مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (4)
المهندس مثنى محمد هبيان
[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الفاتحة:2}
السؤال الأول:
ما معنى الحمد ؟ وما الفرق بين الحمد والمدح ؟
الجواب:
معنى الحمدِ: الثناء على الجميل من النعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال. فالحمد أن تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية، كالعلم والصبر والرحمة ،أم على عطائه وتفضُّله على الآخرين. ولا يكون الحمد إلا للحي العاقل.
وهذا أشهر ما فرق بينه وبين المدح فقد تمدح جماداً ولكن لا تحمده .
وقد ثبت أنّ المدح أعم من الحمد, فالمدح قد يكون قبل الإحسان وبعده , أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان. فالحمد يكون لما هو حاصل من المحاسن في الصفات أو الفعل فلا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد , أمّا المدح فقد يكون قبل ذلك؛ فقد تمدح إنسانا ولم يفعل شيئاً من المحاسن والجميل؛ ولذا كان المدح منهياً عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «احثوا التراب في وجه المداحين» بخلاف الحمد فإنه مأمور به؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من لم يحمد الناس لم يحمد الله».
وبذا علمنا من قوله: {الحَمْدُ للهِ }أن الله حيٌّ له الصفات الحسنى والفعل الجميل، فحمدناه على صفاته وعلى فعله وإنعامه, ولو قال : (المدح لله) لم يفد شيئاً من ذلك، فكان اختيار الحمد أولى من اختيار المدح.
السؤال الثاني :
لِمَ لم يقل سبحانه (الشكر لله) ؟
الجواب:
لأنّ الشكر لا يكون إلا على النعمة ولا يكون على صفاته الذاتية، فإنك لا تشكر الشخص على علمه أو قدرته , وقد تحمده على ذلك .
وقد جاء في «لسان العرب» : (والحمد والشكر متقاربان، والحمد أعمُّهما لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته, فكان اختيار الحمد أولى أيضا من الشكر لأنه أعم، فإنك تثني عليه بنعمه الواصلة إليك وإلى الخلق جميعاً, وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية , وإن لم يتعلق شيء منها بك، فكان اختيار الحمد أولى من المدح والشكر.
السؤال الثالث:
قوله تعالى {الحَمْدُ للهِ }ولِمَ لم يقل (أحمد الله) أو (نحمد الله) ؟
الجواب:
قوله تعالى : {الحَمْدُ للهِ }أولى من وجوه عدة:
1ـ أنّ القول (أحمد الله) أو (نحمد الله) مختص بفاعل معين، ففاعل (أحمد) هو المتكلم وفاعل (نحمد) هم المتكلمون , في حين أنّ عبارة (الحمد لله) مطلقةٌ لا تختص بفاعل معين وهذا أولى , فإنك إذا قلت : (أحمد الله) أخبرت عن حمدك أنت وحدك ولم تفد أنّ غيرك حمده , وإذا قلت : (نحمد الله) أخبرت عن المتكلمين ولم تفد أنّ غيركم حمده , في حين أنّ عبارة (الحمد لله) لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الإطلاق منك ومن غيرك.
2ـ وقول (أحمد الله) تخبر عن فعلك أنت ولا يعني ذلك أنّ من تحمده يستحق الحمد، في حين إذا قلت (الحمد لله) أفاد ذلك استحقاق الحمدِ للهِ وليس مرتبطاً بفاعل معين.
3ـ وقول (أحمد الله) أو (نحمد الله) مرتبط بزمن معين؛ لأنّ الفعل له دلالة زمنية معينة، فالفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال ومعنى ذلك أنّ الحمد لا يحدث في غير الزمان الذي تحمده فيه.
ولا شك أنّ الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمد فيه محدود، وهكذا كل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن، وإنّ أقصى ما يستطيع أن يفعله أنْ يكون مرتبطاً بعمره ولا يكون قبل ذلك وبعده فعل، فيكون الحمد أقل مما ينبغي, وحمد الله لا ينبغي أن ينقطع ولا يحد بفاعل أو بزمان , ولذلك فإنّ عبارة {الحَمْدُ للهِ } مطلقة غير مقيدة بزمن معين ولا بفاعل معين، فالحمد فيها مستمر غير منقطع.
جاء في «تفسير الرازي» أنه لو قال :(أحمد الله) أفاد ذلك كون القائل قادراً على حمده، أمّا لما قال (الحمد لله) فقد أفاد ذلك أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين، فهؤلاء سواء حمدوا أم لم يحمدوا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم.
وقول (أحمد الله) جملة فعلية و(الحمد لله) جملة اسمية , والجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد في حين أنّ الجملة الاسمية دالة على الثبوت، وهي أقوى وأدوم من الجملة الفعلية. فاختيار الجملة الاسمية أولى من اختيار الجملة الفعلية ههنا؛ إذ هو أدل على ثبات الحمد واستمراره.
4ـ وقول (الحمد لله) معناه أن الحمد والثناء حقٌّ لله وملكه، فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلآئه على العباد. فقولنا: (الحمد لله) معناه : أنّ الحمد لله حق يستحقه لذاته، ولو قال :(أحمد الله) لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد بذاته, ومعلوم أنّ اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أنّ شخصاً واحدا حمده.
والحمد عبارة عن صفة القلب، وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلاً منعماً مستحقاً للتعظيم والإجلال. فإذا تلفَّظَ الإنسان بقوله : (أحمد الله) مع أنه كان قلبه غافلاً عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذباً لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامداً مع أنه ليس كذلك.
أما إذا قال: (الحمد لله) سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأنّ معناه: أنّ الحمد حق لله وملكه , وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والاجلال أو لم يكن. فثبت أنّ قوله (الحمد لله) أولى من قوله (أحمد الله) أو من (نحمد الله).
ونظيره قولنا {لَا إِلَهَ إِلَّا} فإنه لا يدخل في التكذيب، بخلاف قولنا "أشهد أن لا اله إلا الله" لأنه قد يكون كاذباً في قوله "أشهد" ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} {المنافقون:1} .
السؤال الرابع:
لماذا لم يقل{الحَمْدُ للهِ }بالنصب أي ( الحمد َ لله )؟
الجواب:
إن قراءة الرفع أولى من قراءة النصب، ذلك أنّ قراءة الرفع تدل على أنّ الجملة اسمية، في حين أنّ قراءة النصب تدل على أنّ الجملة فعلية، بتقدير"نحمد" أو "أحمد" او «احمدوا» بالامر، والجملةُ الاسمية أقوى وأثبت من الجملة الفعلية؛ لأنها دالة على الثبوت.
وقد يقال : أليس تقدير فعل الأمر في قراءة النصب أقوى من الرفع بمعنى «احمدوا الحمد لله» كما تقول: «الإسراع في الأمر» بمعنى أسرعوا؟
والجواب: لا . فإن قراءة الرفع أولى أيضاً ذلك لأنّ الأمر بالشيء لا يعني أنّ المأمور به مستحق للفعل، وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أمر به فكان {الحَمْدُ للهِ } بالرفع أولى من ( الحمد َ لله ) بالنصب في الإخبار والأمر.
السؤال الخامس:
لماذا لم يقل «حمداً لله»؟
الجواب:
الحمد لله معرَّفةٌ بأل، وحمداً نكرة, والتعريف هنا يفيد ما لا يفيده التنكير، ذلك أن «أل» قد تكون لتعريف العهد فيكون المعنى: أنّ الحمد المعروف بينكم هو لله، وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق فيدل على استغراق الأحمدة كلها، ورجح بعضهم المعنى الأول ورجح بعضهم المعنى الثاني، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : «اللهم لك الحمد كله» فدل على استغراق الحمد كله، فعلى هذا يكون المعنى: أنّ الحمد المعروف بينكم هو لله على سبيل الاستغراق والإحاطة فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه.
السؤال السادس:
{الحَمْدُ للهِ } أهي خبر أم انشاء؟
الجواب:
الخبر هو ما يحتمل الصدق أو الكذب , والإنشاء هو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب.
قال أكثر النحاة والمفسرين :إنّ (الحمد لله) إخبار كأنه يخبر أنّ الحمد لله سبحانه وتعالى، وقسم قال : إنها إنشاء؛ لأنّ فيها استشعار المحبة، وقسم قال : إنها خبر يتضمن إنشاء.
وأحيانا يحتمل أنْ تكون التعبيرات خبراً أو إنشاء بحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه, فعلى سبيل المثال قد نقول : (رزقك الله) ونقصد بها الدعاء وهذا إنشاء، وقد نقول: (رزقك الله وعافاك) والقصد منها: أفلا تشكره على ذلك؟ وهذا خبر.
والحمد لله هي من العبارات التي يمكن أنْ تستعمل خبراً وإنشاء بمعنى الحمد لله خبر, ونستشعر نعمة الله علينا ونستشعر التقدير كأنْ نقولها عندما نستشعر عظمة الله سبحانه في أمر ما فنقول : الحمد لله.
السؤال السابع:
لماذا لم يقل سبحانه : إنّ الحمد لله؟
الجواب:
لا شك إنّ الحمد لله , لكن هناك فرق بين التعبيرين أنْ نجعل الجملة خبراً محضاً في قول{الحَمْدُ للهِ } حيث (تعمل للخبر أو الإنشاء) ولكن عندما تدخل عليه (إنّ) لا يمكن إلا أنْ يكون إنشاء , لذا فقول : (الحمد لله) أولى لما فيه من الإجلال والتعظيم والشعور بذلك , لذا جمعت {الحَمْدُ للهِ }بين الخبر والإنشاء ومعناهما. مثلا نقول : رحمة الله عليك (هذا دعاء) وعندما نقول : إنّ رحمة الله عليك، فهذا خبر وليس دعاء .
ومن المعلوم أنه في اللغة قد تدخل بعض الأدوات على عبارات فتغير معناها مثال: رحمه الله (دعاء) أما: قد رحمه الله (إخبار) , رزقك الله (دعاء) أما : قد رزقك الله (إخبار)
السؤال الثامن:
لماذا لم يقل سبحانه : لله الحمد؟
الجواب:
لله الحمد : تقال إذا كان هناك كلام يراد تخصيصه ,مثال(لفلانٌ الكتاب) تقال للتخصيص والحصر, وإذا قُدِّمَ الجارُ والمجرورُ على اسم العلم يكون بقصد الاختصاص والحصر (لإزالة الشك أنّ الحمد سيكون لغير الله)
الحمد لله في الدنيا ليست مختصة لله سبحانه وتعالى. الحمد في الدنيا قد تقال لأستاذ أو سلطان عادل , وأمّا العبادة فهي قاصرة على الله سبحانه وتعالى .
والمقام في الفاتحة ليس مقام اختصاص أصلاً , وليست مثل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أو {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقد وردت في القران الكريم{فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] .
لا أحد يمنع التقديم، لكنّ التقديم والتأخير في القرآن الكريم يكون حسب ما يقتضيه السياق. والمقام في سورة الفاتحة هو مقام مؤمنين يقرون بالعبادة ويطلبون الاستعانة والهداية , أمّا في سورة الجاثية فالمقام في الكافرين وعقائدهم وقد نسبوا الحياة والموت لغير الله سبحانه، لذا اقتضى ذكر تفضله سبحانه بأنه خلق السموات والأرض وأثبت لهم أنّ الحمد الأول لله سبحانه على كل ما خلق لنا، فهو المحمود الأول، لذا جاءت (فلله الحمد) مقدَّمةً حسب ما اقتضاه السياق العامُّ للآيات في السورة.
السؤال التاسع:
لماذا التفصيل في الجاثية { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] ولم ترد في الفاتحة؟
الجواب:
1ـ في الجاثية : تردَّدَ ذكر السموات والأرض وما فيهن وذكر ربوبية الله تعالى لهما, فقد جاء في أول السورة {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الجاثية:3] فلو نظرنا في جوِّ سورة الجاثية نلاحظ ربوبية الله تعالى للسموات والأرض والخلق والعالمين مستمرة في السورة كلها. قال تعالى : {وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الجاثية:27 يعني هو ربُّهما {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ} [الجاثية:27 إذن هو رب العالمين {وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ} [الجاثية:22] فهو ربهما {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية:22] فهو ربُّ العالمين. {فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] فجمع الربوبية في السموات والارض والعالمين في آية واحدة , أمّا في الكلام في الفاتحة فهو عن العالمين فقط وذكر أصناف الخلق من العالمين {المؤمِنينَ} ، {الضَآلِينَ}.. لذا ناسب التخصيص في الجاثية وليس في الفاتحة.
يتبع