يقول ابنُ الجَوزيّ - رحمهُ اللهُ تعالى - في كتابِه القيِّمِ " صيدِ الخاطِر " في فصلٍ بعنوانِ :
" عتابٌ ونجوى مع نفسٍ أمَّارةٍ " :
**"واعَجَباً منْ عارفٍ باللهِ عزَّ وجلَّ يُخالِفُهُ ولو في تَلِفِ نفسهِ ! هل العيشُ إلاَّ معهُ ؟! هل الدنيا والآخرةُ إلاَّ لهُ ؟! ٍ
***أُفِّ لمتَرخّصِ في فعلِ ما يكرهُ لنيلِ ما يحبُّ؛ لقد فاتَهُ أضعافَ ما حصلَ
. أقبِلْ على ما أقولُ ياذا الذوقِ !
* هل وقعَ لك تعثيرٌ في عيشٍ وتخبيطٌ في حالٍ إلاَّ حالِ مخالفتِه ؟!
ولا انْثَنى عزمِي عن بابِكُم إلاَّ تعثّرتُ بأذيالي
** أَما سمعتَ تلك الحكايةَ عن بعضِ السَّلفِ : أنهُ قالَ :
رأيتُ على سورِ بيروتَ شابّاً يذكرُ اللهَ تعالى ، فقلتُ لهُ : أَلَكَ حاجةٌ ؟ فقالَ : إذا وقَعَتْ لي حاجةٌ سألتُهُ بقلبي فَقَضاهَا ! .
***اقْبَلْ نُصحي يا مَخدوعا بغرضِهِ !
إنْ ضَعُفتَ عن حملِ بلائِه فاسْغِثْ بهِ ، وإنْ آلَمَكَ كربُ اختيارِهِ ، فإنَّك بينَ يديهِ ، ولا تَيأسَ من روحِهِ وإِنْ قَوِيَ خناقُ البلاءِ .
***أيّتُها النفسُ : لقد أعطاكِ ما لم تُؤمِّلي ، وبلَّغَكِ ما لمْ تطلٌبي ، وسترَ عليكِ من قَبيحِك ما لَو فَاحَ ضَجَّتِ المشامَّ ( أي الأنوف) ! فما هذا الضَّجيجُ من فواتِ كمالِ الأغراضِ ؟! أمملُوكةٌ أنتِ أم حُرَّةٌ ! أَما علمتِ أنَّك في دارِ التَّكليفِ ؟!
أتراهُ لو هبَّت نفحةٌ فأَخذتِ البصرَ كيفَ كانت تطيبُ لكِ الدُّنيا ؟!
وا أَسفَاً عليكِ ! لقد عَشِيَت البصيرةُ التي هي أشرفُ وَما علمتِ كمْ أقولُ : عسى ولعلَّ ؟ وأنتِ في الخطأِ إلى قُدَّامٍ !
** قَرُبَت سفينةُ العُمر من ساحلِ القبرِ وما لَكِ في المركبِ بضاعةٌ تَربَحُ ... تلاعبتْ في بحرِ العمرِ ريحُ الضّعفِ ؛ ففرَّقتْ تَلفيقَ القُوى ، وكأنْ قد فصلتِ المركبُ ... بلغتِ نهايةَ الأجلِ وعينُ هواكِ تتلفَّتُ إلى الصِّبا ...!
*** أيَّتها النفسُ : باللهِ عليكِ ؛ لا تُشمِتي بكِ الأعداءُ !
هذا أقلُّ الأقسامِ ، وأَوفى منها أنْ أقولَ : باللهِ عليكِ ، لا يَفوتَنَّكِ قَدَمُ سابقٍ مع قدرتِكِ على قطعِ المِضمارِ .
***أيَّتُها النفسُ : الخُلوةَ الخُلوةَ ! واستحْضِري قرينَ العقلِ ، وَجُولِي في حَيْرَةِ الفِكر ، واسْتَدْرِكِي صُبابَةَ الأجَلِ قبلَ أنْ تميلَ بكِ الصَّبابةُ عن الصّوابِ .
*** واعَجَبا ! كلَّما صَعِدَ العمرُ نَزِلتِ ! وكلَّما جَدَّ الموتُ هَزَلْتِ !
أَتُراكِ ممَّنْ خُتِمَ لهُ بفتنةٍ ، وَقُضِيتْ عليه عندَ آخرِ عُمُرِه المِحنةُ ؟!
كانَ أولُ عُمُركِ خيراً من الأخيرِ ... كنتِ في زمنِ الشبابِ أصلحَ منكِ في زمنِ أيّامِ المشيبِ ...!
" وَتِلكَ الأمثالُ نَضْرِبُها للناسِ وَمَا يعْقِلُها إلاَّ العَالِمُون " سورة العنكبوت / الآية 43
نسألُ اللهَ عزّ وجلّ مَا لا يَحصُل إلاّ به ، وهو توفِيقُه ؛ إنّه سميعٌ مُجيبٌ ."
انتهى كلامُ الإمامِ " ابنِ الجَوزِيّ " رحمهُ اللهُ
****************
بقلم : جاميليا حفني
المصدر : كتابُ " صَيْد الخَاطِر " لابن الجوزيّ .
تحقيق عامر بن علي ياسين