الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه
فيما يلي ما استطعت جمعه من العبادات الثابتة للعبد بعد موته :
أولا : في القبر :
وهو خاص بالأنبياء :
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مررت - على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر ، وهو قائم يصلي في قبره " مسلم
قلت : وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك خاص بالأنبياء :
فعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون " أبو يعلى وحسنة الألباني في الصحيحة
وقد يعترض عليه ما جاء في الحديث التالي :
عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان قال : حدثني محمد بن عمرو بن علقمة قال : حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : " إذا وضع الميت في قبره كانت الصلاة عند رأسه ، والزكاة عن يمينه ، والصوم عن يساره ، والصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه ، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة : ما قبلي مدخل ، ثم يؤتى من قبل يمينه فتقول الزكاة : ما قبلي مدخل ، ثم يؤتى من قبل يساره فيقول الصوم : ما قبلي مدخل ، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول الصدقة : ما قبلي مدخل قال : فيجلس " قال أبو هريرة : فإنه يسمع قرع نعالهم قال : فيجلس ويمثل له الشمس قد دنت للغروب ، فيقول : دعوني أصلي ، فيقال له : إنك ستفعل ، فيقال له : ما تقول في هذا الرجل ؟ يقول : أمحمد ؟ قالوا : نعم : قال : أشهد أنه جاء بالحق من عند الله قال : فيقال له : عليها حييت وعليها مت وعليها تبعث إن شاء الله قال : فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال : فيفتح له باب من النار فينظر إلى مساكنه فيها ، فيقال له : لو كنت عصيت كانت هذه مساكنك ، فيزداد غبطة وسرورا ، ويفسح له في قبره قال : سبعين ، قال عبد الرحمن بن يحيى بن حنطب : ثم يقال : نم نومة العروس لا يوقظه إلا أحب الخلق إليه رجع الحديث إلى أبي هريرة قال : " تجعل روحه في النسيم الطيب في أجواف طير تعلق بين شجر من شجر الجنة ، أو تعلق بشجر الجنة قال : وتعود الأجساد للذي خلقت له.
قال : وإن الكافر يؤتى من قبل رأسه فلا يوجد له شيء ، فيجلس ثم يقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ، مرتين ؟ لا يذكره حتى يلقنه ، فيقول : محمدا قال : كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال له : صدقت ، عليها حييت وعليها مت وعليها تبعث إن شاء الله ، ثم يفتح باب من الجنة فيرى مساكنها فيقال له : لو كنت فعلت وأطعت الله كانت هذه مساكنك ، فيزداد حسرة وثبورا قال : ثم يغلق عليه ويفتح له باب من النار فيرى مساكنه فيها وما أعد الله له من العذاب ويزداد حسرة وثبورا ، ويضيق عليه قبره حتى تلتقي أضلاعه " ، فذلك قول الله عز وجل : معيشة ضنكا قال : " وتجعل روحه في سجين " مصنف عبد الرزاق الصنعاني
قلت : ظاهر الحديث أن المسلم تُمثل له الشمس عند غروبها فيظن أنه في الدنيا وستفوته صلاة العصر فيطلب من الملكين أن يصلي الصلاة المفروضة فيقولان له ( إنك ستفعل ) أي لو كنت في الدنيا فلن تضيعها لحرصك عليها كيف لا وقد فزعت إليها أول ما استيقظت .ومما يدل على ذلك ما جاء في نهاية الحديث من أن المسلم ينام نومة العروس إلى يوم القيامة وغيره من أنواع الجزاء الحسن ولم يذكر في الحديث وقوع الصلاة منه .
وكذلك فإن وقوع الصلاة من المسلمين عامة في القبر ينفي خصوصية صلاة الأنبياء في قبورهم الثابتة لهم .
ثم ثبت أيضا صلاة الأنبياء في حديث الإسراء وقد أمهم النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة على الصحيح .
عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكربت كربة ما كربت مثله قط " ، قال : " فرفعه الله لي أنظر إليه ، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به ، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلي ، فإذا رجل ضرب ، جعد كأنه من رجال شنوءة ، وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي ، أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي ، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم ، فلما فرغت من الصلاة قال قائل : يا محمد ، هذا مالك صاحب النار ، فسلم عليه ، فالتفت إليه ، فبدأني بالسلام " مسلم
قلت : وهذه الصلاة أيضا خاصة بالأنبياء وهو ظاهر .
ثانيا : يوم القيامة :
عن ابن عباس رضي الله عنهم ، قال : بينما رجل واقف بعرفة ، إذ وقع عن راحلته ، فوقصته - أو قال : فأوقصته - قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبين ، ولا تحنطوه ، ولا تخمروا رأسه ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " متفق عليه
عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقصت رجلا راحلته ، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغسلوه بماء وسدر وأن يكشفوا وجهه - حسبته قال - ورأسه ، فإنه يبعث يوم القيامة وهو يهل ) مسلم
ثم جاء النص عاما :
فعن جابر ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : " يبعث كل عبد على ما مات عليه " مسلم
قال النووي في شرحه على مسلم» (17/ 210): " قال العلماء معناه يبعث على الحالة التي مات عليها"
وقد جاء في لفظ : " يبعث كل عبد على ما مات عليه المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه "
قلت : وقد جاء في بعث الشهيد والمقتول ظلما وأحوالهما ما لا يتعلق بموضوعنا ما يدل على بعث العبد على الحال الذي مات عليه .
وفي حديث الشفاعة ثبت سجود النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى وتحميده .
" ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ، فأنطلق حتى أستأذن على ربي ، فيؤذن لي ، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله ، ثم يقال : ارفع رأسك وسل تعطه ، وقل يسمع واشفع تشفع ، فأرفع رأسي ، فأحمده بتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأدخلهم الجنة " البخاري
وفي رواية :
" ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فيأتوني ، فأقول : أنا لها ، فأستأذن على ربي ، فيؤذن لي ، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن ، فأحمده بتلك المحامد ، وأخر له ساجدا ، فيقول : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقول : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود ، فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقول : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة - أو خردلة - من إيمان فأخرجه ، فأنطلق ، فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدا ، فيقول : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع " البخاري
وكذلك سجود المؤمنين عند كشف الله تعالى عن ساقه :
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِئَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا " البخاري .
ثالثا : في الجنة :
عن جابر ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : " إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ، ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون " قالوا : فما بال الطعام ؟ قال : " جشاء ورشح كرشح المسك ، يلهمون التسبيح والتحميد ، كما تلهمون النفس " مسلم
قلت : وهذا التسبيح ونحوه إنما هو إلهام كما نتنفس في الدنيا .
وعن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقال لصاحب القرآن : اقرأ ، وارتق ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها " أبو داوّد وابن ماجة وصححه الألباني
قلت : وهذه القراءة إنما هي بأمر من الله تعالى لقارئ القرءان ليرفع المؤمن إلى درجته في الجنة .
قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها» (5/ 284):
( واعلم أن المراد بقوله: " صاحب القرآن "، حافظه عن ظهر قلب على حد قوله صلى الله عليه وسلم " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله.. "، أي أحفظهم، فالتفاضل في درجات الجنة إنما هو على حسب الحفظ في
الدنيا، وليس على حسب قراءته يومئذ واستكثاره منها كما توهم بعضهم، ففيه فضيلة ظاهرة لحافظ القرآن، لكن بشرط أن يكون حفظه لوجه الله تبارك وتعالى، وليس للدنيا والدرهم والدينار، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: " أكثر منافقي أمتي قراؤها ")
وعن عائشة ، أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دخلت الجنة فسمعت قراءة ، فقلت : من هذا ؟ قيل : هذا حارثة بن النعمان ، كذاكم البر " ابن حبان وصححه الألباني
وفي مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا قال حدثنا علي بن الجعد وغيره ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة القرآن ، فقلت : من هذا ؟ فقيل : حارثة بن النعمان . قال : كذلكم البر ، كذلكم البر كذلكم البر "
قلت : وسنده صحيح رجاله رجال البخاري .
وهذه القراءة إنما هي درجة في الجنة للصحابي الجليل حارثة بن النعمان رضي الله عنه لبره بوالدته وقوله ( كذلكم البر ) يعني ينالها من كان بارا بوالدته . والله أعلم .
وقد تبين مما تقدم أن العبادات التي تكون في الجنة ليست مما يطلبه العبد من تلقاء نفسه بل هي بأمر الله تعالى سبحانه على وجه التكريم ونيل الدرجات .
واله أعلم .
المعيصفي