رابعاً: أدلتهم من المعقول:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من المعقول ذكرها الماوردي بقوله:
o أن كل من كان من زوائد عقد النكاح كان شرطاً فيه كالشهود ، ولأن ما اختص من بين جنسه بزيادة عدد كانت الزيادة شرطاً فيه كالشهادة في الزنا.
o أن كل عقد صارت به المرأة فراشاً لم يملكه المفترشة كالأمة.
o أن من عقد على نفسه واعترض عليه غيره في فسخه دل على فساد عقده كالأمة والعبد إذا زوجا أنفسهما ، ولأن من منع من الوفاء معقود العقد خرج من العقد كالمحجور عليه ، ولأنه أحد طرفي الاستباحة فلم تملكه المرأة كالطلاق.
o أن لولي المرأة قبل بلوغها حقين : حقاً في طلب الكفاءة ، وحقاً في طلب العقد ، فلما كان بلوغها غير مسقط لحقه في طلب الكفاءة كان غير مسقط لحقه في مباشرة العقد . ويتحرر من اعتلاله قياسان :
أحدها : أنه أحد حقي الولي فلم يسقط بلوغها كطلب الكفاءة .
والثاني : أن كل من ثبت عليها حق الولي في طلب الكفاءة ثبت عليه حقه في مباشرة العقد كالصغيرة. الحاوي الكبير (9/42).
ولأن المرأة غير مأمونة على البضع لنقص عقلها وسرعة انخداعها فلم يجز تفويضه إليها كالمبذر في المال. الكافي في فقه الإمام أحمد (3/11).
القول الثاني: لا يشترط الولي في النكاح، فيصح أن تباشر المرأة عقد النكاح بنفسها، إلا أنه خلاف المستحب، وللأولياء حق الاعتراض إذا لم يكن الزوج كفؤاً لها. وهو قول أبي حنيفة في المشهور عنه. بدائع الصنائع (2/247)، والاختيار لتعليل المختار (3/103)، وحاشية ابن عابدين (2/296)، وذكر ابن الهمام: أنه قول أبي حنيفة وزفر، وعن أبي يوسف ثلاث روايات، وعن محمد روايتان. فتح القدير (3/255 – 256).
أدلة هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والمعقول:
أولا: أدلتهم من القرآن:
1 – قوله تعالى: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف".
الاستدلال بهذه الآية من وجهين:
الوجه الأول: انه أضاف النكاح إليهن فيدل على جواز النكاح بعبارتهن من غير شرط الولي. بدائع الصنائع (2/248)، أحكام القرآن للجصاص (2/100).
نوقش هذا الوجه:
بأن أضافة النكاح إليها لأنها محل له. المغني (7/6).
ثم إن عضلها الامتناع عن تزويجها وهذا يدل على أن نكاحها إلى الولي ويدل عليه أنها نزلت في شأن معقل بن يسار حين امتنع من تزويج أخته فدعاه النبي فزوجها. المغني (7/6).
ثم إن المراد بنكاحهن في الآية هو ما يعقده لهن أولياؤهن لا ما تعقده المرأة نفسها بدليل سبب نزول الآية في حديث معقل بن يسار كما سبق بيانه.
ولذلك قال الشافعي بأن هذه الآية أبين آية في كتاب الله عز وجل دلالة على أنه ليس للمرأة الحرة أن تنكح نفسها.
الثاني: أن الله سبحانه نهى الأولياء عن العضل، وهذا يدل على إبطال ولايتهم. بدائع الصنائع (2/248)، أحكام القرآن للجصاص (2/100).
نوقش هذا الوجه:
بأن العضل يتصرف على وجوه مرجعها إلى المنع وهو المراد هاهنا فنهى الله تعالى أولياء المرأة من منعها عن نكاح من ترضاه وهذا دليل قاطع على أن المرأة لا حق لها في مباشرة النكاح وإنما هو حق الولي خلافا لأبي حنيفة ولولا ذلك لما نهاه الله عن منعها وقد صح أن معقل بن يسار كانت له أخت فطلقها زوجها فلما انقضت عدتها خطبها فأبى معقل فأنزل الله تعالى هذه الآية ولو لم يكن له حق لقال الله تعالى لنبيه عليه السلام لا كلام لمعقل في ذلك. أحكام القرآن لابن العربي (1/271-272)
ولولا أن الولي يملك منعها عن النكاح لما نهاه عنه كما لا ينهى الأجنبي الذي لا ولاية له عنه. أحكام القرآن للجصاص (2/100)
وأجيب: بأن النهي يمنع أن يكون له حق فيما نهى عنه فكيف يستدل به على إثبات الحق وأيضا فإن الولي يمكنه أن يمنعها من الخروج والمراسلة في عقد النكاح فجائز أن يكون النهي عن العضل منصرفا إلى هذا الضرب من المنع لأنها في الأغلب تكون في يد الولي بحيث يمكنه منعها من ذلك. أحكام القرآن للجصاص (2/100)
2 – قوله تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره" (البقرة :230).
الاستدلال بهذه الآية من وجهين:
الوجه الأول: أنه أضاف النكاح إلى المرأة، وهذا يقتضي تصور النكاح منها مما يدل على صحة النكاح بلا ولي.
الوجه الثاني: أنه جعل نكاح المرأة غاية الحرمة، فيقتضي انتهاء الحرمة عند نكاحها نفسها. بدائع الصنائع (2/248).
نوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن المقصود بالنكاح في قوله تعالى: "حتى تنكح" ما يعقده لها وليها، لا أن تباشره المرأة بنفسها، وإنما أضيف إليها النكاح لأنها محل ذلك وسببه.
الوجه الثاني: أن النكاح الذي تنتهي به هذه الحرمة ليس هو العقد بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : ( لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) فوجب أن يكون المراد منه هو الوطء وثانيها : قوله عليه الصلاة والسلام : ( ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون ) أثبت النكاح مع عدم العقد وثالثها : أن النكاح في اللغة عبارة عن الضم والوطء ، يقال : نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ، ونكح النعاس عينه ، وفي المثل أنكحنا الفرا فسترى، ومعلوم أن معنى الضم والوطء في المباشرة أتم منه في العقد ، فوجب حمله عليه. التفسير الكبير (6/47-48)
3 – قوله تعالى: "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين" (الأحزاب:50).
وجه الاستدلال من الآية:
أنها نص على انعقاد النكاح بعبارة المرأة وانعقادها بلفظ الهبة. بدائع الصنائع (2/248).
ويدل عليه قول لنبي صلى الله عليه وسلم: مالي في النساء من أرب فقام رجل فسأله أن يزوجها فزوجها ولم يسألها هل لها ولي أم لا ولم يشترط الولي في جواز عقدها. أحكام القرآن للجصاص (2/102-103).
نوقش هذا الاستدلال:
بأنه لا دليل في الآية على صحة إنكاح المرأة نفسها لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أن التي وهبت نفسها خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم بدون مهر ولا ولي، وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وهو النكاح بغير ولي. وقد نقل ابن كثير في تفسيره عن قتادة قوله: ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم. تفسير ابن كثير (6/445).
4- قوله تعالى : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة : 234)0
وجه الاستدلال:
أنه جاز فعلها في نفسها من غير شرط الولي وفي إثبات شرط الولي في صحة العقد نفي الموجب الآية.أحكام القرآن للجصاص (2/101).
نوقش هذا الاستدلال من وجهين :
أحدهما : أن المراد برفع الجناح عنهن أن لا يمنعن من النكاح فإذا أردنه ، فلا يدل على تفردهن بغير ولي كما لم يدل على تفردهن بغير شهود .
والثاني : أن قوله:{فِيمَا فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 234) . يقتضي فعله على ما جرى به العرف من المعروف الحسن ، وليس من المعروف الحسن أن تنكح نفسها بغير ولي. الحاوي الكبير ج (9/43).
ثانياً: أدلتهم من السنة:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة منها:
1 – حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها".
وجه الاستدلال من الحديث:
أن الْأَيِّمُ: هِيَ من لَا زَوْجَ لها بِكْرًا كانت أو ثَيِّبًا فَأَفَادَ أَنَّ فيه حَقَّيْنِ حَقَّهُ وهو مُبَاشَرَتُهُ عَقْدَ النِّكَاحِ بِرِضَاهَا وقد جَعَلَهَا أَحَقَّ منه وَلَنْ تَكُونَ أَحَقَّ إلَّا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ. البحر الرائق (3/117)، شرح فتح القدير (3/259).
نوقش الاستدلال بهذا الحديث من أربعة وجوه:
الوجه الأول: أن لأهل اللغة في الأيم قولين :
أحدهما : التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً ، وإن لم تنكح قط يقال : امرأة أيم ، إذا كانت خلية من زوج ورجل أيم إذا كان خلياً من زوجة .
والقول الثاني : أنها لا يقال لها أيم إلا إذا نكحت ثم حلت بموت أو طلاق بكراً كانت أو ثيباً.
فأما الأيم في هذا الخبر فالمراد بها الثيب من الخاليات الأيامى دون الأبكار لأمرين :
أحدهما : أنه قد روي : ' الثيب أحق بنفسها من وليها ' .
الوجه الثاني: أنه لما قابل الأيم بالبكر اقتضى أن تكون البكر غير الأيم ، لأن المعطوف غير المعطوف عليه ، وليس غير البكر إلا الثيب فلهذا عدل بالأيم عن حقيقة اللغة إلى موجب الخبر .
فإذا تقررت هذه المقدمة فعن الخبر ثلاثة أجوبة :
والثاني : أنها أحق بنفسها في أنها لا تجبر إن أبت ولا تمنع إن طلبت تدل تفردها بالعقد من غير شهود .
الوجه الثالث: أنه جعل لها ولياً في الموضع الذي جعلها أحق بنفسها موجب أن لا يسقط ولايته عن عقدها ليكون حقها في نفسها وحق الولي في عقدها فيجمع بين هذا الخبر وبين قوله ' لا نكاح إلا بولي ' في العقد .
الوجه الرابع : أن لفظه ' أحق ' موضوعة في اللغة للاشتراك في المستحق إذا كان حق
أحدها فيه أغلب كما يقال زيد أعلم من عمرو إذا كانا عالمين ، وأحدهما أفضل وأعلم ، ولو كان زيد عالماً ، وعمرو جاهلاً لكان كلاماً مردوداً ، لأنه لا يصير بمثابة قوله العالم أعلم من الجاهل ، وهذا الفرد إذا كان ذلك موجباً لكل واحد منهما حق وحق الثيب أغلب ، فالأغلب أن يكون من جهتها الإذن والاختيار من جهة قبول الإذن في مباشرة العقد . الحاوي الكبير (9/43).
2 – حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة فخطبني إلى نفسي فقلت: يا رسول الله إنه ليس أحد من أوليائي شاهداً، فقال: "إنه ليس منهم شاهد ولا غائب يكره ذلك"، قالت: قم يا عمر فزوج النبي صلى الله عليه وسلم، فتزوجها.
وجه الدلالة من الحديث:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم خَطَبَهَا إلَى نَفْسِهَا فَفِي ذلك دَلِيلٌ أَنَّ الأَمْرَ في التَّزْوِيجِ إلَيْهَا دُونَ أَوْلِيَائِهَا فَإِنَّمَا قالت له إنَّهُ ليس أَحَدٌ من أَوْلِيَائِي شَاهِدًا قال إنَّهُ ليس منهم شَاهِدٌ وَلاَ غَائِبٌ يَكْرَهُ ذلك فقالت قُمْ يا عُمَرُ فَزَوِّجْ النبي عليه السلام وَعُمَرُ هذا ابْنُهَا وهو يَوْمئِذٍ طِفْلٌ صَغِيرٌ غَيْرُ بَالِغٍ لِأَنَّهَا قد قالت لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم في هذا الحديث إنِّي امْرَأَةٌ ذَاتُ أَيْتَامٍ يَعْنِي عُمَرَ ابْنَهَا وَزَيْنَبَ بِنْتَهَا وَالطِّفْلُ لاَ وِلاَيَةَ له فَوَلَّتْهُ هِيَ أَنْ يَعْقِدَ النِّكَاحَ عليها فَفَعَلَ فَرَآهُ النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم جَائِزًا وكان عُمَرُ بِتِلْكَ الْوَكَالَةِ قام مَقَامَ من وَكَّلَهُ فَصَارَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها كَأَنَّهَا عَقَدَتْ النِّكَاحَ على نَفْسِهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمَّا لم يَنْتَظِرْ النبي صلى الله عليه وسلم حُضُورَ أَوْلِيَائِهَا دَلَّ ذلك أَنَّ بُضْعَهَا إلَيْهَا دُونَهُمْ وَلَوْ كان لهم في ذلك حَقٌّ أو أَمْرٌ لَمَا أَقْدَمَ النبي صلى الله عليه وسلم على حَقٍّ هو لهم قبل إبَاحَتِهِمْ ذلك له. شرح معاني الآثار (3/12)
نوقش الاستدلال بهذا الحديث من وجهين:
الوجه الأول: بأنه ليس فيه حجة لأنه لو كان جائزا بغير ولي لأوجبت العقد بنفسها ولم تأمر غيرها فلما أمرت به غيرها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياها على ما جاء في بعض الروايات دل على أنها لا تلي عقد النكاح. نصب الراية (3/186). الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/60) .
الوجه الأول: أن الشاهد من الحديث وهو قولها: (قم يا عمر) لا يصح، فهذه الجملة غير صحيحة لأنها من رواية ابن عمر بن أبي سلمة، وهو مجهول. ذكر ذلك ابن حزم. المحلى (9/457).
الوجه الثاني: على فرض صحة الرواية فإنا لا نسلم بدلالة القصة على عدم وجود الولي في عقد النكاح، بل الصحيح هو أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة بولي. وهناك خلاف بين الفقهاء فيمن هو هذا الولي الذي تولى عقد نكاح أم سلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أ – فقيل: إن الذي زوجها هو ابنها عمر كما جاء في الرواية السابقة، وليس هناك دليل صريح على أنه كان صغيرا، ورد الأمام أحمد ذلك وانكر على من قاله ويدل على صحة قوله ما روى مسلم في صحيحه أن عمر بن أبي سلمة ابنها سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فقال سل هذه يعني أم سلمة فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله فقال يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إما والله أني اتقاكم لله واخشاكم له أو كما قال ومثل هذا لا يقال لصغير جدا وعمر ولد بأرض الحبشة قبل الهجرة وقال البيهقي وقول من زعم انه كان صغيرا دعوى ولم يثبت صغره بإسناد صحيح. جلاء الأفهام (1/253-254).
واعترض على هذا القول: أن ابنها عمر كان صغير السن لانه قد صح عنه قال كنت غلاما في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك وهذا يدل على صغر سنه حين كان ربيب النبي صلى الله عليه وسلم. جلاء الأفهام (1/255).
ب – وقيل: أن الذي زوجها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا ابنها لان في غالب الروايات قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب هو كان الخاطب.
واعترض على هذا القول: بأن في النسائي فقالت لابنها عمر قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصحيح في هذا (قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم) واما لفظ ابنها فوقعت من بعض الرواة لانه لما كان اسم ابنها عمر وفي الحديث قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن الراوي انه ابنها واكثر الروايات في المسند وغيره قم يا عمر من غير ذكر ابنها. جلاء الأفهام (1/254).
ج – وقيل: أن الذى ولى عقدها عليه ابنها سلمة بن أبى سلمة، وهو أكبر ولدها. وساغ هذا لان أباه ابن عمها، فللابن ولاية أمه إذا كان سببا لها من غير جهة البنوة بالاجماع، وكذا إذا كان معتقا أو حاكما. السيرة النبوية لابن كثير (3/253).
د – وقيل: إن الذي تولى نكاحها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لا يفتقر إلى ولي وتزويج زينب بنت جحش يدل على ذلك. نصب الراية (3/186).
واعترض على هذا القول: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم كان أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ من نَفْسِهِ يُطِيعُهُ في أَكْثَرِ مِمَّا يُطِيعُ فيه نَفْسَهُ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ هو أَوْلَى بِهِ من نَفْسِهِ في أَنْ يَعْقِدَ عليه عَقْدًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ من بَيْعٍ أو نِكَاحٍ أو غَيْرِ ذلك فَلاَ وَإِنَّمَا كان سَبِيلُهُ في ذلك صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم كَسَبِيلِ الْحُكَّامِ من بَعْدِهِ. فدَلَّ ذلك على أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم إنَّمَا كان مَلَّكَ ذلك الْبُضْعَ بِتَمْلِيكِ أُمِّ سَلَمَةَ إيَّاهُ لاَ بِحَقِّ وِلاَيَةٍ كانت له في بُضْعِهَا أَوَ لاَ تَرَى أنها قد قالت إنَّهُ ليس أَحَدٌ من أَوْلِيَائِي شَاهِدًا فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم إنَّهُ ليس أَحَدٌ منهم شَاهِدٌ وَلاَ غَائِبٌ يَكْرَهُ ذلك وَلَوْ كان هو أَوْلَى بها منهم لم يَقُلْ لها ذلك وَلَقَالَ لها أنا وَلِيُّك دُونَهُمْ وَلَكِنَّهُ لم يُنْكِرْ ما قالت وقال لها إنَّهُمْ لاَ يَكْرَهُونَ ذلك. شرح معاني الآثار (3/12)، أحكام القرآن للجصاص (2/102-103).
ولو كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولاية في تزويجها لقال لها أنا من أوليائك ولم يكن يقول ليس أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكره ذلك. مختصر اختلاف العلماء (2/250).
3 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها".
وجه الدلالة من الحديث:
أن الحديث صريح في إثبات حق المرأة في تزويج نفسها بغير ولي، وأن الولي ليس له اعتبار في العقد، فالمرأة تتولاه بنفسها. بدائع الصنائع (2/248)، والمبسوط (5/12).
نوقش الاستدلال بهذا الحديث من وجهين:
الأول: أن الحديث بهذا اللفظ ضعيف لا يصح وقد وهم أحد رواته – وهو معمر بن راشد – في متنه وإسناده كما ذكر ذلك الدارقطني. سنن الدارقطني (3/239).
الثاني: أنه على فرض صحته فالأمر هو الإجبار والإلزام وليس للولي إجبار الثيب وإلزامها ولا يقتضي ذلك أن ينفرد بالعقد دون وليها كما لا تنفرد به دون الشهود. الحاوي (9/40).
4- أن امرأة شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع خسيسته وأنا كارهة فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى أبيها، فجعل الأمر إليها. فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي وإنما أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء.
الاستدلال بهذا الحديث من وجهين:
الأول: أنه يفيد بعمومه أن ليس لوليها حقا ثابتا في عقد نكاحها بل استحباب.
الثاني: فيه دليل من جهة تقريره صلى الله عليه وسلم قولها ذلك أيضا. شرح فتح القدير (3/263).
نوقش الاستدلال بهذا الحديث من وجهين:
الوجه الأول: أن حديث المرأة التي زوجها أبوها ، فرواية عكرمة بن فلان ، فإن كان مولى ابن عباس فهو مرسل الحديث ، لأنه تابعي ولم يسنده والمرسل ليس بحجة؛ وإن كان غيره فهو مجهول وجهالة الراوي تمنع من قبول حديثه.
الوجه الثاني: لا حجة فيه لو صح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاحاً انفرد به الولي ، وإنما يكون حجة لو أجاز نكاحاً تفردت به المرأة . الحاوي الكبير (9/40).
وأجيب عن ذلك: بأن المرسل حجة، وبعد التسليم فإن سند النسائي ليس مرسلا، قال حدثنا زياد بن أيوب عن علي بن عراب عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة ورواه ابن ماجه حدثنا هناد بن السرى حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن عن ابن بريدة عن أبيه قال جاءت فتاة.. شرح فتح القدير (3/263).
ثالثاً: أدلتهم من الآثار:
استدل القائلون بعدم اشتراط الولي في النكاح بآثار عن الصحابة منها:
1 – ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها زوجت حفصة بنت عبدالرحمن: المنذر بن الزبير، وعبدالرحمن غائب بالشام، فلما قدم عبدالرحمن قال: أمثلي يصنع به هذا ويفتات عليه؟ فكلمت عائشة عن المنذر فقال المنذر: إن ذلك بيد عبدالرحمن، فقال عبدالرحمن: ما كنت أرد أمرا قضيتيه، فقرت حفصة عنده ولم يكن ذلك طلاقا.
وجه الدلالة من الأثر: أن عائشة زوجت بنت عبد الرحمن بغير أمره مما يدل على صحة مباشرة المرأة عقد النكاح بنفسها. شرح معاني الآثار (3/8).
نوقش الاستدلال بهذا الأثر من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أنه لم يثبت في الأثر أن عائشة رضي الله عنها هي التي باشرت العقد، حيث نحمل قوله زوجت أي مهدت أسباب التزويج وأضيف النكاح إليها لاختيارها ذلك وإذنها فيه ثم أشارت على من ولي أمرها عند غيبة أبيها حتى عقد النكاح قال ويدل على صحة هذا التأويل ما أخبرنا وأسند عن عبد الرحمن بن القاسم قال كنت عند عائشة يخطب إليها المرأة من أهلها فتشهد فإذا بقيت عقدة النكاح قالت لبعض أهلها زوج فإن المرأة لا تلي عقد النكاح وفي لفظ فإن النساء لا ينكحن قال إذا كان مذهبها ما روى من حديث عبد الرحمن بن القاسم علمنا أن المراد بقوله زوجت ما ذكرناه فلا يخالف ما روته عن النبي صلى الله عليه وسلم. نصب الراية (3/186).
لأنه جائز أن تكون في الأول أيضا أمرت رجلا بالتزويج فكان مضافا إليها لأمرها به. مختصر اختلاف العلماء (2/249)
الوجه الثاني: أن عائشة رضي الله عنها روت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في اشتراط الولي في النكاح، وعدم جواز تولية المرأة نفسها في النكاح كما مر، مما يدل على أن مذهبها اشتراط الولي في النكاح.
الوجه الثالث: أن قول الصحابي لا يعتبر إن خالف نصا شرعيا.
3 – ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن امرأة زوجت ابنتها برضاها فجاء أولياؤها فخاصموها إلى علي رضي الله عنه فأجاز النكاح.
وجه الدلالة من الأثر:
وهذا دليل الانعقاد بعبارة النساء ، وأنه أجاز النكاح بغير ولي؛ لأنهم كانوا غائبين؛ لأنها تصرفت في خالص حقها ولا ضرر فيه لغيرها ، فينفذ كتصرفها في مالها والولاية في النكاح أسرع ثبوتا منها في المال. الاختيار لتعليل المختار (3/104).
نوقش الاستدلال بهذا الأثر من وجهين:
الوجه الأول: أنه أثر ضعيف، فهو مختلف في متنه وإسناده كما ذكر ذلك البيهقي السنن الكبرى (7/112).
الوجه الثاني: أنه مخالف لما ثبت عن علي رضي الله عنه، فقد رُوي عن الشعبي أنه قال : لم يكن في الصحابة أشد في النكاح بغير ولي من علي بن أبي طالب. الحاوي الكبير (9/42).
رابعاً: دليلهم من المعقول:
الِاسْتِدْلَال فَهُوَ أنها لَمَّا بَلَغَتْ عن عَقْلٍ وَحُرِّيَّةٍ فَقَدْ صَارَتْ وَلِيَّةَ نَفْسِهَا في النِّكَاحِ فَلَا تَبْقَى مُولَيًا عليها كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا بَلَغَ وَالْجَامِعُ أَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْأَبِ على الصَّغِيرَةِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عنها شَرْعًا لِكَوْنِ النِّكَاحِ تَصَرُّفًا نَافِعًا مُتَضَمِّنًا مَصْلَحَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَحَاجَتَهَا إلَيْهِ حَالًا وَمَآلًا وَكَوْنِهَا عَاجِزَةً عن إحْرَازِ ذلك بِنَفْسِهَا وَكَوْنِ الْأَبِ قَادِرًا عليه بالبلوغ ( ( ( وبالبلوغ ) ) ) عن عَقْلٍ زَالَ الْعَجْزُ حَقِيقَةً وَقَدَرَتْ على التَّصَرُّفِ في نَفْسِهَا حَقِيقَةً فَتَزُولُ وِلَايَةُ الْغَيْرِ عنها وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لها لِأَنَّ النِّيَابَةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ نَظَرًا فَتَزُولُ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ مع أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُنَافِيَةٌ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِلْحُرِّ على الْحُرِّ وَثُبُوتُ الشَّيْءِ مع الْمُنَافِي لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى زَالَتْ الْوِلَايَةُ عن إنْكَاحِ الصَّغِيرِ الْعَاقِلِ إذَا بَلَغَ وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ له وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الْفَرْعِ وَلِهَذَا زَالَتْ وِلَايَةُ الْأَبِ عن التَّصَرُّفِ في مَالِهَا وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لها كَذَا هذا.
وإذا صَارَتْ وَلِيَّ نَفْسِهَا في النِّكَاحِ لَا تَبْقَى مُولَيًا عليها بِالضَّرُورَةِ لِمَا فيه من الِاسْتِحَالَةِ . بدائع الصنائع (2/247).
وَالْأَصْلُ هُنَا أَنَّ كُلَّ من يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ في مَالِهِ بِوِلَايَةِ نَفْسِهِ يَجُوزُ نِكَاحُهُ على نَفْسِهِ وَكُلُّ من لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ في مَالِهِ بِوِلَايَةِ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ على نَفْسِهِ. البحر الرائق (3/117)
ويدل عليه اتفاق الجميع على جواز نكاح الرجل إذا كان جائز التصرف في ماله كذلك المرأة لما كانت جائزة التصرف في مالها وجب جواز عقد نكاحها والدليل على أن العلة في جواز نكاح الرجل ما وصفنا أن الرجل إذا كان مجنونا غير جائز التصرف في ماله لم يجز نكاحه فدل على صحة ما وصفنا. أحكام القرآن للجصاص (2/102-103).
واعترض على هذا الدليل العقلي: بأنه لا يصح القياس على الرجل لأن المرأة غير مأمونة على البضع لنقص عقلها وسرعة انخداعها فلم يجز تفويضه إليها كالمبذر في المال. الكافي في فقه الإمام أحمد. (3/10).
وأجيب : بأن المعتبر في باب الولاية مطلق العقل والبلوغ دون الزيادة والنقصان ، فإن الناس يتفاوتون في الرأي والعقل تفاوتا فاحشا ، ولا اعتبار به في باب الولاية ، فإن كامل العقل والرأي ولايته على نفسه وماله كولاية ناقصهما ، وكم من النساء من يكون أوفر عقلا وأشد رأيا من كثير من الرجال ، ولأن في اعتبار ذلك حرجا عظيما وهو حرج التمييز بين الناس ، فعلم أن المعتبر أصل البلوغ والعقل وقد وجدا في المرأة ، فيترتب عليهما ما يترتب عليهما في الرجل قياسا على المال . الاختيار لتعليل المختار (3/105).
القول الثالث: أن عقد النكاح يصح بلا ولي موقوفا على إجازة الولي وهو قول محمد بن الحسن ورواية عن أبي يوسف. بدائع الصنائع (2/247)، ,المبسوط (5/10).
استدل أصحاب هذا القول بالسنة والمعقول على النحو التالي:
أولاً: أدلتهم من السنة:
1 – حديث عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال: أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ "
وجه الدلالة من الحديث:
وَالْبَاطِلُ من التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ما لَا حُكْمَ له شَرْعًا كَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَنَحْوِهِ وَلِأَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقًّا في النِّكَاحِ بِدَلِيلِ أَنَّ لهم حَقَّ الِاعْتِرَاضِ وَالْفَسْخِ وَمَنْ لَا حَقَّ له في عَقْدٍ كَيْفَ يَمْلِكُ فَسْخَهُ وَالتَّصَرُّفُ في حَقِّ الْإِنْسَانِ يَقِفُ جَوَازُهُ على جَوَازِ صَاحِبِ الْحَقِّ كَالْأَمَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا. بدائع الصنائع (2/247).
نوقش الاستدلال بهذا الحديث:
بأنه لا دلالة فيه على صحة العقد موقوفا على إجازة الولي، بل الحديث صريح في بطلان العقد، وإذا كان العقد باطلا فلا يكون صحيحا بإجازة الولي، بل لابد لتصحيحه من عقد جديد. المغني (7/6).
2 – حديث عائشة رضي الله عنها أنها زوجت ابنة أخيها حفصة بنت عبدالرحمن: المنذر بن الزبير، وعبدالرحمن كان غائبا بالشام، فلما قدم قال: ومثلي يصنع به هذا ويفتات عليه، فكلمت عائشة المنذر بن الزبير فقال المنذر: ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت أرد أمرا قضيتيه، فقرت حفصة عند المنذر ولم يكن ذلك طلاقاً.
وجه الدلالة من الحديث:
أن عائشة رضي الله عنها هي التي باشرت عقد النكاح بنفسها، ثم لما جاء ولي حفصة وهو أبوها عبد الرحمن أجاز هذا العقد، فدل على صحته موقوفا على إجازة الولي.
نوقش الاستدلال بهذا الحديث:
بأن المقصود من تزويج عائشة: تمهيد النكاح وأحواله، وأن هذا المقصود موافق للأحاديث التي روتها عائشة رضي الله عنها نفسها في اشتراط الولي في النكاح مطلقا، بل ثبت عن عائشة رضي الله عنها القول: (ليس إلى النساء نكاح). وقد سبقت هذه المناقشة بشيء من التفصيل.
ثانياً: دليلهم من المعقول:
أن للأولياء حقا في النكاح بدليل أن لهم حق الاعتراض والفسخ، ومن لا حق له في عقد كيف يملك فسخه، والتصرف في حق الإنسان يقف جوازه على جواز صاحب الحق كالأمة إذا زوجت نفسها بغير إذن وليها. بدائع الصنائع (2/247).
نوقش الاستدلال بهذا الدليل:
بأنه تعليل يخالف النصوص الصحيحة الصريحة في اشتراط الولي لصحة النكاح مطلقا وعدم صحته موقوفا على إجازة الولي. المحلى (9/456).
وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : هو أنها إن كانت مالكة للعقد لم تحتج إلى الاستنابة ، وإن كانت غير مالكة لم يصح منها الاستنابة .
والثاني : أنه إن كانت الاستنابة شرطاً لم تحتج إلى إجازة ، وإن لم تكن شرطاً لم تحتج إليها فصار مذهبه فاسد من هذين الوجهين . الحاوي (9/45).
القول الرابع: يصح عقد النكاح بلا ولي إن كان الزوج كفؤا، ولا يصح إن لم يكن كفؤا، وهذا القول رواية الحسن عن أبي حنيفة ورواية عن أبي يوسف، وقيل: إن أبا يوسف قد رجع عنه. المبسوط (5/10)، وشرح معاني الآثار (3/13)، وفتح القدير (3/255 - 256).
دليل أصحاب هذا القول:
أنها إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ يَنْفُذُ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوْلِيَاءِ في النِّكَاحِ من حَيْثُ صِيَانَتُهُمْ عَمَّا يُوجِبُ لُحُوقَ الْعَارِ وَالشَّيْنِ بِهِمْ بِنِسْبَةِ من لَا يُكَافِئُهُمْ بِالصِّهْرِيَّة ِ إلَيْهِمْ وقد بَطَلَ هذا الْمَعْنَى بِالتَّزْوِيجِ من كُفْءٍ يُحَقِّقُهُ أنها لو وَجَدَتْ كفأ وَطَلَبَتْ من الْمَوْلَى الْإِنْكَاحَ منه لَا يَحِلُّ له الِامْتِنَاعُ وَلَوْ امْتَنَعَ يَصِيرُ عَاضِلًا فَصَارَ عَقْدُهَا وَالْحَالَةُ هذه بِمَنْزِلَةِ عَقْدِهِ بِنَفْسِهِ. بدائع الصنائع ( 2/247- 248).
نوقش الاستدلال بهذا التعليل:
أن تقييد صحة النكاح بلا ولي بوجود الكفاءة ليس له مستند شرعي، بل هو مخالف مخالفة صريحة للأحاديث الصحيحة الصريحة في إثبات اشتراط الولي لصحة النكاح مطلقا من غير ذكر الكفاءة أو عدمها. المحلى (9/456).
القول الخامس: أن عقد النكاح يصح بلا ولي إذا كانت المرأة شريفة، أما إذا كانت دنيئة فيصح إن جعلت أمرها إلى رجل صالح من المسلمين.
وشرط هذا القول هو ألا يوجد للدنيئة ولي خاص مجبر، وإلا تتولى النكاح بنفسها بل يتولاه رجل من المسلمين وهو قول مالك. المقدمات الممهدات لابن رشد (1/473)، حاشية العدوي (2/59-60)، وحاشية الدسوقي (2/226).
والمقصود بالشريفة – كما ذكر الدردير– ذات القدر من حسب وعلو نسب وجمال ومال. الشرح الكبير (2/226).
والمقصود بالدنيئة بِالْهَمْزِ لِأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ لِلدَّنَاءَةِ وَالدَّنِيئَةُ غَيْرُ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ التي لَا يُرْغَبُ فيها لِعَدَمِ مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَحَسَبِهَا. الفواكه الدواني (2/8).
دليل أصحاب هذا القول:
هو ما ذكره الباجي بقوله: ووجه رواية الإجازة أن الدنيئة يتعذر عليها رفع أمرها إلى الحاكم، فلو كلفت ذلك لأضر بها وتعذر نكاحها. المنتقى للباجي (3/270).
ولذلك جاز أن تجعل أمرها إلى أحد المسلمين.
نوقش الاستدلال بهذا التعليل من أوجه:
الوجه الأول: أنه لا دليل على التفريق بين الدنيئة والشريفة، بل هو مخالف للأدلة الصريحة في اشتراط الولي مطلقا دون تفريق. المحلى (9/456).
الوجه الثاني: أن هذا القول غير صحيح ، لأنه ليس من دنية إلا وقد يجوز أن يكون في الرجال من هو أدنى منها فاحتيج إلى احتياط الولي فيها.
الوجه الثالث: ثم لو غلب عليه فرقة فقبل الشريفة يمنعها كرم أصلها من وضع نفسها في غير كفء فلم يحتج إلى احتياط الولي ، والدنية يمنعها لؤم أصلها على وضع نفسها في غير كفء لكان مساوياً لقوله ، فوجب إسقاط الفرق بينهما.
الوجه الرابع: قد يقال له لما لم يكن هذا الفرق مانعاً من استوائهما في الشهادة فهلا كان غير مانع من استوائهما في الولي مع كون النصوص في الولي عامة لا تخص بمثل هذا الفرق . الحاوي (9/44).
القول السادس: لا يصح نكاح المرأة بلا ولي إذا كانت بكرا ويصح إذا كانت ثيبا على أن تفوض رجلا من المسلمين لمباشرة العقد. وهو قول داود الظاهري. المحلى (9/455)، والحاوي (9/44).
دليل أصحاب هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول بحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس للولي مع الثيب أمر "
وجه الدلالة من الحديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم خص الثيب بالولاية دون البكر فتستطيع تزويج نفسها دون ولي الحاوي (9/44).
واستدلوا بالْخَبَرِ الثَّابِتِ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من قَوْلِهِ الْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا وَالثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا من وَلِيِّهَا. المحلى (9/457).
نوقش الاستدلال بهذين الحديثين من وجهين:
الوجه الأول: أنه معارض بقَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ) وهو عُمُومٌ لِكُلِّ امْرَأَةٍ ثَيِّبٍ أبو بِكْرٍ.
الوجه الثاني: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام وَالثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا من وَلِيِّهَا أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ عليها أَمْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَلاَ تَنْكِحُ إِلاَّ من شَاءَتْ فإذا أَرَادَتْ النِّكَاحَ لم يَجُزْ لها إِلاَّ بِإِذْنِ وليها فَإِنْ أَبَى أنكحها السُّلْطَانُ على رَغْمِ أَنْفِ الْوَلِيِّ الْآبِيِّ. المحلى (9/457).
واستدل من المعقول :
بأن هناك فرق بين البكر والثيب وذلك بأن الثيب قد خبرت الرجال فاكتفت بخبرتها عن اختيار وليها والبكر لم تخبر فافتقرت إلى اختيار وليها. الحاوي الكبير (9/44).
نوقش الاستدلال بهذا التعليل:
بأن هذا فرق فاسد وعكسه عليه أولى ، لأن خبرة الثيب بالرجال تبعثها على فرط الشهوة في وضع نفسها ، فمن قويت فيه شهوتها والبكر لعدم الخبرة أقل شهوة فكانت لنفسها أحفظ على أن الشهوة مذكورة في طباع النساء قال النبي : ' خلقت المرأة من الرجل فهما في الرجل ' فغلب حكم الشهوة في جميعهن ثيباً وأبكاراً حتى يمنعن من العقد إلا بولي يحتاط لئلا تغلبها فرط الشهوة على وضع نفسها في غير كفء فيدخل به العار على أهلها. الحاوي الكبير (9/44-45).
القول السابع: لا يصح نكاح المرأة بلا ولي إلا إذا أذن لها وليها بمباشرة العقد فيصح. وهو قول أبي ثور. الحاوي الكبير (9/45).
دليل أصحاب هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول بالسنة والمعقول:
أولاً: من السنة: حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل".
وجه الدلالة من الحديث:
أن الحديث نص على أن يراعى إذن وليها دون عقده. الحاوي الكبير (9/45).
فإذا أذن لها الولي ثم باشرت العقد بنفسها فنكاحها صحيح، وإن لم يأذن لها فنكاحها باطل.
نوقش الاستدلال بهذا الحديث من وجهين:
الوجه الأول: أن صريح الخبر يقتضي بطلان النكاح لعدم إذن الولي ودليل خطأئه نقيض صحة النكاح بوجود إذنه ، وهو متروك لأمرين : أحدهما : لما رواه معاذ بن معاذ عن ابن جريج بإسناده المتقدم ذكره أن النبي قال لهما : ' أيما امرأة لم ينكحها وليها فنكاحها باطل ' .
الوجه الثاني: أن إذن الولي الذي يصح به النكاح هو إذن لمن ينوب عنه ، وهو الوكيل ، والمرأة لا تصح أن تكون نائباً عنه ، لأن الحق عليها فلم تكن هي النائبة فيه لاختلاف القرضين فجرى مجرى الوكيل في البيع الذي لا يجوز أن يبيع على نفسه لاختلاف عرضه وعرض موكله.
الوجه الثالث: أن المراد بالإذن بالحديث هو مباشرة الولي العقد بنفسه أو بوكيله فيكون المعنى: أيما امرأة نكحت بغير مباشرة وليها أو وكيله فنكاحها باطل.
ثانيا: دليلهم من المعقول:
تقاس ولاية المرأة على ولاية السفيه، كما يراعى في نكاح السفيه إذن الولي دون عقده كذلك هذا فيراعى في نكاح المرأة إذن الولي دون عقده.
نوقش الاستدلال بهذا التعليل:
بأنه ليس لاعتباره بالإذن للسفيه وجه ، لأن الحجر على السفيه في حق نفسه ، والحجر على المرأة في حقوق الأولياء فافترقا . الحاوي (9/45).
نص الآية: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ( البقرة : 232).
ومعنى قوله إذا تراضوا بينهم بالمعروف إذا تراضى الأزواج والنساء بما يحل ويجوز أن يكون عوضا من أبضاعهن من المهور ونكاح جديد مستأنف. تفسير الطبري (2/488).
نص الآية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } (النساء : 34).
والمراد: يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية وعلل ذلك بأمرين وهبي وكسبي. تفسير البيضاوي (2/184).
نص الآية: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النساء : 25)
والمراد من الآية أي بولاية أربابهن المالكين وإذنهم، وهو دليل على أن المملوكة لا تنكح إلا بإذن أهلها، وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيده لأن العبد مملوك لا أمر له وبدنه كله مستغرق لكن الفرق بينهما أن العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فإن أجازه السيد جاز هذا مذهب مالك وأصحاب الرأي وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد إبن المسيب وشريح والشعبي والأمة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ ولم يجز بإجازة السيد لأن نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من إنعقاد النكاح البتة وقالت طائفة : إذا نكح العبد بغير إذن سيده فسخ نكاحه هذا قول الشافعي والأوزاعي وداؤد بن علي قالوا : لا تجوز إجازة المولى إن لم يحضره لأن العقد الفاسد لا تصح إجازته .. وقد أجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده وقد كان إبن عمر يعد العبد بذلك زانيا ويرى عليه الحد. تفسير القرطبي (5/141)، أحكام القرآن لابن العربي (1/511).
يقول البيضاوي: {فانكحوهن بإذن أهلهن} يريد أربابهن واعتبار إذنهم مطلقا لا إشعار له على أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهم. تفسير البيضاوي (2/173).