مستوحاه من الواقع.


"أبو رياض"
في مسجدنا رجلٌ اِسمهُ أبو رياض"1" اِصطلحتْ فيهِ المتناقضات، فما تكاد تعرفُ لهُ أسلوباً معيّناً، فتارةً تجدهُ أكرمَ الناسِ، وتارةً يكونُ أبخلَهم، ويوماً يكونُ ودوداً مقبلاً للسلامِ عليك، ويوماً إن أقبلتَ لتسلّم عليه أهدى لك باقةً من السّباب والشتم، فما تبرز قوّة لسانه إلا في قولِ السوء، وما تظهرُ شجاعتُه إلا في التعدّي على الناس، ولكنّه يكون –أحياناً- رجلاً مستقيماً، فيرفعُ الظلمَ عن شخصٍ ضعيف، ويتلفّظ بأطايب الكلِم وأشرفه.

وعندما غدوتُ أقضي بعضَ أشغالي، أُجبرتُ على الصلاةِ في غيرِ مسجدنا، فلمّا دخلتُ المسجدَ الجديد، رأيتُ وجوهاً كأنّي أعرفها، فأخذتُ أقلّب بصري على الحاضرين، فإذ بي أرى أبا رياض، فقلتُ في نفسي: أهذا أبو رياض؟!! فما كِدتُ أصدّق عيناي، فصلّيتُ وخرجتُ سريعاً، ومن حسنِ حظّي أني مُلزَمٌ بالصلاةِ في هذا المسجدِ أسبوعاً كاملاً، فحتماً سألتقي بأبي رياض من جديد.

ولمّا جاءَ الغد وذهبتُ لأقضي شغلي، ودخلتُ ذاتَ المسجدِ لأصليَّ فيه، رأيتُ الذي حَسِبتُه أبا رياض، فأمعنتُ النظرَ فيه، ولم أرفع بصري عنه، فوجدتُه كريماً يسلّمُ على الناسِ ويكرمهم، وجاء الغدُ ونظرتُ فيه مجدداً، فما وجدتُه إلا لئيماً فحّاشاً، فقلتُ: ها هو أبو رياض، وإن اِختلفَ الظاهر، فالباطنُ واحدٌ!

فيا أيها المسلم، اِحذر أن تكونَ مثلَ أبي رياض، شخصاً متكرراً، أنّى ذهبتُ ألقاه، وما ذاك إلا لأنَّ خُلُقَه قريبُ المنال، من شاء أن يناله أخذ بأوفرِ حظِّ منه، فما أسهلَ أن يتفحّشَ الإنسانُ ويسيء بحقِّ الناس، وما أسهل أن يبخلَ ويضنَّ عليهم، فلو أنَّ محتاجاً أقبلَ إليكَ يسألك مالاً لتعطيَه، فالحلول آنذاك كثيرة، ولكنَّ أقربَها إلينا وأسهلها علينا هي قول: اعزب عنّا ودونك هذا المرتع الوخيم.

فيا أيها المسلم، تفرَّد بخلقٍ يرفع شأنَك بينَ الناس، وكن عظيماً لا ينتحل شخصك أيَّ أحد، ولا تكن مثل أبي رياض، من شاءَ أن يقلّدَه قلّدَهُ وأحسنَ التقليد، ولكنَّ العظيم لا يقلّد، فمن شاءَ أن يقلّدَ عظيماً لا مراءَ سيكونُ أضحوكةً للحاضرين، فهو كالقردِ الذي يقلّدُ الأسدَ! وهل يقوى القردُ على تقليدِ الأسد؟ ولكنَّ القردَ يقلّدُ القردَ! والقردَ يقلّدُ الإنسان، ولكن ليسَ كلَّ إنسان، فالذي مثلَ أبي رياض في جانبِه الفحّاش، يستطيعُ القردُ أن يقلّده، وذلك أنَّ القردَ يأكلُ كما يأكلُ أبو رياض، ويتفحّشُ القردُ فيخرجُ عارياً أمامَ الناس، متجرّداً من ثوبِ يستره، وكذلك أبو رياض، ولكنّه يتجرّدُ من ثوبِ الحياء، ويتفحّشُ بلسانِه، فإن خرَج ساتراً بدَنه فإنّه لم يستر لسانه، وإنّه كشف عن حيائه ولم يخبئه، فكان ما كان.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
"1": أدري أنَّ هذه كنية لا اِسم، وإنّما قلتُ عنها اِسماً لأننا سألناه مَراراً وتَكراراً عن اِسمه فيقول: أبو رياض. فنقول له: أما وجدتَ اِسماً غيره؟ فتتطاير منه قطعٌ في السماء وأخرى في الأرضِ من الغضب.