أسئلة امتحان الأخلاق
لحسن الخلق علامات ومؤشرات يمكن لأي منا أن يعرض نفسه عليها، فمن وجدها فيه فليحمد الله تعالى ومن افتقد شيئا منها فليسارع بتدارك أمره. إن امتحان الأخلاق عسير، وقد يستغرق العمر كله .. ولطالما كنت أعجب في سنين الشباب من هذه الفضائل العظيمة والدرجات العلا التي تكون في الآخرة لصاحب الخلق الحسن، حتى قال نبينا صلى الله عليه وسلم (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)، وقال (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال: تقوى الله، وحسن الخلق .وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ فقال: الفم والفرج.هناك أربعة أسئلة أساسية في امتحان الأخلاق، وبجملتها تتحدد درجة القرب والبعد من حسن الخلق:الأول: حال الإنسان مع أقرب الناس إليه من أهل معاشراته، في أسرته وعمله وجيرته وأصدقائه. إن هذا أظهر محك لحسن الخلق، وكم نتأثر عندما نسمع امرأة تثني على زوجها – بعد عشرة مديدة – بحسن خلقه وطيب معشره في اليسر والعسر وفي المنشط والكره. وكم نتأثر عندما نجد رجلا لا يعدل بزوجته أحدا بعد عشرين أو ثلاثين سنة من الزواج. إن سلوكنا مع من نخالطهم كثيرا أكبر كاشف لأخلاقنا، لأنه مع طول العشرة تظهر الأخلاق ويختفي التجمل الكاذب. ويمكنك أن تعرف أخلاق الرجل في عمله من مرؤوسيه بعد أن يتركوا عملهم، أو بعد أن يحال هو إلى التقاعد، أو تعرفها في حديث عملائه ومنافسيه في مجال العمل. ولذلك نجد حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مفعما بإعجابها بأخلاقه الكريمة ولطف معاشرته. تقول: كان خلقه القرآن، يرضى برضاه، ويسخط بسخطه. وتقول: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه أو أهل بيته إلا قال: لبيك. وكانت شيمته الوفاء، وحفظه لذكرى زوجته خديجة رضي الله عنها عجيب، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها، واستأذنت عليه أختها فارتاح إليها، ودخلت عليه امرأة، فهش لها، وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان.الثاني: حسن الخلق في حال القوة والسلطة فإنها الكاشفة عن معدن صاحبها، لأن التخلق بمكارم الأخلاق في حال الضعف قد يلتبس ويكون عن عجز، أما إذا رأيت الرجل في غناه أو منصبه الرفيع وسلطته الواسعة كريم الأخلاق فاعلم أن عنصره كريم لم تغيره الدنيا في إقبالها. وقد ورد في الحديث " من كظم غيظا، وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء" .. والقيد هنا "وهو قادر على أن ينفذه" واضح الدلالة. إن المناصب والشهرة غالبا ما تغير أصحابها وتزيل القشرة الرقيقة من الأخلاق التي يتزينون بها، وقد يحدث هذا حتى مع العلماء، ولقد رأينا بعضهم عندما كانوا قريبين من الخليفة المأمون وبطانته، حرضوا على الإمام أحمد وكانوا أحد اسباب محنته التي حبس فيها ثمانية وعشرين شهرا، ولما فرج الله عنه في زمن الخليفة المتوكل وقرب الإمام أحمد وأعلى مقامه، عفا الإمام أحمد وصفح عن من كادوا له. وقد وقع شيئ قريب من هذا مع ابن تيمية في مصر، فقد سجن في القاهرة والأسكندرية بتحريض بعض العلماء، فلما تولى السلطان الناصر الحكم وأفرج عنه وقربه عفا عن كل من خاض في عرضه أو حرض عليه.الثالث:أن يظهر حسن الخلق عند الاختلاف ومع المخالفين. وبرغم كثرة وانتشار مقالات "أدب الخلاف"، إلا أن الصورة الواقعية سيئة جدا، ومظاهر انقضاض كل طرف على المخالفين تحطم كل الحواجز الأخلاقية وتقطع كل أواصر الأخوة في الوطن أو الدين. إن محك الأخلاق وقت الخلافات صعب ويحتاج لمجاهدة عظيمة للنفس، لحبسها عن رغبة الانتقام والمغالبة وإقصاء الآخر والقضاء عليه. ومما يساعد في هذا أن نتذكر دائما أن أي خلاف هو جولة واحدة في مشوار الحياة لن تلبث أن تنتهي وستمضي الحياة وربما يندم من يوصد الأبواب بينه وبين مخالفيه، لأنه سيحتاج أن يفتحها فيما بعد. إن شطط المشاعر يذهب حتى برغبتنا في أن يرانا الآخرون على أخلاق حميدة.عند الخلاف خذ نفسا عميقا، ولا تندفع في ردود أفعالك وحاول أن تسكن مشاعرك في الصورة الكلية للحدث لتعرف حجمها الحقيقي. عند الخلاف تذكر أن مخالفيك لهم أيضا دوافع وآراء وهواجس .. ومصالح. خذ هذا كله في حساباتك لتقلل من غلواء خصومتك وتبرد رغبة الانتقام داخلك. عند الخلاف تذكر قول الله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى). وعند الخلاف لا تبدأ بالعتاب قبل أن تتلطف باللين في العبارة، وقد عاتب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال (عفا الله عنك، لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)، فأخبره بالعفو قبل أن يخبره بالعتاب، ولو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، لم أذنت لهم؟ لخيف عليه أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه، ثم قال له: لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره عن التخلف عن الجهاد من الكاذب.وقد جاءت أوامر الله في هذا تترى مباشرة وصريحة، فقال تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، وقال (واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) وقال (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم) وقال (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور).عن أنس رضي الله عنه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه الأعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك ومال أبيك.
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: المال مال الله، وأنا عبده.
ثم قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي.
قال: لا.
قال: لم ؟ قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمر أن يحمل له على بعيره شعير، وعلى الآخر تمر.قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله.الرابع: الاستقامة على حسن الخلق، بحيث لا تكون نزوة عابرة أو فورة أخلاق مؤقتة. وعلامة الاستقامة هنا العبور من أسئلة الامتحان الثلاثة السابقة، لأن بها تلتزم حسن الخلق في السر والعلن، والعسر واليسر، وفي الضعف والقوة .. وهذا هو عين الاستقامة.إن حسن الخلق على هذه المحكات الأربعة بالإضافة لرفع القدر في الآخرة، فإنها تورث صاحبها في الدنيا محبة في قلوب الخلق، محبة لا تُشترى بمال الدنيا. وقد روي عن علي رضي الله عنه في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم (من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه)، وقال أبو سفيان قبل إسلامه (ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً !). وبحسن الخلق تتزين الدنيا، وتصفو فيها لحظات وكأنها من الجنة، وبدونها تمتلئ الدنيا عبوسا وظلمة. قال الفضيل بن عياض يقول: لئن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إليّ من أن يصحبني عابد سيئ الخلق.د. محمد هشام راغبhttp://www.facebook.com/Dr.M.Hesham.Ragheb