سلسلة درك البصيرة للنجاة من الفتن الخطيرة (9)
صَوْلَةُ العُجْبِ
وصَايةٌ مختلقةٌ في ثَوبِ حِشْمَةٍ مُصْطَنَعَةٍ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المصطفى الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد:
قال - تعالى -: {كَلَّا إِنَّ الْإِِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7].
قال ابن القيم – رحمه الله - : " والإنسان يطغى أن رآه استغنى بالمال، فكيف بما هو أعظم خطراً، وأجل قدراً من المال بما لا نسبةَ بينهما : من علمٍ، أو حالٍ، أو معرفةٍ، أو كشفٍ، فإذا صار ذلك من حاصلها (يعني: النفس): انحرف العبد به (أي: الاستغناء)، ولابد إلى طرف مذموم: من جرأة، أو شطح، أو إدلال، ونحو ذلك . فو الله كم ههنا من قتيل، وسليب، وجريح ..." (مدارج السالكين: 2/394).
ومن بين هذه الأوصاف المذمومة المتولدة من استغنائه عن ربه: (العجب)، قال ابن القيم – رحمه الله - : " العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبته عن شهود منة ربه وتوفيقه وإعانته، فإذا غاب عن تلك الملاحظة وثبت النفس وقامت في مقام الدعوى فوقع العجب ففسد عليه القول والعمل. " (الفوائد: 152).
فإذا رأى العبد نفسه قد استغنت عن الله فقد أصيبت مقاتله بداء (العجب)، فيغيب - بصولته وسطوته على قلبه – عن مصالح نفسه – أولاً – وعن مصالح من حوله – ثانياً - .
فمن العجب تتولد بين العباد العداوة والبغضاء، والتحقير والازدراء، منه لهم – بغير حق – ومنهم له – جزاء عمله - تولد النخلة من عجوتها، والسنبلة من حبتها.
و(المعجب) بنفسه، وعمله عريض الدعوى متطلع للأعلى قاموسه المحيط : كل اسم تفضيل كأفضل، وأول، وأعلم، وأجدر . . . إلخ .
وهو عند الله ثم الناس: أظلم، وأصغر، وأجهل، وأحقر . . . إلخ .
فالمتكبر كرجل يجلس على قمة جبل يرى الناس صغاراً، وهم يرونه أصغر . وكونه لا يرى غيره شيئاً هو من فساد علمه، بل وعقله .
والنجمُ تستصغرُ الأبصارُ صورته ... والذنبُ للطرفِ لا للنجمِ في الصغر
ومن (باب الاستئناس) فقد ذُكر أن رجلاً كان يجد في نفسه كِبْراً، فكان يحلف ألا يحتقر أحداً، لكنه سرعان ما يحنث فيكفر عن يمينه . وطال عليه الحال، ولم ير الأيمان تمنعه مما يقع في قلبه بسبب الإلف والعادة لهذا الداء الخطير، فقال في يوم من الأيام لأن وقع في قلبي كِبْرٌ لأقبلن رجل أقذر إنسان – من باب الردع لنفسه، ومداواتها بضد ذلك، بحسب ما يفهم – ولم تمر عليه مدة طويلة حتى وقع في قلبه ما يكره، فخرج من بيته يبحث عن أقذر رجل ليبر بيمينه، فإذا هو برجل كبير السن رث الملابس، فلما وقف عنده نزل ليقبل رجله فقال له الرجل: مالك ؟
فأخبره بيمينه، وأنه يريد تقبيل رجل أقذر إنسان .
فقال له الرجل الكبير: قبل رجل نفسك فإنه لا أقذر من متكبر !!!
والمقصود أن مما يفسد الدعوة رؤية النفس والعمل – كِبْراً وعُجْباً – فيستغني العبد عن ربه – تعليماً وتوفيقاً – ، وعن إخوانه نصحاً وتسديداً - فيُوِّلد فيه هذا المرض انتفاخاً للنفس بهوى الهوى، فيتم زواج (الكبر بالبغي) في (دار العجب)، و (بشهادة النفس والشيطان)، و (بلا ولي) ليخرج اللقيط الدعي من التناسل المذموم (وصاية المعجب) على الدعوة، والدعاة، بل الإسلام والمسلمين؛ لأن المعجب من خاصيته طلب التعالي والصعود، ولكونه بغير حق فهو في حقيقته داء إذا جامع القلب لم يساكنه - وخاصة إذا كان عري الدعوى - فيصبح صاحبه يتطلب تنفيساً للمكبوت في صدره ليثبت صحة المدعى بالقول والعمل .
فيتقصد من الأقوال : نحن، وعندنا، ونرى . . .
ومن الأعمال: مواقع الصدارة، وتسليط الأضواء . . .
تنبيه: ويجب أن يعلم أن هناك فرقاً بين (التميز، والتفوق)، وبين (العجب، والكبر)، فالأول حقيقة مقصودة مطلوبة، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُو نَ} .
والثاني ادعاء فإن لم يكن له رصيد محسوس من الواقع الملموس، فتطلبه للتميز – بقوله وعمله – من حظ النفوس، وهو مثار اللغط لمتابعته الغلط .
وإن كان في الواقع عنده تميز أو بعضه لكنه أفسده العجب، (فالعجب آفة الأعمال)، فسيؤول تميزه إلى جسد لا روح فيه، أو شجر له رواء بلا ثمر .
تراهم كالسحاب منتشرا وليس فيه لطالب مطر
في شجر السرو منهم مثل له رواء وماله ثمر
أو كما قال الآخر:إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا ** رأيت صورته من أقبح الصور
وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ** نفر منها إذا مالت إلى الضرر
والنكتة في النجاة من هذا الداء ما قاله حسن بن أحمد الشافعي – موصياً طالب العلم - : "أن يكون ممن لا يرى لنفسه فضيلة تميزه عن سواه "(نبذة لطيفة)
وقال ابن القيم – رحمه الله - : " فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد؛ فإن ذلك يورثه (مقت نفسه، والإزراء عليها)، (ويخلصه من العجب، ورؤية العمل) ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه واليأس من نفسه وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته" (إغاثة اللهفان: 1/88).
فتطلب المتكبر (للحشمة المصطنعة) نوع تمويه وتلبيس فقد قال ابن القيم – رحمه الله - : " والفرق بين المهابة والكبر أن المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمه الله ومحبته وإجلاله فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور ونزلت عليه السكينة وألبس رداء الهيبة، فاكتسى وجهه الحلاوة والمهابة فأخذ بمجامع القلوب محبة ومهابة فحنت إليه الأفئدة وقرت به العيون وأنست به القلوب، فكلامه نور ومدخله نور ومخرجه نور وعمله نور وإن سكت علاه الوقار وإن تكلم أخذ بالقلوب والأسماع .
وأما الكبر فأثر من آثار العجب والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم ترحلت منه العبودية ونزل عليه المقت فنظره إلى الناس شزر ومشيه بينهم تبختر ومعاملته لهم معاملة الاستئثار لا الإيثار ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهاً. لا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ في الإنعام عليه، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله. لا يزداد من الله إلا بعداً ومن الناس إلا صغاراً أو بغضاً " (الروح:235-236).
ولهذا قال شيخ الإسلام – رحمه الله - :" العارف لا يرى له على أحد حقا، ولا يشهد له على غيره فضلا؛ ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب" (مدارج السالكين:1/523).
والله يقول: { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ }، فاللهم ثبتنا على الحق حتى نلقاك .
بقلم الشيخ
ابي زيد العتيبي .