موقفي من الناس (عباس محمود العقاد)
علمتني الحياة خطتين في سياستي مع الناس.. خطة أتبعها فيما يصيبني من الناس, و خطة أتبعها فيما يصيب الناس مني, فاسترحت
كثيرا من تبديد شعوري في غير طائل, و عرفت كيف يكون الاقتصاد في إنفاق ثروة الحياة.
أما خطتي فيما يصيبني من الناس, فهي أن أتناول طباعهم و أخلاقهم جملة واحدة.. و لا أفرق بينهم علي حسب اختلاف الأشخاص و
الأفراد.
كان الخلق الواحد في مبدأ الأمر يسبب لي الألم و خيبة الرجاء عشرات المرات بل مئات المرات.. و كنت في كل مرة أشعر بصدمة
المفاجأة كأنني أكتشف شيئا جديدا لم أتوقعه من قبل.
ثم تعودت مع الزمن أن أجعل للناس جميعا حسابا واحدا في رصيد المكسب و الخسارة, فهبطت الخسارة كثيرا علي الأقل.. و هذا في
ذاته مكسب معدود.
تعودت أن أجمع الأخلاق في أنواعها, و أن أضع كل نوع منها تحت عنوانه. في الناس أنانية.. في الناس صغار.. في الناس سخافة..
في الناس نقائص و غرائب.. و هكذا, و هكذا.. إلي أخر هذه المألوفات التي توارثناها نحن أبناء أدم و حواء, فليس فيها من جديد.
فإذا أصابني من الناس شيء مكدر رجعت به إلي عنوانه, فوجدته مسجلا هناك و لم يفاجئني بما لا أنتظر. في الناس أنانية.. في
الناس صغار..نعم.. نعم. و ماذا في ذلك؟ ألم تعلم هذا من قبل؟ بلي, علمته مرة بعد مرة.. فما وجه الاستغراب, و لماذا الألم و الشكوى؟
و راقبت نفسي طويلا فوضعت نفسي في القائمة.. و تعودت أن أقول لها كلما أصابها ما يكدرها: ( و أنت أيضا كذلك ). فلا محل
للحساب و العتاب.
أما خطتي فيما يصيب الناس مني, فهي أن أسأل نفسي كلما شعرت بسخطهم و انتقادهم: ( هل الأمر يعنيني؟ ) و بعبارة أخري: ( هل
يضيرني أن أفقد رضاهم؟ و هل يعيبني أن أفقده؟ ).
فإذا كان في الأمر ما يضير أو ما يعيب فالأمر يعنيني, و لابد من معالجته بما أستطيع و إلا فلا وجه للتعب و الاكتراث.
و عولت دائما علي المقياس العملي, لأن الجري وراء النظريات لا ينتهي إلي غاية.. فكنت أضع أمامي علي الدوام خمسة أو ستة من
الذين أعرفهم, و أعرف أنهم من أصحاب الحظوة عند الناس, و أن الناس لا يسخطون عليهم و لا ينتقدونهم فأتساءل: ( هل يسرك
أن تكون مثلهم, و أن تحصل علي الرضي كما حصلوا عليه؟ )
و كان جواب هذا التساؤل نافعا لي علي الدوام, لأنه يحدد لي العمل اللازم, أو يعفيني من كل عمل, و يبين لي في معظم الأحوال أن
ثروة الرضي و الثناء عملة زائفة أو عملة صحيحة علي أحسن الوجوه, و لكن الاستغناء عنها غير عسير.
و من التجارب الكثيرة في الأشخاص الذين عرفتهم حق المعرفة, تبين لي أنهم يحتالون, و يتعبون عقولهم و ضمائرهم في الاحتيال
طلبا للشهرة التي لا تهمهم لذاتها, و لكنها تهمهم لغاية يصلون إليها من ورائها.
و حمدت الله لأن تلك الغاية لا تهمني أنا, و لا تستحق عندي أن أبذل فيها أقل تعب حتى لو استطعته كل لحظة.
و كنت كمن يتمني نصيبا من المال ليشتري به شيئا, ثم علم أن الشيء لا يستحق الشراء, فاستغني عن المال و استغني عن تمنيه.
خطتان سهلتان: خطة مع الناس و هي أن أجمعهم جملة واحدة.. و خطة مع نفسي و هي أن تقصر جهودها و همومها علي ما يعنيها.
و الخطتان سهلتان كما قلت, و لكنني لا أنسى أن أقول أنهما سهلتان علي من هو مثلي, مطبوع علي العزلة و قلة الاختلاط بالناس.
و حب العزلة عادة لم أتعلمها من الحياة, بل أخذتها من أبوي الاثنين بغير تعليم.
فمن استطاع أن يتعلمهما فليتعلمهما.. إن كانت تعنيه!
.