(5)
عندما قال لي صديقي :"هل هذه الآية في القرآن؟!"
***
اخترت في هذا المقال أن أتحدث عن قصتين واقعيتين جرتا لي، لهما مناسبة بقرب حلول شهر رمضان المبارك، جعلنا الله وإياكم فيه من عتقاء الرقاب، لا من راغمي الأنوف.أما القصة الأولى، فقبل أعوام قليلة جمعتني جلسة شبابية لطيفة مع مجموعة من المثقفين، الروائيين والقصاص منهم خاصة. وكنا نتحدث عن الأعمال الروائيّة وأهم الكتب الصادرة آنذاك، وكان الكتاب المستحوذ على اهتمامي يومئذ هو ترجمة دار المدى لرواية جيمس جويس "يوليسيس"، وهي الرواية التي يكاد يعجز قارئها عن قراءتها واستكمالها إلا بمساعدة حواشٍ لا توجد إلا في تلك الطبعة التي أصدرتها دار المدى تواً في ذلك الوقت على ما أذكر، وفي تلك الليلة حدث أمرٌ غير مجريات نظرتي إلى الثقافة والإبداع اللذين كانا شغلي الشاغل، وكانت العناية بهما هجّيراي (كما يقال).
انضممت إلى المجلس المثقف: كان في منزل واحد من هؤلاء الأصدقاء، على مبعدة يسيرة شرق شارع التخصصي (وأنا أستعير هذا التعبير من رواية لمضيفنا ذاك، فالوصف ينطبق كذلك على منزله)، ودار نقاش عن الإقبال المحتدم على الرواية وكتابتها، وأفضل الأعمال العالمية والعربية والمحليّة في ذلك.
لم تكن ليلة مقمرة، لأنها كانت في أواخر شعبان، من تلك الليالي التي تشعر فيها بأن السماء تزداد دكنة. واستشعرت ذلك الأمر أو معنى قريباً منه، وعندئذ أخطأت الخطأ الذي لا يغتفر، فيا ترى ما ذلك الخطأ؟
الخطأ أنني ذكرت الله! فقط! قلت: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله والله أكبر.
وما أن حدث ذلك حتى انفجر المجلس، إي نعم، انفجر المجلس ضحكاً بي واستهزاءً وكأنني تفوّهت بطرفة.دارت بي الأرض في لحظة كل دوراتها التي تدورها حول نفسها في العام، وتغشاني شيء كالسمادير، وراح ذهني يعمل ويستفهم: أي مشهد شبيه لهذا شهدته في حياتي؟ إنه شعور يعتري الإنسان حين يحدث له شيء غريب، ومع استغرابه منه وحدوثه له للمرة الأولى فإنه يخيل إليه أنه رآه من قبل.
وما هي إلا هنيهة وتذكرت، وعلمت السبب في حيرتي، وهو أن هذا المشهد لم أكن رأيته في الحياة الواقعية، وإنما رأيته في حياة متخيلة، أو على وجه الدقة: في مشهد متخيل، في مشهد من مشاهد المسلسلات العربية القديمة التي تمثّل قصص المشركين وكيف كانوا يستهزئون بذكر الله ويشمئزون منه.
لم أكن آنذاك أحمل التوجه الفكريّ الذي أنا عليه الآن، رغم أني تلقيت تربية دينية صارمة، أو لنقل ربما لأنني تلقيت تربية دينية صارمة، ومع ذلك فإنني لم أستلطف الأمر، ولم يضحكني، بل أثار اشمئزازي.
وكان أشد ما أثار اشمئزازي يومئذ أنهم استمروا في السخرية، حتى قال صغيرهم السفيه هازئاً بهذا اللفظ: "الأخ يسخّن لرمضان"!
أضمرتها في نفسي، وقلت: هؤلاء شباب أخذتهم السكرة الثقافية المحرضة على جميع الزندقات الممكنة، فلعلي أمهلهم حتى تنقشع سكرتهم ثم أذكرهم بذلك. ولعلي أذكر صاحب العبارة الهازئة في وقت تكون سكرته فيه قد فرغت منه، أو يكون هو قد فرغ منها.
وذلك ما حدث فعلاً، فقد ذكرته بمقولته في تلك الليلة تعليقاً على ذكري لله، فادعى أنه نسيها، والله أعلم بصدقه وبسريرته.
هذا الموقف –للحق- كان له دور كبير في تحويل بوصلتي إلى الوجهة الفكرية، وفي تحوّلي من الرغبة في دراسة الأدب والنقد إلى دراسة العقيدة والاهتمام بها، ثم إنه صدمني صدمة شديدة بالثقافة والمثقفين والأدباء، إذ إن الأمر تعدّى الاعتقاد الشخصي إلى الاستهزاء بذكر الله تعالى وتحويله إلى موقف مضحك يستقطب التندر.
تلك هي القصة الأولى، وقد جرت قبل بضعة أعوام.
وأما القصة الثانية فقد جرت لي قبل بضعة أشهر، ومضمونها قريب من هذا، لكنها جمعتني بأحد الأصدقاء الإعلاميين الذين لهم إصدارات وكتابات، ولا يخلو من خير، وهو بخلاف أولئك الأصدقاء السابقين، ممن أشهد لهم بالصلاة وفعل الخير، وحسن الخلق، وبالتواضع، وحسن المعشر، وفوق ذلك رقة هي خليقة بأن تغشى قسمات الإنسان المؤمن. لكن مع ذلك كله، لم أعدم منه موقفاً ذكرني بالموقف السابق، واستدعاني الآن ونحن على مشارف رمضان (مرة جديدة) ,لأن أكتب الحادثتين. فأما الحادثة الأخيرة فهو أن صاحبي أقبل عليّ وأنا أقتعد مقعداً ,فسألني مستغرباً: ما قصّة هذا المصحف الموجود على مكتبك؟! وكان هذا الصديق الإعلامي يعتقد أنه يمزح، ثم قال: أمر مثير للاستغراب، فلم يكن مني إلا أن قلت له: اقترب مني لكي أريك ما ذا أريد أن أصنع بالمصحف، وكنت أنوي أن أقرأ عليه بعض الآيات، فما كان منه إلا أن أشاح وأدبر مازحاً، فقرأت عليه وظهره إلي هذه الآية: "وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفوراً".
وكأنني صدمته، أو أن حالة النسيان التي أصابت صديقي في القصة الأولى أصابته هذه المرة على عجل، فقال لي: "وهل هذه الآية في القرآن"؟ قلت له نعم هي في سورة الإسراء.
فلم يكن منه إلا أن انصرف من دون أن يعقّب، ولم ألقه بعد ذلك.