بسم الله الرحمن الرحيم

سبق وأن اتصلت على بعض مشايخ العقيدة الكرام، وطلبت منهم الاهتمام بالرد عدنان إبراهيم، ولكني وجدت منهم تساهلا عفا الله عنهم... فكتبت هذه المحاولة في الرد عليه وأسأل الله أن ينفع بها.


عبدالله الفيفي
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمُرسلين، أمّا بعد؛


فقد سبق أن كتبتُ ردا على الدكتور عدنان إبراهيم بهذا العنوان ( إذا جاز تحكيم العقل في فروع الدين جاز في أصوله )، وفحواه بيانٌ لاضطراب منهج العقلانيين الذين يجعلون العقل حاكمًا على النص بلسان حالهم أو مقالهم، وفي هذه الأسطر أُكمل الفكرةَ التي طرحتُها في ذلك الرّد، لأنّي أزعم بأنّها متى فُهمت جيدا فإنّها كفيلة بتقويض المنهج الكلامي العقلاني من أساسه، وبالله التوفيق.


إنّ من التهرّب أن يشتغل المرء بمُعالجة قضايا هامشية، في الوقت الذي يوجد فيه قضايا رئيسية تحتاج إلى مُعالجة، ومثّلُ من يفعل هذا كشخصٍ يُحاول إصلاح تلفيّات صغيرة في إحدى زوايا منزله، ويدَعُ إصلاح قواعد المنزل التي هي على وشك الانهيار، ولو استمرّ ذلك الشخص في إصلاح تلك الزوايا دون الالتفات إلى القواعد، فإنّه سيأتي اليوم الذي يخرُّ فيه المنزل، ويندهم بنيانه كلّه، بعُد ذلك اليوم أو قرُب.


ما أكثر من يُصدّع رؤوسنا اليوم بدعوات تحرير العقول، ونبذ التقليد، وإعمال الفِكر، واستشراف المُستقبل، وقطع الصّلة بالماضي... إلى آخر تلك العبارات التي يعرف العاقل اللبيب بأنّها مُجرّد حشو لا طائل من ورائه.


والمُعادلة المنطقية التي تغيبُ عن كثيرٍ ممّن تأسرهم تلك الشّعارات هي أنّه لا انفكاك عن التّقليد والاتّباع مهما يكُن الحال، فدُعاة التحرّر والفِكر والتنوير – زعموا – هم في الحقيقة يطرحون راياً آخر، ووجهة نظرٍ أُخرى، ويمارسون في أثناء عرضها والدّعوة إليها أساليب إقصاء وتعصّب وتحزّب مهما تظاهروا بعدمِ التخندق والاصطفاف، وهم في نهاية المَطَاف يدعون الناس إلى تقليد آرائهم واتباع أقوالهم، فمن يُصدّقهم من البُسَطاء لم يصلوا إلى هذا المستوى الدّقيق من التفكير؛ فظنّوا بأنّ الأمر على ظاهره، وما علموا أنّهم في حقيقة الأمر إنما انتقلوا من تقليد إلى تقليد، بل إنّ دُعاة التّحرّر أولئك لا يعون بأنّ هذا هو واقعُهم، وأنهم قد نصبوا أنفسهم أئمةً ليُقلّدهم النّاس ويتبعوهم، ومع ذلك تجدهم يدّعون بأنّهم أهل ذكاء وعقْل وفكر، فاعجب من هذا الجهل المُركّب!


وبناءً على ما تقدّم فإنّ مانسمعه من جرحِ عدنان إبراهيم لرجال البُخاريّ ومُسلم صباحا ومساءً يتضمّنُ بالضّرورةِ تعديلاً لنفسه، وتفضيلًا لها على أولئك الأبرار المُهتدين، وإن كان بمنطوق كلامه يردّ روايات الحُفّاظ المُحدّثين، فهو بمفهومه يُقرّر أنّ كلامه معصومٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن كان في الظّاهر يُردّد بأنْ ليس كلّ ما في البخاري ومسلم صحيح، فإنّه في الباطن يُقرّر بأنّ جميع ما في محاضراته وخُطَبه التي بثّها صحيح، والنتيحةُ هي انقلابُ جميع الأحكام التي يُصدرها عليه، لأنّه – في أحسن الأحوال - يلعبُ نفس الدور الذي ينتقده عليهم ولكنّه لا يعلم.


وإذا كان الأمر كذلك، هل يرضى العاقل الحصيف أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير! وهل يرضى من له مسكة عقل أن يعتاض عن السّابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، وأئمة الهدى والرشاد من علماء المُسلمين، بهؤلاء المُهرّجين الذين لا عقْل ولا نقْل؟ ما أظهر هذه المسألة وأبيَنَها لمن كان له قلبٌ أو ألقى السّمع وهو شهيد! وهذا فضلٌ عن كون التّقليد والاتباع عبادةٌ جاء الأمر بها في صريح النّصوص، كما في قوله – تعالى – { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }، وقوله – صلى الله عليه وسلم – (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ )، وثناء النبي – صلى الله عليه وسلم – على أهل القرون المُفضلة المُقتضي أمرَه باتّباعهم وسلوك سبيلهم.


وليت شعري من أسعد بالصواب في فهم هذا الوحي: أهمُ الذين عايشوه، وتلقّوه ابتداءً من مصادره الأولى، وشهِدوا تأويله عِلما وعملاً ممّن اختارهم الله نقَلَةً لدينه؟ أم همُ الذين جاؤوا بعد عشرات القرون يستنبطون حسب عقولٍ مُنتكسة، وقواعد مُضطربة، وأصولٍ مُتناقضة؟


وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ *** إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ


لقد نصَبَ عدنان إبراهيم العقلَ حكماً على كلّ شيء، فما قبله يُقبل وما رفضه يُرفض، وعندما رفع الفلاسفة هذا شعاراً لهم، كانوا في حقيقة الأمر صادقين مع أنفسهم، وقد بدَت كُفريّاتهم مُتفقة، وضلالاتهم مؤتلِفة، والضّلال المُنسجم مع بعضه، والمُطّرد في قواعده، أهدى من الضلال المُتعاكس. فعندما رضي الفلاسفةُ بالعقل حكماً؛ أنكروا وجود الرّب، وكفروا بالرّسل، وجحدوا البعث والنّشور، لأّنّ جميع تلك الحقائق لم تستسغها قواعدهم العقلية، كما أنّهم سلكوا منهجاً عِلميا في تناول القضايا، فبدؤوا بالقواعد والأصول، ثُمّ التفتوا إلى الفروع.


وأمّا عدنان إبراهيم فهو يذهب إلى جزئيّات فرعيّة، ثُمّ يُطبّق عليها قواعده المنطقية، فيردّ ما شاء ويقبل ما شاء. وإليك – أخي الكريم – منهجيّه مُحكمة للرد على هؤلاء المُتكلمين ومن هو على شاكلتهم من العقلانيين والتنويريين.


إنّ أصول أهل الكلام المُنتسبين للإسلام في النّظر والاستدلال هي نفسُ أصول أهل الفسلفة المُلحدين، وعليه فإنّ جميع ما يُقرره أهل الإلحاد يلزم أهل الكلام، فإن التزموه استبان كُفرهم، وإن لم يلتزموه تناقضت قواعدهم، وسأحاول توضيح ذلك في النقاط الآتية إن شاء الله، ليعرف من يناقشهم كيف يهدمُ بُنيانهم من قواعده.


يعتبرُ عدنان إبراهيم أخبار المسيح الدجّال، وما تضمّنته من مُعجزات وفِتن وعجائب، إنّما هي أخبار أسطوريّة وتصوّرات "كرتونية" طفولية، لا يمكن أن يقبلها العقل العصري، وقد كان الأولى به أن ينفي يوم القيامة، لأنّ ما ورَد عن ذلك اليوم من أهوال عجيبة، وأحداث عظيمة هي – بحسب تصوّره الذي أنكر به الدجّال – أكثر غرابة وإمعانا في الأسطورية من أخبار الدجّال، كما في قوله - تعالى - { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ }، فهذه الأمور العِظام، وجميع ما ورد من أخبار يوم القيامة والجنّة والنار والصّراط والحوض، الثابت في القرآن الكريم والسنّة الصحيحة، هي أبعد عن تصور العقل "العصري" من جميع أحاديث المسيح الدجال، فلو كانت عقلانيّته مُطّرده لأنكر يوم القيامة قبل إنكاره للمسيح الدجّال.
من الدوافع التي تجعل عدنان إبراهيم يردّ الأخبار الصحيحة كونُها تشوّه سمعة – النبي صلى الله عليه وسلم – عند الغربيين، وقد سمعتُه يسخر بما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في بعض الأحاديث من أنّ الأرض تُخرج ذهبا أو فضة، حيث يقول عدنان – بالمعنى -: إنّ هذه الفِكرة تُعارض بدهيّات الجيولوجيا الطبيعية، إذ أنّ تلك المعادن النفيسة لا تخرج مباشرة من الأرض بلا تكرير، وفي هذا تشويه لسُمعة النبي – صلى الله عليه وسلم – عند عُلماء الأرض والطبيعة، وتجعل نبيّنا – عليه الصلاة والسلام – موضعَ سُخرية وتهكّم عند أولئك العُلماء، وقد كان الأجدر بعدنان أن يردّ بعض الآيات التي هي – حسب أصوله – تشتمل على تشويه لكتاب الله، بل فيها طعنُ صريح وجرحٌ عظيم لكلّ من هو خارج دائرة المسلمين، فإمّا أن يطمسها أو يرفضها أو يحرّف لفظها ومعانيها لكي تستقيم قواعده، ومن تلك الآيات قوله تعالى: { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية }، فهذه الآية تُصرّح بأنّ عُلماء الجيولوجيا والفيزياء والانثروبولوجيا والطّب والهندسه وغيرهم، إن لم يكونوا مسلمين فهم حطبُ جهنّم، ولن تنفعهم علومهم من الله شيئا.
فإن قُلتَ: لماذا لا يطرُد عدنان قاعدته ويطمس هذه الآية من المًصحف؟


الجواب: هو بسبب هذا المنهج "الخُنثى" الذي يقع في برزخٍ ما بين أهل السُنّة وأهل الفلسفة، فعندما يأتي الحديثُ عن أصول الإيمان يخنس أولئك المُتكلمون ولا ينبسون ببنت شفه، مع أنّ كثيراً من تلك الأصول ليس لها إجابات شافية من جهة العقل، ومنهج أهل السُنّة نحوها الإيمانُ بحِكمة الله البالغة، والاستيقان بعجْز العقل عن معرفة تلك الحِكَم، وعدم إشغال العقل – اصلاً – بتلك الأمور، والاكتفاء بما في النصوص والتسليم للدليل، وهذا السّبيل السويّ هو ما يقتضيه العقل الصّحيح، لأنّ الحِكمة وضعُ الشّيء في موضعه، ومن الحِكمة أن تُردّ أمورُ الدّين إلا النّقل أولاً لا إلى العقل، ولا يجوز للعقل إلا أن يكون تبعاً للنّقل.


من جملة الأسباب التي جعلته يُنكر المسيح الدجّال هو أنّه يستحيل في رحمة الله وحكمته – حسب فهمه – أن يُسلّط على عباده رجلاً بتلك المُعجزات العظيمة، ثم يؤاخذهم إن اتّبعوه وصدّقوه، لأنّ حالهم قد أصبح كما يقول القائل:
ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له***إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالمـــاء


وقد كان الأولى به إنكار وجود "الشيطان" لأنّ الله قد وهبه من القدُرَات على إغواء بني آدم ماهو أكثر بكثير مما عند الدجّال، بل إنّ الدجّال لن يستميل أتباعه إلا بعد إغواء الشيطان لهم، فوجود مخلوق بهذه الصّفات، ووظيفته في الوجود هي إغواءُ الناس فقط، هذا بحسب – عقل عدنان - يتنافى مع كون الله رؤوفٌ رحيمٌ لطيفٌ بالعباد، فعدنان الآن أمام خيارَين: إمّا إنكار وجود إبليس، أو إنكار رحمة الله لكي تسلَم أصوله.


يُعارض عدنان إبراهيم مبدأ الاستسلام للنص بدون تفكير، وفي نفس الوقت يريد من متابعيه الاستسلام لكلامه بدون تفكير، وهو يقصد من هذا المبدأ أنّ العقل البشري يجب أن يعرف حكمة النّص قبل الإيمان به، فنقول له أخبرنا أولاً ماهي الحكمة من وجود جهنم؟ وماهي الحكمة من تسليط الكفار على المسلمين؟ وما هي الحكمة من هذه الحروب التي تهلك الأخضر واليابس؟ فإن قال: إنّ لله حكمة عظيمة لا يُمكن أن نحيط بها من كلّ جانب... قُلنا له: هذه طريقة أهل السُنّة وليست طريقتك، ونحن إنما نريد تفسيراً منطقيّأً واضحاً يقبله العقل العصري "المُتفتّح". وستجد أنّه لن يتجاسر على إخضاع هذه الأمور لمنهجه العقلاني، ولو تجاسر لانتهى الأمر، ولكنّه سيلجأ إلى طريقة أهل السُنّة في التسليم للدليل والإيقان بوجود حكمة.
ولا يقفُ الأمر على مُجرّد قلْب حُجَجِهم عليهم، بل يُمكن ابتداءُهم بلوازم أهلِ الفلسفة طالما أنّهم مُتّفقون في الأصول، وستجد أنّهم يقعون في "حيص بيص"، فنحمد الله على نعمة الإسلام والسُنّة.


وصلى الله وسلم على نبينا محمد ؛؛؛

http://sunnahway.net/node/1535