بحث : هل تحقق نسخة المؤلف ؟
أولاً : مقدمة استهلالية :
إن الحمد لله ، نحمده تعالى ، ونستيعين به ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد إن لا إله إلَّا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
لعله لا يخفي على أحدٍ مكانةٍّ تراثنا العظيم في بناء شخصيتنا العربية في مختلف المجالات سواءً التي تتعلق بالعلوم الدينية الشرعية مثل : علم السنة النبوية ، علم الفقة وأصوله، علم الاعتقاد ، علوم اللغة العربية ، علوم التفسير ،.....الخ.
وفي المجال الدنيوي تتجلى لنا أهمية تراثنا العظيمة لمعرفة أمورٍ مهمةٍ في تاريخ تقدم الأمم وسبقها ، ويتضح لنا أن الأمة العربية الإسلامية ليست عالةً على أحدٍ ،فهي لها السبقُ في كل العلوم وأن هؤلاءِ الغربيين ما نهضوا في الحقيقة إلَّا على أكتاف العرب وثفافتهم وفضل علومهم ؟ ثم علينا جميعاً أن نتساءل : هل العرب المسلمون هم الذين استقوا حضارتهم وعلوم أمتهم في : مجال التجارة، والطب ، والفيزياء والكمياء ، والاقتصاد ، والزراعة ، والهندسة المعمارية ، .........الخ ، من هؤلاء الغربيين المدعين ذلك ، وما مدي صحة هذا الكلام من عدمه ؟ .
فعلى كلٍّ لايغيب عن ذهن أيِّ عاقلٍ فضلاً عن كونه يدعي أنه مشتغلٌ بعلم التحقيق ، مكانة هذا الكنز التراثي ، في تشكيل وتكوين ثقافات الأمم والشعوب ،بل هو الوحيد الفيصلُ والحَكَمُ عليها ، هل لها حظ السبق في مجالات العلوم أم لا ؟
هل هي من الدول المتقدمة الناهضة الواضعة للبذور الأولى لعلمٍ من العلوم ، أو ثقافةٍ من الثقافاتٍ ، أو حضارةٍ من الحضاراتِ أم لا؟ .
ولذا نجد أن العلماء منذُ القدم ، وهم يحافظون على تراثهم حفاظاً عظيماً ،وإنما كان ذلك كذلك ؛ لعلمهم المسبق في دور هذه التراثيات المسجلة في بناء الحضارات والحكم عليها من خلال القرون التالية لها في الزمن والحقبة ، وعليه أخذ العلماء والمحدِّثون وغيرهم في مختلف الفنون ، يسجلون انتاجهم العلمي ، وإبداعاتهم العلمية _ كلٌّ في مجال وتخصصه_ على الحجر وعلى الجلود ، وعلى جذور النخل ، والقراطيس ، والكواغد ، مروراً بورق البردي ثم الرَّق ثم الورق ، وكان ذلك لايتم بصورةٍ عشوائية ؛ بل كانوا يبحثون عن الأفضل والأكمل في الحفاظ على تراث أمتهم وتاريخ شعوبهم ، فهم يدركون تماماً أنهم يسجلون معالم حضاراتهم بأيديهم ، وأنهم يكتبون شهادةً منهم للعالم أجمع ، تشهد أن لهم ، حضارةٌ وتاريخٌ ووجودٌ على مدار التاريخ ، وليسوا هم عالةً على غيرهم ، بل فضائلهم على الشعوب ، واضحةَ المعالم ، والذي يشهد بذلك ، هو تراثنا العظيم ، الذي سجل لأمتنا دورها الرائد في شتي العلوم ومناحي الحياة.
ولذا أدرك أبناء هذه الحضارة العريقة _ (الحضارة العربية الإسلامية) _ عظم هذه المسؤلية تجاه تراث أمتهم ، فإخذوا في بذل الطاقة والوسع ، وما لديهم من مالٍ وعافيةٍ، وأسهروا أعينهم ، وطافوا البلدان على الأقدام ، وتجرعوا المررة على مدار التاريخ ، لكي يصونوا لنا هذا التراث العظيم ، الذي هو الركن الركين ، الذي يشهد لهم بفضلهم على الأمم ، وسبقهم عليهم ، فهل أبناءُنا بدركون ما بذله الأسلاف من أجلهم ؟!!.
ولكي يصل علماء أمتنا وناسخيها وكاتبيها ، وغيرهم من أهل العلم والفضل إلى قبة هذا الهدف النبيل، اعتنوا بالورق _ كما أسلفت الذكر_ وأخذوا في إيجاد افضل صورة منه وأجودها لكي يصون هذا الكيان المادي المخطوط ما سجلوه على مدار حقبتهم ، ليظل محفوظاً مصوناً في هذا الكيان المادي المخطوط ،حتي يصل إلى أبناء أمتهم وحضارتهم ولغتهم وثقافتهم على مدار القرون المتتالية والمتتابعةٍ لهم في أجود صورةٍ وأحسن حالةٍ فلا يشوبه عوارٍ يؤثر عليه .
ولم يتوقف اعتناءهم بالورق وفقط !! بل اعتنوا بكلِّ متعلقات الكيان المادي للمخطوط، من الحبر ونوع المداد ، وكذلك القلم الذي يسطرون به تراثهم المجيد ، والتسفير ، وغير ذلك من الأمور التي موضعها كتب دراسة تاريخ المخطوط العربي وكيانه المادي .
وكما هو معلومٌ عند المحققين ،أن المحقق إذا ما رام تحقيق نصٍ معينٍ ما ، فيجب عليه ، أن يكون لديه درايةٌ بمنازل النسخ ومراتبها ، فليس كل نسخةٍ مخطوطةٍ لنصٍ ما ، تصلح أن تكون أصلاً في إثبات النص ، بل من أبجديات علم التحقيق ولوازمة الحتمية التي ما لاينبغي على المحقق جهله ؛ هو الوقوف الكامل على جميع مخطوطات هذا النص المحقق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولا يحل له أن يتهاون في هذا الأمر _جليل الخطب، عظيم الشأن_ لأنه إن تهاون فيه ، فلن يستطيع أن يصل إلى ما يسمو إليه علم التحقيق وهو : بذل المحقق ما في الوسع والطاقة من خلال القيام ببعض العمليات الإجرائية والقواعد المنهجية عند علماء التحقيق من مقابلة النسخ ، وإثبات النص ، وتقويم النص ، إلى غير ذلك ، ليصل في النهايةِ إلى نصٍ أراده المؤلف ، أو أقرب ما يكون لما أراده المؤلف.
وبناءً عليه ؛ يقوم المحقق بترتيب النسخ المتعلقة بالنص المحَقَّق كالتالي :
· أولاً: النسخة التي كتبها المؤلف بخط يده .
· ثانياً : النسخة التي قوبلت على نسخة المؤلف .
· ثالثا : النسخة التي كتبت في عصر المؤلف .
· رابعاً : النسخة التي كتبت بعد عصر المؤلف .
ولا يتوقف الأمر عند هذا ؛ بل يقدم (المحقق) في كلِّ مرتبةٍ ما تتميز فيه النُّسخ على بعضها البعض ، فيقدم في نسخة المؤلف مبيضة الكتاب على مسودته ، وفي النسخة التي قوبلت على نسخة المؤلف يقدم التي عليها توقيع وإجازة أو التي أملاها على غيرها ، ويقدم في النسخة المكتوبةِ في عصر المؤلف، التي عليها سماعات وإجازات وتعليقات ومطالعات للعلماء ، أو المختومة والمكتوبة بخط عالمٍ متقنٍ على غيرها ، وكذلك الشأن مع النسخة المكتوبة بعد عصر المؤلف ، يقدم فيها : الأصوب والأكمل والأصح ، والمختومة ، والتي تحمل سماعات وإجازات ، وتعليقات علماء ..إلى غير ذلك، مما لا يعذر المحقق الجهل به ، وهذه من الأمور التي لا يسع المحقق جهلها ، بل هي من صميم عملية التحقيق وأركانها الركينة ، التي لا يغفل عنها إلَّا جاهلاً أحمقٍ أحمقَ من هبنقة ، أو متهورٍ متعجلٍ يتاجرُ بتراث أمته !!
فكما أسلفت الذكر عن أهمية العلم بمراتب النسخ ومنازلها ، وأن أجلَّ ما يقفُ عليه المحقق في نصِّه المحقق ، وقوفه على نسخة المؤلف التي كتبها بخط يده ، فسيكون ساعتئِذٍ من أسعد الناس بالنص المحقق ، لماذا ؟ لأنه سيهون عليه المرور بعمليات إجرائيةٍ بالغةَ الصعوبة والوعورة، لايقوى عليها إلّا من أوتي فهماً وصبراً وإخلاصاً متفانياً في خدمة تراث أمته .
وعلى الرغم من قلة حظ المحقق من الوقوف على النسخة التي كتبها المؤلف في عالم التحقيق ، إلّا أنه هناك أمورٌ تتعلق بهذه المسألةٍ_ ألا وهي لحظة الوقوف والتثبت من نسخة المؤلف_ ، سنتناولها الآن معنا في بحثنا هذا ، الذي يناقش نسخة المؤلف من حيث هل تحقق أم لا ؟ .
وسيدور بحثنا حاول النقاط التالية :
· أولاً : مفهوم نسخة المؤلف ؟
· ثانياً : مفهوم التحقيق ؟
· ثالثاً : هل تحقق نسخة المؤلف ؟
أولاً : مفهومُ نسخةِ المؤلف ؟
قال الشيخ عبد السلام هارون في كتاب (تحقيق النصوص .ص29) :
"أعلى النصوص هي المخطوطات التي وصلت إلينا حاملةً عنوان الكتابِ ، واسم مؤلفهِ ،وجميع مادةِ الكتابِ على آخر صورةٍ رسمها المؤلف وكتبها بنفسه ، أو يكون قد أشار بكتابتها ، أو أملاها ، أو أجازها ، ويكون في النسخةِ مع ذلك ما يفيد اطلاعه عليها ، أو أقراره لها " .
لعله يبدو جلياً ما قال الشيخ عبد السلام هارون في تحديد مفهوم نسخةِ المؤلف ؟
فالشيخ _رحمه الله_ يرى أن نسخة المؤلف هي المكتوبة بخط يده ، أو ما ينضم إليها من نسخةٍ أشار بكتابتها ، أو أملاها ، أو قرئت عليه ، أو قرأها هو ، أو كانت حاملةً إجازته أو توقيعه ، ويكون _ كما قال الشيخ_ في النسخة ما يفيد اطلاعه عليها أو أقراره لها .
وهذا الذي قاله الشيخ عبد السلام هارون في تعريف ماهية نسخة المؤلف ، عليه جماهير المحققين إلّا لم يكن كلهم جميعاً مجمعون على ذلك ، وأنا في بحثي في كتب عديدة ولمحققين مثل : رمضان عبد التواب في كتاب(تحقيق التراث في القديم والحديث) ، والمنجد في (قواعد التحقيق) ، وموفق بن عبدالله بن عبد القادر في كتاب( توثيق النصوص وضبطها عند المحدثين) . وبراجستراسر في كتاب( نقد النصوص) ، وغيرهم مجمعون على هذا التعريف ولا يختلفون في ذلك .
ولكن يجدر بنا هنا التنبيه على عدة امورٍ تتعلق بنسخة المؤلف ؟
على المحقق ألا يغتر بنسخةٍ كتب عليها : انتهى من فراغها فلان (أي : المؤلف) ، بل عليه أن يجرى القواعد المنهجية في الكشف عن حقيقة ذلك ، وذلك من خلال مقارنة خط المؤلف بخطة في نسخة الأخرى ، وغير ذلك من الامور المعروفة عند أهل هذا الشأن .
قال رمضان عبد التواب في كتاب تحقيق النصوص(ص74) :
"قال ينبغي التفطن إلى أن بعض الناسخين قد تذهب به الغفلة أحياناً ، إلى نقل عبارة المؤلف في اخر الكتاب : (وكتبه فلان) أي : المؤلف ، ولا ينبه الناسخ إلى ما يفيد أنه ناقل لعبارة المؤلف بنصِّها ، من نسخة الأصل ، التي كتب منها ، فيظن المحقق ومن يقف عليها بسبب هذه العبارة أنه ظفر بنسخة المؤلف وليس كذلك !!".
· ثانياً : ما يتعلق بإبرازات نسخة المؤلف :
قال الدكتور محمود المصري (مذكرة منازل النسخ) :
1-نختار النسخة التي أبرزها المؤلف مؤخراً دون التي قبلها .
2- نختار التي أبرزها المؤلف دون التي أبرزت بعد وفاته .
3- نختار النسخة المسهبة دون المختصرة ، والأكمل دون الأنقص.
4- نختار النسخة التي عليها تصحيحات على التي ليس كذلك .
· ثالثاً :مبيضة المؤلف ومسودتة للنص:
تقدم مبيضة المؤلف على مسودتة في إثبات النص ، وتكون هي الأصل .
قال الدكتور رمضان عبد التواب في كتاب (تحقيق النصوص ص74) :
"والمسودة : هي المحاولة الأولى لكتابة نصٍّ ما ، قبل أن يخرج في صيغته النهائية.
والمبيضة : ما نسخ من المسودة مهذباً منقحاً، محرراً العبارة ، ومخلصاً من الأخطاء.
وتعرف المسودة بكثرة الضرب والتغيير ، واكتظاظ الحواشي، والإلحاقات ، على حين أن المبيضة تكون خالية من ذلك، أو لايقع فيها إلَّا قليلاً.
ومسودة المؤلف ، إذا ورد ما يفيد أنه تركها كذلك ، أو لم يبيضها ، أو بيضها ، ولكن المبيضة فقدت ، فإن المسودة تحلُّ محلها ، في جعلها أصلاً للنسخ ، أما إذا وجدت المبيضة ، فيكون دور المسودة ثانوياً معها " .
ثانياً : مفهوم التحقيق :
قال الدكتور عبد المجيد دياب في كتاب تحقيق التراث العربي (ص132) :
"التحقيق في عرف أهل العلم : إثبات المسألة بالدليل .
وأحق الأمر : أوجبه وصيره حقاً لايشك فيه . ومحقق : أي :محكم يقال : (كلامٌ محققٌ) أي : محكم منظم .
وحقَّ الأمر يحقُ _ بكسر الحاء وضمها في المضارع_ حقاً: أي ثبت ووجب.
وأحق الله الحق : أي أظهره وأثبته للناس .
والحق : هو الثابت الصحيح ، وهو ضد الباطل. هذا من ناحية المعني اللُّغوي للفظ التحقيق .
أما المعني الإصطلاحي : "بذل الجهد واستقصاء البحث بغية الوصول إلى حقيقة ما قاله مؤلف النص.
وقال الدكتور رمضان عبد التواب في كتاب تحقيق النصوص (ص 7) :
" وتحقيق المخطوطات والكتب : هو إخراجها للناس، وتيسيرها للاستفادة منها ، في الصورة التي أرادها لها مؤلفوها ،أو أقرب ما تكون إلى ذلك ، ولا يدرك ذلك إلَّا بعناءٍ وصبرٍ وتمحيص " .
وقال عبد السلام هارون في كتاب تحقيق النصوص ونشرها :
"ومعناه أن يؤدي الكتاب أداءاً صادقاً، كما وضعه مؤلفه كمَّاً وكيفاً، بقدر الإمكان، فليس معنى تحقيق أن نلتمس للإسلوب النازل أسلوباً أعلى منه ، أو نُحِلَّ كلمةً صحيحةً محل أخرى صحيحةً ، بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها ، أو أجمل ، أو أو أوفق، أو ينسب صاحب الكتاب نصَّاً من النصوص إلى قائلٍ وهو مخطئ في هذه النسبةِ، فيبدل المحقق ذلك خطأً ، ويحل محله الصواب ، أو أن يخطئ في عبارةٍ خطأً نحوياً دقيقاً ، فيصحح خطأه في ذلك ، أو أن يؤخر عباراته إيجازاً مخلاً فيبسط المحقق عبارته بما يدفعُ الإخلال، أو أن يخطئ المؤلف في ذكر عَلَمٍ من الأعلام ، فيأتي به المحقق على صوابه "
ثم قال :" ليس تحقيق المتنِ تحسيناً أو تصحيحاً ، وإنما هو أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ ، فإن متن الكتاب حكم على المؤلف ، وحكم على عصره وبيئته ، وهي اعتبارات تاريخيةٌ لها حرمتها ، كما أن ذلك الضرب من التصرف عدوانٌ على حقِّ المؤلف الذي له وحده حق التبديل والتغيير.
وإذا كان المحقق موسوماً بصفة الجرأةِ ، فأجدر به أن يتنحى عن مثل هذا العمل، وليدعه لغيره ممن هو موسومٌ بالإشفاق والحذر .
إن التحقيق نتاجٌ خُلُقي ، لا يقوى عليه إلَّا من وهب خلتين شديدتين: الأمانةَ والصبر ، وهما ما هما ؟!".
وقال العلامة أحمد محمد شاكر _ رحمه الله _ في مقدمة تحقيقه (سنن الترمذي ) (1/16-19) :
" تصحيح الكتب وتحقيقها من أشق الأعمال وأكبرِها تبعة ، ولقد صور أبو عمرو الجاحظ ذلك أقوى تصوير ، في كتاب "الحيوان" فقال
: "ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفاً ، أو كلمة ساقطة ، فيكون إنشاء عشر ورقات من حُرِّ اللفظ وشريف المعاني : أيسر عليه من إتمام ذلك النقص ، حتى يرده إلى موضعه من أمثلة الكلام ، فكيف يطيق ذلك المعارِض المستأجَر ، والحكيم نفسه قد أعجزه هذا البابُ! وأعجب من ذلك أنه يأخذ بأمرين : قد أصلح الفاسدَ وزاد الصالحَ صلاحاً ، ثم يصير هذا الكتابُ بعد ذلك نسخةً لإنسان آخرَ ، فيسير فيه الوراق الثاني سيرة الوراق الأول ، ولا يزال الكتاب تتداوله الأيدي الجانية ، والأعراض المفسدة ، حتى يصير غلطاً صِرفاً ، وكذباً مصمتاً ، فما ظنكم بكتاب تتعاقبه المترجمون بالإفساد ، وتتعاوره الخُطّاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله ، كتابٍ متقادم الميلاد ، دُهْريِّ الصنعة! " .
ثالثاً : هل تحقق نسخة المؤلف ؟
لقد سبق معنا بيان مفهوم نسخة المؤلف ، وقلنا : أن نسخة المؤلفِ هي : النسخة التي كتبها بخط يده ، أو أملاها ، أو قرأها ، أو قرئت عليه ،أو تحمل توقيعه ، أو أجازته ، فكل هذا يدخل عند جماهير المحققين ضمن نسخة المؤلف .
والسؤال الذي يطرح نفسه في ميدان هذا العلم المبارك( علم التحقيق) ، هل تحققُ نسخةُ المؤلفِ أم لا ؟.
ومعنى ذلك : هل يحقق للمحقق أن يكتبَ على صفحة الغلاف : حققها فلانٌ بن فلانٍِ أم لا؟
وهل لو فعل المنعوت بالمحقق ذلك ، هل يعدُّ صنيعه هذا مخالفاً لمعنى التحقيق لفظاً ومعنىً أم لا ؟
لقد اختلف أهل التحقيقِ في هذه المسألة (تحقيق نسخة المؤلف) على قولين :
القول الأول : يرى أن نسخة المؤلف لا تحقق ، معللين قولهم ذلك : بأن هذا يتنافي مع معني التحقيق قلباً وقالباً ؟!!
فالتحقيق هو : أن يودي المحقق الكتاب أداءاً صادقاً ، كما وضعه مؤلفه كمَّاً وكيفاً بقدر الإمكان. فكيف يسمى هذا تحقيقاً وهو يتنافي مع معنى التحقيق ومغزاه ؟! .
ومفهوم تعليلهم : أنه مادام المحقق وقعت عينه على نسخة المؤلف وتحقق من ذلك ، فليس عليه إلَّا أن ينشرها وفقط ، ويكتب على صفحة الغلاف : قام على نشرها فلان ، أو بعناية فلان ، أو بإشراف فلان .....وهكذا .
ويرون أنه لا معنى من ناحية الإصطلاح بعد وقوف المحقق على نسخة المؤلف التي كتبها بخط يده أو تقوم مقامها ، أن يكتب المحقق عليها : حقَّقها فلانٌ بن فلانٍ ، وإن هذا يتنافي معى معنى التحقيق وغرضة والذي هو : أخراج الكتاب الكتاب من خلال جمع النسخ ،والمقارنة بينها ، وإثبات الفروق للوصول في النهاية إلى نصِّ أراده المؤلف ، أو أقرب ما يكون لما أراده المؤلف، فإذا وصل إلى ذلك من غير جهدٍ ، فحينئذٍ لا تحقيق ، وإنما يسمى نشر عمله هذا ( أي المحقق :قام على نشرها فلان الفلاني،....إلخ .
وهذا القول فيما يبدو لي ليس إلَّا قول بعض المشتغلين بعلم التحقيق قديماً أو حديثاً ، أم جماهير المحققين يقولون بالقول الثاني الذي سيأتي معنا الآن .
وممَّن يقولون بهذا القول ويذهبون إليه : الدكتور أيمن فؤاد سيد ، فلقد أخبرنا أنه لا أنَّه لا تحقق نسخة المؤلف ، ولا يحلُّ للمحقق أن يكتب على صفحة الغلاف : حقَّقا فلانٌ بن فلانٍ ، بل عليه أن يكتب : نشرها فلان ، أو قام على نشرها فلان .
وعلَّلَ الدكتور قوله هذا : بأن ذلك ينتافي تماماً معى معنى التحقيق لفظاً ومعنىً ، وأن التحقيق : هو جمع النسخ للوصل إلى النصِّ الذي أراده المؤلف ، أو أقربُ ما يكونُ إلى ذلك ، فإذا كان ذلك كذلك؛ أي : وقف المحقق على النصِّ أو الدستور الذي كتبه المؤلف ، فحينها لا تحقيق، لأنه وصل إلى نسخة المؤلف (الدستور) التي كتبها بخط يده ، إذاً النصّ تحت يده ، فليس مطلوباً منه : أن يقابل نسخاً ، ويرتبها ، ويحصيها عدداً ، ويعلم منازلها ، ....إلى غير ذلك من أمور التحقيق المعروفة ، بل عليه أن يقوم بنشرها ، وأن ما يقوم به المحقق خلاف ذلك ( إي : إخراج نصِّ المؤلف) ، من صنع حواشي أو تعليقاتٍ ، أو تقويمٍ ، أو نقد البنية المعلوماتية للمؤلف ، والكشف عن الأعلام ، وتحريج الأحاديث ، وعزو الأقوال والنقول إلى مصادرها ، وتشكيل النصِّ وضبطه وإعجامه ، وعمل مقدمةٍ بين يدي النصِّ توضح موضوع الكتاب ، ومنهج مؤلفه ، والترجمة له ، وصنع الفهارس والكشافات ، إلى غير ذلك من مكملات التحقيق، ليس له علاقة بمعنى التحقيق لفظاً ومعنى ، إذ التحقيقُ هو : إخراج نص المؤلف ، وها هو قد وقف عليها ، إذا فلا تحقيق .
ولعلَّ الدكتور أيمن يتبنى أراء بعض المستشرقين والغربيين في ذلك ، فهم أصحاب هذا القول في الحقيقة ، وهم أول من نطق بهذا القول ، والذي كما قلنا خلاف ما عليه جماهير المحققين من العرب . وكلُّ من قال به ، فهو عالةً على موائد هؤلاء المستشرقين المحققين ، فيما يروون ويذهبون إليه من قول ، ولعلَّ السببُ في ذلك هو : تأثرُ كثيرٌ منهم ( أي : أصحاب هذا القول من أبناء العربية ) بما كتبه هؤلاء المستشرقين والغربين في علم التحقيق .
ولقد تناقض الدكتور أيمن تناقضاً بيناً، عند إخراجه مسودة كتاب( المواعظ والاعتبار) للمقريزي مستقلةً عن النصِّ النهائي الذي لم نقف عليه بخط المؤلف، فعلى الرغم من أنه زعم أنه وقف على المسودة التي بخط المؤلف ، إلَّا أنه كتب على صفحة الغلاف : حقَّقها وكتب مقدمتها ووضع فهارسها : أيمن فؤاد سيد !!! ، فبان جلياً تناقضه الواضح بين فعله مع المسودة ، التي هي بخط المؤلف ، وبين قوله فيما يفعله المحقق مع نسخة المؤلف إذا وقف عليها ، فهناك يرى أنه لا يحل له أن يقول : حققها فلانٌ بن فلانٍ ، وها هو هنا ، يقع فيما نهى عنه من قبل ، ويكتب على صفحة عنوانِ نصٍّ مكتوبٍ بخطٍ مؤلفه : حققها فلان الفلاني ( أيّ : هو) !!.
القول الثاني : وهو يري تحقيق نسخة المؤلفِ ، وهؤلاءِ _ كما أسلفت _ هم الغالبية العظمي من أعلام المحققين ، من أمثال : عبد السلام هارون ، والعلامة أحمد محمد شاكر ، ومحمود محمد شاكر ، ورمضان عبد التواب ، والدكتور عبد المجيد دياب ، والدكتور محمود المصري ، وبراجستراسر ، والدكتور فيصل الحفيان ،وغيرهم كثير، ممن يروا أن نسخة المحقق تحقق .
ثم لماذا تحققُ نسخةُ المؤلف ؟
تحَقَّقُ نسخة المؤلف طبقاً لماهية التحقيق قلباً وقالباً _ ليس كما فهم أصحاب القولِ الأولِ_ وذلك ؛ لأن التحقيق ليس فقط مقابلة النسخ ، والذين عرفوا علم التحقيق وماهيته ، لم ينصُّوا في تعريفاتهم له أنَّهُ مقابلة النسخ للوصول إلى أصحِّ نصًٍما ، بل عرفوا التحقيق أنه عملية بذل الجهد والطاقة ، واستقصاءٍ في البحث ، للوصول نصِّ المؤلف ، أو أقرب ما يكون إلى نصِّ المؤلف، وهذا ما ذكرة الدكتور عبد المجيد دياب في كتاب (تحقيق التراث العربي) ، وكذلك عرف الشيخ عبد السلام هارون التحقيق بأنه : أن يؤدي الكتاب[أي :المحقق] أداءاً صادقاً، كما وضعه مؤلفه كمَّاً وكيفاً بقدر الإمكان.
وقال الدكتور محمود المصري(منازل النسخ) :
"وقولنا التحقيق على نسخة المؤلف قولٌ صحيحٌ ، لأن عملية التحقيق لا تتوقف على وجود المقابلةِ ، فالتحقيقُ كما هو معلومٌ :إثباتٌ ، وتقويمٌ ، وإحكامٌ للنصِّ ، أيّ : توثيق وتصحيح وتقريب له ، وقد قوَّم الدكتور حسين نصار محقق كتاب"النجوم الزاهرة" لأبي سعيدٍ المغربي ، كثيراً من ألفاظ المخطوط ، مع أن النسخة بخط المؤلف .
وهذا القول يميل إليه الدكتور فيصل الحفيان ، حيث أخبرنا بذلك في إحدى محاضراته عن قواعد التحقيق ، بمعهد المخطوط بالقاهرة ، ويرى أن هذا القول أصحُّ القولين ، لما يقوية من معنى التحقيق لفظاً ومعناً ، والتطبيق العملي ،
لأعلام التحقيق من أهل العربية .لذا هو يسير على دربهم ، وينهجو نهجهم ، ويحذو حذوهم في هذه المسألة .
هذا ، وأيضاً نصَّ الدكتور بشار عواد في كتاب (ضبط النصِّ والتعليق عليه ص7) على ذلك فقال :
"يحتل ضبط النصِّ والتعليق عليه ،أهمية عظيمة في علم تحقيق المخطوطات العربية ، ويثير كثيراً من الإختلاف والجدل بين المعنين بهذا الفن الجليل ، فمنذ أن بدأ العرب يعنون بتحقيق المخطوطات العربية ونشرها ، ظهر رأيان متضاربان حول الطريقة التي ينبغي ابتاعها عند نشر التراث العربي ، الأول : يرى الاقتصار على إخراج النصِّ مصححاً مجرداً من كلِّ تعليق . والثاني : يرى أن الواجب يقضي توضيح النصِّ بالهوامش والتعليقات ، وإثبات الاختلافات بين النسخ ، والتعريف بالإعلام ، وشرح ما يحتاج إلى شرحٍ وتوضيح.
وأقام الفريق الأول رأيه على أن الغاية من التحقيق هي إخراج ما يسمى بــــ(النصِّ الصحيح)، فلا حاجة بعد ذلك إلى إثقاله بالهوامش والتعليقات ، وقد أخذت به كثرةٌ كاثرةٌ من المستشرقين ، ومن سار على نهجهم من العرب .
وارتأى الفريق الثاني أن طبع النصِّ مجرداً؛ هو تحريفٌ لطبيعة البحث العلمي واستقامته باعتبار (أن الأصل في إخراج النصِّ، أن المحقق فيه وفيما حوله ، وأن يكشف اثاراثه ، وان يُبين عن إشارته ، وأن يدل على المنازع التي صدر عنها ،ومثل هذا الجهد الذي لابد منه في التحقيق ، لا بد منه بعد ذلك في الدراسة .
ثم ذكر بشارٌ كلمةً رائعةً فقال :
"فمن الخير إذاً أن يندمج هذان الجهدان معاً ، فيتولى محققو النصوص بالذات عمليات الشروح الأولى هذه ، لكي تصبح جاهزةً للبحث الأدبي الصرف ، أو للبحث التأريخي الصرف ، أو لهما معاً فيتجلى مضيئةً من غير عتمةٍ ، نيِّرةٍ من غير ليسٍ ، مخدومة خدمة محررة ، تتيح للباحث أن ينطلق بعد ذلك عنها ، دون أن يضطر إلى معاودة الجهد الذي بذله المحققون " أحال الدكتور بشار بعد نقله لهذا الكلام ـإلى مقدمة شكري فيصل لكتاب الخريدة .
ثم ذكر بشارٌ قائلاً :
"وقد بالغ بعض المتعانين لهذا الفن ، فأثقلوا هوامش الكتب التي عنوا بنشرها بتعليقاتٍ وتعاريف لا مبرر لها ولا مسوغ ، كأنهم يريدون توبلة الكتاب بها ، تاركين خلفهم الصعب المبهم ، الذي هو بالتعليق خليق ، حتى بلغ الأمر ببعضهم ، أن عرَّف بأعلام الناس ، كأبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلى ومالك والشافعي ونحوهم ، وعرف بمشاهير المواضع والبلدان ، مثل : دمشق ، وحلب ، ........ كما أن بعضهم كرر التعريف بالعلم المشهور في أكثر من موضعِ ، فأخرجوا التحقيق الدقيق عن طيقه القويم ".
ثم قال بشار :" ومع كلِّ الذي ذكرت فالحقُّ : إن نشر النصِّ مجرداً من كلِّ مراجعةٍ وتعليقٍ ، لا يصلح لتحقيق المخطوطات العربية من عدةٍ وجوه ، أبرزها :
1. ندرة النُّسخ الخطية الصحيحة المتقنة السليمة الخالية من التصحيف والتحريف ، وإن أغلب المخطوطات العربية كثيرة التصحيف والتحريف والسقط ونحو ذلك ، مما هو معروفٌ عند أهل المعرفة به .
2. والغالبية العظمي من المخطوطات لم تصل إلينا بخطوط مؤلفيها ، بل بخطوط نساخٍ فيهم الجاهل والعالم ، فتعرَّض كثيرٌ منها إلى التغيير والتبديل والتحريف ، بحيث يؤدي نشرها على ماهي عليه إلى أخطارٍ علميةٍ وتربوية لأن القراء ليسواد دائماً من المتخصصين المتعمقين في العلم الذي يتناوله النصُّ ، فضلاً عن أن إخراجها بهذا الشكل ينفي بطبيعته مصطلح ( النصَّ الصحيح).
3. إن جمهرة المؤلفين والنُّساخ ، لم يعنوا بالإعجام ووضع الحركات الموضحة للنصِّ ،بل ندر ذلك عندهم ، وكانوا يعتمدون على ما للقارئ من معرفة في موضوع الكتاب ، لذلك يصبح نشر مثل هذه الكتب بحالتها التي هي عليها لايتعدي في أكثر الأحايين ؛ توفير نسخ خطية _ قد تكون محرَّفة مصحفة مبهمة_ من الكتاب ، وهو أمرٌ ما أبعده عن التحقيق الدقيق.
4. افتقار المؤلفين والنساخ إلى وحدةٍ كتابيةٍ ، مما يؤدي إلى تباين كبيرٍ في رسم الكلم ، واستخدام كثير من الصيغ الكتابية غير المغروفة ، عند أهل عصرنا ، كما سننبه بعد قليل"
ثم قال بشار بعد ذلك : "ولكن إذا كان الأمر كما بيَّنا ، والحال على ما ذكرنا ، فما هي السبل الصحيحة لضبط النص ، ومتى يقوم المحقق بالتعليق عليه ؟
إننا نعتقد أن ضبط النصِّ والتعليق عليه أمران متلازمان ، فالغاية من التعليق ، يجب أن تتجه نحو خدمة النصِّ وتوضحيه ، ودفع كل إيهامٍ عنه ، ورفع كل غموضٍ وإبهامٍ فيه ، ولا يتأتي ذلك فيما نرى إلَّا بالعناية التامة بجملة أمورٍ نوجزها بما بأتي :
[وأنا (أبو عاصم ] سأوجز ما أورده بشارٌ في رؤوسِ أقلامٍ كالتالي :
أولاً : تنظيم مادة النصِّ.
ثانياً :ضرورة التعليل عند الترجيح.
ثالثاً : توحيد الانتساخ .
رابعاً : تقييد النصِّ بالحركات .
خامساً : التعريف بالمبهم المغمور وترك المشهور .
سادساً : التخريج .
سابعاً : نقد النصِّ .
ثم ختم بشار كلمته بقولٍ فصلٍ ، يفرق فيه بين كلمة التحقيق والنشرة والتعليق، قال :
"يتضح للقارئ مما قدمنا أن الخلط بين (التحقيق) و(التعليق) هو الذي خلق بلبلةً كبيرةً في طرق المحققين ، واختلافاً بيناً في مناهجهم بسبب عدم اتضاح المفهومين عند الكثرة الكاثرة منهم . .....
ومن هنا يمكننا تحديد التعليقات التي ترمي إلى ضبط النص وتحقيقه بما بأتي :
1. تنظيم مادة النصِّ، ورسمه بما هو متعارفٌ عليه في عصرنا ، بما يظهر معانيه ويوضح دلالاته .
2. التعليق بما يفيد تقييد النصِّ بالحركات _ والتقييد بالحروف عند الضرورة_ لإظهار المعاني الصحيحة ، ودفع الإيهام والإبهام الذي قد يقعُ فيه القارئ ، ورفع أي اشتباه عنه .
3. تثبيت الاختلافات المهمة بين النسخ بعد ترجيح الصواب والتعليق الذي يرمز إلى بيان الأسباب التي تم بموجبها هذا الترجيح .
4. الإشارة إلى الموارد التي اعتمدها مؤلف النصِّ ، بعد الرجوع إليها سواءً أكان قد صرَّح بها أم أغفل التصريح ، وتأكد لنا اعتماده عليها ، والعناية بإثبات الاختلافات بين تلك الموارد والأصول ، وبين ما دونه في النص نقلاً منها .
5. متابعة النقول التي اقتبسها منه المؤلفون الذين جاءوا بعده ، وتثبيت مواضعها ، وتوضيح أي اختلافٍ بينها ، وبين النص الذي يعني المحقق بتحقيقه ، وآية ذلك أن مثل هذه النقول تعد في حقيقتها جزءاً من نسخٍ أخرى من النص ، وهي تزيده توثيقاً وقوة .
هذه هي أبرز الأمور التي يتعين على المحقق العناية بها ، عنايةً بالغةً ، وأما أي نقصٍ فيها أو إهمالٍ لها ، يؤدي بلا ريب إلى نقصٍ في (التحقيق) العلمي ويخرجه عن مساره الصحيح ، ويبتعد عنه ، كلما قصرنا في جانب منه ، حتي يصبح (نشراً) لا (تحقيقاً).
وفي النهاية نستطيعُ =بعد استعرضنا لأقوال الفريقين وتعليلاتهم فيما يتعلق بنسخة المؤلف ، =أن نقول: أن القول القائل بتحقيق نسخة المؤلف ، هو القول الصواب ، وإن القول القائل بخلاف ذلك ، قولٌ خطأٌ ، وإنما كان ذلك كذلك ، لضعف أدلة القائلين بعدم تحقيق نسخة المؤلف ، ولتناقض بعضهم أحياناً ، وكما مرَّ معنا أنهم بنوا اعتراضاتهم على إدلةٍ ضعيفة ، تدور كلها في معنى التحقيق وماهيته ، واتَّضح معنا أن هؤلاء لم يستوعبوا معني التحقيق بمعناه الشامل والعام عند واضعيه (خاصةً من أبناء العربية) ، وإن ما ذهبوا إليه ، إنما هو كان نتيجةٌ لمقدمةٍ فاسدة ، وهذه المقدمة : هي أن التحقيق : هو مقابلة النسخ ...... ، ثم عندما عدنا لأقوال العلماء المحققين ، والذين عرَّفوا معنى التحقيق وماهيته ، مثل : الشيخ عبد السلام هارون ، والدكتور : عبد المجيد دياب ، وبشار عواد ، ورمضان عبد التواب ، لم نجد واحدٌ منهم عرَّف التحقيق بأنه : مقابلة النسخ وفقط ، بل هو عندهم ، من لوازم التحقيق وأركانه الركينة ، وليس يعادل لفظ التحقيق تماماً بتمامٍ .
التوصيات :
1. نوصي بعد هذه الرحلة البسيطة الممتعة في هذا البحث ، أن يكون هناك دراسة ٌ قوامها التتبع والاستقراء لما كتبه المحققون العرب ، والمستشرقون الغرب وغيرهم ، نحو هذا الموضو ع شديد الأهمية (تحقيق نسخة المؤلف).
2. نوصي القائمون بالدراسة بمعهد المخطوطات بالقاهرة ، أن يقوموا بعملية استقصاءٍ شاملةٍ ووافيةٍ ، لكلِّ المخطوطات العربية في مختلف الفنون ، بحثاً عن النصوص التي صحَّت فيها نسخةُ المؤلف ، مع تناولها بالدراسة والبحث ، وعمل كشافات لها ، وعن أماكنها في جميع مكتبات العالم .
3. نوصي القائمون بالدراسة بمعهد المخطوطات بالقاهرة ، بتدعيم الجانب التطبيقي العملي لعلم التحقيق ، وذلك من خلال تكوين ورش عملٍ ، يقوم فيها الجهابذة من محققي المعهد وأساتذته بتنزيل ما هو مسطور في الكتب ، ومنطوقٌ بالألسن على أرضية الواقع ، حتي يلتقي التكامل العلمي والعملي في نقطة واحدة .
4. نوصي علماءنا وأساتذتنا بمعهد المخطوطات بالقاهرة ، أن يخرجوا لطلبتهم المسائل التي تتعلق بعلم التحقيق ، والتي هي في حاجةٍ إلى تحرير علمي دقيق ،فيتدربوا عليها ، حيث إنه هناك كثيرٌ من المسائل ، والتي هي بالإهمية بمكان في علم التحقيق ،مثل مسألة البحث الذي كان معنا (تحقيق نسخة المؤلف بين النفي والإثبات) ، تحتاج إلى تحرير علمي ،قائمٌ على التتبع والاستقراء الدقيق ، للخروج بنتائج تساهم في علمية تطوبر مناهج التحقيق ، وتخرج من دائرة الجمهود إلى دائرة الاجتهاد القائم على إعمال العقل مع احترام وتوقير ما سجلته أقلام العلماء المحققين في الكتب .
المصادر والمراجع :
1. تحقيق النصوص. عبد السلام هارون . ط: الخانجي بالقاهرة .
2. مناهج تحقيق التراث بين القديم والحديث . رمضان عبد التواب . ط الأولى : الخانجي.
3. ضبط النصِّ والتعليق عليه . بشار عواد معروف . ط : الرسالة بيروت .
4. معايير النسخ ومنازلها . محمود المصري . مذكرة .
5. أصول نقد النصوص ونشرها . براجستراسر . ط : دار الكتب بالقاهرة .
6. تحقيق التراث العربي منهجة وتطوره . عبد المجيد دياب . ط:دار المعارف .
7. مقدمة تحقيق سنن الترمذي . أحمد شاكر . ط : الحلبي .