بسم الله الرحمن الرحيمهذا بحثٌ مختصر ، في مسألةٍ مهمة ، ألا وهي شرع من قبلنا هل هو شرعٌ لنا أم لا ، وهذا البحث ، إنما كان ضمن كتاب كبير أعمل عليه ، فآليتُ أن نقلته هنا للفائدة .
اختلف العلماءُ في صحة الاحتجاج بشرعِ مَن قبلنا ، على أقوال أشهرها قولين :
* القول الأوَّل : قول جمهور علماء الأمَّة ، وهو أنَّ شرع مَن قبلنا شرعٌ لنا إلاَّ ما نُسِخَ مِنه ، وهذا قول الحنفيَّة والمشهور عند المالكيَّة والشافعيَّة ، ورواية عن الإمام أحمد ، قال أبو المعالي الجويني رحمه الله : (وللشافعي ميلٌ إلى هذا وبنى عليه أصلاً مِن أصولهِ في كتاب الأطعمة ، وتابعهُ معظم أصحابه) انتهى [كتاب البرهان ج1/ص174] .
واستند الجمهور إلى أدلَّةٍ كثيرة ، أبرزها :
(1) الدليلُ الأوَّل : قــولــه تــعــالى : {أولــئــك الذين هدى الله فبهداهم اقــتــده} [سورة الأنعام 90] ، ووجه الدِّلالة : أنَّ الله جل ذكره أمرَ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم ، وهذا يقتضي أنَّ شرعهم شرعٌ له .
(2) الدليلُ الثاني : قــولــه تعالى : {شرع لكم مِن الدين ما وصَّى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [سورة الشورى 13] ، ووجه الدِّلالة : أنَّ "مِن" في قوله {مِن الدين} للتبعيض ، فدلَّ على أنَّ الله شرعَ لنا أحكامًا كان قد شـــرعها لمن قـــبلـــنــا . والدين اســمٌ لكل ما يُـــدان الله به ، فتدخل كل الأحكام في ذلك ، سواءٌ كانت الأصول أم الفروع .
(3) الدليلُ الثالث : قوله تعالى : {ثم أوحينا إليك أن اتَّبع ملة إبراهيم حنيفًا} [سورة النحل 123] ، وقوله تعالى : {قل إنَّني هداني ربي إلى صراطٍ مستــقيم ديــنًـا قــيِّـــمًا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان مِن المشركين} [سورة الأنعام 161] . وهذا نصٌّ في اتباع ملة إبراهيم ، والملة هي الدين ، وتشمل الأصول والفروع .
(4) الدليلُ الرابع : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَجَعَ إلى التوراة في رجم الزانيين مِن اليهود [أخرجهُ مالك في الموطأ برقم (2374) ، والبخاري برقم (6841) ، ومسلم برقم (1699)] .
واعتُرِضَ على هذا الاستدلال : بأنَّ رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوراة ، لم يكن لأخذ الحكمِ مِنهم ، بل تحقيقًا لكذبهم وإلزامًا لهم بما في كتابهم ، كما وَرَدَ في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّه قال : إنَّ اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنَّ رجلاً مِنهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تجدون في التوراة في شأنِ الرجم ؟" ، فقالوا : نفضحهم ويُجلدون ، فقال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إنَّ فيها الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفَع يدهُ فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد ، فيها آية الرجم ، فأمرَ بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِمَا ، فرأيتُ الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة .
وأُجيب على هذا الاعتراض : بأنَّ بيان كذبهم وإلزامهم بما في كتابهم لا ينفي كونه قد حكمَ به ، وصار شرعًا له .
* القول الثاني : أنَّ شرع مَن قبلنا ليس شرعًا لنا ، وهذا القول رواية عند الحنابلة ، واختاره بعض الشافعية ، وابن جرير الطبري رحمه الله .
واستدلوا بأدلَّة كثيرة ، أبرزها :
(1) الدليلُ الأوَّل : قـــولـــه تــعـــالى : {لكلٍّ جعلنا مِنكم شِرعَةً ومِنهاجًا} [سورة المائدة 48] ، قالوا : فاختص كل نبيٍّ بشريعة .
ويُجاب على هذا الاستدلال مِن وجهين :
الأوَّل : أنَّ الآية ليست نصًّا صريحًا في اختصاص كل نبيٍّ بشريعة مختلفةٍ اختلافًا تامًّا عن شرائع بقيَّة الأنبياء ، إنَّما هو محضُ إخبارٍ بأنَّ الله جعل لكل نبيٍّ بعثهُ شريعةً يحكم بها .
الثاني : أنَّنا لا نعترضُ على وجود الاختلاف بين شرائع الأنبياء ، لكنَّ ذلك الاختلاف إنَّما كان باعتبار الأكثر ، واختلاف الشرائع فيما بينها في أكثر الأحكام لا ينفي اشتراكها في بعض الأحكام ، فأمَّا ما كان منسوخًا في شرعنا فهو المقصود باختصاص شريعة مَن قبلنا بهِ .
(2) الدليلُ الثاني : قولهُ تعالى : {وآتينا موسى الكتاب وجعلناهُ هدىً لبني إسرائيل} [سورة الإسراء 2] ، قالوا : فــخـــصـــصـــ هم بهِ في قوله {هدىً لبني إسرائـــيـــل} ، فدل هذا على أنَّه لا يلزمنا العمل به .
وأُجيب على هذا الاستدلال : بأنَّ الآية لا تدل على أنَّه ليس بهدىً لغيرهم ، كقوله تعالى عن القرآن : {هدىً للمتقين} والقرآن هدىً للناس أجمع .
(3) الدليلُ الثالث : أنَّ أكثر الأنبياء عليهم السلام بُــعـــثـــوا إلى أقوامهم خاصَّةً ، ونبينا عليه الصلاة والسلام مبعوثٌ إلى الناس كافة ، كما ثبت في الصحيحين أنَّه صلى الله عليه وسلم قال : "أُعطيتُ خمسًا لم يعطهنَّ أحد قبلي" حتى قال : "وكان النبي يُبعَث إلى قومهِ خاصة وبُعثتُ إلى الناسِ عامَّة" ، [أخرجه البخاري برقم (335) ومسلم برقم (521) ، وأحمد برقم (14314)] ، والنبي عليه الصلاة والســلام أمَـــرَ الناس باتـــبـاعهِ ولم يأمر الناس بالعملِ بــشـــريــعــة مَن قبله ، كما قال تــعــالى عنه : {فاتبعوني يحببكم الله} .
وأُجيب عن هذا الدليل : بأنَّنا لا نُسلِّم أنَّ هذا الدليل يفيدُ اختصاصهُ بشريعةٍ لا يشوبها شيءٌ مِن شريعة الذين قبله .
(4) الدليلُ الرابع : ما رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه لما رأى مع عمر رضي الله عنه شيئًا مِن التوراة غضبَ وقال : "أمتهوِّكونَ فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بــيــده لقد جــئــتكم بها بــيــضاء نــقــيَّــة ، لا تــســألوهم عن شيءٍ فــيخبروكم بحقٍّ فتكذبوا به ، أو بباطلٍ فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده لو أنَّ موسى عليه السلام كان حيًّا ما وسعه إلاَّ أن يتَّبعني" [رواه أحمد (15223)] .
ووجهُ الدلالة : أنَّ في الحديث نهيٌ صريحٌ عن الأخذ بشريعة مَن قبلنا ، ولو كان جائزًا لنُقِلَ عنهُ صلى الله عليه وسلم جواز ذلك .
وأُجيبَ على هذا الاستدلال : بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يغضب لـمَّا رأى التوراة مع عمر إلاَّ لأنَّها محرَّفة ، ولم تُنقَل إلينا نقلاً موثوقًا به ، فأمَّا ما ثبتَ بطريق القرآن أو الرسول أنَّه شرعٌ لمن قبلنا فهو شرعٌ لنا قطعًا ، ما لم يرد دليلُ النسخ .
والراجح مِن الأقوال : كما يظهرُ هو القول الأوَّل ، والعلم عند الله .
ويجبُ التنبه إلى أمورٍ في هذه المسألة :
(1) أنَّ مَن قال بحجيَّة شرع مَن قبلنا ما لم يرد النسخ ، لم يذهب إلى أنَّ الرجوع إلى تلك الأحكام عن طريق كتبهم المحرفة ، بل عن طريق القرآن أو السنَّة ، وهذا ما نبَّه عليه الإمام الشوكاني رحمه الله ، لـمَّا تعرَّض لهذه المسألة ، حيث قال : (وقد فصَّل بعضهم تفصيلاً حسنًا ، فقال : إنَّه إذا بلغنا شرع مَن قبلنا على لسان الرسول أو لسان مَن أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ، ولم يكن منسوخًا ولا مخصوصًا فإنَّه شرعٌ لنا ، وممن ذكر هذا القرطبي ، ولابدَّ مِن هذا التفصيل على قول القائلين بالتعبد ، لما هو معلومٌ مِن وقوع التحريف والتبديل ، فإطلاقهم مُقيَّدٌ بهذا القيد ، ولا أظنُّ أحدًا مِنهم يأباه) انتهى [إرشاد الفحول ص785] .
(2) أنَّ مَن قال بأنَّ شرع مَن قبلنا ليس شرعًا لنا ، فهو يُـــقــرُّ بأنَّ شريعتنا وشرائع مَن قبلنا تتفق في الأصول الكليَّة وتختلف في الفروع ، وبعضهم يُعبِّر عن المتفق عليه بالتوحيد والإيمان ، والبعض الآخر يُـعبّرُ عن ذلك بأصل الدين .
كتبهُ : صالح الجبرين .
رابط المقال :
http://salehaljibreen.blogspot.com/2...blog-post.html
* * *