الشوكاني يتكلمُ عن نفسه ....فهل من مستفيد ؟ .
" ..وَإِنِّي أخْبرك أَيهَا الطَّالِب عَن نَفسِي ؛ تحدثاً بِنِعْمَة الله سُبْحَانَهُ ثمَّ تَقْرِيبًا لما ذكرت لَك من أَن هَذَا الْأَمر كامن فِي طبائع النَّاس ثَابت فِي غرائزهم وَأَنه من الْفطْرَة الَّتِي فطر الله النَّاس عَلَيْهَا ، إِنِّي لما أردْت الشُّرُوع فِي طلب الْعلم ، وَلم أكن إِذا ذَاك ؛ قد عرفت شَيْئاً مِنْهُ ، حَتَّى مَا يتَعَلَّق بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاة ؛ إِلَّا مُجَرّد مَا يتلقاه الصَّغِير ؛ من تَعْلِيم الْكَبِير لكيفية الصَّلَاة وَالطَّهَارَة ، وَنَحْوهمَا ، فَكَانَ أول بحثٍ طالعته : بحث "كَون الفرجين من أَعْضَاء الْوضُوء فِي الأزهار" ، وَشَرحه ؛ لِأَن الشَّيْخ الَّذِي أردْت الْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَالْأَخْذ عَنهُ ؛ كَانَ قد بلغ فِي تدريس تلامذته ، إِلَى هَذَا الْبَحْث .
فَلَمَّا طالعت هَذَا الْبَحْث ، قبل الْحُضُور عِنْد الشَّيْخ ؛ رَأَيْت اخْتِلَاف الْأَقْوَال فِيهِ ، سَأَلت وَالِدي _رَحمَه الله_عَن تِلْكَ الْأَقْوَال أَيهَا يكون الْعَمَل عَلَيْهِ ؟ . فَقَالَ : يكون الْعَمَل على مَا فِي الأزهار ، فَقلت : صَاحب الأزهار أَكثر علما من هَؤُلَاءِ ؟قَالَ لَا . قلت : فَكيف كَانَ اتِّبَاع قَوْله دون أَقْوَالهم لَازِماً؟ .فَقَالَ : أصنع كَمَا يصنع النَّاس فَإِن فتح الله عَلَيْك فستعرف مَا يُؤْخَذ بِهِ وَمَا يتْرك ، فَسَأَلت الله عِنْد ذَلِك ؛ أَن يفتح عَليّ من معارفه ؛ مَا يتَمَيَّز لي بِهِ الرَّاجِح من الْمَرْجُوح ؛ وَكَانَ هَذَا فِي أول بحثٍ نظرته ، وَأول مَوْضُوع ، درسته وَقَعَدت فِيهِ بَين يَدي الْعلم ، فَاعْتبر بِهَذَا وَلَا تستبعد مَا أرشدتك إِلَيْهِ ، فَتحرم بركَة الْعلم ، وتمحق فَائِدَته .
ثمَّ مَا زلت بعد كَمَا وصفت لَك ؛ أنظر فِي مسَائِل الْخلاف وأدرسها ، على الشُّيُوخ وَلَا أعتقد مَا يَعْتَقِدهُ أهل التَّقْلِيد ، من حقية بَعضهم بِمُجَرَّد الإلف وَالْعَادَة ، والاعتقاد الْفَاسِد ، والاقتداء بِمن لَا يَقْتَدِي بِهِ ، بل أسأَل من عندهُ علم بالأدلة على الرَّاجِح ، وأبحث فِي كتب الْأَدِلَّة ؛ عَن مَاله تعلق بذلك ، أستروح إِلَيْهِ وأتعلل بِهِ ، مَعَ الْجد فِي الطّلب ، واستغراق الْأَوْقَات فِي الْعلم ، خُصُوصا عُلُوم الِاجْتِهَاد ، وَمَا يلْتَحق بهَا ، فَإِنِّي نشطت إِلَيْهَا نشاطاً ، زَائِداً ، لما كنت أتصوره من الِانْتِفَاع بهَا ، حَتَّى فتح الله بِمَا فتح ، ومنح مَا منح ، فَلهُ الْحَمد كثيراً حمداً ، لَا يحاط بِهِ ، وَلَا يُمكن الْوُقُوف على كنهه
، فَإِن وطنت نَفسك أَيهَا الطَّالِب على الْإِنْصَاف ؛ وَعدم التعصب لمَذْهَب من الْمذَاهب ، وَلَا لعالم من الْعلمَاء ؛ بل جعلت النَّاس جَمِيعًا بِمَنْزِلَة وَاحِدَة ، فِي كَونهم منتمين إِلَى الشَّرِيعَة ، مَحْكُومًا عَلَيْهِم بِمَا لَا يَجدوا لأَنْفُسِهِمْ عَنْهَا مخرجاً ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ تحولاً ، فضلاً عَن أَن يرتقوا إِلَى وَاحِد مِنْهُم ، أَو يلْزمه تَقْلِيده وقبوله قَوْله ؛ فقد فزت بأعظم فَوَائِد الْعلم وربحت بأنفس فرائده " .
من كتاب "أدب الطلب ومنتهى الإرب" (ص:89) للشوكاني .