من "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين" لابن الأنباري
مسألة القول في جواز التعجب من البياض والسواد دون غيرهما من الألوان
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يستعمل ما أفعله في التعجب من البياض والسواد خاصة من بين سائر الألوان نحو أن تقول: هذا الثوب ما أبيضه، وهذا الشعر ما أسوده. وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوزنا ذلك للنقل والقياس، أما النقل فقد قال الشاعر:
إذا الرجال شتوا واشتد أكلهم*فأنت أبيضهم سربال طباخ
وجه الاحتجاج أنه قال: أبيضهم، وإذا جاز ذلك في أفعلهم جاز في ما أفعله وأفعل به؛ لأنهما بمنزلة واحدة في هذا الباب وقد قال الشا عر:
جارية في درعها الفضفاض ... تقطع الحديث بالإيماض
أبيض من أخت بنى أباض ...
فقال: أبيض، وهو أفعل من البياض. وإذا جاز ذلك في أفعل من كذا جاز في ما أفعله وأفعل به؛ لأنهما بمنزلة واحدة في هذا الباب؛ ألا ترى أن ما لا يجوز فيه ما أفعله لا يجوز فيه أفعل من كذا، وكذلك بالعكس منه ما جاز فيه ما أفعله جاز فيه أفعل من كذا. فإذا ثبت أنه يمتنع في كل واحد منهما ما يمتنع في الآخر، ويجوز فيه ما يجوز في الآخر دل على أنهما بمنزلة واحدة. وكذلك القول في أفعل به في الجواز والامتناع، فإذا ثبت هذا فوجب أن يجوز استعمال ما أفعله من البياض.
وأما القياس فقالوا: إنما جوزنا ذلك من السواد والبياض دون سائر الألوان؛ لأنهما أصلا الألوان، ومنهما يتركب سائرها من الحمرة والصفرة والخضرة والصهبة والشهبة والكهبة إلى غير ذلك، فإذا كانا هما الأصلين للألوان كلها جاز أن يثبت لهما ما لا يثبت لسائر الألوان؛ إذ كانا أصلين لها ومتقدمين عليها.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه لا يجوز استعمال ما أفعله من البياض والسواد أنا أجمعنا على أنه لا يجوز أن يستعمل مما كان لونا غيرهما من سائر الألوان، فكذلك لا يجوز منهما. وإنما قلنا ذلك؛ لأنه لا يخلو امتناع ذلك إما أن يكون؛ لأن باب الفعل منهما أن يأتي على أفعل نحو أحمر وأصفر واخضر وما أشبه ذلك، أو لأن هذه الأشياء مستقرة في الشخص لا تكاد تزول، فجرت مجرى أعضائه. وأي العلتين قدرنا وجدنا المساواة بين البياض والسواد وبين سائر الألوان في علة الامتناع، فينبغي أن لا يجوز فيهما كسائر الألوان.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين، أما احتجاجهم بقول الشاعر:
فأنت أبيضهم سربال طباخ ...
فلا حجة فيه من وجهين: أحدهما أنه شاذ، فلا يؤخذ به كما أنشد أبو زيد:
يقول الخناوأ بغض العجم ناطقا*إلى ربنا صوت الحمار اليجدع
ويستخرج اليربوع من نافقائه* ومن جحره بالشيخة اليتقصع
فأدخل الألف واللام على الفعل وأجمعنا على أن استعمال مثل هذا خطأ لشذوذه قياسا واستعمالا، فكذلك هاهنا. وإنما جاء هذا لضرورة الشعر، والضرورة لا يقاس عليها كما لو اضطر إلى قصر الممدود على أصلنا وأصلكم، أو إلى مد المقصور على أصلكم، وعلى ذلك سائر الضرورات. ولا يدل جوازه في الضرورة على جوازه في غير الضرورة، فكذلك هاهنا فسقط الاحتجاج به.
وهذا هو الجواب عن قول الآخر:
أبيض من أخت بني أباض ...
والوجه الثاني أن يكون قوله: فأنت أبيضهم- أفعل الذي مؤنثه فعلاء كقولك: أبيض وبيضاء، ولم يقع الكلام فيه، وإنما وقع الكلام في أفعل الذي يراد به المفاضلة نحو هذا أحسن منه وجها وهو أحسن القوم وجها، فكأنه قال: مبيضهم. فلما أضافه انتصب ما بعده عن تمام الاسم وهذا هو الجواب عن قول الآخر: أبيض من أخت بنى أباض، ومعناه في درعها جسد مبيض من أخت بنى أباض، ويكون من أخت هاهنا في موضع رفع؛ لأنها صفة لأبيض، كأنه قال: أبيض كائن من أخت كقولهم: أنت كريم من بني فلان. ونحوه قول الشاعر:
وأبيض من ماء الحديد كأنه* شهاب بدا والليل داج عساكره
فقوله: من ماء الحديد- في موضع رفع؛ لأنه صفة أبيض وتقديره: وأبيض كائن من ماء الحديد. ونحوه أيضا قول الآخر:
لما دعاني السمهري أجبته ... بأبيض من ماء الحديد صقيل
وأما قولهم: إنما جوزنا ذلك؛ لأنهما أصلان للألوان، ويجوز أن يثبت للأصل ما لا يثبت للفرع- قلنا: هذا لا يستقيم، وذلك لأن سائر الألوان إنما لم يجز أن يستعمل منها ما أفعله وأفعل منه؛ لأنها لازمت محالها فصارت كعضو من الأعضاء، فإذا كان هذا هو العلة فنقول: هذا على أصلكم ألزم، وذلك لأنكم تقولون: إن هذه الألوان ليست بأصل في الوجود على ما تزعمون، بل هي مركبة من البياض والسواد، فإذا لم يجز مما كان متركبا منها لملازمته المحل، فلأن لا يجوز مما كان أصلا في الوجود وهو ملازم للمحل كان ذلك من طريق الأولى. والله أعلم.