بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله الأمين
فإن من فضل الله الكريم، وعطائه الجسيم، أن رغَّب في بعض الطاعات، وحث على فعل الخيرات، وحدَّ لبعض ذلك من الأجور ما يُرغِّب السامع في التسابق إليها، فجاء في بعض النصوص أن من فعل كذا كان له كذا وكذا من الأجور، كمن قال: سبحان الله العظيم؛ غرست له نخلة في الجنة، ونحو ذلك في النصوص النبوية الصحيحة.
.
إلا أن من منهج الرعيل الأول من الصحابة الأخيار والتابعين الأبرار أنه لم يكن همهم وديدنهم عد الحسنات وترغيب المدعوين إلى أنكم إن فعلتم كذا من الأعمال كان لكم من الأجر ألفاً من الحسنات أو مئة ألف أو ألفاً أو ألفاً، وضرب ذلك في عدد للوصول إلى أعداد قد لا يحسن بعضنا قراءتها؛ كما هو صنيع المتأخرين وخاصة في هذا العصر.
.
والذي دعا إلى هذا ما شوهد خاصة في منتديات هذه الشبكة العالمية من كتابات بعض من كان قصده الخير إلى سلوك هذا النهج، ونقل الكتابات في ذلك، وترغيب القراء في فعل بعض أعمال الخير ودلالتهم بأن فعلها يستوجب من الحسنات ما يعجز العاد عن عده، وهذا لا يعني أن الله عز وجل الكريم المعطي لا يقدر على إعطاء العبد ذلك العدد من الحسنات، بل سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين وأجود الأجودين وعطاءه لا يقدره أحد سواه، وإنما الغرض من هذا التنبيه بأن هذه الطريقة في الدعوة مخالفة لطريقة من أمرنا باتباعهم وسلوك سبيلهم.
.
والمستقرئ لمنهج الرعيل الأول في ذلك يجد أن منهجهم هو رواية ذلك وتبليغه على ما ورد دون النظر إلى ضرب الأعداد لتصل إلى أعداد فلكية يعجز العاد في عدها كما هو الحال المشاهد.
.
ولقد كانوا رضوان الله عليهم لم يكن همهم عد الحسنات بقدر ما كان همهم في قبول الأعمال منهم،
وقد ذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله بسنده أن سائلا جاء إلى ابن عمر؛ فقال لابنه: أعطه ديناراً،
فقال له ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه،
فقال: لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة، أو صدقة درهم واحد، لم يكن غائب أحب إلى من الموت، أتدري ممن يتقبل الله؟ إنما يتقبل الله من المتقين.
وهذا الأثر مما يدل على عظيم عنايتهم واهتمامهم بإحسان العمل وهمهم بقبول أعمالهم ولو كانت حسنة واحدة، ولم يكن ديدنهم عد الحسنات، بل أعرضوا عن ذلك إلى ما هو أجدر وأنفع وهو العناية بالعمل وتخليصه من شوائب الشرك ومحبطاته.
.
وتلك العناية بالعمل هو مفهوم قوله تعالى حينما ذكر الصالحين الذين يؤتون أعمالهم وهم في خشية أن لا يتقبل منهم فقال عز اسمه: {وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ}
أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء, وهذا من باب الإشفاق والاحتياط, وهو خلاف عمل المغتر الذي همه العدُّ والتعداد كأنه قد ضمن قبول عمله.
.
وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَخَافُ أَنْ يُعَذَّبُ ؟
قَالَ: لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ.
.
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وَخَوْفُ مَنْ خَافَ مِنْ السَّلَفِ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ لِخَوْفِهِ أَنْ لَا يَكُونَ أَتَى بِالْعَمَلِ عَلَى وَجْهِهِ الْمَأْمُورِ.
وقال رحمه الله في موضع آخر: فهذه سقت الكلب - إشارة لحديث المرأة البغي التي سقت الكلب - بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلبا يغفر لها،
وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق، فعله إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه، فَغُفر له بذلك، فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص،
وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.
وليس كل من نَحَّى غصن شوك عن الطريق يغفر له.
قال الله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)
فالناس يشتركون في الهدايا والضحايا، والله لا يناله الدم المهراق ولا اللحم المأكول، والتصدق به، لكن يناله تقوى القلوب. ..،
فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها ويصغر قدرها بما في القلوب وما في القلوب يتفاضل لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله...انتهى قوله رحمه الله.
.
والمقصود هو التنبيه على العناية بإحسان العمل، لا العناية بتعداد ثوابه، وإنما كان العناية بعد الحسنات، وضبط الأعداد من طريقة أهل الابتداع، الذين خالفت طريقتهم المنهج السوي الذي كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم،
فهذا ابن مسعود رضي الله عنه ينكر على الذين اجتمعوا في المسجد ومعهم حصى يسبحون ويكبرون ويهللون بها، فقال لهم: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟
قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد،
قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء.
.
ولهذا فإن الدعوة إلى فعل الخير يقتصر على بيان ما ورد في النص الصحيح دون مجاوزة ذلك إلى ما قد يدخل في باب الابتداع المنهي عنه، وكل الخير في لزوم غرز ما عليه الأسلاف، والعلم عند الله تعالى.
.
.
المصدر: منتديات جامعة المعرفة العالمية