حالة من الغليان السياسي تنتاب الشارع المصري بعد قرار الرئيس د. محمد مرسي بعودة مجلس الشعب، تمثلت في هجمة شرسة من بعض القضاة والقنوات الإعلامية الفلولية لهذا القرار، والمجلس العسكري يلتزم الحياد، أو قل إن شئت يؤجج النار في الخفاء، في حين أن الملايين من الجموع الشعبية في ميدان التحرير هبت لتأييد القرار.
وإن كان بعض المحللين يرى أن هذا طبيعيا في ظل الأجواء الثورية التي تنتاب الشارع المصري بعد ثورة 25 يناير المباركة، إلا أن الجموع الغفيرة ترى أن هذا الغليان غير طبيعي وغير منطقي في بلد هي في أشد الحاجة لبرامج تنمية أشد من حاجتها للماء والهواء.
فالمواطن المصري أكله الفقر والمرض في بلد يقع 40% من شعبها تحت خط الفقر (دخل يومي أقل من دولار) والفساد ضارب بأطنابه لدرجة أن ديوان المظالم الجديد استقبل 10 آلاف مظلمة في أول خمسة أيام فقط، والجموع الغفيرة غير معنية باللعبة السياسية التي تتطلع لثمرتها لا إلى تفاصيلها وأحداثها.
إذا .. يبقى السؤال قائما عن السر وراء فورة أقطاب القضاء والإعلام؟ وهل فعلا مصلحة مصر هي الهم الأكبر الذي يؤرق هذه النخب، وهل الدافع الأعظم هو إنقاذ الوطن وأبنائه من الضياع كما يتشدقون، أم أن هناك أجندات خفية يعمل لها التيار المضاد لفريق الرئاسة بقيادة د. محمد المرسي الذي يواجه حملة شرسة غير مفهومة ولا مبررة، رغم أن بقائه على كرسي السلطة لم يتجاوز أيام معدودة.
لكن الواضح للعيان لكل مراقب للشأن المصري ولكل جموعه الشعبية الغفيرة أن هناك جولة أخيرة للثورة مع فلول الثورة المضادة من فئة المنتفعين أصحاب الامتيازات الجبارة في عهد النظام السابق، الذين ينعمون ببريق صلاحيات أسطورية وعوائد مالية شهرية فلكية، في غير كفاءة تذكر ولا موهبة تعرف إلا النذر اليسير منهم.
إن المواطن المصري على تنوع ثقافاته لا يعرف شيئا عن «المحكمة الدستورية» ولم يسمع عنها في حياته سوى مرات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بل الكل يعرف من المصريين وغيرهم أن مصر بلد لا وجود للقانون بها، وأن الأمور تسير فيها إما بالرشوة أو المحسوبية، وأن قسم الشرطة لا ينصف مظلوما، والقضايا المكدسة في المحاكم سنوات وسنوات لا تجلب حقا.
إذا ما المبرر والداعي لأن نتقمص دور لا نعرفه ولم نمارسه، ونسمع عبارات عريضة عن المؤسسة القضائية المصرية العتيدة، وفقهاء القانون الدستوري، ورصيد مصر من قضاة أجلاء تفخر بهم، وسيادة القانون .. وغيرها من شعارات فضفاضة لا تنبت في أرض الواقع، ولا مكان لها في حياة المصريين.
وإن كنت جائرا في تحليلي هذا فليحدثني قضاة مصر كلهم عن الطريقة التي تم تعينهم بها، وليحدثني رجال القضاء عن سر الاسترخاء الغريب في حسم ملايين القضايا المكدسة في أروقة المحاكم، وليحدثني رجال القضاء عن نضالهم الدستوري أيام رؤساء مصر السابقين، حيث يعلم الجميع أنهم على تنوع مناصبهم كان لا يجرؤ واحد منهم على أن يبوح بعشر ما يبوح به الآن، وإلا انقطع نهر الفيوضات الرئاسية والمنح السيادية.
وما يقال على القضاء يقال عن باقي النخب التي ترفل في النعيم الإداري، وتجني من وراء مناصبها من أبهة السلطة وصنوف النعمة ما لا يحده وصف ولا يصدقه عقل، في بلد صار للفقر فيها فنونا وألوانا.
إن الصراع الدائر اليوم صراع خفي على «امتيازات وصلاحيات» موروثة من نظام غاشم، يعلم أصحابها جيدا أنهم في ظل الأجواء الثورية وخضم تيار العدالة الاجتماعية سوف يسحب البساط من تحت أرجلهم.
إن مصر تعاني من طابور خامس من نخب رجال الإقطاع الإداريين الذين توحشوا في الفترة الأخيرة من حكم المخلوع، وحصلوا على امتيازات رسمية لا توصف، وكي لا يتهمني أحد بالحقد أو التحريض فأنا أدعو هذه النخب لأن تكشف عن مدخولاتها الشهرية الوظيفية في بلد يعاني من فساد إداري منقطع النظير، فهل من المعقول أن يصل راتب مستشار الشهري لعدة آلاف من الجنيهات والمحاكم في نفس الوقت لا تسمن ولا تغني من جوع، وقل هذا أيضا على عمداء جامعات تخرج سنويا آلاف الجامعيين العاطلين عن العمل، وعن إعلاميين لا يحسنون قراءة سطر من كتاب قراءة عربية صحيحة.
إن مصر تعاني فعلا من مافيا من نوع غريب .. مافيا بثوب رسمي وصيغة قانونية، تضر ولا تنفع، وتعرقل ولا تدفع، قد أغلقت على أنفسها أبواب الامتيازات وصارت إرث لهم ولأبنائهم من بعدهم حتى لو كانوا جامعيا راسبين أو مظهريا غير لائقين، لكن ابن السفير لابد أن يعين في الخارجية وابن المستشار أبواب النيابة له مفتوحة، وفي رحاب قانون «أبناء العاملين» ورثت أبناء النخبة ساحات القضاء والخارجية والإعلام والشرطة وسائر المواقع المتميزة في إقطاع من نوع عصري جديد .. فهل ترى هذه النخبة تتنازل عن جنتها ببساطة، كلا وألف كلا.
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com