف . (الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 117) ) .
- النوع الثاني : الرخص المذهبية :
المراد بالرخص الفقهية ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحا لأمر في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره(مجلة المجمع الفقهي (عدد 8 الجزء 1 ص 41) ).
ومعنى الترخص:أن يعمد العالم أو المقلد إلى رخص المذاهب الفقهية في كل سؤال يعرض له أو نازلة تلم به فيختار الأخف والأيسر ، بحثا عن مخرج بمسوغ أن المسألة خلافية بغض النظر عن شذوذ القول أو غرابته أو ضعفه أو بعد مأخذه أو مخالفته للنصوص أو القواعد الكلية للشريعة.
فمسألة الترخص تعد من أخطر المسالك التي يبتلى بها العالم أو المقلد ذلك لما تنطوي عليه من مفاسد ، تؤدي حتما إلى الانسلاخ من الدين والاستهانة به ، كما تعطل مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فما من باطل إلا وهو زلة لعالم ما ، وتتبع هذه الرخص هو شكل من أشكال الزندقة والخروج من الدين بالكلية وإسقاط التكاليف الشرعية بمسوغ " هذا محل خلاف "، لأن الخلاف المعتبر كما سبق هو ما كان له حظ من النظر.
وقد قال الإمام أحمد : لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقا .
وقد دخل القاضي إسماعيل - يوما - على المعتضد العباسي فرفع إليه الخليفة كتابا وطلب منه أن ينظر فيه وقد جمع فيه صاحبه الرخص من زلل العلماء فقال له القاضي المذكور - بعد أن تأمله - : مصنف هذا زنديق ، فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قال : بلى ، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب . ( إرشاد الفحول(2/254))
وقال ابن حزم رحمه الله : "وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين، وقلة التقوى، إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم، مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم "(الإحكام في أصول الأحكام(5/68) )اهـ
وقال أيضا: "واتفقوا على أنه لا يحل لمفت ولا لقاض أن يحكم بما يشتهي مما ذكرنا في قصة، وبما اشتهى مما يخالف الحكم في أخرى مثلها، وإن كان كلا القولين مما قال به جماعة من العلماء ما لم يكن ذلك الرجوع عن خطأ لاح له إلى صواب؛ بان له"( مراتب الإجماع (ص50))
قال سليمان التيمي : " لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله "( أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 927)برقم 1766، 1767 بإسنادٍ صحيح.)
وقال النووي رحمه الله :" وليس له التمذهب بمجرد التشهي ولا بما وجد عليه أبده هذا كلام الأصحاب والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب بل يستفتي من شاء أو من اتفق لكن من غير تلقط للرخص "( روضة الطالبين(8/1001) )
وقال ابن القيم رحمه الله :" لا يجوز للمفتي أن يعمل بما يشاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح ولا يعتد به بل يكتفي في العمل بمجرد كون ذلك قولا قاله إمام أووجها ذهب إليه جماعة فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال حيث رأى القول وفق إرادته وغرضه عمل به فإرادته وغرضه هو المعيار وبها الترجيح وهذا حرام باتفاق الأمة .
وهذا مثل ما حكى القاضي أبو الوليد الباجي عن بعض أهل زمانه ممن نصب نفسه للفتوى أنه كان يقول إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أو فتيا أن أفتيه بالرواية التي توافقه وقال وأخبرني من أثق به أنه وقعت له واقعة فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره وأنه كان غائبا فلما حضر سألهم بنفسه فقالوا لم نعلم أنها لك وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه قال وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد بهم في الإجماع أنه لا يجوز وقد قال مالك رحمه الله في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم مخطئ ومصيب فعليك بالاجتهاد .
وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به ويفتي به ويحكم به ويحكم على عدوه ويفتيه بضده وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر والله المستعان"(إعلام الموقعين (4/211) )
وقال الشاطبي رحمه الله :" أن الترخص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق؛ كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق"(الموافق ات (1/507) )اهـ
وقال أيضا :" وعلى هذا الأصل ينبني قواعد، منها أنه ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف؛ كما إذا اختلف المجتهدون على قولين؛ فوردت كذلك على المقلد؛ فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة؛ فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين، وقواه بما روى من قوله عليه الصلاة والسلام: "أصحابي كالنجوم" ، وقد مر الجواب عنه، وإن صح؛ فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين؛ فالحق أن يقال: ليس بداخل تحت ظاهر الحديث؛ لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه؛ فهما صاحبا دليلين متضادين، فإتباع أحدهما بالهوى إتباع للهوى، وقد مر ما فيه؛ فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها"(الموافقا ت(5/79) )
ويقول أيضا : "فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل. وأيضا؛ فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها؛ لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء، ويترك إن شاء وهو عين إسقاط التكليف ، بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل؛ فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطا للتكليف"(الموافق ات(5/82) )
كتبه : عبد الجليل مبرور