فصل
حالات أخرى يجوز فيها قتل المسلم :
1) الحرابة : ــ وهي خروج طائفة مسلحة في دار الإسلام لإحداث الفوضى وسفك الدماء وسلب الأموال وهتك الأعراض وإهلاك الحرث والنسل .
ولا فرق بين أن تكون هذه الطائفة من المسلمين أو الذميين أو المعاهدين أو الحربيين ما دام ذلك في دار الإسلام وما دام عدوانها على كل محقون الدم قبل الحرابة من المسلمين أو الذميين .
وكما تتحقق الحرابة بخروج جماعة من الجماعات فإنها تتحقق كذلك بخروج فرد من الأفراد
. [ فقه السنة لسيد سابق ج 2 ص 464 ]
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى : ــ الأصل في حكمهم هو قول الله تعالى
{ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ }
[ المائدة 33 ] .
وهذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وبه يقول مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي .
الشروط التي تعتبر بها الحرابة :
قال ابن قدامة : ــ للحرابة ثلاثة شروط هي : ــ
1: اشترط بعض العلماء أن تكون في الصحراء ( بعيدا ً عن قوة السلطان ) .
ومن قال بهذا هم ( أبو حنيفة والثوري واسحق ) .
وأكثر العلماء أن المحاربة تكون في كل مكان .
ومن قال بهذا هم ( المالكية والشافعية وأصحاب أحمد وأبو يوسف والظاهرية والليث والأوزاعي وأبو ثور وغيرهم ) .
2: أن يكون معهم سلاح :فإن لم يكن معهم سلاح فهم غير محاربين لأنهم لا يمنعون من يقصدهم . ولا نعلم في هذا خلافا ً نعلمه .
فإن عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون وبه قال الشافعي وأبو ثور .
3: أن يأتوا مجاهرة ( علنا ً) ويأخذوا المال قهرا ً .
فأما إن أخذوه مختفين فهم سرّاق . وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم .
[ المغني ج 9 ص 124/125 ]
عقوبة الحرابة : ـ
قال ابن تيمية : وقول أكثر أهل العلم ومنهم الشافعي وأحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في قطاع الطريق أنهم :
إذا قَتلوا وأخذوا المال قُتِلوا وصُلِبوا .
وإذا قَتلوا ولم يأخذوا المال قُتلوا ولم يُصلبوا .
وإذا أخذوا المال ولم يَقتلوا قُطِعت أيديهم وأرجلهم من خلاف .
وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا ً نفوا من الأرض .
وقال : فمن كان من المحاربين قد قَتَل فإنه يقتله الإمام حدا ً لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء ذكره ابن المنذر .
ولا يكون أمره إلى أولياء المقتول .
وقال : حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا ً والمقتول عبدا ً أو القاتل مسلما ً والمقتول ذميا ً ( كافر غير محارب في ديار الإسلام ) أو مستأمنا ً ( كافر محارب عنده أمان من المسلمين في دار الإسلام ) . فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة ؟ والأقوى أنه يقتل . لأنه قتل للفساد العام حدا ً .
وقال وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان .
فالجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة وأن الردء ( المعاونون ) والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين .
فان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء ولأن المباشر إنما تمكن من قتله بقوة الردء ومعونته .
وقال فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع .
[ مجموع الفتاوى ج28 ص 311 ]
2) المسلم الصائل : ــ
عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال (( جاء رجل فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي , قال : فلا تعطه مالك ., قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : قاتله , قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد , قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال : هو في النار ))
)) [ مسلم والنسائي صحيح ]
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
قال (( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد)) . [ الترمذي / صحيح ]
عن سعيد بن زيد رضي الله عنه
قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول (( من قتل دون دينه فهو شهيد , ومن قتل دون دمه فهو شهيد , ومن قتل دون ماله فهو شهيد , ومن قتل دون أهله فهو شهيد )) [ أبو داوّد والترمذي والنسائي / صحيح ]
قال الشوكاني : ــ وأحاديث الباب فيها دليل على أنه تجوز مقاتلة من أراد أخذ مال إنسان من غير فرق بين القليل والكثير إذا كان الأخذ بغير حق .
وهو مذهب الجمهور كما حكاه النووي والحافظ في الفتح .
وقال بعض العلماء : إن المقاتلة واجبة .
وقال بعض المالكية : لا تجوز إذا طلب الشيء الخفيف .
ولعل متمسك من قال بالوجوب ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه
من الأمر بالمقاتلة والنهي عن تسليم المال إلى من رام غصبه .
وأما القائل بعدم الجواز في الشيء الخفيف , فعموم أحاديث الباب يرد عليه .
ولكنه ينبغي تقديم الأخف فالأخف .
فلا يعدل المدافع إلى القتل مع إمكان الدفع بدونه .
وكما تدل الأحاديث المذكورة على جواز المقاتلة لمن أراد أخذ المال تدل على جواز المقاتلة لمن أراد إراقة الدم والفتنة في الدين والأهل .
وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه قال : من أريد ماله أو نفسه أو حريمه فله المقاتلة وليس عليه عقل ولا دية ولا كفارة .
قال ابن المنذر : والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلما ً بغير تفصيل .
إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه . انتهى
وأحاديث الباب مصرحة بأن المقتول دون ماله ونفسه وأهله ودينه شهيد .
ومقاتله إذا قُتِل في النار , لأن الأول محق والثاني مبطل .
[ نيل الأوطار ج 9 ص 143/145 ]
3 ) قتل من أراد تفريق المسلمين وهم جميع :
▪عن عرفجة رضي الله عنه
قال (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان )) [ مسلم ]
▪وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا بويع لخليفتين ، فاقتلوا الآخر منهما )) [ مسلم ]
قال النووي :
ومعنى هذا الحديث إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها ويحرم عليه طلبها وسواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول أو جاهلين وسواء كانا في بلدين أو بلد أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل والآخر في غيره .
هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء .
وقيل تكون لمن عقدت له في بلد الإمام وقيل يقرع بينهم وهذان فاسدان .
واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد سواء اتسعت دار الإسلام أم لا .
وقال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد قال أصحابنا لا يجوز عقدها شخصين قال وعندي أنه لا يجوز عقدها لإثنين في صقع واحد وهذا مجمع عليه .
[ شرح النووي على صحيح مسلم ج12/ص231 / 232 ]
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (( ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر )) [ مسلم ]
معناه ادفعوا الثاني فإنه خارج على الإمام فإن لم يندفع إلا بحرب وقتال فقاتلوه فإن دعت المقاتلة إلى قتله جاز قتله ولا ضمان فيه لأنه ظالم متعد في قتاله .
[شرح النووي على صحيح مسلم ج12/ص234 ]
فصل
شبهات استحلت بها الدماء المعصومة والمحرمة
1:التترس
إن من أعظم الأسباب التي أدت إلى إزهاق أرواح المسلمين وسفك الدماء المعصومة أو المحرم سفكها هي الطريقة التي فهم بها الكثير من المقاتلين في العراق وغيره من بلاد الإسلام مسألة التترس .
فكانت من المصائب العظيمة التي أصابت المسلمين في العراق وغيره من بلاد الإسلام التي ابتليت بالعدوان الصليبي واليهودي.
فبعد قيام المسلمين في هذه البلاد بواجب جهاد الدفع . لدفع هؤلاء المعتدين الظالمين . ولخصوصية المعركة التي يخوضها المسلمون اليوم ولكونها تختلف عن المعارك التي كان يخوضها المسلمون في فترات التأريخ السالفة من حيث كيفيتها وأسلحتها وطرق القتال فيها .
وبسبب تصدر من ليس أهلا ً للفتوى .
مما أدى إلى ظهور فتاوى رجالها ليسوا من الفقهاء أو العلماء بل هم في أحسن أحوالهم طلاب علم في بداية الطريق لطلب العلم .
ذهبوا إلى نصوص الكتاب والسنة فاستنبطوا منها أحكاما ما سبقهم بها من أحد من العلماء .
فتارة خالفوا إجماع الأمة . وأخرى قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين بغير دليل .
وبحثوا في كتب العلماء عن متشابه القول فأخذوا به وتركوا محكمه .
أو عن قول ليس له مستند من كلام ربنا جل وعلى ومن كلام نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بل هو مجرد اجتهاد من ليس بمعصوم . وهو مخالف لأدلة الكتاب والسنة ..
أو قد تكون الحالة التي أفتى فيها العالم في مسألة ما لا تشبه الحالة التي أراد هؤلاء تطبيق قول العالم فيها .
فقد يكون للمسألة علة لا يصح قياس غيرها عليها إلا إذا توفرت نفس العلة .
ومن هذه الفتاوى اعتبار مرور المسلمين بالقرب من مكان قد جعله بعض المقاتلين هدفا ً من غير أن يعلم من يمر من المسلمين بذلك .
وكذلك وجود المسلم في مكان عام مثل السوق أو الطريق العام أو قرب بيته أو مزرعته أو مدرسته ومرور دورية للعدو بالقرب منه .
أن العدو قد تترس بهذا المسلم .
ولذلك فإنه يجوز ضرب العدو وإن أدى هذا الضرب إلى إزهاق روح المسلم .
وقد يكون هذا المسلم المقتول من المجاهدين . وفي أحيان كثيرة لا يتضرر العدو من هذه الضربات بل الذي يتضرر هم المسلمون .
فاستحلت الدماء المعصومة من غير دليل من كتاب أو سنة ولا برهان مبين .
ولقد كان أحدُهم يَسألُ عن دليل السنن والنوافل من العبادات ويتوقف ولا يفعل أي عبادة حتى يأتيه الدليل الصحيح فيعمل به حينئذ .
ولا يرضى قول العالم إلا بدليل صحيح من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما اليوم وحينما تتعلق المسألة بالدماء المعصومة ترى كثير منهم يتسارعون ويتنافسون في استحلال هذه الدماء والأرواح لمجرد حديث ضعيف أو لقول عالم ليس عليه دليل . أو لفهم خاطئ أو اتباع الهوى .
من أجل ذلك فإني بحثت في كتب المذاهب الأربعة وغيرها وفي كتب التفسير عن التترس وأحكامه .
لكي يعلم الجميع حكم هذه المسألة من خلال أدلة الكتاب والسنة وبفهم علماء الأمة .
وهل صورة التترس التي يدّعون هي نفس الصورة التي تكلم عنها العلماء ؟
وأبدأ بما يلي :
أولا : معنى التترس :
▪التَتَرُس لغة ً : تترس أي توقى بشيء .
[ لسان العرب لابن منظور ج 6 ص 32 ]
▪التُرْس : مسلمون أسرى عند العدو يحتمي بهم العدو من ضربات الجيش المسلم .
▪التترس ( باستقراء أقوال الفقهاء ) : هو أن يقوم العدو بوضع من لا يحل قتله عند المسلمين مثل مسلمين أسرى واحد فأكثر وجعلهم بينهم وبين جيش المسلمين لكي يحتمون بهم من ضربات المسلمين .
[ تفسير القرطبي ج 16 ص 288 وغيره ]
ثانيا ً : إن الأصل في حكم دم المسلم هو تحريم سفكه وكذلك تحريم أذية المسلم
والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع لا يجهلها مسلم .
فمن القرآن الكريم
قوله تعالى { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ً }
[ النساء 93 ]
ومن السنة
قوله عليه الصلاة والسلام ( كل المسلم على المسلم حرام ، دمه ، وماله ، وعرضه )
[ الجماعة إلا البخاري والنسائي ]
وأما الإجماع فقال النووي : فلا خلاف بين الأمة في تحريم القتل بغير حق .
[ المجموع للنووي / كتاب الجنايات ج 18 ص 346]
فالذي يستحل دماء المسلمين في حالة معينة فيجب عليه أن يأتي بدليل من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم يبيح له ذلك .
فإن لم يجد دليلا ً فالواجب هو البقاء على الأصل وهو التحريم .
ثالثا ً : إن حالة التترس التي جوز فيها جمهور الفقهاء ضرب العدو بشرط تجنب ضرب الترس المسلم وإن أدى ذلك إلى قتل الترس المسلم لا تنطبق على واقع المعركة مع العدو اليوم.
وذلك لأن حالة التترس المقصودة في أقوال العلماء لها شروط و أحكاما ً هي :