'الصداقة والأصدقاء(3)...(من ترضون دينه وخلقه)...
بقلم إبراهيم العسعس
ما الذي يُحدِّد المسافة بين اثنين؟
لحسن حظنا الجواب موجود عند المعلم صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه". فزوجوه؟! ما لنا وللزواج أيها الشيخ؟! ألستَ تحدثنا عن الصداقة والأصدقاء؟! على رسلكم، فالأمر بسيط، فقط ضعوا: "فصاحبوه"، بدلاً من "فزوجوه".
فالزواج صحبة، ولذلك فإنهما يتقاطعان في كثير من الصفات. ولكن المشكلة ليست هنا، فهذه سهلة كما ترون. المشكلة أيها السادة في: دينه وخلقه! ما هو مفهوم الدين والخلق، الذين عليك أن ترضى بهما لإنشاء الصداقة؟! وهنا وقفتنا في هذه الحلقة..
كي نفهم المسألة جيداً، نعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسأل: هل يقصد أن يقول لنا عليه الصلاة والسلام: لا تصاحب تارك الصلاة! وإياك وذا الخلق السيئ! إن كنتم تظنون هذا، فكأنكم تقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصينا بتحصيل الحاصل، والمفروغ منه! ويا لها من وصية حينئذ!!
وعلى كل حال إن ظننتم هذا، فأنا أعذركم، فأغلب من علق على حديث: من ترضون دينه وخلقه، فسر الدين بأنه أن يحافظ على الصلاة مثلاً، وفسر الخلق بأن لا يكون سيء الأخلاق! وهذا في الحقيقة تفسير يحجب عنا ذلك المفهوم الرائع للعلاقات الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن باب الغيرة على الدين، وفهم التدين على أنه مستوى واحد جامد، ضيَّـق الحديث من تكلم عنه مرة أخرى، فقالوا: إنَّ الخُلق الوارد في الحديث هو الدين نفسه، ولكنه ذكر زيادة في البيان، لأنه ـ بزعمهم ـ لا يُتصوَر دين بلا خلق! وقولهم صحيح إذا اقتصرنا على تفسير الخلق، بأنه الأخلاق السيئة من سرقة وزنا وكذب وغير ذلك! ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يقول لنا: لا تصاحبوا من يسرق ويزني ويكذب ويسيء إلى أصدقائه.
وحتى لا أطيل، فإنما هي إشارات وحسب، أقول: إنه صلى الله عليه وسلم يتحدث عن الانسجام في العلاقة؛ في الدين والخلق.
ويتحدث عن التدين والأخلاق التي تتعلق بضبط العلاقات، ولا يتحدث عن التدين الذاتي، بمعنى القيام بالواجبات، وتأدية شعائر الإسلام، بل والالتزام بالسنن. فقد يكون أحدُهم قوَّاماً صوَّاماً كثيرَ البكاء من خشية الله الخ ... ولكنه لا يستطيع أن يُنشئ علاقةً مع إنسان، أو قد لا يعرف كيف يقوم بحقِّ العلاقة.
وقد يكون كذلك، ولكن النفس لا ترضاه فلا يدخل النفس، وليس من الدين أن تجبر نفسك على قبول من لا تقبل، بشرط أن تُعطيه حقَّ الإسلام من ولاء واحترام، ثم تدعو رباً حكيماً عليماً: اللهمَّ هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك.
ولا يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كذلك ـ عن سيء الأخلاق ـ وحسب ـ بل يتحدث عليه السلام عن مستوى آخر هو مستوى الطباع التي تدور في دائرة المباح، أو إن أحببت تدور في دائرة اختلاف الـتـقدير، فلا يكون صاحبها سيء الأخلاق بالمعنى المعروف لسوء الأخلاق.
قـد يكون أحدهم متديناً، ولكن فيه من الطباع والأخلاق ما لا يرضي، ولذلك فإن التدين وحده لا يكفي، لأن تقوى المرء لنفسه، وأنت تحتاج من تقواه ما له علاقة بالعلاقة. قال الجنيد رحمه الله: "لأن يصحبني فاسق حسن الخلق، أحب إليَّ من أن يصحبني قارئ سيء الخلق".
وقد يكون هذا المتدين أحمقاً ـ وما أكثرهم هذه الأيام ـ غير عاقل، والعاقل الذي يفهم الأمور على ما هي عليه، إما بنفسه وإما إذا فُهِّم. فإن كان كذلك فلا أحد يدعوك لتورط نفسك معه، وقد قال الثوري رحمه الله عن هذه المخلوقات: "النظر إلى وجه الأحمق خطيئة مكتوبة". وقالوا: مقاطعة الأحمق قربان إلى الله. ومن عادة أحد المشايخ الأذكياء ـ عملة نادرة ـ أن يقول بحسرة كلما ابتلي بأحدهم: "صحبة من لا يفهم توقع في الشرك بالله"، فأقول له وأزيدك: وتُقصِّر العمر.
هناك ثلاثة أمور تحدد المسافة بين اثنين، وهي متضمنة في الحديث:
أولها: التجانس. ثانيها: الرضى. ثالثها: الاختيار. فابحث عمن يشابهك، فإن التجانس يوجب القرب والاستحسان. ثم قرر في نفسك إن كنت ستتأقلم مع هذا الشخص أم لا. ثم بعد ذلك عليك بالاختيار، فإن فعلت ستنجو من المفاجأة والتذمر، وستكون راضياً بمن اخترت للمناسبة التي بينكما، وإن كان في نظر غيرك غير مقبول ن ذلك أن التجانس والرضى نسبيان يختلفان من إنسان لآخر.وهكذا فالصداقة تجانس ورضى واختيار. وإلى أن نلتقي.
مجلة العصر