بسم الله الرحمن الرحيم

مشاكل مسلك الاستفتاء على الشريعة والإكراه على الديموقراطية!

قرأت مشاركة تقول:
" سؤال في الصميم طرحه بعض الأصدقاء : هل يجوز أن يعرض شرع الله على الاستفتاء ..؟ والجواب : لا كبيرة لا شك فيها عند المؤمنين بهذا الشرع المسلّمين لحكمه . وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ...
ولكننا أمام حالة من الاختلاط والاشتباك إن لم نحسمها بصندوق الاقتراع سنلجئ إلى حسمها بالإكراه فنحكم بطريقة حزب البعث وحافظ الأسد . وشرع الله أعلى واغلى واسمى أن نكره عليه الناس ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) واكسب عقول الناس وقلوبهم واعطهم حريتهم وكن واثقا لاتتردد فبضاعتك جيدة ..
الحرية ماء نقي لا يخاف من السباحة فيه احد .. "

فكتبت بعض المشاكل في مسلك الاستفتاء ومن خلالها عالجت ما ذكره الكاتب كالتالي:

1-أن الاستفتاء على تحكيم الشريعة تشكيك في إسلام الغالبية وإهانة لهم بعرض الاستمرار على الإسلام أو الردة عليهم, لأن الإسلام حقيقته التسليم لله سبحانه بالطاعة المطلقة له دون تقييد, ولا يمكن أن يوجد إسلام مع رفض علو الشريعة وحاكميتها على كل شيء, وقد أقسم تعالى بنفسه على ذلك فقال: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما },ومن ألجأ المسلمين لإثبات إسلامهم عن طريق الصناديق فقد شكّك في إسلامهم وعرض عليهم الاختيار بين الاستمرار عليه بتحكيمه أو الارتداد عنه . أما تحكيم الشريعة دون استفتاء فهو الأصل الموافق لدينهم دون إشكال.

2-أنه تعطيل من السلطة لحاكمية الشرع وتحكيم للعلمانية التي ترفض هيمنة الدين على السياسة, وذلك حتى تقرر الغالبية في الاستفتاء أنه حاكم, فلو افترضنا أن مقتضى الاستفتاء أن تصبح الشريعة حاكمة ولا خيار لأحد في ردها بعد ذلك, فقد سبق ذلك تعطيل حاكميتها وتحكيم للعلمانية السياسية عليها وهذا ينافي الإسلام تماما, وفي قوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم..} الآية دليل على انتفاء الإيمان قبل التحكيم.وهذا كافٍ لرد هذا المسلك, فمن يرضى بانتفاء الإيمان قبل التحكيم ولو للحظة؟ أو يزعم أنّ الإيمان يثبت قبل التحكيم فيكذّب الله سبحانه فيما أقسم فيه بنفسه. والعياذ بالله.

3-أنّ إثبات الخيار للشعب في ما قضاه الله ورسوله يعارض الإيمان وينافيه, قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }, فمن زعم أن لهم الخيرة فقد كذّب الله أو شكّك في إيمانهم. هذا على فرَض أنّ مقتضى الاستفتاء أن تصبح الشريعة حاكمة ولا خيار لأحد في ردها بعد ذلك, فعلى هذا الافتراض يكون قد وقع إثبات الخيار قبلها خلافا لما حكم الله به من نفي الخيار عن المؤمنين والمؤمنات.

4-أمّا لو كان مقتضى الاستفتاء أن تكون شرعية الشريعة مستمدة من اختيار الشعب منوطة به, وأنّ له تعديلها بالطريق الدستوري إذا أراد, فإنّ ذلك ليس تحكيما للشريعة, بل هي هكذا محكومة لا حاكمة مطلقا, خاضعة لا مخضوع لها مطلقا, والمعنى الذي أنزلت من أجله الكتب وبعثت الرسل وشرعت الشرائع أصلا هو الخضوع لله والطاعة المطلقة, كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وقال تعالى: { بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه }. ولا يقال هم لن يعدّلوا بعد الاستفتاء لأنهم مسلمين, لأن المخالف لو كان سيجعل لذلك أثرا عمليا لما جعل استفتاءً أصلاً, ولكنّه أهمل اعتبار كونهم مسلمين ليحكّم المبدأ الديموقراطي ويستفتي, ثم يريد أن يعتبر كونهم مسلمين هنا ليثبّت المبدأ الديموقراطي ويرسّخه ويجعل الشريعة تحته, فأيّ إخضاع للشريعة هذا وإفراغ لها من حقيقتها ومقصدها الأساس, وهو تعبيد الناس لرب الناس, وأي تلاعب بها هذا؟!

5-إخضاع الشريعة للإرادة الانتخابية تسوية لها بأي قانون بشري يستمد نفوذه من إرادة البشر- التي يُدّعى أنّ آليات الديموقراطية تجسّدها –وليس الحكم بها والحالة هذه قائما على أساس العبودية لله, وهذه هي نقطة التعارض الجوهرية بين الديموقراطية وبين الإسلام.

6-أنّ ذلك هو عين الفتنة التي يجب إزالتها, قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } والدين الطاعة والانقياد والتسليم, فإذا كانت الطاعة والتسليم المطلق لغير الله كانت الفتنة التي يجب إزالتها, حتى لو كانت تلك الطاعة والتسليم المطلق لآلية يدّعون أنّها تمثل إرادة الشعب - رغم أنّ ذلك الإدعاء غيرُ مسلّم دائما [1] – فإن الدين كلّه أصبح للإرادة المزعومة لا لله, بل دين الله وطاعته أصبحت تابعا للدينونة والطاعة للإرادة المزعومة.

7-أنّ في ذلك إكراه للمسلمين على تعلية إرادة الأغلبية على حكم الشرع والتسليم بأنّ لها أحقّية وحاكمية أعلى من الشرع, وأن ينصبوا إرادتهم طاغوتا يتحاكم إليه تحاكما مطلقا دون تقييد بموافقة حكم الله. وليس العكس صحيحا حينما لا يخيّر الشعب في حاكمية الشريعة, فلا يكون ذلك إكراها للشعب, لأن هذا من ضروريات إسلام الجماعة, أعني أن تكون خاضعة لله ولا تعطي الخضوع لغيره ولا تجعل له ندّاً في الطاعة المطلقة والتشريع, فهذه هي الحرية الحقيقية في التحرر من العبودية لغير الله, فالشعب لا بد أن يكون خاضعا لشيء يسلّم ويخضع له وإلا لم يقم له نظام ينتظم تحته النشاط البشري, فمن يفرّون من إعلاء كلمة الله والعبودية له, سيقعوا فيما هو أقبح وهو إخضاع الناس لغيره من مبادئ البشر. وهذا يكشف اللبس حينما يقولون: كيف تُكرِهون الشعب؟ وكأنّهم لا يكرهونه على الديموقراطية, وأن يتخيّر في أغلى شيء يدين به ويجعله خاضعا لصوته,وينصب من إرادته طاغوتا رغما عنه, تحت الوهم بأنّه بذلك يتمكن من نيل حقّه الذي يسعى إليه, في تحكيم ربه والخضوع له, فيقولون له ليس لك إلا هذا الطريق وأنت مجبر عليه تماما.

8-أنّ الاستفتاء قائم على فكرة وجود خلاف يحسم عبر الصناديق, والله سبحانه يقول: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله }, وهنا سيكون الاستفتاء: هل نجعل الحكم فيما اختلفنا فيه لله؟ فهل يرضى مسلم بهذا الكفر. بل قد يكون الاستفتاء على نحو أسوأ: هل نجعل الحكم فيما اختلفنا فيه للّه ما دام دستوريا؟ نعوذ بالله من هذا الكفر القبيح, وكلّ الكفر قبيح.

9-لا يمكن أن يقبل المسلمون إن كانوا مسلمين يفهمون معنى إسلامهم لله أن يجعلوا أنفسهم في مَوضعٍ تُعبَدُ فيه إرادتهم من دون الله, قال تعالى: { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه }, وإذا قيل كما في الديموقراطية: إِن الحكم إلّا لِإرادة الشعب, فالنتيجة اللازمة: أنّ الشعب أمَرَ ألاّ يُعبد إلا إيّاه والعياذ بالله, وحاشا المسلمين.

10-أن الله قسّم ما يراد التحاكم إليه إلى قسمين: (ما أنزل الله) و (الطاغوت), فقال تعالى { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أين يكفروا به.. } إلى أن قال: { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول }, فلا يمكن أن يريد المؤمن أن يتحاكم إلى الطاغوت ,فضلا عن أن يجعل إرادته هي الطاغوت نفسه الذي يقابل قسم ( ما أنزل الله ), ولا يمكن أن يجعل أحد قسم ثالث خارج هذه القسمة, فليس للمؤمنين إرادة أخرى غير إرادة التحاكم لما أنزل الله, إلا إذا كان إيمانهم زعما حين يريدون التحاكم للطاغوت, أو نصبوا إرادتهم نفسها طاغوتا كما تريد الديموقراطية إكراههم على ذلك والعياذ بالله,وحاشا المؤمنين.

11-أن في الاستفتاء تقديم بين يدي الله ورسوله وررفع للأصوات فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم, وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم (1) يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}, وفي مسلك الاستفتاء يكون الخضوع لله مشروط أولا قبل حصوله بموافقة الشعب,بحيث لا يثبت حكم الله – وربما أيضا لا يبقى بعد ثبوته - إلا بإرادته وبقائها وفق الآلية الديموقراطية. وكلام الله سبحانه وسنة النبي صلى الله عليه وسلّم يصوت عليها في مسلك الاستفتاءكما يصوت على أي قانون بشري, فأي تقديم ورفع للصوت أقبح من هذا.

12-الشعائر والمظاهر إذا أقامها ذلك النظام تكون أجساما لا روح فيها, إذ لم تقم على أساس التسليم لله والطاعة المطلقة له, فجوهرها غير موجود, وما قصده الشارع من تشريعها من تحقيق العبودية وقيامها بالنفوس لله وحده مفقود, وقد قضى صلى الله عليه وسلم بأن القاضي الذي يقضي على جهل في النار مع أنه قد يصيب ظاهر الصواب أحيانا دون قصد,فقال صلى الله عليه وسلم – كما عند أبي داود وغيره - (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار )؛ وحكم صلى الله عليه وسلم بأن من اجتهد فأخطأ ظاهر الصواب فله أجر؛ لأن جوهر العبودية قام به حين اجتهد منقادا للشرع ولو كان قد أخطأ الصورة, وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ).

هذه بعض المشاكل العميقة جدا والجوهرية التي لا يمكن تجاوزها!

وصلى الله على نبينا محمد

طارق عنقاوي 6 محرم 1434 هـــ

@tariqangawi


[1] هذه النقطة مجال بحث آخر يتلخّص في شهادة الواقع بأنّ التمثيل المبني على آليات الديموقراطية لا يمثل سوى طائفة من الشعب قد تكون أقل من النصف ولكنّها شكلت أكبر كتلة متّحدة, ثم تلك الكتلة تتخذ قراراتها وفق معطيات سياسية وضغوطات تفضي بها كثيرا إلى غير ما انتخبت من أجله, إذا ضممت لذلك أنّ انتخاب الشخص مبني على أسباب مختلفة وقد يكون بناء على كونه أفضل الموجود في نظر المنتخِب وليس ممثلا له فعلا, وقد يكون بناء على إعجاب شخصي أو توافق في بعض الآراء دون بعض, إذا ضممت هذه الأمور كلّها إلى دور الإعلام في تشكيل الرأي العام ومسك زمامه بأيدي أهل النفوذ المالي والتغلغل بواسطته في مختلف مراكز قوة البلد, فأي تمثيل هذا؟! بل هو خداع وتضليل. ثمّ يجعلون حكم الله محكوما بهذا المسخ الذي يتمخّض عن هذه العملية التضليلية. ونظرا لكون هذه النقطة ليست أساس المناقضة وإن كانت كاشفة لعوار ادعاءات الديموقراطية, آثرت الإكتفاءبالإشار ة إليها. وانظر لللاستزادة حول الديموقراطية : حقيقة الديموقراطية لمحمد بن شاكر الشريف. رابط:
http://www.saaid.net/book/open.php?cat=83&book=2685