تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 19 من 19 الأولىالأولى ... 910111213141516171819
النتائج 361 إلى 378 من 378

الموضوع: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

  1. #361
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب البيع)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (361)

    صـــــ(1) إلى صــ(14)





    شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [7]
    اختلف العلماء في حكم أخذ الأجرة على الأذان وتعليم القرآن والفتوى وغيرها من القربات، فمنهم من قال بالجواز، ومنهم من قال بالتحريم، وطائفة فصلوا في هذه المسألة، ولكل صاحب قول أدلته، ولكن الراجح القول بالجواز.
    ويلزم المؤجر تجهيز كل ما يلزم في العين المؤجرة حتى يتم للمستأجر الانتفاع بها حسب العرف.
    حكم أخذ الأجرة على الأذان أو تعليم القرآن ونحوهما
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة] .
    شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بمحل الإجارة، فبين أن مما يمتنع ولا يصح أن يؤجر عليه: أعمال القربة التي يختص فاعلها بالتعبد، وتوضيح ذلك: أن العبادات منها ما هو فرض عين على المكلف، قصد الشرع أن يقوم المكلف بفعله بنفسه، فهذا النوع من العبادات لا يستقيم أن يقيم غيره مقامه، وبعبارة أخرى كما يقول العلماء رحمهم الله: إن هذا النوع من العبادة لا تدخله النيابة من حيث الأصل، فيشمل ذلك الصلاة، فلا يجوز أن يصلي شخص مكان آخر، ولا أن يقوم بفعلها نيابة عن قريب أو غريب.
    فهذا النوع من العبادات والتي يسميها العلماء بفرائض العين، وفرض العين هو الذي قصد الشرع أن يقوم المكلف به بعينه، فحينئذ لو دخل بديل عن هذا المكلف فإن مقصود الشرع لا يتحقق، فلو قال رجل لآخر: صل عني الصلوات الخمس أو بعضها وأعطيك عن كل صلاة كذا وكذا؛ لم يصح.
    فإذا: لا يصح أن يستأجره للقيام بفريضة العين؛ لأن الشرع قصد أن يقوم بها المكلف بنفسه عينا، فلا يستقيم أن يقوم غيره مقامه، لا على سيبل التبرع ولا على سبيل العوض، هذا بالنسبة لفرائض الأعيان.
    وهناك قربات أخر دل الشرع على جواز النيابة فيها، وبالإمكان أن يقوم شخص مقام آخر في القيام بهذه العبادات، أو تكون الطاعة نفسها مما يتقرب به إلى الله عز وجل، ويكون قربة للشخص نفسه، فمثلا: الأذان، وتعليم القرآن، والإمامة في الصلوات، والتعليم والتدريب والفتوى.
    ونحو ذلك من الأمور المتعلقة بالطاعات والعبادات في تعليمها والقيام بها، فلو أن شخصا أراد أن يستأجر شخصا للأذان، أو أراد أن يستأجره للقيام بالفتوى أو الإمامة أو التدريس ونحو ذلك، فهل تجوز الإجارة على هذا النحو من القربات؟ للسلف رحمهم الله في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهي المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله وصدر بها هذه الجملة: القول الأول: لا يستأجر على هذه الطاعات والقربات، فلا يجوز أن تدفع المال من أجل أن يؤذن، ولا يجوز أن تدفع المال من أجل أن يعلم القرآن، ولا يجوز أن تدفع المال إليه من أجل التعليم والإمامة ونحو ذلك من القربات التي ذكرنا، وهذا القول قال به طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وقال به أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي وكذلك قال به ابن المنذر، وقال به إسحاق بن راهويه، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو مذهب الحنفية، أي: أنه لا يجوز أن يستأجر الغير للقيام بالطاعات التي ذكرناها، لا أذانا ولا صلاة ولا إمامة ولا تدريسا ولا نحو ذلك من الطاعات والقربات.
    بناء على هذا القول: لو انعقدت الإجارة بين الطرفين على فعل هذه الأمور فإنه لا يستحق الأجير شيئا، ولا تكون الإجارة شرعية.
    القول الثاني: يجوز أن يستأجر الغير للقيام بهذه الأعمال والطاعات، ولا بأس بذلك، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد -رحمة الله على الجميع- ولذلك ينسبه بعض أهل العلم إلى الجمهور: أنه يجوز أن تستأجر الشخص للقيام بتعليم القرآن، وتقول له: علم ابني هذا الجزء من القرآن برواية نافع، أو برواية حفص، أو برواية ورش عن نافع، ونحو ذلك من الاتفاق الذي تبينه له، ولا بأس بذلك ولا حرج، ويجوز أن تستأجره للأذان وللإمامة وللتدريس والتعليم ونحو ذلك، وهو مذهب الجمهور كما ذكرنا.
    القول الثالث: التفصيل: قال: إن وقع العقد بالشرط فلا يجوز، وإن وقع بدون شرط فهو جائز.
    ومرادهم بكونه بشرط أن يقول الشخص: أنا لا أدرس حتى تعطيني المال، أو لا أؤذن حتى تعطيني كذا وكذا، أو لا أؤم الناس حتى تعطيني كذا وكذا.
    فهذا النوع يسمى المشارطة، أي: أنه جعل العوض والأجرة شرطا للقيام بالطاعة، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد، رحمة الله على الجميع.
    تحصل معنا أن في هذه المسألة ثلاثة أقوال: قول بالمنع مطلقا، وقول بالجواز مطلقا، وقول بالتفصيل.
    حالة التفصيل يجيزون إذا لم يشترط الشخص، ومثال عدم الاشتراط: يأتي الشخص للأذان أو للإمامة، فيعطى الأجرة بدون أن يشترط ذلك، ولو قال له قائل: لا نعطيك الأجرة.
    لاستمر في أذانه أو في إمامته، فهو إذا لا يجعل الأجرة قصدا أو هدفا من إمامته، بل يكون مستعدا أن يقوم بالفعل والطاعة قربة لله عز وجل، فصار أجر الدنيا تبعا ولا قصدا، هذا بالنسبة للتفريق بين المشارطة وعدمها.



    أدلة من يقول بعدم جواز أخذ أجرة على تعليم القرآن وغيره


    استدل الذين قالوا بعدم الجواز بدليل الكتاب والسنة والعقل: أما دليلهم من كتاب الله عز وجل فقالوا: إن القرآن نص على تحريم عقد الأجرة على الوحي، قال تعالى: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} [الشعراء:109] {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات التي نصت على أنه لا أجر ولا حظ لقاء القيام بهذا الوحي، فشمل ذلك القرآن تعليما وتدريسا وبيانا، وكل ما يتصل بالقرآن من المنافع التي يراد بها التقرب لله سبحانه وتعالى.
    ودليل السنة هو: أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه علم رجلا من أهل الصفة شيئا من كتاب الله عز وجل فأهدى إليه قوسا، قال: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته، فقال: إن أحببت أن يقلدك الله به قوسا من نار فتقلده) ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الوعيد على أخذ الأجرة من الطاعة والقربة المتمثلة بتعليم القرآن، فدل على أنه لا يجوز أن يأخذ الشخص أجرة على تعليمهم القرآن، ويتبع ذلك تعليمهم العلم عموما.
    أما الدليل الثالث: فقالوا: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أنه أهدى إليه رجل علمه شيئا من كتاب الله فأهدى إليه خميصة، فلما أهدى إليه الخميصة قال عليه الصلاة والسلام: لو أنك لبستها لكساك الله بها ثوبا من النار) .
    وهذان الحديثان في إسنادهما كلام عند أهل العلم رحمة الله عليهم، فهما ضعيفا الإسناد كما سنبينه في الترجيح.
    أيضا هناك دليل فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل بالقرآن: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا) وفيه كلام أيضا، وإن كان بعض العلماء قد حسن إسناده، لكن الكلام فيه قوي.
    فهذا مجموع دليلهم من الكتاب والسنة، أما دليلهم من العقل فقالوا: لا تجوز الإجارة على هذه القربات -أي: تعليم القرآن والتعليم والإمامة والأذان ونحوها من الطاعات- كما لا تجوز الإجارة على الصلاة والصيام، يقولون: أنتم تتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصا من أجل أن يصوم عنه، وتتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصا من أجل أن يصلي عنه، وإذا كنا متفقين على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص آخر للصلاة ولا أن يستأجره للصيام، فنقول: تعليم القرآن والأذان وتعليم العلم كالصلاة، أليس المراد بها أن يتحصل صاحبها على الأجر والمثوبة؟ قلنا: بلى.
    قالوا: ما دام أنه يريد تحصيل الأجر والمثوبة والكل قربة، وكما حرم أصل الأجرة على هذه القربة يحرم أصل الأجرة على هذه القربة بجامع كون كل منهما طاعة وقربة لله عز وجل.
    هذا بالنسبة للدليل العام الذي ورد.
    أيضا قالوا: مسألة الأذان لا يجوز أخذ الأجرة عليها لثبوت الحديث الخاص، وهو حديث السنن، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه، وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، قال رضي الله عنه: (وكان آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا) والحديث صحيح، قالوا: فهذا نص، وركبوا منه دليل العقل فقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على عدم أخذ الأجرة على الأذان وهو من القربة والطاعة، كذلك لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم، ولا يجوز أخذ الأجرة على الفتوى، ولا غير ذلك من الأمور التي يقصد بها القربة والطاعة.
    هذه هي محصل أدلة أصحاب القول الأول من النقل والعقل.



    أدلة من يقول بجواز أخذ أجرة على تعليم العلم والقرآن


    أما دليل من قال بالجواز، فقد استدلوا بأدلة ثابتة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة من القياس والنظر.
    أما دليلهم من السنة الصحيحة فقالوا: عندنا عدة أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كلها تدل على أنه يجوز أن يأخذ المسلم أجرة على القيام بهذه الطاعات والقرب: الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فصعد فيها النظر وصوبه عليه الصلاة والسلام، وقال له رجل: يا رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها.
    فقال له: (هل معك شيء تصدقها إياه؟ إلى أن قال: زوجتكها، وفي رواية: أنكحتكها، وفي رواية أخرى: ملكتكها بما معك من القرآن) فالرجل يحفظ عدة سور، فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المرأة على أن يعلمها هذه السور، حيث قال: (أنكحتكها بما معك من القرآن) .
    فإذا تأملت هذا الحديث وجدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل تعليم القرآن عوضا وصداقا لنكاح المرأة، فدل ذلك على جواز أن يكون التعليم عوضا عن شيء دنيوي، وأنه لا بأس أن يأخذ عليه أجرا من الدنيا ما دام أن نيته الأصلية هي ابتغاء الله عز وجل، فقالوا: فلا يضر، لأنه ينوي الطاعة والقربة بتعليمهم القرآن، ولكن كونه يأخذ شيئا من الدنيا فذلك من تيسير الله عز وجل له حتى يستعين به على المئونة، ويستعين به على طلب العلم، ويستعين به على الخير.
    إذا: حديث أبي هريرة دل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
    طبعا هم يقولون: أليس المرأة إذا أراد الرجل أن يتزوجها يدفع المال من الذهب والفضة؟ قلنا: بلى، يدفع المال من الذهب والفضة.
    قالوا: فإذا كان يدفع المال من الذهب والفضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تعليم القرآن عوضا عن مهر المرأة، فدل على أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن معاوضا عليه، يعني: لقاء عوض وبدل.
    أما الدليل الثاني: فقالوا: حديث أبي سعيد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنهم نزلوا بحي من أحياء العرب، وفيه رجل به ألم، فقيل لهم: إنكم أتيتم من عند هذا الرجل فهل عندكم من راق؟ فأتي بالرجل، قال: فكنت أقرأ عليه بفاتحة القرآن، فأجمع رقيقي ثم أتفل عليه (ثلاثة أيام) فكأنما نشط من عقال)، أي: فشفاه الله عز وجل بما جعل الله في هذا القرآن من البركة، كما قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص:29] فجعل الله عز وجل فيه البركة؛ فشفي سيد القوم، فجعلوا لهم قطيعا من الغنم، وفي بعض الروايات أن أبا سعيد اشترط وقال: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلا) .
    فجعلوا لهم قطيعا من الغنم، فلما جعلوا لهم الجعل قرأ ورقى فشفي سيد القوم.
    ومثله قضية اللديغ حينما لدغ وقرءوا عليه بفاتحة الكتاب؛ فشفاه الله عز وجل.
    قال أبو سعيد: (فلما رجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سألناه -أي: سألناه عن أخذ العوض عن القرآن والرقية- فقال عليه الصلاة والسلام: إنكم أكلتم برقية حق، وإن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله، كلوا واضربوا لي معكم متاعا) وفي رواية: (خذوا واضربوا لي معكم بسهم) فأحل لهم العوض، والعوض وقع لقاء الرقية، والرقية نوع من الطاعة والقربة؛ لأنها لا تقع القربة إلا إذا تلا القرآن معتقدا فيه التقرب لله عز وجل، كما لو أذن معتقدا وكما لو علم معتقدا، وهكذا.
    فقال أصحاب هذا القول رحمة الله عليهم: إنه يجوز أخذ العوض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لهؤلاء الصحابة أخذ الجعل، وعده غير قادح في كون العمل قربة، وقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) .
    كذلك أيضا لهم دليل ثالث، وهو: النظر والعقل، قالوا: يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وعلى الأذان والإمامة والفتوى ونحو ذلك من القربات، كما يجوز أخذ الأجرة على بناء المسجد وكتابة العلم، والكل متفق على أنه لو استأجر شخص ليبني مسجدا فإنه يجوز بالإجماع، وبناء المسجد يقع قربة ويقع عادة من العادات، ولذلك قالوا: ممكن أن ينوي به القربة ويحصل أجر الدنيا وأجر الآخرة، قالوا: فيجوز أن يأخذ العوض عليه من هذا الوجه.



    أدلة من يفصل في مسألة أخذ أجرة على تعليم القرآن


    وأما القول الثالث: الذي قال بالفرق بين المشارطة وعدمها فإنهم يجمعون بين الأدلة، ويقولون: إن الآية التي حرمت نص فيها الله عز وجل على أن التحريم للمشارطة {قل ما سألتكم} [سبأ:47] ، {قل ما أسألكم عليه من أجر} [الفرقان:57] ، {وما أسألكم عليه من أجر} [الشعراء:109] ، {وما تسألهم عليه من أجر} [يوسف:104] فالسؤال مشارطة، فجعل المشارطة مؤثرة في الحل، فالمنع جاء بصورة خاصة وهي أن يسأل، والمشترط سائل، فكأنه يقول: لا أصلي حتى تعطوني ألفا.
    يقولون له: صل بنا إماما.
    يقول: أقبل أن أصلي بكم الشهر بخمسمائة.
    قيل للإمام أحمد رحمة الله عليه: إن رجلا يقول: لا أصلي بكم التراويح حتى تعطوني كذا وكذا.
    قال: أعوذ بالله! من يصلي وراء هذا؟! فما دام أنه يقول: لا أصلي بكم حتى تعطوني كذلك.
    معناه: أنه لا يريد الصلاة ولا يريد العبادة إلا من أجل المال.
    فإذا قالوا: إنه إذا شارط كان سائلا، والله نهى ومنع وحرم، وجعل السؤال للأجر لقاء الوحي محظورا على المرء، وكما أنه محظور على نبي الأمة صلى الله عليه وسلم فمن بعده قائم مقامه في كونه ممنوعا من هذا الأمر؛ لما فيه من الإخلال بحق الدعوة والتعليم.
    وكذلك أيضا قالوا: إن الجواز دلت عليه الأدلة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتحريم دلت عليه أدلة أخرى، فنجمع بين الدليلين ونقول: من اشترط منع، ومن لم يشترط لا يمنع.
    واعترض على هذا المذهب باعتراض، قيل لهم: أنتم تقولون: إننا نجمع بين أدلة الجواز والتحريم، فما رأيكم بحديث أبي سعيد والرقية، فإن حديث الرقية فيه: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلا) فجعلوا الشرط موجودا.
    فقالوا: نعم، حديث أبي سعيد نقره ولا ننكره، ونقبله ولا نرده، ولكنه بين مسلم وكافر؛ لأن هؤلاء كفار وليسوا مسلمين، وإنما حظر إذا كان بين مسلم ومسلم.
    وأجابوا من وجه آخر فقالوا: إن حديث أبي سعيد رضي الله عنه خرج مخرج المداواة؛ لأن الرقية نوع من العلاج والتداوي، والعلاج والتداوي فيه شبهة الدنيا مع وجود القربة والطاعة، فصار مثل: داء المس، فيمكن أن يقع طاعة ويمكن أن يقع غير طاعة، فوسع فيه أكثر من غيره، فخففوا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه من هذا الوجه.
    الراجح في مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه


    وفي الحقيقة: إذا تأمل المتأمل فإنه سيجد أن دليل من قال بالجواز أصح وأقوى من حيث الإسناد والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فالأشبه والأقوى القول بالجواز، وخاصة إذا كان من بيت المال.
    وأما مسألة الأذان فيشكل على حديث الأذان حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا) فإن هذا الحديث يعارض بحديث أبي محذورة رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قفل من الطائف بعد قسمه لغنائم حنين بالجعرانة، وجاء أبو محذورة رضي الله عنه وأذن الأذان، قال: فألقى إلي صرة من فضة) .
    فألقى النبي صلى الله عليه وسلم له صرة من فضة، فأخذ على أذانه الأجر، فنقول: الأشبه في قوله (واتخذ مؤذنا لا يتخذ على أذانه أجرا) أي: لا يطلب على أذانه الأجر، أي: أنه يدخل تحت ما قلناه: عند المشارطة يقع الحظر والمنع، ولذلك القول بأنه يجوز هو الأصل، وفي النفس شيء إن كان الرجل يشارط، أعني إذا كان يقول: لا أفعل حتى تعطوني.
    فهذا في النفس منه شيء.
    وبناء على ذلك: فالأشبه الجواز، وخاصة إذا كان من بيت مال المسلمين.
    وقوى بعض العلماء في هذه المسألة جوانب، قالوا: الأقوى والأشبه الجواز، كأن يكون طالب العلم لا دخل له إلا هذا الذي يأخذه من بيت المال، أو يغلب على ظنه أنه إذا لم يتفرغ للتعليم على هذا الوجه فإنه سيتعرض لذل المسألة، أو يتعرض لأمانات الناس ويضيعها، ولذلك كان الإمام أحمد يفضل التعليم بالمال على نحوه من التكسب الذي فيه تحمل لأمانات الناس وحقوقهم، فلعله ألا يتمكن من ذلك فيضيع حقوقهم.
    وقال بعض العلماء: ينبغي للإنسان أن يوطن نفسه إذا كان مؤذنا أو إماما وأخذ الأجر، أن يحرص في الابتداء ألا يأخذ، ويحاول قدر استطاعته ألا يتقبل العطاء، فإذا فرض عليه نوى في قرارة قلبه أنه لو قطع عنه لاستمر في عمله وطاعته، وأن ذلك لا يقطعه عن الخير.
    قالوا: فلو قيل له: نقطع عنك راتبك الذي تأخذه.
    فينقطع؛ فحينئذ تكون الشبهة فيه قوية؛ لأنه يريد حظ الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية.
    وبناء على ذلك نقول: إن الآيات التي منعت {قل ما أسألكم عليه من أجر} [الفرقان:57] {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات محمولة على من اشترط وقصد المال وقدم الدنيا على الآخرة.
    وأما حديث أبي وحديث عبادة بن الصامت فنقول: إنها أحاديث فيها ما فيها من حيث السند، وهي أضعف إسنادا، والقاعدة: أن الضعيف لا يقوى على معارضة ما هو أصح منه.
    وهناك جواب يختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، فيقول: إن أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه ابتدأ تعليم الرجل لوجه الله، ثم جاءه بعد ذلك بقوس هدية، فحينئذ من ابتدأ التعليم قاصدا به وجه الله، فجاءته هدية أو جاءه شيء من الدنيا كأنه رغب عن ثواب الله إلى مثوبة العباد، وقال له: (إن أحببت أن يقلدك الله به قوسا من نار) بالانخراط فصرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأكمل والأحظ، وهو: إرادة ما عند الله عز وجل، فيفرق بين من ابتدأ وهو ينوي الآخرة، ونشأت عليه الدنيا، وبين من يكون في الأصل له حظ الدنيا.
    وقالوا: النبي صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد مع كونه قربة وطاعة بحظ من الدنيا، وقال: (من قتل قتيلا فله سلبه) فرغب في الطاعة، فقويت الحمية وقويت الشوكة في ذات الله بحظ من الدنيا، وهذا يدل على أنه إذا أراد حظ الدنيا لم يؤثر.



    حالات من يعطى أجرة على تعليم القرآن وغيره


    ومن هنا نقول: من طلب العلم وأعطي راتبا، أو ترتب على كونه يأخذ العلم منزلة أو مرتبة أو شهادة ينال بها شيئا من الدنيا ففيه ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون نيته الآخرة محضة، وحظ الدنيا لا يلتفت إليه بالكلية.
    إن أعطي شيئا وإلا لم يتلفت إليه.
    الحالة الثانية: أن يكون قصده الآخرة، ويجعل حظ الدنيا تبعا لا أساسا، بحيث لو قيل له: لا نعطيك هذه الدرجة ولا هذه الشهادة.
    لاستمر واستدام، فحينئذ نية الآخرة راجحة ونية الدنيا مرجوحة.
    الحالة الثالثة: أن يستويا.
    الحالة الرابعة: أن يكون العكس والعياذ بالله، فتكون نيته هذه المنزلة من الدنيا.
    فأما إذا كانت نيته الآخرة، وكان قصده من تعلمه أن يتعلم ما فرض الله عليه ويعلم أبناء المسلمين، ويعمل بما علم؛ فهو بخير المنازل؛ لأنه أراد وجه الله عز وجل، وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على أن من أراد الله والدار الآخرة فإن الله عز وجل يعطيه أجره ولا يضيع عمله، هذا إذا كان أصله الآخرة.
    الحالة الثانية: أن يكون أصله الآخرة وجاءت الدنيا تبعا، بحيث يقول: أنا فعلا أريد أن أتعلم، وأعمل بما علمت، وأعلم الناس بعد ذلك، وأحب أن تكون لي شهادة، وأن تكون لي وظيفة منها أنفع الناس، وأكف وجهي عن سؤال الناس، ومنها أسترزق حتى لا أتعرض لذل الدين وفاقته وأعرض أهلي وعيالي للذل.
    فإذا: عنده طلب للدنيا، لكنه أقل من طلب الآخرة، فإذا كانت نية الآخرة هي الأساس ووقعت نية الدنيا تبعا لم يضر، والدليل على ذلك دليل الكتاب والسنة.
    أما دليل الكتاب فإن الله عز وجل قال عن أهل بدر: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} [الأنفال:7] والله سبحانه وتعالى المطلع على القلوب والضمائر يقول في أهل بدر: (وتودون) أي: (تتمنون) من باب قوله عليه الصلاة والسلام: قال: (إن الله وعدني إحدى الحسنيين: إما الجهاد وإما العير) فخرجوا رضوان الله عليهم وهم يتمنون أنها تكون العير.
    وليس معنى ذلك أنهم يفضلون الدنيا على الآخرة، إنما كان شيئا يريدون به كسر شوكة أعدائهم، وارتفاقهم بالدنيا لعزة وغلبة يرجونها لدين الله عز وجل، فقال: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} [الأنفال:7] فكانوا يودون العير، ومع ذلك جعل الله لأهل بدر ما لم يجعله لغيرهم من أهل الغزوات، قال صلى الله عليه وسلم -في الصحيح-: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فهذا كله يدل على أن نية الدنيا إذا وقعت تبعا لم تضر.
    الدليل الثاني من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل قتيلا فله سلبه) وهذا في الجهاد، فجعل للإنسان إذا قتل رجلا من الأعداء أنه يأخذ سلبه، وهو ما عليه من السلاح والعتاد كما قدمنا في كتاب الجهاد- فهذا السلب منفعة ومصلحة دنيوية، رغب في طاعة وقربة بمصلحة دنيوية، لكنها كانت تبعا ولم تكن أساسا، وهذا من أدق ما قاله العلماء في هذه المسألة، وهو اختيار الأئمة كالإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين رحمة الله عليه، واختاره أئمة من المتأخرين كشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الحافظ ابن عبد البر من المتقدمين، وكذلك الإمام الحافظ ابن حجر من المتأخرين.
    ولذلك قد يأتي بعض طلاب العلم ويشوش عليك فيقول: كيف تطلب العلم وأنت تريد كذا؟ قل له: أطلب العلم لله وللدار الآخرة، وأجعل نية الدنيا تبعا ولا أجعلها أساسا ومقصدا.
    وهذا هو الفصل في هذه المسألة.
    الحالة الثالثة: أن تستوي -والعياذ بالله- النيتان، وتصبح إرادته للدنيا كإرادته للآخرة، وحظ الدنيا عنده كحظ الآخرة لا فضل لأحدهما على الآخر، فهذا هو فاتحة الشر على الإنسان، وفاتحة شر المنازل أن يجعل مع الله ندا في محبته وطلب مرضاته، فيحب الدنيا كما يحب الآخرة، فهذا نيته مؤثرة، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فهذا يدل على أنه لا يجوز في الطاعات والقربات أن تشرك نية الدنيا مع الآخرة على سبيل الاستواء.
    وأما بالنسبة للحالة الأخيرة، وهي أن تكون نيته الدنيا هي الأساس ونية الآخرة تبعا، فهذا كما حكى الله عز وجل عن المنافقين وهو شأن أهل النفاق (أنهم لو يعلمون عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد أحدهم العشاء) {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [النساء:142] فهذا في شر المنازل، نسأل الله السلامة والعافية.



    تقديم الإخلاص في القربات والطاعات


    ينبغي التنبيه على أمر مهم، وهو: أمر الإخلاص في القربات والطاعات، مع كون العلماء رحمهم الله يقررون الجواز ويبينونه، لكن ينبغي التنبيه على أن الأفضل والأكمل لطالب العلم ولمعلم الناس أن يعلم لله، وأن يؤذن المؤذن لله، وأن يصلي لله، وأن يحتسب ثوابه عند الله عز وجل، وأن يقوم بسائر القربات التي ذكرنا ولا يريد بها إلا وجه الله عز وجل، ومن استغنى بالله أغناه، ومن جعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله؛ جعل الله الدنيا تحت قدميه وجاءته ذليلة صاغرة، وملأ الله قلبه بالغنى، فلو عاش مرقع الثياب حافي القدمين لوجدته في عزة وكرامة لا يبلغها أغنى الأغنياء في الدنيا.
    ولذلك لما دخل سليمان بن عبد الملك رحمه الله إلى مكة وطاف بها وأدى عمرته، كان معه عطاء بن أبي رباح، وهو عطاء، وكان ديوانا من دواوين العلم والعمل- فقال: يا عطاء! سلني حاجتك.
    فقال: يا أمير المؤمنين! إني لأستحي أن أسأل مخلوقا في بيت الله عز وجل.
    هؤلاء العلماء الذين عرفوا كيف يعاملون الله سبحانه وتعالى، فقال: إني لأستحي أن أسأل مخلوقا في بيت الله عز وجل.
    ولا شك أن هذا من فضل سليمان، وكانوا يتفقدون أهل العلم ويحبون إكرامهم، وهي فضل لـ سليمان وفضل لـ عطاء، فكل على خير، ولكنها مواقف تكتب بماء الذهب لأئمة الإسلام، ولقلوب ملئت بمحبة الله عز وجل فنسيت ما سواه، وامتلأت بالغنى بالله عز وجل فلم تعرف للفقر سبيلا؛ لأنها غنية بالله جل جلاله.
    فلما خرج قال: يا عطاء! ها قد خرجنا فسلني حاجتك.
    قال: يا أمير المؤمنين! إن حاجتي أن يغفر لي ربي ذنبي.
    فقال: إن هذا ليس بيدي، إنما سألتك أن تسألني من أمور الدنيا لا من أمور الآخرة.
    فقال له رحمه الله: يا أمير المؤمنين! ما سألت الدنيا ممن يملكها أفأسألها ممن لا يملكها؟! فرحمه الله برحمته الواسعة.



    فضل الاستغناء بالله


    ومن عرف الله عز وجل فإن الله يغنيه، ودائما أمور الدنيا تأتي تبعا، حتى في قضايا وأمور العوام، فمن أنزل حاجته بالله فإن الله عز وجل يتأذن له بالفرج العاجل والآجل، ومما ذكره الأئمة: قصة ذلك الرجل الذي دخل المسجد على عظيم من عظماء الدنيا، وكان من الأئمة والخلفاء، فانتظره حتى صلى الفجر ثم صلى بعدما طلعت الشمس، فوجد هذا الرجل الخليفة بعدما صلى رفع كفه يدعو ربه، فلما رآه يرفع يديه إلى الله عز وجل قال: سبحان الله! هذا يسأل ربه وأنا أسأله حاجتي! فلما رأى ذلك استغنى بالله، واعتقد في قرارة قلبه أنه ينبغي أن يكون فقره إلى الله لا إلى شيء سواه، فانصرف من المسجد وفي نيته ذلك، ولما خرج رجع إلى عياله وولده فأدركته الهاجرة والظهيرة في كهف، فدخل الكهف وهو في شدة الإعياء والتعب وفي حيرة من أمره كيف يقول لأهله وولده! فلما أراد أن يضع رأسه إذا به في مكان مشرف ومرتفع، فأراد أن يسوي حتى يضع عليه ما يرتفق به من فراشه، فإذا به بشيء كالفخار قد انكسر فوقعت يده على جرة مملوءة ذهبا، فحصل من خير الدنيا، مع ما حصله من أجر الآخرة.
    ومن ألذ المقامات وأهنأ الساعات وأشرف اللحظات لحظة الاستغناء بالله جل جلاله؛ لأنها تعني معاني كثيرة، فانظر كيف محبة الله لمن يدعوه، وانظر كيف يحب الله السؤال؛ لأن السؤال يدل على التوحيد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة) ؛ لأن الذي يرفع كفه سائلا لله معناه أنه يؤمن بوجود الله، ويؤمن بأن الأمر كله لله، وأن الغنى العز من الله، وأن أمان خوفه من الله، وأن كرامته وعزته من الله؛ فرفع الكف إلى الله الذي لا يسأل سواه.
    فإذا كان العبد في مقام عرضت عليه الدنيا وعرضت عليه الآخرة فآثر الآخرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يعوضه عن الدنيا مع ما حصل من قصد التوحيد؛ لأن انصرافك عن الدنيا باعتقادك أنك مع الله وأن الله سيغنيك، هي منزلة من منازل التوحيد، ومنزلة من منازل اليقين بالله سبحانه وتعالى.



    استغناء الإمام البغوي عن سؤال الناس


    ذكروا عن الإمام البغوي رحمه الله أنه لما كتب تفسيره المشهور، وكانوا في القديم يعييهم كتابة العلم، وكانوا يستنسخون النساخ، فسمع هذا الإمام بعظيم من العظماء يكرم العلماء، وأنه يحب كتب العلم، فأخذ تفسيره معه واستأجر مركبا في دجلة حتى ينزل إلى الخليل، ثم بعد ذلك يسافر إلى هذا الرجل ويسأله حاجته في نسخ الكتاب، وما يريد شيئا من الدنيا، إنما يريد أن ينسخ الكتاب وينتشر العلم.
    فما كانوا يريدون الدنيا أبدا، بل يثق كل إنسان أنه ليس هناك أغنى من العلماء إذا عرفوا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [العنكبوت:49] فهم أعرف الناس بالله عز وجل.
    فلما ركب المركبة قال: فنظرت فرأيت رجلا يمشي بالساحل والطريق، فأمرت صاحب المركب أن يأخذه معنا، فلما ركب معنا قال للإمام البغوي: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان البغوي.
    قال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: بلغني أن فلانا من العظماء يكرم العلماء، فأخذت هذا التفسير حتى ينظر فيه ويأمر بكتابته ونسخه ونشره للناس حتى ينتفعوا به.
    فقال له الرجل: سبحان الله! ماذا قلت في تفسير قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة:5] ؟ ففسر له الآية وعلم مراده، فعقد العزم على أن يرجع إلى بيته من ساعته، فلما رجع إلى بيته لم تمض ثلاثة أيام إلا ورسول الخليفة يقرع عليه الباب ويقول له: بلغ فلانا -أي: الخليفة- أنك كتبت كتابا في العلم يحب أن يراه، فأخذ الكتاب منه، ثم لما رآه وقرأه وأعجبه ونظر إلى علمه رحمة الله عليه؛ أمر أن يوضع في كفة، وأن يصب الذهب في الكفة الأخرى، وأن يبعث بهذا الذهب إلى الإمام البغوي.
    إن الله يحب أولياءه ويصونهم عن ذل السؤال لغيره، ولكن يكون ذلك إذا عرفوه سبحانه، ومن عرف الله عز وجل فإن الله تعالى يعينه ويوفقه، ويفتح له من أبواب الفرج ما لم يخطر له على بال.
    فنحن إذا ذكرنا جواز مثل هذه الأمور؛ فهناك الجواز وهناك الأفضل والأكمل، ولا يعني هذا التواكل وترك الأسباب، إنما هي في مواطن يصون الإنسان بها علمه، ويصون بها ماء وجهه؛ حتى يكون ذلك أبلغ في إكرام دين الله وصونه، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ألا يسأل الناس شيئا وأضمن له الجنة) منزلة من منازل الإيمان والتسليم ألا يسأل الناس شيئا.
    وكان الصحابي إذا سقط سوطه لم يسأل أحدا أن يرفعه له، فهذه منزلة من منازل الإيمان، فمع كون العلماء رحمهم الله يقولون بالجواز، لكن ينبغي أن نعلم أن هناك حظوظا عظيمة، فتصور إذا تقدم الإنسان إماما وهو يتلو آيات الله عز وجل كم له في كل حرف من الحسنات! وكم له في ركوعه وسجوده وغير ذلك من طاعاته وقرباته وتذكيره ووعظه! وإذا علم الله من قرارة قلبه أنه يريد وجهه ويريد ماعنده، وأنه قصد من ذلك كله أجر الله سبحانه وتعالى، فبخ بخ وقد ربح البيع وعظمت التجارة كما أخبر الله عز وجل عن الذين يتلون كتابه آناء الليل وأطراف النهار وهم يريدون وجهه؛ أنهم يرجون تجارة لن تبور، وأنه سيوفيهم أجورهم وسيزيدهم من فضله، فأخبر عن أمرين: توفية الأجرة، والزيادة من الفضل.
    ومن غريب ما يكون أن الله تكفل في كتابه أن من أراد الآخرة ضمن له الدنيا، وأن من عمل لله عز وجل وإرادة الآخرة، فإن الله يجعل حظه في الآخرة أكبر من حظه في الدنيا، وهذه النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم متظافرة وكثيرة، ولكن نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل غنانا به، وأن يجعل فقرنا إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
    ما يلزم المؤجر عند التأجير


    وقوله: [وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل ورحله وحزامه، والشد عليه، وشد الأحمال والمحامل، والرفع والحط، ولزوم البعير، ومفاتيح الدار وعمارتها] .
    عقد الإجارة عقد بين طرفين، وكل واحد من الطرفين ملزم بالتزامات، وينبغي أن يوفي كل مسلم لأخيه ما التزمه، فالمؤجر التزم بتأجير الدار مثلا، حيث قال له: أجرتك هذه العمارة سنة بعشرة آلاف ريال.
    فالواجب: أن يمكنه من الانتفاع بهذه العمارة، وأن يمكنه من سكناها، وأن يهيئ كل الأسباب التي تعين على الانتفاع بهذه العمارة.
    وفرع العلماء على هذا الأصل: أنه ينبغي أن تكون العمارة بحالة يتمكن من خلالها المستأجر من أخذ المنفعة.
    ونصوا على أنه يبني ما انهدم منها إذا انهدم، فمثلا لو أنه استأجرها سنة، وأثناء السنة سقط جدار في البيت بدون تفريط من المستأجر، وبدون تسبب من المستأجر، فنقول للمؤجر: ابن هذا الجدار وأعده كما كان.
    ولو أن الأرض تغيرت بدون إضرار من المستأجر فنلزم المؤجر بإصلاحها، وهكذا إذا تعطلت مرافق الماء، أو مرافق الكهرباء، فإنه يطالب بإصلاحها ولكن بشرط: ألا تكون قد تعطلت بسبب من المستأجر، أما إذا كان بتفريط من المستأجر، وهو الذي كسر هذه الأدوات أو أخل بها فلا، فإنه يطالب بضمان؛ لأن اليد يد أمانة.
    وهكذا بالنسبة لإجارة الدواب كما ذكر المصنف رحمه الله من الرحل على الدابة والزمام، لأنه لا يمكن أن يقود البعير إلا إذا كان بزمامه، وكذلك الرحل والشداد -الذي يسمى في عرف اليوم (الشداد) شداد البعير- وشد المتاع أيضا.
    وإذا كان قد استأجر صاحب سيارة من أجل أن يركب للحج، فيطالب بكل شيء جرى عرف السيارات بتهيئته في إجارة الحج، فلو أنه استأجره لنقله من المدينة إلى مكة ومعه عفشه أو متاعه، وهذا العفش والمتاع جرت العادة أن يوضع على سطح السيارة وأن يشد ويغطى، فنقول: يلزمك شداد ويلزمك شده وتغطيته؛ لأنه لو لم يغط ربما استضر بالمطر، ولو لم يغط ربما مع الهواء يطير، وربما يتفسخ ويتضرر، فنقول: يلزمك شداده ويلزمك غطاؤه؛ لأن العرف جار بهذا.
    فإذا: الشريعة تقول: كلا الطرفين ينبغي عليه أن يوفي بالتزاماته، وتتفرع على هذا جميع مسائل الانتفاع والارتفاق بالعيون المؤجرة والأشخاص والدواب، وكلها ينبغي للمؤجر أن يفي للمستأجر بجميع الالتزامات، وأنه يمكنه من الأعيان على وجه يستطيع أن يحصل المنفعة التي استأجر من أجلها، سواء كانت للسكنى أو للركوب أو لغير ذلك من المنافع.
    فلو أن رجلا استأجر رجلا من أجل أن يوصله إلى مكان فركب معه، نقول: كل شيء يتعلق بمركبه، ينبغي أن يهيئه وأن يحافظ عليه، وأن يكون على وجه لا يضر فيه أخاه، وأن يمكن الذي دفع الأجرة له أن يكون على الوجه المعروف، ولا يضر به، فلو أن المركب الذي يركب عليه تعطل، أو المركب الذي يركب عليه لا يستطيع أن يرتاح فيه فيستضر أثناء مشي الدابة أو السيارة، نقول: يلزمك أن تهيئ له مركبا لا يستضر به.
    كذلك أيضا: لو كان نوع السيارة التي استأجرها والقيمة التي دفعها لسيارة ينبغي أن تكون مكيفة، فينبغي أن يهيئ مكيفا، فلو قال: المكيف عطلان.
    فلهذا الرجل أن ينقص من أجرته، وتكون أجرته أجرة السيارة الذي ليس فيها هذا النوع من التكييف؛ لأن العدل والقسط أن مثل هذه السيارات يعطى له هذا النوع من الأجرة.
    كذلك ذكروا في مسألة وضع الأمتعة أنهم كانوا في القديم متعارفين على أن رائد البعير أو الجمال الذي يقوم بقيادته هو الذي يضع الأمتعة وينزلها، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (كنت أخدم آل غزوان، أقودهم إذا ركبوا وأحمل نساءهم إذا نزلوا) .
    وهذا يدل على أن المؤجر في الأصل يلزم بمسألة حط الرحل ورفعه على الدابة.
    في زماننا: وضع الأمتعة على السيارة، لا يأتي يقول للراكب: أنت الذي تضع الأمتعة.
    هذه كلها أمور مقررة، جرى العرف أن السائق هو الذي يقوم بوضع هذه الأمتعة ورصفها والقيام بها على الوجه الذي جرى به العرف.
    فهذه كلها التزامات، ولكن هناك أمور لا تلزم، فمثلا: لو أنه ركب في سيارته ثم نزلوا في محطة أو استراحة، فقال له: أريد أن أجلس في هذه الاستراحة ساعة وعليك أن تدفع الأجرة لي.
    نقول: صاحب السيارة ليس ملزما بهذا، لأن هذا خارج عن منفعة الركوب، وليس له علاقة بالركوب، لكن مسألة رفع وإنزال المتاع كله تابع للركوب، وعليه القيام بحفظ الدابة ورعايتها كما سيذكر المصنف رحمه الله في قيادتها والقيام برعايتها حتى يتمكن المستأجر من أخذ منفعته على الوجه المعروف.
    وقوله: [ومفاتيح الدار وعمارتها] .
    وبالنسبة للدور فيعطيه مفتاح الدار، فإذا أجره يقول له: هذا مفتاح الدار.
    فإذا أجره وأعطاه مفتاح الدار، وكانت الدار (كوالينها) -كما هو موجود في زماننا- معطلة، فنقول: أنت ملزم بإصلاح هذه (الكوالين) ، ما لم يكن المستأجر قد دخل إلى الدار ورأى كوالينها معطلة ورضي بذلك، فليس بملزم؛ لأنه رضي بالشيء الموجود، وحينئذ إذا أراد أن يضع من عنده كوالين فليضع، ولكن إذا كان لا يعلم، وقال له: أجرتك شقة أو عمارة في الموضع الفلاني بصفة كذا وكذا، ولم يجد بها حفظا أو حدا لأبوابها، فيطالبه بها.
    ونحن نقصد بذكر الأشياء الموجودة الآن لأنها تعم بها البلوى، كما لو نزل في فندق أو نزل في استراحة فلم يجد سخان الماء في زمان بارد، فنقول: أنت ملزم؛ لأنه لا يمكن لأحد أن ينتفع بهذا المنزل إلا إذا كان ماؤه ميسرا، وإذا كان البيت لا سخان به فيكون في هذه الحالة قد أضر ما لم يقل له: إن هذه الاستراحة أو هذا المنزل لا سخان فيه مثلا.
    فإذا: لابد أن يكون المؤجر قد هيأ جميع الأسباب للمستأجر حتى يتحصل على حقه على الوجه المعروف.
    وقوله: [فأما تفريغ البالوعة والكنيف فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة] .
    هذا ما يسمى في بزماننا بـ (البيارات) -أكرمكم الله- وهي أماكن تحفر، وكانوا في القديم قبل الصرف الصحي، تكون هناك بالوعات -أكرمكم الله- والبالوعات: مجاري الماء التي تفضي إلى البيارات ونحوها، فكان يقع الشجار بين المؤجر والمستأجر على تنظيف البيارات.
    والذي اختاره جمهور العلماء رحمهم الله: أن البيارات -في الأصل- ينبغي أن تكون نظيفة حتى يتمكن المستأجر من الانتفاع بالعين، فإذا استلمها نظيفة مفرغة ثم ملأها المستأجر، فنقول للمستأجر: أنت الملزم بتفريغها وتسليمها كما استلمتها، لكن في زماننا الآن يوجد الصرف الصحي، فإذا كان للصرف الصحي مال وكلفة، فيدفع المؤجر الكلفة قبل دخول المستأجر، ثم إذا دخل المستأجر فيلزمه المؤجر بدفع قيمة الصرف خلال مدة الإجارة، وقس على ذلك بقية الحقوق المتعلقة بالاستهلاك.



    الأسئلة





    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر












    السؤال ما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان؟
    الجواب إن العشر الأواخر هي أفضل ما في هذا الشهر؛ لأن فيها ليلة القدر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحيا ليالي العشر، والتفضيل للعشر من جهة الليالي لا من جهة الأيام، بمعنى: أن الفضيلة في العشر من جهة إدراك ليلة القدر، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله: إن أيام عشر من ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر؛ لأن فضيلتها شاملة لليل والنهار، ولذلك لما أقسم الله عز وجل وقال: {والفجر * وليال عشر} [الفجر:1 - 2] خص الفضيلة بالليالي العشر، وجعلت فضيلة العشر الأواخر من جهة الليل؛ ولذلك شد النبي صلى الله عليه وسلم مئزرة وأحيا ليله، فالعشر الأواخر فضلها بالليل، فيحرص المسلم على إحياء هذا الليل؛ طلبا والتماسا لليلة القدر.
    وقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان هديه في هذه العشر، فقد كان عليه الصلاة والسلام يبين فضلها ويرغب فيها كما ثبت في الحديث الصحيح؛ أنه جاءه جبريل حينما اعتكف العشر الوسطى من رمضان، وقال: (يا محمد! إن الذي تطلبه أمامك) أي: إن ليلة القدر التي تطلبها ليست في النصف الأوسط من رمضان وإنما هي في العشر الأواخر، فاعتكف عليه الصلاة والسلام العشر الأواخر.
    وكان من هديه عليه الصلاة والسلام: أنه يدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين، فيدخل عليه الصلاة والسلام إلى مسجده، ويدخل قبته بعد فجره صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لابد للنفس من راحة.
    وكان من هديه عليه الصلاة والسلام البقاء في هذه العشر تامة، أي: يعتكفها تامة، وهذا أفضل وأكمل، وأما لو اعتكف بعضها وترك البعض فإنه لا بأس بذلك، وهذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله أنه لا بأس باعتكاف العشر كاملة أو اعتكاف بعضها أو الاعتكاف في سائر أيام السنة، أما الأفضل والأكمل فأن يعتكف العشر تامة كاملة تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وأفضل ما في هذه العشر الليالي الوتر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (تحروها، فمن كان متحرها فليتحرها في الوتر من العشر الأواخر) .
    وكان مما نص العلماء رحمة الله عليهم من فضله وما ينبغي على المعتكف أن يشتغل به: كثرة تلاوة القرآن، وإذا كان بالليل فإن الأفضل له والأكمل أن يتلو القرآن وهو قائم في صلاته، بأن يجعل تلاوة القرآن في ليله في الصلاة.
    وبين النبي صلى الله عليه وسلم السنة والفضل لمن أدرك ليلة القدر أن يكون من دعائه أن يلتمس عفو الله عز وجل، فإن أعظم نعمة ينعم الله بها على العبد بعد الإيمان والتوحيد أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ماذا أقول لو أني أريتها؟ قال عليه الصلاة والسلام: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) فاستفتح عليه الصلاة والسلام بتمجيد ربه والثناء عليه بما هو أهله، وجعل الثناء مجانسا للمسألة والحاجة، فقال: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) .
    فيستشعر المسلم أن هذه العشر ليال مفضلة، وأنه لا ينبغي له أن يكون أخسر الناس صفقة من رحمة الله عز وجل، فإن الغبن غبن الآخرة، وأما غبن الدنيا فإنه يسير، والله يجبر كسرها، ولكن ليس لكسر الآخرة من جبران، ولذلك كان من سؤال المسلم: اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني، فالإنسان يستشعر أن هذه العشر أيام نفحات ورحمات وبركات ودرجات ومغفرات، وغير ذلك مما ينزل الله عز وجل من الخيرات.
    فاستشعر ألا تكون أخسر الناس صفقة في جنب الله عز وجل، بل عليك أن تحسن الظن بالله، وأن تقبل عليه بصدق ورغبة وقوة يقين في الله جل جلاله، فإن الله يحب من عبده أن يحسن الظن به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن أعز المواطن وأشدها كربا على العبد وهي حالة الموت-: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله) .
    فالأفضل أن تدخل العشر على الإنسان وهو يحسن الظن بالله عز وجل، أنه لا أرحم ولا أكرم منه سبحانه، وأنه سبحانه وتعالى ربما يغفر للإنسان في لحظة من لحظات الخشوع، ولربما دمعة تغسل ذنوب العبد، فهذه شربة ماء لكلب من بغي من بغايا بني إسرائيل غفر الله بها ذنوبها، وغصن شوك يزحزح عن طريق المسلمين غفر الله به الذنب وأدخل به الجنة، والله كريم.
    فينبغي أن تدخل العشر على المسلم وهو يحسن الظن بالله، بأنه لا أكرم لا أعظم من الله سبحانه وتعالى في بره وإحسانه ورحمته، ويثني على الله بما هو أهله، ويتذكر العبد أنه مسيء ومخطئ ومذنب، وأنه لا ملجأ ولا منجى له من الله إلا إليه.
    أما الأمر الثاني: فيوصى المسلم في اتباعه لهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص، فإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر فليدخل المعتكف وهو يريد وجه الله، ولا يعلم أحدا بأنه معتكف، ويحرص على ألا يراه أحد من الناس، وألا يشعر الناس أنه معتكف؛ حتى يكون أبلغ في إخلاصه وإرادته لوجه ربه، وأن يكون كل ما يصدر منه من قول وعمل وتلاوة وركوع وخشوع وخضوع وسجود وإنابة وغير ذلك من ذكر الله عز وجل، خالصا لوجه الله، ليس فيه لأحد سواه حظ ولا نصيب، فإذا بلغ هذه المرتبة المنيفة تقبل الله أقواله وتقبل الله طاعته، ووجد لاعتكافه لذة وحلاوة وطلاوة، ووجد له أثرا في قلبه، وبارك الله له في ساعات ليله ونهاره.
    كذلك أيضا: ينبغي عليه أن يهيئ الأسباب لعمارة الوقت بذكر الله عز وجل، فهو يتصور لو أن هذه الليلة التي اعتكفها هي آخر ليلة يعتكفها، ويتصور هل يدرك رمضان آخر أم لا يدركه، ولو أدرك رمضان الآخر هل يكون مشغولا أو غير مشغول، فيحس أن الله أنعم عليه بنعمة إذ فرغه لهذا الخير، فيحرص على ألا يغبن في هذه المهلة، وأن يغتنم كل دقيقة وكل ثانية وكل لحظة.
    كذلك أيضا: ينبغي عليه أن يحرص في حال اعتكافه على كمال المراتب، وأكمل ما يكون الإنسان في ذكره لربه في الخشوع، والخشوع سر بين العبد وبين ربه في قلبه، فإنه إذا خشع قلبه لله سبحانه وتعالى سكنت جوارحه واستكانت وتذللت لله سبحانه؛ فأحب الله مقامه، وهذا من مقامات العبودية لله، وهو مقام الخشوع الذي أثنى الله على أهله، ووعدهم بجنات عدن، ووعدهم بالمنازل الحسنى في الآخرة.
    فإن كمال العبادة أن يكون المرء حريصا على الإخلاص وكثرة الذكر، وإذا صحب هذين الأمرين خشوع صادق فإنه بخير المنازل.
    إذا جاء يصلي وراء الإمام فليستشعر أنه ينافس غيره، ويسأل الله أن يكون أخشع الناس عند سماع هذا القرآن، وإذا جاء يصلي وهو وحده يسأل الله عز وجل أن يكون أخشع الناس في مقامه في تلك الساعة وتلك اللحظة، فيسأل الله عز وجل منازل العلى في طاعته، ويهيئ لنفسه الأسباب من الاستكانة والذلة.
    وكذلك: عليه إذا أدى العبادة ألا يفرح وألا يغتر، فإن الأمور مدارها على القبول، وألا يحس أنه يدل على الله بطاعته، فكل كلمة يقولها وكل طاعة يتقرب بها إلى الله فالفضل فيها كله لله سبحانه وتعالى، فكلما انتهى من طاعة أثنى على الله بما هو أهله، وعليه أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أوفر عباده حظا في هذه العشر وفي كل فضل، وفي كل رحمة ينزلها، وفي كل بركة يقسمها، وألا يحول بيننا وبين فضله ورحمته بما يكون من ذنوبنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.



    حكم الاشتراط في الاعتكاف


    السؤال هل يصح الاشتراط في الاعتكاف؟
    الجواب الاشتراط في الاعتكاف مذهب قياسي مبني على قياس عبادة على عبادة، حيث قالوا: يجوز الاشتراط في الاعتكاف كما يجوز الاشتراط في الحج، والاشتراط في الحج والعمرة أصله حديث ضباعة رضي الله عنها أنها قالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية.
    فقال لها: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني.
    فإن لك على ربك ما اشترطت) وهذا الأصل فيه ما فيه، ولكن المنبغي والأفضل أن الإنسان يدخل المعتكف وقد هيأ لنفسه أن يعتكف اعتكافا تاما كاملا، فإن جاءه ظرف ضروري خرج لهذا الظرف الضروري وقطع اعتكافه واستأنف بعد ذلك.
    أما الاشتراط فمسألة مبنية على القياس، ومن قال بها من أهل العلم فقوله صحيح على حسب قواعد العلماء بأن مذهب القياس على الأصل الصحيح صحيح، ولكن الإشكال: أن الأصل في الاعتكاف اللزوم، والأصل الذي قيس عليه وألصق به هذا الفرع مختلف فيه؛ لأن الاشتراط في الحج جاء على صورة خاصة، وخرج عن القياس، والقاعدة في الأصول: أن ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس.
    وتوضيح ذلك: أن الأصل تمام الحج، ولذلك قال تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196] فلما جاءت ضباعة رضي الله عنها وقالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) معناه: أن حالتها حالة مرض، ومع ذلك كلفت نفسها مع وجود المرض أن تحج، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم رخصة لوجود هذا العذر، وقال لها: (أهلي واشترطي) ولذلك قوي مذهب من يقول إنه خارج عن الأصل، وهذا الذي يطمأن إليه كما قدمناه في كتاب المناسك، وذكرنا أقوال العلماء في هذا الحديث، ووجهنا هذا الحديث، وبينا أن الأقوى والأشبه في هذه الرخصة تقييدها بالنص النبوي الوارد؛ لأن القاعدة في التعليل والأقيسة: أن تفقه وتفهم المراد من نفس النص، فالنص إن جاء أصلا بذاته قست عليه غيره؛ لأن الأصل إتمام الحج، وهنا يقول لها: (محلك حيث حبسك) مع أنه في الحج والعمرة لو أحصر بالعدو فإنه يتحلل بالدم، وهنا يتحلل بدون دم، وهذا يقوي على أنه خارج عن الأصل، ولذلك مذهب طائفة من العلماء ومذهب الجمهور على أنه يتقيد بما ورد، وأنه لا يقاس عليه من لم يكن عليه حاجة من مرض ونحوه.
    ولذلك لو جئنا نقيس الاعتكاف، فالاعتكاف من حيث هو عبادة خاصة لها أصل شرعي قصد منه تهذيب النفس وقيامها على محبة الله ومرضاته على وجه تام كامل لتحصيل فضيلة ليلة القدر، فهو إذا جاء يشترط ويخرج في الليل أثناء الاشتراط خالف المقصود؛ لأن المقصود لزوم المساجد للعبادة.
    أنا أقول هذا كمسلك أصولي، أي: الكلام على المسألة كمسألة أصولية، لكن لو أنك سألت عالما وقال بالاشتراط ورأيت قوله؛ فلا بأس أن تعمل به، لكن فيما يظهر من ناحية الأدلة ومن ناحية النظر في النصوص الواردة أن مذهب الاشتراط مذهب قياسي بلا إشكال، قاسوا الاعتكاف على الحج والعمرة، والحج والعمرة نفس الاشتراط فيه خلاف.
    ثم إذا قلنا في الحج والعمرة بجواز الاشتراط فقد سلكوا مسلكين: مسلك يقول: أنا أقتصر على النص، فالنص جاء في ضباعة، وهي مريضة، فالمريض الذي عنده مرض ودخل الحج والعمرة وهو مريض يشترط، أما من كان صحيحا فإنه لا يشترط، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى ذي الحليفة بعد قضية ضباعة، وأهل مع الصحابة وما قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، ولم يقل لمن أراد النسك: اشترطوا على أنفسكم: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني.
    ما قاله إلا لامرأة شاكية عندها عذر، فنعمل كل نص كما ورد.
    نقول: الأصل إتمام الحج والعمرة، ونفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نشترط إلا عند وجود العذر، والقاعدة: أنه إذا جاء النص على وجه خاص خارج عن القياس والأصل وفيه ما يشعر بتخصيص الحكم به؛ وجب تخصيص الحكم به.
    فأنت إذا رأيت الاشتراط تخفيف ومخالف للأصل الملزم بالإتمام، ومسقط للدم الواجب عند الحصر، فذلك كله خلاف نصوص واردة، أما الإتمام الذي ألزمنا به فلنصه تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196] وهذا لا يتم؛ لأنه إذا قال: إن حبسني حابس.
    فإنه يريد أن يتحلل مباشرة.
    ثانيا: أنه لا يتم للمرض، والأصل في المرض: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى} [البقرة:196] له فديته، وله ارتفاقه في المرض، فجاء لأن وجود هذا المرض الذي يحول بينه وبين إتمام الحج أن يشترط ويحج، فخالف الأصول، فإذا جئنا نقيس فينبغي أن نقيس على أصل لذاته يمكن القياس عليه، أما بالنسبة لأصل مختلف في عمومه لذاته، أي: حتى في نفس العبادة التي هو فيها مختلف فيه هل هو عام بحيث يشترط في كل حج وعمرة، ولكل شخص أن يشترط؟ أم هو خاص بمن كان عنده حاجة وضرورة ودخل الحج والعمرة؟ ولو أردت أن تحرر القياس صحيحا فتقول: ممكن أن يشترط المعتكف إذا كان عنده مرض أو عنده ضرورة، حتى يكون هناك نوع من التوافق في تركيب الفرع على الأصل، أما أن يأتي الرجل السوي ويقول: أشترط أن أخرج للاتصال على والدتي، وأشترط أني بعد المغرب أتصل على أهلي، وأشترط أنني كذا وأنني كذا! هذا كله خلاف الأصل.
    قد كان عليه الصلاة والسلام يمر على المريض ولا يعرج عليه كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وكان عليه الصلاة والسلام لا يخرج إلا لحاجة.
    فنحن نقول: الأصل في الاعتكاف؛ بل الاعتكاف أصله يدل على اللزوم والملازمة للعبادة، فإذا أصبح الشخص يخرج كل حين، فيخرج لقضاء حاجته، ثم يشترط فطوره، ثم يشترط سحوره، وإن تيسر بينهما أكلة بين الأكلتين فلا بأس أن يشترط، فتجد الآن الشخص ينام النهار من بعد الفجر إلى الظهر، ثم بعد الظهر إذا ذهب وتوضأ ربما أنه يجلس بين الظهر والعصر يحدث أخاه عن بعض الأمور التي وقعت له في وضوئه أو زحامه، أو ما رآه أثناء خروجه ودخوله، ثم إذا أذن العصر قرأ ما تيسر له من القرآن، وقبل المغرب ينشغل بتهيئة فطوره، ثم إذا انتهى من الفطور رغب في أن يأكل شيئا ما إن تيسر، وبعد العشاء يصلي التراويح، فإذا انتهى من التراويح أصبح محتاجا كل حين إلى الذهاب إلى دورة المياه.
    وهذا واقع، حتى عدنا لا نجد للاعتكاف لذة! ثم يذهب لقضاء حاجته، ولربما يكون قد اشترط أن يأكل بين التراويح وبين التهجد شيئا يعين على التهجد، وكأنه جاء إلى أمر فيه كرب شديد أو خطب عظيم، فلا يوجد استشعار أن الاعتكاف مدرسة يراد بها تهذيب النفوس بالاستغناء بالله عز وجل.
    وأبو ذر رضي الله عنه مكث أربعين يوما على ماء زمزم، فلو أننا أخذنا بالفتوى وقلنا: عنده طعام وطعم وشفاء سقم، فلا حاجة في الاعتكاف لأن يخرج للسحور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه طعام طعم وشفاء سقم) .
    وإذا خرج بعد التراويح إلى طعامه وأكل ما تيسر ثم صلى التهجد فيحتاج أيضا أن يذهب لقضاء حاجته، ثم إذا انتهى من التهجد اضطجع؛ لأنه يحس بالإرهاق والتعب، ثم يؤذن الفجر! فأين الاعتكاف؟! وهذه عبادة يراد بها قوة الشكيمة في الطاعة، وأناس خرجوا من الاعتكاف وهم يحبون القرآن وختمه كل ثلاث ليال؛ لأنه في أثناء الاعتكاف وطن نفسه على ذكر الله عز وجل، وأناس يعتكفون فيخرجون من الاعتكاف بالتهذيبات: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) ، والمداومة على (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ، والمداومة على أذكار الصباح والمساء، حتى أنه حفظها أثناء العشرة الأيام؛ فأصبحت ديدنه للعام.
    فهذه الأوقات معينة يقصد منها تهذيب النفوس، ولا يقصد منها الجلوس مع زيد وعمرو، فقد تجد المعتكف الكامل الاعتكاف الذي يدخل وهو يحس بلذة المناجاة لله، وحلاوة الأنس بالله سبحانه وتعالى، حتى إن أكره ساعة عنده أن يأتي أحد يقطعه عن ذكره لله سبحانه وتعالى، فيقول في نفسه: طيلة العام وأنا بين الناس، أليست هذه ساعات وسويعات أتفرغ فيها لذكر الله عز وجل؟! وخاصة في الليل، ففي الليل لا أعرف أحدا، وأستغني بالله سبحانه وتعالى.
    وليس معنى ذلك أنه يهين البدن، لكن ينبغي أن يهيئ الإنسان نفسه لهذه المدرسة وهذه العبادة، بحيث تكون شكيمته في الطاعة قوية، وعلى قدر الجد والاجتهاد في الطاعات والقربات تتبوأ المنزلة، فانظر إلى العلم إلى القيام إلى الصيام إلى الذكر، فأي عبادة جعل الله فيها مراتب كاملة وحصلها المكلف على أتم وجوهها فإنه يجد ثمرتها على أتم الوجوه وأكملها؛ فلذلك ينبغي لطالب العلم وعلى العامة أن يعلموا، كيف يكون الإنسان معتكفا على أتم الوجوه وأكملها، وجماع الخير كله في تقوى الله سبحانه وتعالى والأنس به جل جلاله.
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن اتقاه، والتمس رضاه، ووفقه فيما رجاه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، وموجبا لرضوانه العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.




  2. #362
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب البيع)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (362)

    صـــــ(1) إلى صــ(18)


    شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [8]
    العقود إما أن تكون لازمة أو غير لازمة، وقد تكون لازمة لطرف جائزة للطرف الآخر، وعقد الإجارة من العقود اللازمة للطرفين، فلا تنفسخ إلا برضا الطرفين، أو بتلف العين المؤجرة، أو بموت المرتضع أو المرضعة، أو يموت الراكب في الطريق، ولا ينفسخ العقد بضياع نفقة المستأجر.
    هذه مسائل تعتبر قواعد تحتذى في معرفة أحكام فسخ الإجارة، وقد ذكر الشيخ أمثلة من الواقع المعاصر، وأمثلة على الإجارات الطبية، وهي مسائل يهم كل مسلم معرفتها.




    أنواع العقود


    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وهي عقد لازم] .
    شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان ما يتعلق بنوعية عقد الإجارة، والعقود التي تقع بين الناس منها ما أوجب الله عز وجل على المتعاقدين أن يمضيا ويتما العقد على الوجه الذي اتفقا عليه، ومنها ما خير الله فيه الطرفين، فكل منهما بالخيار بين أن يتم العقد ويمضيه وبين أن يتراجع عنه، سواء وجد السبب أو لم يوجد.
    فالنوع الأول من العقود: هو الذي فرض الله على كل واحد من المتعاقدين أن يمضي فيه ولا يتراجع عنه إلا برضا من الطرف الثاني، ويسمى بالعقد اللازم.
    وأما النوع الثاني: فهو الذي خير الله سبحانه وتعالى فيه كلا المتعاقدين، فجعل له حظ النظر في أن يمضي في العقد أو يلغيه، سواء وجد سبب أو لم يوجد، وهذا يسمى بالعقد الجائز.
    وهناك نوع ثالث من العقود: وهي العقود التي تكون لازمة لطرف وجائزة بالنسبة لطرف ثان، فهذا النوع من العقود فرض الله على أحد الطرفين دون الآخر أن يتم ما التزم به، والطرف الثاني بالخيار؛ إن شاء أتمه وإن شاء امتنع.
    فمثال النوع الأول: البيع، فإذا أوجب المتعاقدان الصفقة وأتما العقد، فكل منهما مخاطب من الله سبحانه أن يتم الاتفاق والعقد على حسب ما وقع بينهما.
    وأما النوع الثاني: فمثل الوكالة والشركة، فإذا شاركت شخصا وقلت له: أدفع مائة ألف وتدفع أنت مائة ألف، واتفقتما على الشركة، ثم قلت بعد ساعة أو بعد نصف ساعة أو بعد كلامك مباشرة: لا أريد.
    فلك ذلك، ولو جئت بعد سنة في أي لحظة من ليل أو نهار تقول: لا أريد.
    فلك ذلك، وهذا يسمى بالعقد الجائز، أي: لك فسخه ولك حظ النظر في الفسخ والإمضاء في أي وقت وأي ساعة، سواء وجد العذر أو لم يوجد، وليس من حق الطرف الثاني -وهو ندك ونظيرك- أن يقول: لا أفسخ.
    بل لك أن تقول له: الخيار لي، أفسخ سواء وجد العذر أو لم يوجد، فلست بملزم.
    ومثال النوع الثالث: الجعالة، فمن قال: من أحظر سيارة مفقودة فله عشرة آلاف.
    فكلا الطرفين بالخيار، لكن لو أن شخصا وجد السيارة المفقودة عند وجدانها تراجع صاحب السيارة عن الكلام الذي قاله، أي: وجدها قبل أن يتراجع عن هذا العقد، فحينئذ نلزمه بالعشرة الآلاف، ونقول للطرف الثاني: لست بملزم بأخذها، إن شئت أخذتها وإن شئت تركتها.
    إذا: الجعل يكون لازما لطرف دون طرف ثان.
    أو مثل ضمان الأموال بالاستهلاك، وكالكتابة، ونحو ذلك من العقود.
    وأما بالنسبة للإجارة فقال المصنف: (وهي) أي: الإجارة (عقد لازم) .
    فكل نوع من أنواع الإجارات وقع بين طرفين فأكثر فإننا نلزم كلا الطرفين بإمضاء العقد، ونقول: ليس من حقك الرجوع عن هذا العقد إلا برضا الطرف الثاني.
    فلو قال له: أجرتك عمارتي بمائة ألف سنة كاملة ابتداء من غد.
    وقال: قبلت.
    وأتم العقد وأوجب، وافترقا؛ على القول باشتراط خيار المجلس أو لم يفترقا على القول الثاني؛ فإنه إذا تم العقد لزم الطرفين، وليس من حق صاحب العمارة أن يقول: تراجعت.
    ولا من حق الذي يستأجر أن يقول: تراجعت.
    نقول للمؤجر: أنت ملزم بإتمام الصفقة، ويجب عليك أن تسلم العمارة في المدة المتفق عليها، ونقول للمستأجر: يجب عليك أن تمضي في استئجار العمارة.
    هذا في إجارة الدور.
    ولو استأجر شخصا لعمل عنده في البيت فقال له: اخدم هذا البيت، أو اعمل عندي في البيت، وقم على مصالح بيتي؛ وأعطيك ألفا في كل شهر.
    أو استأجره لحراسة مزرعة أو القيام عليها، فقال له: لك في الشهر ألف ريال، أو تعمل عندي هذا الشهر ابتداء من كذا إلى نهاية كذا بألف.
    فقال: قبلت.
    فكلا الطرفين ملزم بهذا العقد، وليس من حق صاحب المزرعة أن يتراجع، ولا من حق العامل أن يتراجع.
    فإذا: المصنف حينما قال: (وهي) أي: عقد الإجارة بجميع صور الإجارة.
    (عقد لازم)، واللازم: هو العقد الذي لا يملك أحد الطرفين الرجوع عنه أو فسخه إلا بإذن الآخر، فلو أن شخصا جاء لرجل وقال له: أجرني سيارتك إلى مكة بألف.
    فقال: قبلت.
    وتمت الصفقة بينهما، ثم جاءه بعد ساعة أو بعد فترة أو في نهاية المجلس وقال: طرأ عندي ظرف، وأريدك أن تقيلني من هذه الإجارة، قال: أنت في حل.
    حينئذ تنفسخ الإجارة، لكن لو قال: لا أقيلك.
    فإنه يلزم بالإجارة ويلزم بإتمام العقد على الصفة التي اتفق عليها الطرفان.




    عقد الإجارة من أنواع العقود اللازمة


    قال رحمه الله: (وهي عقد لازم) .
    أما هذه المسألة -وهي مسألة لزوم عقد الإجارة- فهي مسألة عامة شاملة لجميع أنواع الإجارات، فلو سألك الطبيب والمهندس والخياط والنجار والحداد عن أي صفقة من صفقات الإجارة أتمها وأوجبها مع الطرف الثاني: هل له حق الرجوع أو ليس له حق الرجوع؟ تقول: الأصل أنك ملزم والطرف الثاني ملزم بإتمام هذا العقد الذي اتفقتما عليه، وليس لك حق الرجوع إلا بإذن صاحبك، إلا فيما يستثنى من الأسباب الموجبة للفسخ كما سيأتي إن شاء الله بيانها.
    بقيت مسألتان: المسألة الأولى: هل لزوم الإجارة محل إجماع أم فيه خلاف؟
    الجواب جماهير السلف والخلف والأئمة ودواوين العلم كلهم رحمة الله عليهم على أن عقد الإجارة عقد لازم، ولم يخالف في هذه المسألة إلا بعض الفقهاء، وهو قول للأفراد، ويحكى عن بعض أئمة التابعين، ولكنه قول شاذ لا يقدح في الإجماع، والإجماع على أن عقد الإجارة عقد لازم.
    المسألة الثانية: ما هو الدليل على أن عقد الإجارة عقد لازم؟ دل على هذه المسألة دليل النقل والعقل: أما دليل النقل: فإن الله يقول في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمر بالوفاء بالعقد وإتمامه، والمضي فيه على الوجه الذي اتفق عليه الطرفان، وكذلك عمم، فقال: (أوفوا بالعقود) ، ولم يستثن عقدا، فدخلت الإجارة تحت هذا العموم، ونقول: الإجارة لازمة لأنها عقد، والله فرض علينا في العقود أن نتمها ونمضيها على وجهها، فليس لأحد الطرفين الرجوع عن هذا العقد الذي اتفقا عليه.
    أما دليل النظر: فالقياس الصحيح، قالوا: الإجارة عقد لازم كالبيع؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة.
    وتوضيح هذا القياس: أن الفرع الذي يستدل له هو الإجارة، والأصل المقيس عليه هو البيع، والحكم لزوم العقد، والعلة التي تربط بين الطرفين كالآتي: نحن متفقون جميعا على أن عقد البيع عقد لازم، ولا يجوز للمسلم إذا أتم البيع أن يتراجع عنه إذا حكم بلزومه، إلا ما يستثنى من حالات الفسخ، وإذا ثبت أن البيع لازم فالإجارة كالبيع.
    وجه الشبه بين الإجارة والبيع أنك في البيع تعاوض، فتدفع المال لقاء السلعة والعين والذات، وفي الإجارة تدفع المال لقاء المنفعة، فكما أنه يجب الوفاء في ذلك العقد من عقود المعاوضات كذلك يجب الوفاء في هذا العقد من عقود المعاوضات، فالمسلم خرجت منه كلمة التزم بها أن يؤجر، فنلزمه بهذه الكلمة كما نلزمه إذا خرجت منه وهو ملتزم بالبيع، فنقول: نلزمك أن تؤجر كما يلزمك أن تبيع وتسلم المبيع.
    وهكذا نقول للمستأجر: يلزمك أن تدفع الثمن وتمضي الإجارة، كما يلزم المشتري دفع الثمن وإمضاء البيع.
    قوله رحمه الله: (وهي عقد لازم) .
    فاللزوم هنا لكلا الطرفين كما ذكرنا، وليس من اللازم الذي يكون لأحد المتعاقدين دون الآخر.
    المسألة الأخيرة: لزوم الإجارة إذا تأمله المسلم وجد فيه الخير الكثير، وعلم علم اليقين أن هذه الشريعة شريعة رحمة بالعباد، وأن الله سبحانه وتعالى دفع عن الناس الضرر، فلو كانت عقود الإجارة غير لازمة، لكان من أراد أن يؤجر عمارة في موسم أو نحوه، فجاءه رجل وأعطاه كلمة على أنه يستأجر منه، ثم بعد يوم أو يومين أو ثلاثة أو بعد فوات المستأجرين قال: لا أريد.
    فسيكون عليه ضرر بفوات موسم التأجير! وضرر في فوات المتعاقدين والطالبين للسلعة، ثم يكون ذلك وسيلة للإضرار بمصالح الناس وأذية بعضهم لبعض، فيتربص التجار بعضهم ببعض، فيرسلون لرجل من يتم معه الإجارة وعقدها، ثم يتراجع عند فوات سوق تلك العين المؤجرة.
    فعلى هذا: لا شك أن لزوم عقد الإجارة فيه حكمة عظيمة، ولو لم نقل: إن عقد الإجارة لازم لتلاعب الناس بحقوق بعضهم بعضا، ولأدى ذلك إلى استغلال الإجارة كوسيلة للضرر، وأدى ذلك إلى فوات حقوق الناس، وأدى ذلك أيضا إلى الشحناء والبغضاء والعداوة.
    إلى غير ذلك مما لا تحمد عقباه.




    حكم منع المؤجر تسليم العين المؤجرة بعد الاتفاق


    قال رحمه الله: [فإن أجره شيئا ومنعه كل المدة أو بعضها فلا شيء له] .
    الفاء: للتفريع، (فإن أجره شيئا ومنعه كل المدة أو بعضها) .
    في الإجارة طرفان: مؤجر ومستأجر، فأنت إذا قلت: إن عقد الإجارة عقد لازم ينبغي أن تفرع على هذه القاعدة وهذا الأصل؛ أن تفرع اللازم الذي يتعلق بالمؤجر، وأن تفرع اللازم الذي يتعلق بالمستأجر، فابتدأ رحمه الله بالمؤجر.
    فقال: (فإن منعه) أي: منع المالك من الانتفاع من العين المؤجرة، ولا يمنع إلا إذا أخلف وعده بإتمام الصفقة، فهو يمتنع من إتمام العقد ويقول: هذه العمارة اتفقت معك أنها بمليون ولا أريد أن أعطيكها، أو لا تستلم العمارة، أو ليس لك عندي شيء، أو لا أعطيك مفاتيحها.
    فمنعه أن يستوفي حقه، فإذا منع المؤجر فهو بالإجماع يعتبر ظالما.
    وإذا ثبت عند القاضي أن شخصا أتم عقد إجارة وتلاعب وأخلف وعده، فإن من حق القاضي أن يعزره، ثم التعزير يتفاوت على حسب الضرر الذي يلحق، فالإجارات التي فيها مصالح عظيمة وأضرار كبيرة يعزر فيها أكثر من الإجارات التافهة واليسيرة.
    فإذا: إن منعه يأثم؛ لأن الله فرض عليه وأوجب عليه بعدما أتم العقد أن يمضي، وأن يفي بما التزم به وما أخذه من العهد على نفسه.
    ثم يبقى
    السؤال إذا حكمنا بكونه آثما فالإثم مسئولية الآخرة، فيبقى النظر عن مسئولية الدنيا من حيث فوات المصلحة، وامتناع صاحب العين من تمكين المستأجر من حقه، فنقول: نحكم بإثمه، ونحكم بقهره على هذا العقد إن كان في بداية المدة.
    مثال ذلك: لو أن رجلا استأجر عمارة بمائة ألف لشهر ذي الحجة، فلما جاء المستأجر يريد أن يستأجر منعه في يوم بداية العقد، أي: جاءه المستأجر وقال له: أعطني المفتاح في ليلة واحد ذي الحجة حتى أستفيد من العمارة التي استأجرتها.
    فقال: ليس لك عندي شيء.
    فمن ناحية شرعية يفرض عليه، ويلزم بتمكين المستأجر من حقه، ولا يقف القضاء عند قوله: هذا آثم وظالم، بل يفرض عليه ويقول له: أنت تمنع صاحب الحق من حقه؛ لأن منفعة سكنى العمارة خلال الشهر ليست بملك لك، فقد بعتها وأصبحت ملكا للغير، فأنت بامتناعك من تسليم المفتاح والتمكين من الإجارة منعت حق غيرك، وهذا ليس بملك لك، وقد خرجت عن ملكيتك خلال شهر ذي الحجة.
    فإذا: (الفاء) : للتفريع، يتفرع على قولنا باللزوم أننا نلزمه ونقهره بالقوة على دفع العين لكي ينتفع بها المستأجر، سواء كانت أرضا أو دارا أو سيارة أو أي شيء اتفق عليه، فنلزمه بذلك.
    فإذا منعه لم يخل هذا الفعل من أحوال: الحالة الأولى: أن يمنعه قبل ابتداء العقد ويقول له: ليس لك عندي شيء، وأنا راجع عن الإجارة.
    فحينئذ إذا رفع إلى القضاء يفرض عليه القضاء التمكين، ويمكن تلافي هذا الخطأ بإلزامه في مدة الإجارة.
    فإذا اشتكى إلى القاضي وأحضر القاضي خصمه وألزمه، وابتدأت الإجارة وأخذ حقه كاملا فلا إشكال؛ لأنه منع من حقه وتوصل إلى حقه بالقضاء.
    الحالة الثانية: أن يقول له: لا تأخذ شيئا، وليس لك عندي شيء، والعقد الذي بيني وبينك لاغ.
    فألغى العقد من طرف واحد، فالرجل حاول معه وأراد أن يقنعه فلم يستطع حتى مضى شهر ذي الحجة، فإذا مضى شهر ذي الحجة لم يستحق هذا المانع شيئا من الأجرة؛ لأن الأجرة مركبة على المنفعة، وقد منع المنفعة.
    قد يقول لك قائل: إنه إذا منعه ومضت المدة نلزمه بدفع الأجرة، فكون هذا خان وامتنع فعلى الآخر أن يفي ولا يمتنع: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) وقد التزم أن يعطيه مائة ألف على شهر ذي الحجة.
    نقول: التزم المائة ألف لقاء منفعة، والمنفعة المشتراة غير موجودة، كما لو باعه شيئا ولم يعطه إياه، فإذا: لما كانت مستحقه لشيء ومبنية على شيء، فإنها تفوت بفواته، هذا إذا منعه المدة كلها.
    الحالة الثالثة: أن يمنعه بعض المدة، فقال له: لا أؤجرك، والعقد الذي بيني وبينك لاغ، فمضى من الشهر عشرة أيام وبقي عشرون يوما سكنا، فيستحق أجرة العشرين يوما.
    ولو منعه عشرين يوما وتمكن من حقه في العشر الأواخر من الشهر يكون له ثلث الأجرة، ولو منعه خمسة عشر يوما وتمكن من حقه في الخمسة عشر يوما، أو سلم له واقتنع بعد نصف الشهر وسلمه المفتاح، نقول: له أجرة نصف الشهر.
    وهذا يختلف تبعا لأحوال الناس: إما أن يمنعه كلية، ولكنه يتمكن من حقه من ابتداء المدة، ويستوفي حقه كاملا، فلا إشكال، وإما أن يمنعه ولا يتمكن من حقه بالكلية فلا يستحق الأجرة، وإما أن يمنعه عن بعض الأيام دون بعضها، وحينئذ يستحق بقدر ما أخذ من الأيام، ويستحق الأجرة بقدر ما استفاد المستأجر من الأيام، إن كان نصف الشهر فنصف الأجرة وهكذا.
    لكن هنا مسألة: لو أنه اتفق معه على أن يؤجره شهر ذي الحجة، وكل يوم من شهر ذي الحجة بألف، فاتفق معه على شهر ذي الحجة، ولكن لم يقل: كل يوم بألف، بل قال له: هذه ثلاثون ألفا لقاء شهر ذي الحجة، وتم العقد على هذا، ثم شاء الله عز وجل أنه منعه من الخمسة عشر يوما الأولى، ثم مكنه من بقية الشهر، وكان الشهر ناقصا، فهل يستحق الخمسة عشر ألفا أو يستحق الأربعة عشر ألفا؟
    الجواب يستحق أربعة عشر ألفا، ولا يستحق الخمسة عشر؛ لأن نقصان الشهر إلى تسع وعشرين يوما في صورة التمام والكمال، ولا تكون في صورة البعض، ولذلك قال بعض العلماء: إنه في هذه الحالة لا يستحق إلا عن أربعة عشر يوما؛ لأنها تجزأت بتجزؤ المنفعة المستوفاة، فله حق كل يوم بحسبه، لكن لو أنه أوجب الصفقة عن الشهر كاملا، ومكنه من الانتفاع ولم يمنعه، وظهر أن الشهر تسعة وعشرون يوما، فهذا استحقاق مبني على الشهر المسمى، وليس على أجزاء الشهر، وفرق بين الاتفاق على الأجزاء وبين الاتفاق على الكل، وكذلك لو صام شهرين متتابعين وابتدأ من أول الشهر، فإنه قد يصوم كلا من الشهرين تسعة وعشرين يوما، فتصح كفارة له عما أوجب الله سبحانه وتعالى، لكن لو ابتدأ أثناء الشهر وابتدأ في اليوم الثاني فلابد وأن يصوم ستين يوما قولا واحدا عند العلماء.
    ففي هذه الحالة يكون المؤجر هو الذي أدخل على نفسه النقص.
    وقال بعض العلماء: بل يستحق خمسة عشر ألفا، ووجه ذلك أن العقد تم على الشهر نفسه، فإن كان قد مكنه من النصف كان نصف المسمى لنفس المدة التي استوفي فيها، ويكون له نصف الشهر؛ لأن العقد باسم الشهر نفسه.
    ولكن القول الأول أوجه وأصح؛ لأنه حينما منعه أضر بمصلحة نفسه، وانتقل إلى التجزئة بحسابها، وهذا أصل عند العلماء كما ذكروها في الفسوخات، وذكروها في الأمور الطارئة التي توجب زوال عقد الإجارة.




    حكم رجوع المستأجر عن الإجارة بعد البدء في العقد


    وقوله: [وإن بدأ الآخر قبل انقضائها فعليه الأجرة] .
    هذا من دقة المصنف رحمه الله: فإنه فرع الأحكام في لزوم عقد الإجارة على المؤجر وعلى المستأجر.
    قد يقع الامتناع ويقع النقض للعهد والعقد المتفق عليه بين الطرفين من الشخص المستأجر، فلو أن رجلا جاء واستأجر بيتك، وقال: أجرني بيتك هذا بعشرة آلاف في شهر رمضان.
    فقلت له: قبلت.
    وتم العقد بين الطرفين على أنه يستأجر شهر رمضان بعشرة آلاف، فامتنع من سكنى البيت، قال: العقد الذي بيني وبينك لاغ.
    حتى مضى شهر رمضان كاملا وقد سلمته المفاتيح ومكنته، أو مكنته من تسلمها، وقلت له: العقد الذي بيني وبينك كما هو، وهذا بيتك في شهر رمضان، تريد تأتي فهذا حقك، وتريد تتخلف فإن البيت باسمك ولا أؤجره لأحد، ولست بمسئول عنه؛ لأنني بعت منفعته ولا آخذ حق الغير.
    فبقيت على التزامك.
    إن كان هذا الشخص الآخر امتنع بالكلية وقد مكنته فإنه يلزم بدفع الأجرة كاملة؛ لأن الله فرض عليه العقد، وأنت قد مكنته من حقه، فتستحق الأجرة كاملة، وهو الذي أدخل الضرر على نفسه بامتناعه من الإجارة، وهو الذي فوت على نفسه مصلحة الارتفاق بهذه العين المؤجرة، فعليه أن يتحمل مسئولية نفسه.
    أما لو أنه أثناء العقد استأجر شهر رمضان، فامتنع من أول الشهر وجاء في نصفه الثاني، أو العكس: سكن أول رمضان -النصف الأول- ثم جاء في النصف وقال: ما أريد بقية الشهر.
    وليس ثم عيب يوجب الفسخ، وليس هناك أمر يستحق به ما قاله، ففي هذه الحالة نقول: أنت ملزم بالعقد على مدته التامة الكاملة، وليس من حقك الفسخ؛ فإن بدأ فيدفع الأجرة كاملة.




    أمور ينفسخ بها عقد الإجارة


    قال رحمه الله: [وتنفسخ بتلف العين المؤجرة، وبموت المرتضع، والراكب إن لم يخلف بدلا، وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه، لا بموت المتعاقدين أو أحدهما، ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه] .
    ينفسخ عقد الإجارة بتلف العين المؤجرة


    فقوله: [وتنفسخ بتلف العين المؤجرة] .
    (الفسخ) في لغة العرب: الإزالة، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله وأماطه عن بدنه، فلما ذكر المصنف رحمه الله لزوم عقد الإجارة ناسب أن يتكلم عن الأحوال التي تستثنى، ويكون حكم الشرع فيها بجواز فسخ هذا الشيء الذي لزم الطرفين.
    وقوله: (العين المؤجرة) أي: كالبيت، فلو قال له: أجرني هذا البيت بمائة ألف -مثلا- هذه السنة.
    وقال: قبلت.
    فلو انهدم البيت -تلفت العين- فقد فاتت المنفعة التي اشتراها المستأجر، وبفوات المنفعة يفوت عقد الإجارة؛ لأنه لا يمكنه أن يسكن في هذا البيت وهو منهدم، وقد اتفق الطرفان على أنه مؤجر له بسكنى هذه الدار، فإذا أصبحت الدار غير موجودة فإنه حينئذ يحكم بانفساخ العقد، وكما أنه لو باع دابة ثم ماتت الدابة قبل إتمام الصفقة، أو بستانا، ثم جاء إعصار وأحرق البستان قبل إتمام الصفقة؛ فإن هذا يوجب الفسخ؛ فكذلك في الإجارة.
    وكذلك إذا قال له: بعني هذه العلبة من الطعام أو نحوه، فقال: بكم؟ قال: بخمسة ريالات.
    فقال: اشتريت.
    فلما أراد أن ينزلها البائع سقطت من يده وانكسرت، فلا يمكن أكل هذا الطعام الذي انكسرت علبته أو أريق على هذا الوجه، وفي هذه الحالة لا يمكن الانتفاع بهذه العين، فتقول: انفسخ عقد البيع على هذا المعين وفات بفواته.
    وحينئذ يعقد معه على عين أخرى إذا أراد وإلا فسخ البيع.
    فإذا: إذا فاتت العين المقصودة التي تم العقد عليها، فإنه حينئذ يحكم بانفساخ عقد الإجارة.
    وتلف العين مثل انهدام الدار، وموت الدابة والبعير في القديم، ومثله في زماننا السيارات، فلو أنه اتفق معه على إجارة سيارة بعينها إلى مكة أو إلى جدة أو إلى المدينة، ثم في الطريق تلفت مكينة هذه السيارة، حتى لا يمكن أن يتم بها العقد على الوجه المعتبر، فحينئذ يحكم بفوات العقد.
    وإذا تلفت العين فلها صور: الصورة الأولى: أن تتلف العين قبل ابتداء مدة الإجارة.
    الصورة الثانية: أن تتلف العين أثناء مدة الإجارة.
    فأما في حالة تلف العين قبل ابتداء الإجارة: فينفسخ العقد بالكلية، وإذا كان قد قبض الثمن وجب عليه رد الثمن إلى صاحبه، وهذا لا إشكال فيه.
    وأما إذا تلفت العين أثناء الانتفاع، مثلا: كان ساكنا في الدار فسقطت الدار وانهدمت، أو سكن نصف شهر وانهدمت في نصفه الباقي، أو احترق البستان أو نحو ذلك من المؤجرات، فحينئذ يحكم بلزوم أجرة ما مضى وفسخ الإجارة فيما بقي، ويستحق الأجرة بقدر ما أخذ، ثم الباقي يحكم بانفساخ عقد الإجارة فيه.
    لكن أيضا هناك تفصيل عند العلماء رحمهم الله في مسألة تلف العين؛ فجمهرة أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة رحمهم الله على أن انهدام الدار يوجب انفساخ عقد الإجارة، لكن فقهاء الحنفية رحمهم الله وبعض الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والإمام الشافعي يقولون: أنه إذا انهدمت فينظر فيها، فإن بقي شيء من الدار فيه منفعة انفسخت الإجارة فيما لا منفعة فيه، وتبقى في القدر الذي فيه المنفعة.
    من أمثلة ذلك: الدار التي لها فناء وحوش، فإذا استأجر دارا بحوشها، مثل الفلل الآن، يقولون: إذا سقطت الفلة وانهدمت، أو سقطت الفلة وبقي جزء منها صالح للسكن، فإننا نقدر قيمة هذا الجزء المنهدم من الأجرة، ونقول للمستأجر: انتفع بما بقي، وانتفع بهذا الفناء والحوش؛ قالوا: لأنه يمكن أن يستغله لحفظ المتاع، ويمكن أن يستغله لحفظ الحيوان، ويمكن أن يستغله في مصالحه؛ لأن الحوش يمكن الارتفاق به بخلاف البناء.
    قالوا: فحينما اتفق الطرفان على بناء وفناء، فمعنى ذلك: أنه يريد للسكن ويريد الارتفاق بالفناء، فإن فات السكن بقي عقد الفناء كما هو، وهذا في الحقيقة إذا نظر إليه من حيث الأصول فله قوة، أعني أنه من حيث الرأي والنظر صحيح؛ لأن القاعدة تقول: الإعمال أولى من الإهمال.
    والقاعدة المشهورة تقول: الأصل بقاء العقود.
    فلو جاء شخص يتكلم ويقول: انهدمت الدار.
    نقول: إذا تنفسخ فيما انهدم؛ لأن ما شرع لعلة يتقيد بها، فإذا كانت العلة هي كون الدار منهدمة فإن الانهدام هو الذي ينفسخ في عقد الإجارة، ويتقيد به.
    إلا أن القول الأول أدق وخاصة في المصالح، لأنك إذا جئت تنظر إلى مصالح الناس وإلى الضرر، فلا شك أن القول أنها تنفسخ كلية قوي؛ لأنك قد تستسمح الفناء وترضى به لوجود البناء، وقد ترضى بالبناء لوجود الفناء، فإذا كان رضا الإنسان بالبناء وكان الفناء تبعا، فلا ينبغي أن نجعل التابع أصلا، ولذلك قالوا: من الصعوبة بمكان أن نلزم في هذه الحالة، فمادام أنها انهدمت فالمتفق عليه الشيء الكامل، وإذا ذهب بعضه فإنا لا نلزمه به؛ لأن المستأجر استأجر شيئا كاملا لا شيئا ناقصا، ولو كان يريد الفناء لقال: أجرني فناءك.
    لو كان يريد جزءا من الدار لقال: أجرني غرفة.
    لكن هو قال: أجرني الدار كاملة، فبأي حق نلزمه بالبعض وقد اتفق على شيء كامل متكامل، فهو ما اتفق معه على فناء.
    وكل من القولين له وجه، فإن من قال: نفسخها في الجزء الذي انهدم ولا نفسخها فيما بقي، فقوله أشبه بالقواعد من جهة النظر والأصول، ومن قال: إنها تنفسخ كلها، فلقوله حظ من حيث الأصل الذي ذكرناه: أن العقد تم على شيء كامل يفوت بفوات بعضه أو أغلبه، ولما فيه من الضرر على الناس.



    ينفسخ عقد الإجارة بموت المرتضع


    قال رحمه الله: [وبموت المرتضع] .
    وتنفسخ الإجارة بموت المرتضع، عندنا المرتضع والمرضعة، وقد ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى أحل الإجارة على الرضاع، وقال سبحانه وتعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6] فأثبت الأجر واستحقاق الأجرة بالرضاعة، فدل على مشروعية التعاقد على الرضاع.
    فمن الصور التي تنفسخ فيها الإجارة: إذا استأجر امرأة لإرضاع بنته، فاتفق معها على أن ترضعها سنة كاملة، فماتت الصبية في منتصف العام، أو ماتت قبل ابتداء الإجارة، فإن ماتت قبل ابتداء الإجارة انفسخت وليس للمرضعة شيء، وإن ماتت أثناء المدة استحقت المرضعة بقدر ما أرضعت من الزمان، فلو ماتت في ثلث السنة الأول كان لها أجرة الثلث، وإن ماتت بعد تمام النصف الأول فإنه يكون لها حظ النصف الأول وهكذا، تقسط الأجرة، وهذا أصل في الإجارة: أنها تقسط على حسب المنافع المتفق عليها.
    أيضا إذا ماتت المرضعة وهي المرأة التي ترضع، فإنه ينفسخ العقد؛ والسبب في هذا: أن المنفعة فاتت الإجارة؟ ونحن نحكم بالفسخ إذا فاتت المنفعة المشتراة، ودائما تكون المنافع تحت الأعيان، فعندنا ذوات وعندنا منافع، فإذا استأجر بيتا فالذات البيت -البناء- والمنفعة السكنى، فإذا انهدم البيت انفسخ العقد؛ لأنه لم يعد هناك منفعة وهي السكنى بعد انهدام البيت وسقوطه.
    وكذلك لو استأجر دابة للركوب وماتت، كانت الإجارة على عينها وذاتها، ولم يمكن إقامة غيرها مقامها، فحينئذ تفوت بفواتها.
    فالمصنف رحمه الله قال: تنفسخ بتلف العين المؤجرة، وهذا مثلما ذكرنا في البيوت والمساكن من غير الحيوانات.
    وتنفسخ بموت المرتضع، وهذا مثال للحيوان -من الآدمي والحيوانات- فإذا ماتت المرأة المرتضعة أو الرضيع الذي يرتضع فإنه يحكم بفسخ الإجارة.
    وقد يسأل سائل ويقول: حكم الفقهاء ونص المصنف رحمهم الله على أن عقد الإجارة ينفسخ إذا مات المرتضع، أليس بالإمكان أن يؤتي برضيع آخر ويقام مقامه، ونقول: تصحيح العقود ما أمكن؟ قالوا: لا يمكن؛ لأنه حينما استأجر المرأة لإرضاع هذا الصبي بعينه فإنه لا يمكن بحال أن تأتي بصبي يرضع كرضاعته، ويحن لهذه الأم مثله، ويأخذ منها من اللبن بقدر ما يأخذه الأول، فلا تستطيع أن تقيم الغير مقامه بالعدل.
    هناك مسائل ستأتينا ولا نحكم فيها بانفساخ العقد؛ لأنه يمكن تحقيق المنفعة وتحقيق العدل بين الطرفين، وهذا من دقة الشريعة: أنه إذا تم العقد على صورة ومنفعة بحدود قيدت بها.
    فهو إذا أقام رضيعا آخر لا يمكن أبدا أن يأتي رضيع آخر مثل الرضيع الأول، فالناس يختلفون في الشبع والري، ويختلفون في الرضاعة، ويختلف حال الصبي من امرأة لأخرى، فقد يرتضع من امرأة ويحب لبنها ويرضى بها ويقبل على ثديها، وقد تحرم عليه المراضع فلا يقبل بالمرضعة، وقد يكون بين بين، تارة يقبل وتارة يدبر، فكيف تقيم طفلا مقام طفل مع اختلاف الطبائع واختلاف الأحوال؟! وعليه فتفوت المنفعة بموت المرتضع، وبحكم بانفساخ العقد لتعذر إتمامه على الوجه الذي كان عليه الأول، ولا يتم عقد الإجارة إلا إذا كان هناك عدل بين الطرفين، واستيفاء للحقوق كما اتفق عليه المتعاقدان.
    كذلك لو ماتت المرأة المرضعة فلن تستطيع أن تجد امرأة لبنها كلبن هذه المرأة في خصائصه وطبائعه وكميته؛ لأنها تختلف، فالمرأة التي تحمل لأول مرة وتدر لبنها، ليست كالمرأة التي في ثاني مرة ولا في ثالث مرة، والمرأة المتوسطة ليست كالمرأة البكر، وهكذا، فالانضباط متعذر، فيتعذر أن تقيم الغير مقام الأصل الذي اتفق عليه، فيفوت العقد بفوات الأصل.



    انفساخ عقد الإجارة بموت الراكب في الطريق


    وقوله: [والراكب إن لم يخلف بدلا] .
    أي: إذا كان له وارث يقوم مقامه فلا بأس ويتم العقد، ففي القديم كانوا يركبون للحج، فنص الإمام أحمد رحمه الله حينما سئل: إذا استأجر البعير في الحج ومات الراكب في الطريق؟ أنه يحكم بانفساخ العقد، وإذا حكمت بانفساخ العقد فتقدر أجرة هذا البعير من الموضع الذي سار منه إلى الموضع الذي مات فيه الشخص، ويستحق صاحبه قسط هذه الأجرة.
    إذا حكمت بالفسخ تفرع عليه استحقاق الأجرة فيما مضى، ويتفرع عليه جواز أن يؤجره للغير، فيأتي براكب آخر ويؤجره، ويستفيد مما بقي من المتفق عليه في عقد الإجارة.



    حكم عقد الإجارة عند ذهاب الألم والمرض


    وقوله: [وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه] .
    هذه مسألة طبية، وهذا من دقة الكتب الفقهية، وقد نبهنا غير مرة أن الفقهاء يذكرون بعض الأمثلة، وقد يأتي من لا يحسن فهم العلماء رحمهم الله، ولا يقدر ما قدمه هؤلاء الأئمة، وخاصة في الفقه، فإن الفقيه قل أن يكتب متنا إلا وقد ابتلي بأحد هذه الأشياء أو بها جميعا: إما أن يكون ابتلي بالقضاء، أو بالفتوى، أو بتدريس الفقه.
    فلن تجد أحدا يكتب متنا فقهيا إلا وقد اشتغل بواحدة من هذه الثلاث أو بها مجتمعة.
    ومن أنفس وأدق ما يكون في الفقه: أن تجد فقيها اشتغل بالقضاء والفتوى والتعليم؛ لأن من الفقهاء من فتح الله عليه في القضاء ولم يفتح عليه في الفتوى، ومنهم من فتح الله عليه في الفتوى ولم يفتح عليه في القضاء، ومنهم من فتح الله عليه في التدريس ولم يفتح عليه في الفتوى، ومنهم من فتح الله عليه في الفتوى والتدريس والقضاء.
    وتجد دواوين العلم ونوابغ الفقهاء وأئمتهم الذين يشار إليهم بالبنان، وتقبل تحقيقاتهم وتحريراتهم، وينظر إليها نظرة الإجلال والإكبار، ويكون لها وزنها وقدرها حينما يكونون قد ابتلوا بهذه الأشياء، فتجد الأئمة الكبار قضاة، والسبب في هذا: أن القضاء يدخل عليك المسائل الغريبة والأمثلة العجيبة، فتتأصل عندك الأصول، وتنضبط عندك الفروع، وتتضح القواعد والضوابط، وكذلك الفتوى، فإن الناس تأتي بعجائب مسائلهم وغرائب نوازلهم، فلا يحسن التصدر فيها إلا من أنار الله بصيرته، وكان -كما وصف الله- راسخا في العلم.
    ولذلك كان غالب من يتصدر إلى الفتوى في سن مبكرة ينبغ في الفقه في فترة وجيزة؛ لأن الناس تدخل عليه المسائل، وهذه الأمثلة التي نراها في كتب الفقه هي حصيلة تجارب، وإن كان البعض يظن أنها مجرد آراء، وهو لا يعلم أنها حصيلة ذهن العلماء وكدهم وعنائهم قرونا طويلة.
    فحينما يقول المصنف: (وانقلاع ضرس) ليس المراد انقلاع الضرس فقط، إنما المسألة دخلت في مسائل الإجارة الطبية، وهذه الكلمة تستطيع أن تفرع عنها مشروعية الإجارة الطبية عموما، وأن الفقهاء يعتبرون جواز كون الطبيب يأخذ أجرة على عمله ليقلع الضرس، وهذا عمل طبي، وتأخذ منها جواز الإجارة الطبية خاصة، وهي مسألة الجراحة؛ لأن قلع الضرس نوع من أنواع الطب وهو الجراحة، وتأخذ منها جواز قطع العظام الزائدة عن البدن إذا كان فيها ضرر، وجواز قطعها بشرط وجود الحاجة الداعية وهو الألم، وعدم جواز قطعها إذا زال الألم.
    وتأخذ منها مسألة إزالة الأعضاء من غير العظام؛ لأن النظير يأخذ حكم نظيره، كما جاز قلع الضرس لوجود الضرر والألم، فيجوز قطع الأصبع الذي فيه ألم إذا تعذر علاج هذا الألم، أو خشي سريان هذا الألم، فالمصنف حينما تكلم عن فوات العين ومثاله العقارات، ثم بعد ذلك موت المرضعة وهو مثال للحيوان، ثم انقلاع الضرس بجزء الحيوان، فأصبح بعدما نبه على الكل نبه على الجزء، وتعلق الإجارة بالجزء، مع أن الرضاع تعلقت الإجارة بالجزء وهو اللبن، وهنا تعلقت الإجارة بالجزء وهو الضرس.
    فقوله: (وانقلاع ضرس) يعني: إذا استأجر طبيبا لكي يقلع ضرسه، وكانوا في القديم يحتاجون إلى ذلك.
    ولا يجوز للمسلم أن يقلع ضرسه إلا إذا وجد فيه الألم، ووجدت الحاجة الموجبة للقلع، ولا يجوز لأحد أن يقلع سنا لكبرها أو بشاعة منظرها كما في جراحة التجميل، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة، (والوشر) : فيه برد وتحجيم للأسنان، وهذا يدل على أن تغيير خلقة الله عز وجل لا يجوز.
    وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (المغيرات خلق الله) فلا يجوز العبث بهذه الخلقة، مادام أن الله سبحانه وتعالى أوجدها على هذه الصفة، وشهد من فوق سبع سماوات أنه خلقه فأحسن خلقته تبارك الله أحسن الخالقين، فقال: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين:4] فجعله على أحسن صورة وأتم صورة، فلذلك لا يجوز له أن يقلع أو يزيل شيئا من البدن إلا عند وجود حاجة.
    ومن هنا تفرعت مسألة عدم جواز (إزالة اللوز) بدون حاجة، وهي التي تسمى بالجراحة الوقائية؛ لأن الفقهاء نصوا على انفساخ عقد الإجارة في قلع الضرس إذا برأ الضرس، فدل على أنه لا يجوز أخذ شيء من البدن إلا عند وجود الحاجة الداعية لذلك، فقال العلماء في قلع الضرس: يشترط وجود الألم وعدم القدرة على احتماله، ولذلك تجد بعض الفقهاء يدقق ويقول: إذا صعب الألم ولم يمكن علاجه، أي لا يوجد علاج ولا دواء له جاز، أما إذا أمكن علاجه فلا، هذا بالنسبة لقلعه.
    فلو قال له: اقلع هذا الضرس -وكان الضرس يؤلمه- فقد كانوا في القديم لا يتيسر لهم ما هو موجود الآن من الوسائل التي أنعم الله بها على عباده من تقدم الطب، وفتح الله على عباده من واسع رحمته وبره وفضله سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير، وكل ذلك ليشكروه ويحمدوه، ويعتقدوا اعتقادا جازما بعظيم فضله ومنته، وأن الأمر كله لله سبحانه وتعالى.
    ففتح الله لهم هذه العلوم التي يستطيع الطبيب أن يعرف هل المصلحة بقاء هذا الضرس أو عدم بقائه، فالآن الوضع يختلف، صحيح أنهم في القديم قالوا: إذا برأ انفسخت الإجارة، لكن في زماننا لو كان الضرس فيه آفة في داخله، وهذه الآفة باقية، لكن الألم يذهب ويأتي، وتم العقد، فإنا نقول: ليس من حقه أن يفسخ؛ لأن العذر موجود، وإن كان ينفسخ في القديم؛ لعدم تمكنهم من الاطلاع على خفايا الضرس، وما فيه من أمراض اللثة ونحوها.
    لكن في زماننا هذا لما تقدم الطب فإنه إذا وجدت العلة والآفة، وقرر الأطباء أن هذا النوع من الآفات والعلل لا علاج لها إلا الجراحة والاستئصال، واتفق مع المستشفى أو مع الطبيب على أنه يستأصل، ثم قال: ذهب الألم.
    فقال: ما أريد.
    فإنا نلزمه؛ لأن العلة موجودة، ونقول له: إذا امتنعت وجب عليك أن تدفع أجرة الطبيب.
    وعلى هذا سنذكر مسألة تمكين الطبيب من نفسه؛ لأنه إذا مكن الطبيب المريض من نفسه ولم يأخذ منفعته؛ فإنه يلزم المريض بدفع الأجرة كاملة.
    حكم عقد الإجارة بعد موت المتعاقدين أو أحدهما


    وقوله: [لا بموت المتعاقدين أو أحدهما] .
    أي: لا تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين ولا بأحدهما، -يعني: إذا مات المؤجر والمستأجر-.
    مثال: قال زيد لعمرو: أجرني دارك هذا الموسم شهرين بمائة ألف.
    فقال: قبلت.
    واتفقا وتم العقد بينهما، ثم مات المؤجر والمستأجر، نقول للورثة: كل وارث يقوم مقام مورثه، فيستفيدون من هذه العين إما بأنفسهم، أو يؤجرونها على الغير، والأصل في العقد شرعا أنه تام لازم، فينزل منزلة مورثه في الاستحقاق.
    هذا مذهب الجمهور، وخالف في هذه المسألة بعض الفقهاء رحمهم الله، والصحيح مذهب الجمهور أنها لا تنفسخ بالموت، لا بموتهما ولا بموت أحدهما، ما لم يكن ذلك موجبا لفوات المنفعة كما ذكرناه في المرتضع والرضيع.



    حكم عقد الإجارة عند ضياع نفقة المستأجر


    وقوله: [ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه] .
    خالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله، فمثلا: إذا استأجره من أجل أن يحج به في سيارته، ثم ضاعت منه النفقة، سقطت في الطريق وضاعت منه، فجاءه وقال له: النفقة ليست معي: فالحنفية يقولون: من حقه أن يفسخ.
    والجمهور يقولون: ليس من حقه، فهذا بلاء أنزله الله على المستأجر، ليس له علاقة في العقد نفسه، فليس بمفوت لعين المنفعة ولا لذاتها ولا لما فيها من المصالح، والمستأجر قد مكنه من الإجارة، فحينئذ يلزم بدفع الأجرة وإتمام العقد على الصفة المعتبرة.
    لكن هناك مسائل استثنى منها بعض الجمهور، منها: إذا فاتت المصلحة المقصودة، مثلا: عندما تستأجر شخصا لكي يذهب بك إلى الحج، ثم يتأخر عليك ولا يأتي إلا في زمان لا يمكن معه إدراك الحج، فإن الإجارة تنفسخ، مع أن المؤجر والمستأجر والعين موجودة، لكن أنت تريد منفعة مقصودة، فهذه أيضا تلتحق بمسألتنا.



    الأسئلة

    نصيحة لطالب العلم بدراسة كل عقد على حدة


    السؤال أشكلت علي مسألة العقود أيها لازمة وأيها جائزة، فما هو الضابط في ذلك؟
    الجواب الحقيقة مسألة الضوابط ومسألة تقرير العلم لا ينبغي لطلاب العلم أن يشتغلوا بها كثيرا، فلابد أن تتعب وتحفظ وتدرس كل عقد على حدة، وأنت بنفسك تضع جدولا لما درست وتعلمت، لأنه قد أقول لك اليوم -مثلا- يترجح عندي أن عقد كذا لازم للطرفين ثم يترجح أمر آخر بعد ذلك، ليس هناك أفضل لطالب العلم من أن يضبط بنفسه.
    وكان الوالد رحمة الله عليه يعتني كثيرا بعدم إعطاء الضوابط والقواعد، وإن كان سهلا إعطاؤها، لكن يقول: أريدك أن تتعب، أريدك أن تدرس كل شيء على حدة.
    فمثلا: استيفاء القصاص، إذا قال له: استوف لي القصاص.
    وأجره من أجل أن يستوفي القصاص ودفع له المال، كما كان يجري في القديم -ونحن ما جئنا إلى باب استيفاء القصاص، ولكن يمكن أن أعطيك إياه كمثال على أنه عقد جائز في أول الحال لازم في ثاني حال -مثلا- ثم يتبين لي أنه لازم في أول حال.
    فلذلك لذة العلم وحلاوته في التعب والنصب، فتدرس كل شيء على حدة، وتضع بقلمك شيئا فهمته وشيئا قرأته وشيئا ضبطته، وعرفت ما ترتب على لزومه، وتأخذ كل شيء.
    صحيح ممكن أن يكون هناك لازم ثم يكون هناك مستثنيات للجواز، أو جائز ومستثنيات للزوم، فهذا أمر يستفاد منه.
    لكن يفضل لطالب العلم أن يتعب، وكان والدي رحمه الله كثيرا ما يعتني بهذه القضية، حتى من الغرائب أن المعجم المفهرس لألفاظ الحديث لم يدخل مكتبة الوالد رحمه الله حتى توفي؛ والسبب في هذا أنه: قال: إنه يعود طالب العلم الكسل.
    ولا شك أننا نستفيد من المعجم وغيره وأنه يختصر وقتا طويلا، لكن يقول: تذهب وتفتح دواوين السنة، وتخرج الحديث، وتكتحل عينك بالسهر، ويضنى جسدك حتى تصل إلى الشيء، وتتعود من -كثرة التخريج والرجوع إلى معرفة النسخ- على معرفة طريقة الترتيب للأحاديث واختلاف الألفاظ واختلاف الرواة وتعدد الطرق، هذا هو الذي يكشف لطالب العلم ويجعل عنده ملكة قوية.
    وذكروا عن بعض أهل العلم رحمهم الله أنه كان مولعا بالكتب، وكان شغوفا بجمعها، وكان في القديم يتعذر عليه نسخ الكتب؛ لأنهم كانوا يجدون مشقة كبيرة في ذلك، وكان هذا من العلماء المشهورين، وسافر ذات مرة وتعرض اللصوص للقافلة التي هو فيها، فأخذوا جميع ما في القافلة، فجلس يبكي على كتبه، وجاء على قائد الأعداء وقال له: كل ما تريد أعطيك وأعطني كتبي.
    قال له: ماذا تريد بكتبك؟ يعني: لماذا أنت تعتني بهذه الكتب؟ قال: لأن هذه الكتب هي علمي وحصيلة عمري.
    فقال له: علم تحمله وتخاف عليه ليس بعلم! بمعنى أنه يمكن لطفل أن يأتي ويشعل نارا في الكتب فينتهي هذا العلم، فهو ليس بعلم، بل العلم ما حوته الصدور لا ما كتب على السطور، العلم هو علم الرجل في قلبه، فعندما يذهب بنفسه ويتعب، بخلاف ما إذا جاءه سهل ميسر من حصيلة غيره، فيقلد كلام غيره، وقد يقع السقط والتصحيف والتحريف، فالمطلوب من طالب العلم أن يكون على مرتبة من قوة الشخصية والعناية في البحث والتقصي والتعب، ولا شك أن هذا فيه عظيم الأجر والثواب، ثم تتربى كذلك في طالب العلم الملكة.
    ثم لا يستعجل، لأنك عندما تدرس عقد الإجارة، وهل هو لازم أو غير لازم، وتدرس اللزوم في عقد الإجارة، وما يتفرع عن هذا اللزوم في عقد الإجارة، يصفو ذهنك وينحصر تركيزك على جزئية معينة ألممت بها وأدركت آثارها ومحاسن الشريعة في الإلزام بها، وذلك خير مما إذا جمعت لك خمسة عشر أو عشرين عقدا.
    مثلا: عندنا عقود لازمة للطرفين، وعندنا عقود لازمة لأحد الطرفين، وعندنا عقود جائزة للطرفين، وعندنا عقود جائزة في أول الأمر لازمة في آخر الأمر، وكلها عقود فيها خلافات وفيها أقوال، وهي لا تقل عن ثلاثين عقدا، وذكرها لك صعب جدا.
    ولذلك: ينبغي لطالب العلم أن يدرس كل جزئية على حدة، ولا شك أنه أتم وأكمل، وكان بعض العلماء رحمهم الله يقول: دراسة قواعد الفقه وضوابط الفقه تكون بعد الانتهاء من متن الفقه؛ لأنك إذا انتهيت من المتن كاملا تجمع الشتات الذي قرأته وتضع له ضوابط، لكن من البداية تأخذ هذه القواعد، فهذا يشتت طالب العلم كثيرا، ولا شك أنها قد تضر بمصالحه.
    وأنا أطيل في هذه الجزئية لأنها منهجية، وكنت أنبه كثيرا على أن الأفضل أن يدرس طالب العلم كل عقد على حدة قبل العناية بالقواعد والضوابط، وخاصة إذا كان قد التزم الفقه على منهج أو على طريقة، فبإذن الله عز وجل يكون ذلك أفضل وأكمل.
    ثم إذا قرأت كل عقد وأدركت وجه الفرق بين العقود، وأصبح عندك نوع من الفهم: لماذا أصبح جائزا هنا ولازما هنا، ولماذا لزم الطرفين هنا ولم يلزم هنا، ولماذا لزم أحد الطرفين دون الآخر؟ حتى تنجلي وتنقدح عندك الأسرار والعلل في التفريق بين هذه العقود.
    ومن الفوائد التي ذكروها: أن العقود التي فيها غرر ومبنية على الغبن المحض -مثل: عقد الإجارة وعقد البيع- فالغالب لزومها، وأن العقود المتمحضة في الرفق والتي ليس فيها غبن الغالب جوازها، مثل الهبات والعطايا، ولكن العقود التي يكون فيها الغبن في حال والرفق في حال تكون لازمة في ثاني الحال لا في أول الحال، وقس على هذا اختصارا.
    لكن إذا درس كل عقد على حدة فلا شك أنه أضبط وأمكن.
    ونسأل الله عز وجل أن يفتح علينا وعليكم فتوح من أراد وجهه وابتغى ما عنده، والله تعالى أعلم.



    إلزام المؤجر بإقالة المستأجر


    السؤال إذا أقال المؤجر المستأجر، فهل له أن يعود في الإقالة؟! أم للمستأجر إلزامه بهذه الإقالة؟
    الجواب إذا أقاله فإنه ملزم بالإقالة، وليس من حقه الرجوع، ومن حق المستأجر أن يلزمه بما التزمه من الإقالة، وقد ارتفع لزوم العقد بهذه الإقالة.
    الإقالة اختلف فيها في البيع فقط: هل هي فسخ أو بيع جديد، فترتب على هذا الخلاف في البيع فوائد، منها: هل يثبت فيها خيار المجلس؟ لأنك إذا قلت: إن الإقالة في البيع بيع جديد ثبت فيه خيار المجلس، فمن حقه الرجوع عند من يقول بخيار المجلس في البيع، وصورة ذلك: لو جاءه وقال: بعني هذه العمارة بمليون، فقال: بعتك.
    وافترقا، ثم جاءه بعد شهر وقال له: أنا اشتريت منكم العمارة بمليون، فأقلني.
    قال: أقلتك.
    فما داما في المجلس فمن حقه أن يقول له: رجعت عن إقالتي في البيع.
    هذا على أن الإقالة بيع مستأنف.
    ويترتب عليها أيضا: حكم الصرف، حينما يأتي إلى محل ذهب أو إلى أي محل، مثلا: لو أنه اشترى سلعة بعشرة ريالات، ثم جاء وقال للبائع: أقلني هذا البيع.
    فقال البائع: أقلتك، لكن بشرط أن أعطيك تسعة ريال -يعني: أنقص ريالا من القيمة- فإن قلت: إنها بيع جديد فإنه يجوز؛ لأنها قد بيعت بيعا ثانيا، ولا يكون من أكل أموال الناس بالباطل، وإن قلت: إنها فسخ.
    فينبغي أن يرد العشرة كاملة.
    وأيضا: لو كان في النقود، فإنها تأخذ حكم الصرف، فينبغي أن تكون متساوية فيما يشترط فيه التساوي والتماثل، وأن تكون يدا بيد فيما يشترط فيه التقابض.
    وعلى هذا: لو أنه جاء وقال له: أقلني.
    فقال: قبلت.
    قال: لكن ما عندي إلا التسعة، فأقلني وأرد لك التسعة.
    لم يجز؛ لأنه عاوضه بتسعة عن عشرة، هذا في الفسخ، وفي البيع يجوز؛ لأنه بيع مستأنف، وقس على هذه من المسائل.
    وأظن أن هذا تقدم معنا في البيع، وذكرنا هل الإقالة فسخ أو هل هي بيع.
    أما بالنسبة للإجارة فالقول المشهور والذائع أنه ليس من حقه إذا قال له: أقلتك.
    أن يرجع فيها، فقد رفع صفة اللزوم، وإذا ارتفعت صفة اللزوم فإنها لا تعود إلا بعقد جديد، وإذا قال له: سامحتك.
    ثم رجع وقال: ما سامحتك.
    فليس من حقه الرجوع، ويلزم بهذا، وينفسخ عقد الإجارة؛ لأنه أوجب فسخه فيلزم بقوله والله تعالى أعلم.



    حكم منع المؤجر تسليم العين المؤجرة


    السؤال إذا امتنع المؤجر من تسليم العين المؤجرة فترة من العقد، وترتب على هذا التأخير ضرر على المستأجر كفوات سوق ونحوه، فهل يحق للمؤجر أن يلزمه بإتمام الإجارة باقي المدة، أم للمستأجر الحفظ؟
    الجواب هذه المسألة لها صور، كأن تكون استأجرت عينا ما لمدة شهر مثلا، ولكن أهم شيء في هذا الشهر الخمسة الأيام الأولى، وأنت رضيت بالخمسة والعشرين التابعة لأهمية هذه الخمس، فمثل هذه المسائل يرجع فيها للقاضي، والقاضي هو الذي ينظر ويقدر الضرر، ويقدر هل كان بإمكانه أن يعوض أو ليس بإمكانه.
    فشخص -مثلا- اتفق مع شخص في مكة ونقل أغراضه إلى جدة، وتحمل هذه المشقة، ولا يستطيع أن يجد بديلا، فحينما يأتي بأغراضه فإنه يأتي بها دفعة واحدة ويتضرر، ففوات السوق وحصول الأضرار في إجارات المباني وإجارات الحيوانات والمركوبات والعقارات ونحوها كلها يرجع الأمر فيها للقضاء، فالقاضي هو الذي ينظر؛ لأن قطع الخصومات والنزاعات في القضاء مرده النظر في مثل هذه، ويعسر وضع قاعدة معينة في هذا، لكن من حيث الأصل: أنه إذا منعه لا يكون إلا بقدر ما منعه، وباقي المدة يكون على ملك المستأجر، ويلزم بدفع أجرته إذا انتفع بها، والله تعالى أعلم.



    حكم هروب الدابة المستأجرة


    السؤال إن هربت الدابة المستأجرة فهل لصاحبها أن يدفع للمستأجر دابة مكانها؟
    الجواب إن هربت الدابة المستأجرة، وأقام المستأجر مثلها في المشي، ومثلها في القوة، ومثلها في التحمل فالإجارة ماضية، وإذا وجد البديل فإنه يلزم.
    وفائدة هذه المسألة في القديم حيث كانت تقع عليها مسائل، فمثلا: حينما يستأجرون من مكة إلى المدينة، وتحمل الدابة منتصف الطريق وتهرب في النصف الثاني، ففي هذه الحالة إذا هربت الدابة، وأردنا أن نقيم غيرها مقامها، فقد تكون أجرة غيرها عندما يقام في ذلك الموضع تساوي الأجرة كلها، فإذا قلنا: العقد باق.
    فالضرر سيكون على صاحب الدابة، فتكون عليه مصيبتان: مصيبة فوات دابته، ومصيبة الإجارة الزائدة على أجرته التي فيها الأجرة، فلا بقيت له دابته ولا انتفع بماله، فهاتان مصيبتان.
    وفي بعض الأحيان يكون العكس، مثلا: لو أنه استأجر من موضعه فيمكن أن يستأجر بربع القيمة، ويكون قد قطع نصف المسافة، فيستأجر بربع القيمة فيزداد له الربع الزائد، فقد يقول المستأجر في هذه الحالة: انفسخ العقد، وأريد أن أستأجر بنفسي.
    وذلك حتى يكسب الربع المضمون الذي هو الربح في النصف الباقي.
    ولكن الأصل يقتضي بقاء العقد، والمركوبات يمكن تعويضها لا الراكب، إلا إذا وجد بديل عنه من وارث ونحوه، فالمركوب الذي يمكن تعويضه يوجب إتمام العقد على ما هو عليه، وهذا أصل مقرر عند العلماء، والله تعالى أعلم.



    حكم نسيان (لبيك اللهم عمرة) عند الإحرام


    السؤال رجل عندما حاذى الميقات أحرم ولبى بالتلبية المعروفة، ولكنه لم يقل في أولها: لبيك اللهم عمرة.
    مع أنه قصد بنيته العمرة، فما الحكم؟

    الجواب إحرامه صحيح، وتكفيه نيته وما انعقد عليه قلبه من نسك الحج أو العمرة، أو هما معا إذا نوى القران، ولا يشترط تلفظه بذلك، ولكنه سنة نبوية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عن أكثر من خمس وعشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أنس رضي الله عنه، الذي قال: (كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجة) ومنها حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه في صحيح البخاري، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني الليلة آت من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة) .
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، وموجبا لرضوانه العظيم.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

  3. #363
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب البيع)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (363)

    صـــــ(1) إلى صــ(20)


    شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [9]
    ينفسخ عقد الإجارة بتلف العين المؤجرة أو بظهور عيب مؤثر فيها، فإن كان قد مضى على استئجارها مدة قبل تلفها أو ظهور عيب مؤثر فيها لزم المستأجر دفع أجرة تلك المدة، وأما إذا تلفت أو ظهر عيبها قبل البدء في الاستئجار فلا يلزمه دفع شيء.



    أحكام انفساخ عقد الإجارة

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن اكترى دارا فانهدمت، أو أرضا لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت انفسخت الإجارة في الباقي] .
    شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان ما يتعلق بالتزامات المؤجر، فإن الواجب على من أجر غيره أن يلتزم بتمكينه من المنفعة، وعقد الإجارة منصب على منفعة مطلوبة بالمعاوضة، فالمستأجر دفع المال لتحصيل هذه المنفعة، فالواجب على المؤجر أن يمكنه من هذه المنفعة، فإذا حصل العذر الطارئ الذي يمنع من استيفاء هذه المنفعة، ولا يتمكن المستأجر من أخذ حقه من العين المستأجرة؛ فإنه حينئذ ينفسخ عقد الإجارة.

    تلف العين المؤجرة

    فأنت -مثلا- إذا استأجرت دارا من أجل أن تسكن فيها، فإنك إنما طلبت هذه الإجارة من أجل منفعة السكنى، فلو أن هذه الدار التي استأجرتها سقطت وانهدمت فإنه يتعذر ويمتنع عليك أن تستوفي حقك، وحينئذ فإن المنفعة التي هي محل العقد بين الطرفين قد فاتت بفوات العين؛ ولذلك ينفسخ عقد الإجارة، ويكون هذا -كما مثل المصنف رحمه الله- في العقارات، كدار استأجرها من أجل أن يسكنها فانهدمت، فإذا انهدمت الدار فلها حالتان: الحالة الأولى: أن تنهدم قبل استيفاء المنفعة، وحينئذ ينفسخ عقد الإجارة، حيث لا يمكن استيفاء المنفعة، ويجب على المؤجر أن يرد المال للمستأجر.
    الحالة الثانية: أن يحصل العذر الطارئ بالانهدام عند بدء استيفاء المستأجر مدة ما من العقد، كأن يستأجر الدار سنة، وتنهدم الدار في الربع الأول أو في النصف الأول من السنة، أو بعد مضي ثلاثة أرباع السنة، ففي هذه الحالة: إذا انهدمت الدار وقد استوفى المستأجر شيئا منها فإن الإجارة تتبعض بتبعض ذلك الشيء، فنقول للمؤجر: لك عند المستأجر أجرة المدة التي استوفاها، سواء بلغت نصف المدة أو كانت دونها أو زادت على ذلك.
    وأما بالنسبة للمؤجر فنقول له -إن كان قد أخذ الأجرة مقدما-: يجب عليك دفع الزائد على هذه المدة، وينفسخ العقد بينكما.
    فلو استأجر الدار بعشرة آلاف لسنة كاملة، وانهدمت بعد نصف سنة من سكناه، فنقول للمستأجر: ادفع خمسة آلاف.
    ونقول للمؤجر -إن كان قد أخذ العشرة آلاف-: رد للمستأجر الخمسة الآلاف التي أخذتها، وتملك نصف الأجرة التي دفعت إليك.
    وقد مثل المصنف بمثالين: المثال الأول في الدور، والمثال الثاني في الأرضين والمزارع.
    فإذا استأجرت الدار أو العمارة أو الشقة من أجل السكنى فلا إشكال، ويكون التمثيل بالانهدام.
    وإذا استأجرت أرضه من أجل الزراعة، وكان في الأرض بئر، فغار ماؤها وانقطع، أو استأجرت أرضا للزراعة فجاء سيل واجتاح هذه الأرض وأغرقها بحيث لا يمكن زراعتها، لأنها إذا غمرت بالماء تعذر زرعها إلا إذا انكشف وانحسر الماء عنها، فحينئذ إذا كانت الأرض معدة للزراعة فإنه لا يصح أن تعقد الإجارة عليها من أجل الزراعة إلا إذا كان الماء موجودا فيها، وقد ذكرنا هذا، وذكرنا الدليل عليه، وقلنا: إن أي عقد للزراعة على أرض ينبغي أن يكون الماء موجودا، فإذا اتفق الطرفان على أنه يستأجر منه هذه الأرض للزراعة سنة كاملة، ثم في منتصف السنة غار الماء وانقطع، فإنك لن تستطيع أن تحصل المنفعة التي من أجلها عاوضت بالإجارة على هذه الأرض، فمن الظلم أن تبقى على هذا العقد فيأخذ المال منك وأنت لا تأخذ حقك، فينفسخ عقد الإجارة في النصف الثاني من السنة، ويصحح عقد الإجارة في النصف الأول من السنة؛ لأن النصف الأول قد أخذت المنفعة تامة كاملة، والنصف الثاني قد حيل بينك وبين هذه المنفعة، فحق مالك الأرض أن يأخذ منك ما استوفيت، وحقك منه أن تأخذ منه ما لم تستطع استيفاءه، فينفسخ العقد في نصف السنة.
    وإذا غار الماء بعد ذهاب ثلثي السنة فالحكم كذلك، تدفع أجرة الثلثين ويرد إليك أجرة الثلث.
    إذا: القاعدة: إذا امتنع استيفاء المنفعة وتعذر ذلك بسبب انهدام الدار أو غرق الأرض وانقطاع الماء عن الأرض فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون قبل استيفاء المستأجر ومضي شيء من العقد، فحينئذ ينفسخ العقد من أصله، وترد القيمة كاملة.
    وإما أن يقع هذا وقد مضى شيء من المدة، فحينئذ نقول: تتبعض الإجارة؛ فيجب على المؤجر أن يرد من القيمة بقدر ما بقي من مدة الإجارة، سواء كان نصفا أو أكثر على التفصيل الذي ذكرناه.
    قوله: (فانقطع ماؤها) ؛ لأن الماء هو الذي ينمو به الزرع، لكن لو أنه قال له: أريد أن أستأجر منك هذه الأرض لأزرعها، وإذا لم أزرعها فسأجعلها محلا للدواب.
    فحينئذ أعطاه أمرين، فلو فاتت مصلحة الزراعة بانقطاع الماء فإنه يكون من حقه أن يستوفي عن طريق جعلها محلا لدوابه كما ذكر، ولا يكون هذا التفصيل إلا إذا تمحض العقد من أجل الزراعة، أما إذا لم يكن من أجل الزراعة فلا إشكال، وحينئذ ننظر: ففي بعض الأحيان لو أنه استأجر أرضا من أجل أن تكون مستودعا له، فجاء السيل وأغرقها، فهذا له نفس حكم انقطاع الماء، وهكذا لو أنه استأجر أرضا لمصلحة، ثم إن هذه المصلحة تعذرت، فمثلا: لو أنه استأجرها من أجل أن يضع فيها دوابه، فصارت أرضا مسفعة تهلك الدواب، فلا يمكن أن ينتفع ويرتفق بها على الوجه المعتبر.
    فالقاعدة والضابط ما ذكرناه، والمثال ما ذكره العلماء رحمهم الله من انهدام الدار وغرق الأرض، وهذه أمثلة، لكن المهم لطالب العلم أن يعرف قواعد المسائل، وقاعدة هذه المسألة: أن يتعذر الاستيفاء.
    وهذا في القديم.
    وفي زماننا: لو أنه استأجر سيارة بعينها على أن يركبها إلى موضع معين، ثم تلفت السيارة، وقد ذكرنا أن بعض العلماء يقول: إذا تعطلت العين وكانت معينة يفوت العقد بفوات المنفعة منها، فلا يمكن أن يقوم غيرها مقامها إذا عين، وقال له: بهذه السيارة.
    وبعض العلماء يقول: إذا كان يمكن إيجاد مركوب بنفس الصفة فلا ينفسخ العقد، فنقول له: صحيح إن هذه السيارة قد تعطلت، يمكن أن ينفذ بقية العقد -الذي هو نصف المسافة- فنقول حينئذ: ائت بسيارة مثلها في الأوصاف، وأمض العقد وتمم.
    على التفصيل الذي تقدم معنا في مسألة تلف العين المستأجرة.
    وقوله: [انفسخت الإجارة في الباقي] .
    في الحقيقة أنه من دقة المصنف أن قال: (انفسخت الإجارة في الباقي) ، وهذا فيه مسألتان: المسألة الأولى: أنه أعطاك حكم ما إذا وقع الخلل والعذر الطارئ أثناء المدة، فتفهم منه أنه إذا وقع قبل التنفيذ والاستيفاء فإنه يجب رد المال كاملا، وهذا من أجمل ما يكون في المتون الفقهية، وبها يدرك فقه صاحب المتن وحسن اختصاره؛ لأن المتون تقوم على الاختصار، فبدل أن يقول: انفسخ العقد من أصله، ووجب رد القيمة كاملة في حال ما إذا كان العذر قبل التنفيذ وقبل استيفاء شيء من المنفعة، ويقول بعد ذلك: وأما إذا حصل ذلك أثناء المدة انفسخ العقد فيما بقي؛ جاء بالجملة الأخيرة منبها على حكم المسألتين، فعندك شيء مصرح به، وهو: أنه يجب رد ما بقي من القيمة، ونفهم من هذا أنه إذا لم ينتفع بشيء وجب رد القيمة كاملة؛ لأنه إذا وجب رد بقية القيمة لعدم التمكن من الاستيفاء فيما بقي من المدة وجب رد القيمة كاملة إذا لم يتمكن من الاستيفاء كلية، فهذا بالنسبة لحكم المسألتين.
    والاختصار أن نقول: إن القاعدتين: إذا تعذر الاستيفاء من العين، أو من هذا الشيء الذي تقوم عليه المصلحة التي من أجلها استأجر المستأجر، فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون قبل أن يأخذ شيئا من المنفعة، وإما أن يكون بعد أن أخذ شيئا من المنفعة أو مضى شيء من المدة، ففي الحالة الأولى: ينفسخ العقد ويجب رد المال كاملا، وفي الحالة الثانية: يدفع المستأجر على قدر ما استوفى من المنافع وحصله.

    ظهور عيب في العين المؤجرة

    قال رحمه الله: [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ، وعليه أجرة ما مضى] .
    هذا كله -كما ذكرنا- في التزامات المؤجر، فإذا اتفق معك على إجارة سيارة أو أرض أو دار، فإنه يجب عليه الشيء الذي التزم به بموجب العقد، ومنه: أنه يمكنك من العين حتى تستوفي، إذا: لابد أن تكون العين موجودة ويمكن استيفاء المنفعة منها.
    يبقى مسألة: إذا وجد في العين عيب، فهي لم تتلف، ولكن فيها عيب لا تستطيع أن تستوفي المنفعة بالشكل المطلوب، وانظروا إلى دقة العلماء -وقد نبهنا على ذلك غير مرة- أنهم يأتون بالمؤثر من كل وجه، أو يأتون بالمؤثر الأكبر، ثم بعد ذلك المؤثر الأصغر.
    فكأن سائلا سأل: قد علمنا إذا استأجر المستأجر دارا وانهدمت الدار فإنه لا يمكن الاستيفاء من كل وجه، لكن لو وجد في الدار عيب لا يمنع من استيفاء المنفعة، ولكنه يضر بمصلحة المستأجر في المنفعة، كتسرب الماء من السقف ونحوه، فما الحكم؟ فإذا نشأ هذا السؤال فيكون العيب على صور: أولا: العيب: هو النقص، يقال: عاب فلان فلانا إذا انتقصه، فأصل العيب: النقص.
    وأما بالنسبة في اصطلاح العلماء إذا ذكروا العيب في البيع والإجارة ونحوها من عقود المعاوضات، فهو: كل شيء يؤثر في مالية العين أو المنفعة، أي: الشيء الذي ينقص من قيمة العين المبيعة، أو ينقص من قيمة العين المؤجرة والمنفعة التي عليها عقد الإجارة، فهذا يعتبر عيبا، أما إذا لم ينقص من القيمة ولم يؤثر في المالية فليس بعيب، ولذلك ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني ضابط عيب الإجارة: أنه ما أنقص المالية، فمثلا: أجرك شقة بخمسة آلاف، وهذه الشقة التي استأجرتها مدة سنة بالخمسة الآلاف تستحق ذلك، ولكن إذا تشقق سقفها فإنها تؤجر بألف أو بخمسمائة، فأنقصت المالية -ربما في بعض الأحيان- ثلاثة أرباع القيمة، هذا بالنسبة للشقق، وفي القديم مثلوا لذلك بالدابة والظهر، كأن يستأجر ناقة من أجل أن يركب عليها، والناقة فيها عيب إذا مشت، أو جموحا إذا ركب عليها الشخص ربما تسقطه، والإسقاط هذا قد يقتله، كما في الرجل الذي وقصته دابته وهو واقف بعرفة.
    إذا: هناك عيوب في العين المؤجرة، وبناء على ذلك قال العلماء رحمهم الله: إن كل شيء ينقص المالية وينقص من القيمة، فيعتبر عيبا مؤجرا.

    أقسام العيوب في العين المؤجرة

    وتنقسم العيوب بالنسبة للحيوانات والآدميين إلى قسمين: عيوب نفسية، وعيوب ذاتية، وهناك ما يسمى عيوب كمالات وعيوب نفسية، فمثلوا في القديم: كما لو استأجر رجل شخصا مجنونا، أو رجلا شديد الغضب لا يستطيع أن يتفاهم معه، ولا يستطيع أن يحصل منفعته منه كما ينبغي، أو استأجر خادما من أجل أن يخدمه فإذا به شديد الغضب، لا يستطيع أن يحصل مصالحه، كثير السخط وكثير التضجر، فهذا يؤذي الرجل ويجحف به وبأهله، وبالمصلحة، فهو كلما أراد أن يطلب المصلحة أو يريدها فإنه يعيقه عن طلبها وأخذها واستيفاء حقه من الرجل لسوء خلقه، فهذا عيب في النفس وفي الخلق.
    وعيب الذات: كأن يكون به مرض في جسده، بحيث لو طلبت منه منفعة جاءك بالمنفعة متأخرة، أو جاءك بها ناقصة، فمثل هذا بدلا من أن تستأجره بألف لوجود العيب فيه تكون أجرته خمسمائة ريال؛ لأن هذا عيب مؤثر؛ لأنه إذا ثبت عند أهل الخبرة أن هذه العين المؤجرة فيها مثل هذا العيب فلا يقولون: أجرتها عشرة آلاف؛ بل يقولون: أجرتها خمسة آلاف.
    إذا: كل شيء أثر في نفسه أو أثر في الذات فهو عيب، وأصبح تأثير النفس أو تأثير الذات ضابطا تبني عليه نقص المالية، ومن هنا قال الفقهاء: العيب ما أنقص المالية.
    ثم قسموا الذي أنقص المالية إذا كان في الحيوانات كالآدمي والبهائم إلى عيب ذات وعيب نفس، وعيب النفس في البهائم هو الجموح، فإذا كانت دابة وجاء يركب عليها فإنها تنفر ولا يستطيع أن ينتفع منها، وكذلك أيضا قد تكون مؤذية مثل ما ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله، ومثل لذلك بالدابة العضوض -وهي الدابة التي تعض- وهو يريد أن يستوفي منفعتها، فإذا رآها عضوضا خاف، وهذه طبيعة البشر، وقد يكون عنده من أطفال أو يكون هو بطبعه يخاف، فهذا ينقص المنفعة ولا يمكنه من الاستيفاء.
    وبالنسبة للبيوت: ففيها عيوب ذات وعيوب نفس، والبيوت ليس لها نفوس، لكن مما ذكر العلماء: أن يكون البيت -والعياذ بالله- مسكونا، وهذا أمر ثابت، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني وغيره من الأئمة: وجود السكن في البيت، فإذا وجد في البيت سكن وأذية من الجان صار عذرا، ويعتبر من العيوب النفسية؛ لأن ذات الدار كاملة، فلو جاء الرجل الذي أجر الدار يقول لك: ليس من حقك أن تفسخ عقد الإجارة، فقد أجرتك دارا بغرفها ومصالحها ومنافعها، فكونها مسكونة أو غير مسكونة هذا لا يعنيني.
    تقول: لا، هذا عيب مؤكد، ويمنع الرجل من استيفاء المنفعة ويزعجه ويؤذيه، وقال بعض العلماء: حتى ولو كان الجار جار سوء وفيه أذية، وخاصة إذا كان على العرض، كأن يقول له: هذه الدار أؤجرك إياها والحي كله -مثلا- فيه سكن من العزاب، فهذا يضر به إذا جاء بأهله، وكان ينبغي أن يقول له قبل الإجارة: إن هذا الحي أو جارك الذي يواجهك أو جارك الذي بجوارك أو من يسكن العمارة من العزاب، وعلى هذا فإنه إذا وجد ما يضر بمصلحة المستأجر ويضيق عليه فهو عيب.
    كل هذه العيوب يقضي فيها القاضي، ويفتي فيها المفتي بمجرد عرض المسألة، فإذا عرضت المسألة وقال: استأجرت من فلان دارا يتسرب من سقفها الماء، أو استأجرت دارا سقفها يسقط منه التراب -ونحو ذلك كما في البيوت القديمة- أو استأجرت دارا تبين أنها مسكونة، وثبت ذلك وقامت البينة عليه؛ فإن القاضي يقضي بانفساخ عقد الإجارة، ويعطي المستأجر الخيار ويقول له: أنت بالخيار: إما أن تفسخ عقد الإجارة، وإما أن تمضي فيه وترضى بهذا العيب، أو تتفق مع الرجل على إنقاص القيمة بقدر وجود هذا العيب، وتمضي ذلك العقد كما اتفقتما عليه.
    هناك عيوب هي في الحقيقة ليست مؤثرة في الأصل، لكنها مؤثرة في الشرط، ونحن قررنا أن العيب الذي يكون -مثلا- في الدار في سكنها أو منافعها أنه يضر، يبقى
    السؤال لو قال قائل: إن في الدار ثقب يسير في الجدار، فهذا عيب لكنه ليس بعيب مؤثر.
    وهكذا لو أنه وجد (ماسورة) تسرب الماء ويمكن إصلاحها، فنقول للمؤجر: أصلح (الماسورة) ويمضي العقد؛ لأن القاعدة تقول: (الإعمال أولى من الإهمال) ولذلك تفرع على هذه القاعدة القول: (إعمال الأصول بما أمكن) فإذا عقد إجارة بين طرفين فلا نتعرض للفسخ إلا بعيب مؤثر؛ لأن الأصل في الشرع عندنا يقول: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] فالله ألزم الطرفين وأوجب على المتعاقدين أن يتما صفقتهما بعقد الإجارة وغيره، وعلى هذا نقول: ليس من حق أحد أن يفسخ هذا العقد أو يعطي الخيار بفسخه للمستأجر إلا إذا كان العيب مؤثرا، والعيب هنا غير مؤثر.
    وهكذا لو أنه جاء فوجد (بلاطة) -مثلا من الأمثلة- اقتلعت في الدار، فقال: العلماء يقولون: العيب يوجب الفسخ، وهذا عيب، فافسخوا عقد الإيجار.
    نقول: لا، هذا عيب يمكن تلافيه وتداركه، فليس كل عيب يوجب الفسخ، لكن هذه العيوب البسيطة قد توجب الخيار إذا كانت في الشرط مثل ما تقدم معنا في البيوع، فمثلا: لو أن رجلا استأجر دارا، وبعد أن تم العقد بين الطرفين وجد خللا في أحد الأبواب، من حيث الأصل لا يعتبر هذا عيبا مؤثرا، فنقول له: أصلح هذا العيب.
    وانتهى.
    لكن لو قال له في بداية العقد: أشترط عليك: ألا يوجد أي عيب في الأبواب أو النوافذ.
    فإن هذا يعتبر عيبا مستحقا بالشرط، هو في الحقيقة عيب ليس بذاك المؤثر، لكنه لما اشترط عليه كأن العقد ترتب على وجود هذا الشرط، فلا نلزمه إلا إذا كان المعقود عليه ومحل العقد سالما من العيب بالصفة التي اتفق عليها الطرفان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلمون على شروطهم) فكأنه يقول: إني متفق معك وملتزم بما التزمت به بشرط: أن تكون هذه الدار أو هذه العين المؤجرة سالمة من العيوب.
    فقال له الآخر: قبلت.
    فمعنى ذلك: أنه إذا اشترط عليه وقبل، فإن في ذمة المؤجر أن يعطيه الخيار إذا ظهر هذا العيب، ولو أن العيب في الأصل لا يؤثر، ولو قال له: أستأجر منك هذه الدار بشرط: أن تجعل أبوابها بلون كذا وكذا، وما يبتدئ عقد الإجارة بيننا إلا وقد -مثلا- أصلحت الأبواب، أو قد ضربت بلون معين، أو أن الدار تضرب بلون معين أو ترخم، فاتفقا على ذلك، فجاء وقت التنفيذ وجاء أمد الإجارة ولم يحدث شيء من ذلك، فنقول: للمستأجر الحق في فسخ عقد الإجارة.
    في المواسم يأتي شخص يستأجر العمارة، فيقول له: أنا أستأجر منك هذه العمارة بمائة ألف شهر ذي الحجة.
    قال: قبلت.
    قال: لكن أشترط أنه ما يأتي يوم ثمانية وعشرين من ذي القعدة إلا وهي مفروشة ينوع كذا وكذا.
    واشترط شيئا معينا، فجاء يوم ثمانية وعشرين وهي ليست بمكتملة أو فرشت كلها إلا القليل منها، فنقول للمستأجر: لك الخيار؛ لأنه التزم، والشريعة تحترم هذه العقود، وقد ترى هذا شيئا يسيرا، لأنه لو أخلت الشريعة بشرط يسير فستخل بما هو أعظم، لأنه قد تقول -مثلا-: إن الفراش سهل تدبيره، لكن قد يشترط عليه أمورا تكون بالملايين، ولذلك كما أن الشريعة تلزم باليسير من المال فإنها تلزم بالكثير من المال، فإذا التزم وقال: أنا ألتزم ألا يأتي يوم ثمانية وعشرين أو ألا يأتي بداية العقد إلا وقد هيأت هذه العمارة بالصفة الفلانية أو بالشكل الفلاني، وتم العقد، وجاء الوقت ولم يؤد ما التزم به، نقول للمستأجر: لك الخيار، وهذا عيب، لكنه عيب مستحق بالشرط.
    فأصبح العيب عندنا على قسمين: عيب يستحق بالعقد، وعيب يستحق بالشرط، فالعيب الذي يستحق بالعقد: بعض الأحيان يخضع للعرف، فمثلا: عندنا في العرف أن البيوت في داخل المدن تكون مؤثثة ومجهزة، وفيها منافع ما، فلو أنه أجر وقال له: أؤجرك عمارة في داخل البلد على صفة كذا وكذا، فجاء ولم يجد الكهرباء فيها، فقال له: أنا التزمت لك أن أؤجرك عمارة، لكن أنت ما اشترطت أن يكون فيها كهرباء، نقول: أبدا، (المعروف عرفا كالمشروط شرطا) وكما يقول بعض العلماء: كالمشروط لفظا.
    فإذا: هو في الحقيقة لم يشترط، لكن نعتبر العرف دليلا على الشرط، كأنك وعند سكوتك عن هذا الشرط تقول له: أستأجر منك عمارة في داخل المدينة على ما جرى عليه عرف أهل هذه المدينة، فأي إخلال يعده أهل ذلك العرف إخلالا فإننا نعتبره موجبا للخيار، ونقول: هذا عيب، صحيح أنه لم يشترط ذلك صراحة، لكن سكوته ورده ذلك إلى العادة يدل على أنه قد رضي بما جرى به العرف في ذلك البلد والموضع.
    ومنا هنا تفرع هذا المسألة في العيوب المستحقة بالأعراض على القاعدة المشهورة: (العادة محكمة) .
    ففي زماننا الكهرباء أو الماء، فلو قال له: أجرتك هذه (الفيلا) بعشرة آلاف مدة سنة كاملة من كذا إلى كذا، قال: اتفقنا، ثم تبين أنه لا ماء فيها، فننظر: إن كان الحي الذي فيه (الفيلا) يصل إليه الماء، نعرف أنه سكت المستأجر لأنه علم أو سأل أو غلب على ظنه أن هذا الموضع فيه ماء، فنقول: هذا عيب يوجب خيار المستأجر؛ لأن كلفة إحضار الماء مئونة ومشقة، حتى ولو كان قد التزم له أن يحضره عن طريق -مثلا- السقاء، فذلك ليس كوجوده دائما في البيت، فهذا يؤثر على مصالح المستأجر ويكون عيبا مؤثرا، لكنه عيب مستحق بالعرف، وليس مستحقا بالشرط وصريح العقد.
    وعلى هذا: فإن العيوب تعتبر موجبة للخيار، وفصلنا القول في أنواع العيب.

    الأدلة على أن العيوب تثبت الخيار في فسخ عقد الإجارة

    والأدلة على أن المستأجر يكون له الخيار إن وجد العيب ما يأتي: أولا: قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188] وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أنه إذا استأجر المستأجر عينا تامة كاملة، وأوجب الصفقة والعقد مع المؤجر على أنها تامة كاملة وأعطى القيمة، فقد رضي بإعطاء القيمة المتفق عليها على شيء تام، فإذا ظهر العين في المؤجرة العيب فإن العيب ينقص القيمة، فأصبح المال مأخوذا بالباطل.
    وتوضيح ذلك بمثال: لو أجره شقة أو عمارة تستحق في السنة عشرة آلاف على أنها تامة، فدفع له عشرة آلاف، وتبين أن بها عيبا ينقص قدر الألفين، فحينئذ تكون مستحقة في الأصل ثمانية آلاف، فتكون زيادة الألفين غير مستحقة بالعقل، فلو أننا لم نعط الخيار بالعيب لأكلت الألفين بالباطل، لأن قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188] ومعنى (بالباطل) أي: بدون وجه حق، فالألفان التي أكلها المؤجر أكلها بدون وجه حق؛ لأنه ليس لها قيمة في العين المؤجرة، وليس لها مقابل في العين المؤجرة ومنافعها، وعلى هذا قال العلماء: إن وجود العيوب في البيوع والإجارات يكون مندرجا تحت قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188] لأن وجود العيب ينقص المالية، وإذا أنقص المالية فإن صاحب العقد الذي يملك العين سيأخذ المال كاملا، والواقع أنه لايستحقه كاملا، فإذا أعطيت الخيار للمستأجر فإنك أسقطت هذا الباطل؛ وقلت له: إن أحببت أن تمضي العقد وترضى به، فهذا لك.
    قال: رضيت، فحينئذ رضي ببذل الألفين، وهذا محض الخيار منه، وإذا قال: لا أرضى.
    رد المال إليه؛ فكان ذلك منعا من أكل المال بالباطل.
    أما الدليل الثاني: فهو الإجماع، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من العلماء، وحكاه الإمام ابن قدامة وابن المنذر رحمهم الله، حيث قال الإمام ابن قدامة: لا نعلم خلافا أنه إذا وجد عيب في الشيء المكترى أنه يستحق المكتري الخيار بوجود ذلك العيب.
    وأما بالنسبة للقياس والنظر الصحيح فإننا نقول: يستحق المستأجر الخيار بالعيب إذا كان موجودا في العين المؤجرة كما يستحقه المشتري إذا وجد العيب في السلعة المشتراة؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة، وتوضيح هذا القياس أن نقول: إنه يستحق المستأجر الخيار -خيار العيب- إذا ظهر العيب في العين المؤجرة، كما اتفقنا على أنه في البيع يستحق الخيار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في البيع: (من اشترى شاة مصراة ثم أمسكها ثلاثا فهو بالخيار -أي: إذا اكتشف أنها معيبة -إن شاء رضيها- أي: رضي بالعيب وأمضى العقد فلا إشكال- وإن سخطها ردها وصاعا من تمر) فقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن سخطها ردها) دل على أن العيب يوجب الخيار في البيع، وقد تقدم معنا هذا وبيناه، وذكرنا الأدلة النقلية والعقلية عليه، فنحن نقول: كما اتفقنا في البيع على أن العيب يوجب الخيار، وكذلك في الإجارة العيب يوجب الخيار.
    فلو سئلت عن الرابط بين الفرع والأصل تقول: العلة الرابطة أنه في البيع عقد معاوضة، والإجارة أيضا عقد معاوضة، فكما أنه في البيع دفع المال لقاء السلعة فوجد العيب فاستحق الخيار، كذلك في الإجارة دفع المال لقاء المنفعة، فيكون له الخيار إن وجد العيب فيها.
    وعلى هذا: يثبت خيار العيب في الإجارة، إن أحببت أن تختص بالقياس تقول: العيب مؤثر في الإجارة كالبيع؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة، فالعيب موجب للخيار في الإجارة كالبيع.
    وفي اعتبار الشريعة الإسلامية لخيار العيب في العين المؤجرة دليل على سماحة هذه الشريعة وكمالها وسمو منهجها، فإن الله عدل، وجعل هذه الشريعة الكاملة التامة قائمة على العدل، فقال سبحانه وتعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] فمن عدله سبحانه أن جعل لهذه العقود ما يضبطها دون أن يتوصل أحد الطرفين إلى أذية الآخر والإضرار بحقه، فكما أنهما اتفقا على الكمال فإنه يجب الرد إذا ثبت النقص، فكما أن المؤجر يشتكي من المستأجر إذا أخل بعينه كذلك المستأجر يشتكي من العين المؤجرة إن ظهر العيب فيها، فالعدل قائم للطرفين، وكما أن هذا يأخذ حقه كاملا فكذلك الآخر يجب أن يأخذ حقه كاملا.

    ظهور العيب بعد مضي فترة في الإجارة

    قال رحمه الله: [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ، وعليه أجرة ما مضى] .
    (وإن وجد العين معيبة) هذا قبل العقد، وقبل استيفاء المنفعة، فمثلا: إن اتفق معه بعد صلاة العصر على أن يستأجر منه عمارته الشهر القادم، وكان ذلك في اليوم التاسع والعشرين، وبعد أن اتفقا وجاء في ليلة العقد يريد أن ينظر في العمارة نظرة ثانية، وبعد أن رآها تبين له وجود العيب المؤثر، فنقول: ينفسخ العقد.
    هذا إذا وجدها معيبة قبل الاستيفاء.
    أما إذا وجدها معيبة بعد الاستيفاء، كأن يكون استأجر منه العمارة نصف شهر، وكان قد اتفق معه مدة سنة كاملة، أو استأجرها ومضى شهر كامل، ثم بعد مضي الشهر تبين أن العمارة فيها ضرر في تسليك الماء الموجود فيها، وهذا يضر بها، وربما سقطت وقتلت من بداخلها، فهذا العيب مؤثر، أو وجود النجاسة -أكرمكم الله- على سقفها في مواضع دورات المياه مثلا، أو وجد السقف يتسرب بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة شهور كما لو جاء فصل المطر فتسرب السقف، فتبين أنها معيبة، فنقول له: الفسخ فيما بقي يكون له الخيار، ولكن يجب عليه أن يدفع قيمة ما مضى على التفصيل الذي ذكرناه.



    الأسئلة

    حكم المزروع عند انفساخ عقد الإجارة

    السؤال ذكرت أن الأرض إذا انقطع ماؤها انفسخت الإجارة، فهل ما غرسه المستأجر يدفع له المؤجر، أم له أن يقلع ما غرس؟

    الجواب يجب على المستأجر أن يقلع الغرس، فإذا غرس نخلا قلعه إلى أرض ثانية، ويمكن للنخل إذا قلع من هذه الأرض أن يحيا في غيرها، والضمان على المستأجر لا على المؤجر؛ لأن هذا الغرس ربح للمستأجر فخسارته عليه؛ لأن الخراج بالضمان كما بينه عليه الصلاة والسلام بقوله: (الخراج بالضمان) وهذا بينا فيه إجماع العلماء أن الربح لمن يضمن الخسارة، كما أن ربح الزرع للمستأجر كذلك خسارة الزرع في الأمور الطارئة كالفيضانات والسيول إذا غطت الزرع كلها تعتبر من الإتلافات التي ليست في يد المؤجر ولا يملك دفعها، ومثل الإعصار إذا أحرق الزرع، والرياح العاتية إذا أفسدت المحصول، فكل هذا يضمنه صاحب الزرع ولا يضمنه صاحب الأرض؛ لأن هذا الزرع نماؤه وربحه لصاحبه، وكذلك أيضا خسارته وفساده بالجوائح على من استأجر لا على من أجر، والله تعالى أعلم.


    اشتراط المؤجر عدم ضمان وجود الماء

    السؤال من استأجر أرضا لزراعتها، وكان قد اشترط عليه المؤجر أن البئر ينضب ماؤها في فترة انقطاع الأمطار، فوافق المستأجر، فهل شرط المؤجر معتبر؟
    الجواب هذه المسألة تحتاج إلى نظر؛ لأننا ذكرنا أن العلماء رحمهم الله -ومنهم الإمام النووي والإمام ابن قدامة وكذلك الماوردي رحمة الله على الجميع- نصوا على أن إجارة الأرض للزراعة شرطها وجود الماء، وبناء على ذلك لو قال له: أؤجرك هذه الأرض للزراعة والماء غير مضمون وغير موجود صار من الغرر، حتى لو رضي المستأجر؛ فإن هذا العقد من العقود الفاسدة في الأصل.
    إلا أن بعض العلماء قال: إذا كان الماء موجودا في غالب السنة، ويمكنه أن يحصل منافع أخرى غير منفعة الزرع، فإذا اتفقا على ذلك فلا بأس، أما إذا كان غالب السنة لا يوجد الماء، ووجوده مخاطر به، وهو يريدها من أجل الزرع، مثل الأمر المحتمل المتردد، فهذا لا إشكال في عدم جوازه، والشرط باطل؛ لأن الشرط على هذا الوجه يتوصل به إلى تحليل الحرام؛ لأنه في هذه الحالة يريد المؤجر أن يأخذ مال المستأجر بدون حق.
    فلو فرضنا أنه اشترط عليه أنه إذا نضب البئر لا دخل له في ذلك، فتم العقد فنضب البئر في اليوم الثاني من العقد، وقد استأجر منه ثلاث سنوات، وإجارة الأرضين للزراعة قد تكون في بعض الأحيان خمس سنوات، وتصور إذا قلنا بتصحيح هذا، وهو شرط يؤدي إلى أكل المال بالباطل، وصحة الشروط موقوف على كونها لا تعارض الشرع، ولا تفضي إلى أكل أموال الناس بالباطل، ولا يكون الشرط موجبا للغرر والإضرار، وهذا لا يتحقق في مثل هذا الشرط، فالشرط وجوده وعدمه على هذا الوجه سواء ولا يؤثر، ولا يعتبر المؤجر ولا المستأجر ملزما بمثل هذه الشروط، والله تعالى أعلم.

    حكم أجرة العامل إذا مرض

    السؤال من استأجر عاملا فمرض وتغيب عن عمله بضعة أيام، فهل له أجرة من حيث الإمكان، أم له بعدد الأيام التي عملها؟
    الجواب من حيث الأصل إذا مرض العامل فإنك لست بملزم بدفع أجرته؛ لأن العقد والاتفاق بينك وبينه على أن يقوم بالمصلحة، وبناء على ذلك فمرضه على نفسه، ويتحمل مسئولية نفسه، هذا من حيث الأصل الشرعي، لكن لو أن صاحب العمل تسامح، أو جرى العرف بالمسامحة، وكان ذلك عن طيبة نفس من المالك الحقيقي، فإنه لا إشكال في هذا، وللمالك الحقيقي أن يفرق بين مرض وآخر.
    أما إذا كان العامل قد أصابه المرض وتعطلت مصالح صاحب العمل، فلا إشكال أننا نقول لهذا العامل: أقم غيرك مقامك.
    فيقيم غيره مقامه، وحينئذ يمضي العقد على ما اتفقا عليه، فإذا لم يقم غيره مقامه فإننا نقول لصاحب العمل: أقم غيره مقامه، ولك الحق أن تستوفي ذلك من الأجرة التي اتفق عليها، والله تعالى أعلم.

    مسألة تطبيق حديث الشاة المصراة على شراء السيارة

    السؤال هل يصح أن يطبق حديث الشاة المصراة في شراء سيارة بدون شرط على البائع؟
    الجواب الشاة لها حليب، والرسول صلى الله عليه وسلم أثبت هذا، وقال: (أمسكها ثلاثة أيام) ولا يمكن تبين وجود العيب إلا إذا احتلبها ثلاثة أيام، والشاة المصراة هي التي يربط ثديها ويحبس الحليب فيها، فأنت إذا جئت تشتريها من السوق فإنك تراها منتفخة الضرع، فتعجبك وترغب في شرائها؛ لأنك تريدها حلوبا، فإذا اشتريتها تجد في أول يوم أن الحليب والخير كثير، لكن في اليوم الثاني سيظهر نوع من النقص، ولن تستطيع في اليوم الثاني أيضا أن تكتشف نقصها، ولن تستطيع ذلك إلا في اليوم الثالث، إذا: لابد أن يكون فيها حليب، ولذلك أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار في الشاة المصراة، وأنا لا أعرف سيارة مصراة! وينبغي على طالب العلم أن تكون عنده موازين ثابتة، ويكون الأمر واضحا له، ولذلك كان بعض طلبة العلم إذا مر على أحد بسيارته يقرع الجرس الذي في السيارة ويسلم، فقيل له في ذلك فقال: أنا لا أعرف أن السلف كانوا إذا مروا بأحد شدوا زمام البعير من أجل أن يصيح! فهناك أشياء يمكن قياسها وإلحاقها بالمنصوص عليه إذا اتفق وجه الشبه، أما إذا كان وجه الشبه متعذرا، ولا يمكن تحقيق العلة التي من أجلها ورد النص فهذا بعيد جدا.
    وعلى العموم: لا يمكن هذا، فليس في السيارة ما يشابه الحليب حتى ترد السيارة وصاعا من تمر، فليس هناك شبه، ولا يستقيم القياس، وعلى هذا: إذا وجدت في السيارة عيبا فإن من حقك الرد، لكن بشرط أن يقول أهل الخبرة -وهم المهندسون-: إن هذا العيب مؤثر.
    كأن يكون مثلا عيبا مؤثرا في سرعة السيارة ودفعها، أو يكون العيب مؤثرا إذا ركب الإنسان فإنها تضر به، كأن يكون هناك ما يمسك السيارة ويمنعها من المسير بحيث لا يعمل، ونحو ذلك من العيوب المؤثرة، فإذا قرر أهل الخبرة أن مثل هذا العيب مؤثر؛ فحينئذ يكون لك الخيار، والله تعالى أعلم.

    حكم تحديد عقد الإجارة بنهاية شهر هجري

    السؤال نحن نؤجر شققا ومحلات تجارية في السنة، ونكتب في العقد: من غرة رجب إلى الثلاثين من جمادى الآخرة.
    وهو متعارف عليه ولا يعترض عليه أحد، هل هذا العقد صحيح، أم لابد من كتابة ثلاثمائة وستين يوما؟

    الجواب إذا قلتم: من غرة رجب إلى الثلاثين من جمادى الآخرة.
    فهذا يعتبر عقدا محتكما إليه بالاتفاق، يعني: اتفقتما على أن يوم ثلاثين من جمادى الآخرة ينتهي عقد الإجارة، فحينئذ أنتم غير ملزمين بثلاثمائة وستين يوما، هذا من حيث الأصل.
    لكن الإشكال فيه: لو أنكم قلتم: إلى نهاية جمادى.
    فهذا أفضل؛ لأنه لا يوجد شيء يثبت أن جمادى يكون ثلاثين يوما، ربما كان جمادى تسعة وعشرين يوما، فحينئذ يرد السؤال: هل من حقه أن يستفضل يوما زائدا لأنك قلت: إلى الثلاثين؟ فهذا فيه إشكال، فلذلك الأفضل أن تقول: إلى نهاية جمادى الآخرة.
    فإن كان جمادى الآخرة ناقصا أو تاما فلا إشكال، لكن أن تقول: إلى ثلاثين جمادى.
    ليس عندك من دليل يدل فعلا على أن الشهر سيكون تاما، وحينئذ تكون فيه شبهة، وإن كان الحقيقة مثل ما ذكر السائل أنه يتعارف عرفا أن المراد بالثلاثين نهاية الشهر.
    لكن على العموم: الأورع والأفضل أن تقول: إلى نهاية شهر جمادى.

    حكم استئجار الآبار

    السؤال ما حكم استئجار الآبار؟
    الجواب البئر لا يؤجر؛ وهذه فائدة التعريفات، فالإجارة: على المنفعة، والبيع: على الذات، ومن يستأجر البئر لا يريد أن يسكن البئر، ولا يريد أن يأخذ منفعة معينة من البئر، بل يريد ذات الماء، ولذلك لا يكون عقد إجارة، بل يكون عقد بيع للماء، وعلى هذا: لا يقال في عقد الآبار أنه عقد إجارة أبدا، ومن هنا لا يمكن أن ندخل الإجارة مع البيع، مثل الإجارة المنتهية بالتمليك؛ لأن الإجارة تكون للمنفعة والبيع يكون للذات، ولا يجتمع الاثنان، أي: أنهما متضادان، فعقد الإجارة ينصب على المنفعة على أن الذات ملك للمؤجر، والبيع على أن الذات ملك لمن اشترى، ولا يمكن أن تقول للمستأجر: مالك وغير مالك.
    فهذا تضاد، ولا يمكن الجمع بين الضدين المتناقضين على هذا الوجه.
    وعلى هذا: فمسألة بيع ماء البئر فيها نص أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء، وهذه مسألة فيها تفصيل للعلماء رحمهم الله: أنه إذا جاء الرجل المحتاج للماء في البر والفلاة -كما هو موجود في القديم، يحتاجه لإبله وغنمه أو يحتاجه لنفسه وهو في السبيل- فلا يجوز أن يمنعه صاحب البئر، ويمكنه من فضل الماء، ففي الحديث الصحيح: (أن الله تعالى يقول لمن منع فضل مائه: إنك منعت فضل مائك، واليوم أمنعك فضلي كما منعته) نسأل الله السلامة والعافية.
    ولذلك: لا يجوز للإنسان إذا كان عنده فضل ماء أن يمنع، وخاصة من يحتاج إلى ذلك، كأن يأتي يستقي، أو مثلا الكلأ في المزرعة، تأتي المرأة تريد أن تحتش للبهائم، أو يأتي الرجل الكبير من المسلمين كالشيخ الحطمة، أو يأتي الصغار ويريدون أن يحشوا دون أن يضروا بالبستان، فيمكنهم؛ لأن مثل هذا فضل الله عز وجل أنعم به عليه، فيمكن الناس من مثل هذا، ولا ينبغي أن يكون هناك أنانية وشح ومادية تطغى على معاني الأخوة والرحمة والمحبة التي أوجب الله عز وجل أن تكون بين المسلمين، والمسلمون رحماء بينهم، ولو كنت مكان أخيك لما رضيت أن أحدا يساومك على مثل هذا.
    لكن لو أن شخصا حفر البئر، وتكلف في حفرها أموالا، ووضع عليها -مثل ما هو موجود في زماننا- الآلات التي تنقل، وأراد أن يملأ مثلا (الوايتات) أو يملأ خزانات الماء من أجل أن يبيع سائق (الوايت) على غيره، فيمكن أن يتفق الطرفان على أن كل خزان -مثلا- بمائة ريال؛ لأن هذا سيبيعه على غيره، فأنت تعطيه إياه لا على سبيل ارتفاق النفس، وإنما على سبيل المتاجرة، فإذا تاجر به فإن سائق (الوايت) تحمل المشقة في الخروج إلى البئر، وهذا قد يكون على مسافات بعيدة من المدينة، وتحمل الانتظار، وتحمل حمل الماء وعبء السيارة، وتحمل نفقة وقود السيارة، وغير ذلك، هذه كلها أمور يستحق في مقابلها الماء، فحينئذ نقول: إن هذا من باب ما يتكلفه في الجني، ولذلك قال العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار) قالوا: بشرط عدم الحيازة، فمن حاز شيئا من هذه الأشياء وضمه إلى نفسه وتكلف مشقة الضم، فإنه في هذه الحالة من حقه أن يساوم عليه، وهو أحق به من غيره.
    وبناء على ذلك نقول: المعاوضة على الماء بيع، وليست بإجارة؛ لأن ضوابط الإجارة لا تنطبق عليها، وإنما ينطبق عليها ضوابط البيع، والله تعالى أعلم.
    الإعمال أولى من الإهمال في المعاملات غالبا
    السؤال القاعدة التي تقول: (الإعمال أولى من الإهمال) هل لها صور في العبادات؟
    الجواب الإعمال أولى من الإهمال في المعاملات أكثر منها في العبادات، لكن قد يحتاج الفقيه إلى مثل هذا الذي هو الحكم ومحاولة تصحيح العبادة ما أمكن، أي: بحيث إذا أمكن التدارك، لكن المعروف أن هذه القاعدة أكثر ما تكون في المعاملات، والأشبه في ذلك عقود المعاوضات كما ذكرنا في الإجارات، والعقود التي فيها الغبن أكثر، فهذه لا شك أن الإعمال فيها أولى من الإهمال؛ لأنها مبنية على حقوق المخلوقين، وهي مبنية على المشاحة والمقاصة، وقد اتفق الطرفان والتزما، بخلاف العبادات التي تكون بين المخلوق والخالق، فهي مبنية على المسامحة، فالأمر فيها أوسع من قضية المعاملات، فلذلك يختلف الحال ما بين العبادات والمعاملات من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
    وقد يكون تطبيق القاعدة ممكنا في مسائل الخلافات التي تقع بين العلماء رحمهم الله في الأيمان والنذور والعبادات في الصلاة والزكاة والصوم والحج، قد يقول الفقيه: إن تصحيح العبادة أولى من إبطالها، وإتمامها أولى من إلغائها، يمكن هذا ويقع، ويستند على هذا الأصل ويقول: إن قولي بصحة العبادة مع وجود الضمان في مثل هذا، أو يستغفر وتمضي عبادته أولى من قولنا بإبطالها؛ لأن بقاء العبادة وأصول التعبد لله عز وجل والطاعة أفضل من الإلغاء كلية.
    مثلا: إذا قال بعض العلماء: إن من أقيمت عليه الصلاة وهو يصلي الراتبة، أو يصلي تحية المسجد، وبقي من الصلاة شيء يسير كأن يكون -مثلا- في التشهد، أو يكون في السجدة الثانية، ويمكنه أن يدرك الصلاة، فنقول: بقاء العمل واعتباره على ما هو أولى من إلغائه، فنقول: أتم صلاتك رحمك الله، وأدرك الجماعة.
    فهنا الإعمال أولى من الإهمال، نقول له: اتركها ودعها، وسلم من صلاتك وأبطلها! لا، الإعمال أولى من الإهمال.
    من أمثلتها في الحج: مسألة ما لو أحرم بالحج قبل دخول أشهر الحج، كرجل جاء في رمضان وقال: لبيك حجا.
    جمهور العلماء على أن الحج مؤقت، والله يقول: {الحج أشهر معلومات} [البقرة:197] وأجمعوا على أن بداية هذه الأشهر -كما صح عن ابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد ذكر ذلك ابن جرير الطبري بسند صحيح عنهم- من هلال شهر شوال، والذي هو ليلة العيد، فلو جاء في يوم تسعة وعشرين من رمضان أو ثلاثين من رمضان، أو قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان وقال: لبيك حجة.
    فالظاهرية يقولون: الحج باطل وفاسد وتفسد عبادته.
    والجمهور يصححون نيته بالحج، ويقولون: إنه يبقى بهذه النية ويتم حجه، ويمكن أن يفسخها بعمرة، وبعض العلماء كالشافعية يقولون: إنه إذا أحرم بالحج قبل زمانه، كأن يكون في آخر رمضان، فإنه لا تصح له النية بالحجة؛ لأنه قبل زمانه -كما لو أحرم بصلاة الظهر قبل الزوال- فأبطل نيته بالحج، وأصحح هذه النية وأعملها؛ لأنه في الأصل دخل المسجد، فأصححها بعمرة، وأقول: يذهب بعمرة ويتحلل منها.
    فإذا أعمل ولم يهمل، فـ الشافعي هنا يعمل النية ويقول: هذا رجل اختار النسك، وعندنا حج أصغر وحج أكبر، وتعذر الأكبر فينصرف إلى الأصغر.
    ومن أمثلتها في الصلوات: لو أنه أحرم بالفجر على أن الفجر قد تبين، ثم اتضح أن الفجر ما تبين، فإحرامه بالفجر دخول في العبادة والصلاة، فإذا جئت تهمل وتقول: يمتنع فجرا وقد نوى الفجر، فلا ينتقل إلى غيره، فيهمل وتبطل صلاته ولا تنعقد له، لا فريضة ولا نافلة، تعذر كونها فريضة لأنها قبل الفجر، وتعذر كونها نافلة لأنه لم ينو أنها نافلة، وإنما نواها فريضة وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئ ما نوى) .
    لكن الجمهور يقولون: تنقلب نافلة، والإعمال أولى من الإهمال.
    فإذا يمكن اعتبار مثل هذه المسائل خاصة في مسائل الخلاف، ويمكن تطبيق هذه القاعدة، والله تعالى أعلم.

    حكم وجود أثر الدم في الفم في نهار رمضان

    السؤال استيقظت من النوم وأنا في نهار رمضان، ووجدت أثر الدم في فمي ولم أجد طعمه في حلقي، فهل صومي صحيح أم لا؟
    الجواب الصوم صحيح إن شاء الله، ولا يؤثر وجوده في الفم؛ لأنه من الخارج وليس من الداخل، كما لو تمضمضت فإن المضمضة بالإجماع لا تؤثر، وعلى هذا وجود الدم والمفطر في الفم لا يؤثر، والله تعالى أعلم.

    حكم الجهر في سنة المغرب

    السؤال رجل يصلي سنة المغرب بعد أن صلى الفرض في المسجد، فجاء رجل لم يصل المغرب وصلى معه، وجعله إماما له، فالسؤال: هل يجهر بصلاته في ركعتيه أم لا؟
    الجواب عند من يصحح صلاة المغرب وراء صلاة العشاء في السفر يقول: يصح.
    ويجوز على هذا الوجه كما يختاره بعض أئمة الشافعية رحمهم الله، فيجوز على هذا الوجه أن يجهر بالقراءة؛ لأن صلاة الليل يجوز فيها الجهر، وهي سنة محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يجوز الجهر حتى في النهار، وهو محفوظ عن السلف كـ عائشة رضي الله عنها، فقد كانت في صلاة الضحى ربما جهرت رضي الله عنها وأرضاها والله تعالى أعلم.
    حكم من حلف أيمانا كثيرة لا يعلم عددها
    السؤال حلفت أكثر من مرة، ولا أعلم كم عدد الحلف، فكم كفارة علي؟

    الجواب إن الحقوق التي بين المخلوق والخالق إذا تعذر ضبطها على التعيين لزم التقدير، فتطالب بتقدير ذلك حتى يغلب على ظنك أنك قد استوفيت العدد الذي تحصل به الطمأنينة، فنقول لك: إن هذه الأيمان لو قلنا: إنها مائة يمين.
    تقول: كثير.
    فنقول: خمسون يمينا.
    فتقول: قليل.
    فنقول: خمس وسبعون يمينا.
    تقول: غالب الظن أنها لا تزيد عن خمس وسبعين يمينا.
    فنقول: اعتبرها خمسا وسبعين يمينا، وقس على هذا بالنسبة لبقية الحقوق المتعلقة بالمكلف، فإذا كان يجهل قدرها فإنه يطالب بالتقدير، ويكون على وجه يغلب على ظنه أنه قد حصل العدد الذي يجب عليه، والله تعالى أعلم.

    مسألة تقديم السعي على الطواف للحائض

    السؤال أشكل علي حديث عائشة رضي الله عنها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) في مسألة تقديم السعي على الطواف بالنسبة للحائض، هل يكون دليلا على جواز تقديم السعي على الطواف؟
    الجواب هذه المسألة فيها ضرورة لـ عائشة، وأولا: يحتاج إلى إثبات أن عائشة رضي الله عنها سعت قبل الوقوف بعرفة، مع أن بعض مشائخنا رحمة الله عليهم يقول: كان سعيها رضي الله عنها بعد طهرها، فطافت ثم سعت رضي الله عنها، وعائشة رضي الله عنها انقلبت إلى كونها قارنة؛ لأن حجها وقع قرانا كحج النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالوا: كانت هي ناوية للتمتع وجاءت بعمرة، ثم إنها لما حاضت في سرف قبل دخولها إلى مكة، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صبح اليوم الثالث من ذي الحجة حينما كانوا بسرف، وهي رضي الله عنها قد حاضت فوحدها تبكي، فقال: (ما يبكيك؟ ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) نقلها من العمرة إلى الحج قرانا.
    وبناء على ذلك قالوا: إنها تنقلب قارنة، والمتمتع إذا تعذر عليه الوصول إلى البيت قبل الوقوف بعرفة فينتقل إلى القران، وبناء على ذلك: إذا انتقلت قارنة فالقارن يجوز له أن يسعى سعي الحج يوم النحر، ولو سعاه بعد طواف القدوم؛ لأن سعيه عند قدومه يصح تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا: فإنه ليس في حديث عائشة ما يدل على أنها سعت قبل يوم عرفة، لكن يبقى لفظ الحديث؛ لأن الحديث قال فيه: (اصنعي ما يصنع الحاج) فكونها حتى ولو تأخرت إلى يوم العيد فعندها رخصة وإذن.
    فأجاز العلماء الذين يقولون بوجوب تقدم الطواف على السعي، أجابوا بأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها تعذر عليها الطواف لعذر، فلا يصح إلحاق غير المعذور بالمعذور؛ لأن الرخص لا يتجاوز بها محالا، إنما يستقيم الاستدلال إن لم يوجد عذر، أما وقد وجد العذر فلا.
    وأما حديث (سعيت قبل أن أطوف) فإن هذا الحديث فيه (لم أشعر) ولذلك فإن الإمام أحمد في رواية عنه حينما سئل عن هذا الحديث قال: إن مالكا وغيره قال: (لم أشعر) فأثبت وصفا -يقول الأصولون كما أشار إلى ذلك الإمام الحافظ ابن دقيق العيد - مؤثرا في شرعية الحكم، وهو قوله: (لم أشعر) والحكم: التخفيف والرخصة، والرخصة مرتبطة بعدم الشعور، وكان الإمام أحمد -لفقهه- رحمة الله عليه ينظر إلى تنوع الأسانيد واختلاف الرواة، وكان يدقق في الروايات ويشدد فيها حتى عن الصحابة أنفسهم، ولذلك لما أشكلت مسألة حديث رافع بن خديج رضي الله عنه في إجارة الأرضين والمزارعة والمساقاة، قال: حديث رافع ألوان.
    وكان رحمه الله -وهذه ميزة يمتاز بها عن بقية إخوانه من الأئمة، وإن كانوا قد شاركوه في شيء منها لكنه قد فاقهم بشهادة كل منصف- عنده دقة وإلمام عظيم بأسانيد الروايات واختلافها، وما تضمنته تلك الروايات من الألفاظ والعبارات! وخاصة إذا انفرد عن العلماء رحمهم الله برواية وأثر، فمن المعلوم أن الإمام أحمد رحمة الله عليه تأخر عن بقية إخوانه من الأئمة الثلاثة، فتتلمذ على الشافعي فحصل علوما كثيرة في الأصول، وكان يقول: لولا الشافعي ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه.
    وهذا من الورع والحفظ الجليل وحفظ الحق للعلماء ومعنى كلامه: أنه تفقه على الشافعي في علم الأصول واستفاد منه، وأول من دون علم الأصول في الكتب هو الإمام الشافعي، وكان آية رحمة الله عليه في المدرسة النقلية التي كان يقوم فيها الخلاف بين أئمة الحنفية وبين الجمهور رحمة الله عليهم.
    فأخذ من الإمام الشافعي وحصل منه كثيرا من الضوابط الأصولية ومدرسة العقل، واستفاد كثيرا منه، ثم زاد على ذلك؛ لأن الإمام الشافعي تتلمذ على الإمام مالك، فحصل الشافعي فقه مالك، وحفظ الموطأ -يقال- في أربعين ليلة، وكان الإمام الشافعي قوي الحفظ، وكان لا يجلس المجلس إلا استوعب ما يقال فيه رحمة الله عليه من قوة علمه وفضله رحمه الله برحمته الواسعة.
    فحصل من الشافعي ما حصله من مالك أثرا ونظرا، ثم أعطاه الله عز وجل اطلاعه على الأسانيد واطلاعه على آثار الصحابة، فتجد في بعض الأحيان ينقل من المرويات عن الصحابة ما لا يقل عن اثني عشر صحابيا، وفي بعض الأحيان عن عشرين صحابيا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رحمه الله من ألثر الناس اتباعا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلالا لهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
    فكان رحمه الله من فقهه أنه يدقق في مثل هذا، ولا شك أنه أمر ينبغي لمن يتعامل في مسائل الخلاف أن يراعيه، رحمهم الله جميعا برحمته الواسعة، وأنار قبورهم بأنواره الساطعة، وأعلى مراتبهم وأجزل ثوابهم في الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.

    حكم نساء جد الزوجة

    السؤال جد الزوجة إن كان له أكثر من امرأة هل كلهن محارم للزوج، وهل مثلها إن كان لأبي الزوجة أكثر من امرأة، فكلهن محارم للزوج؟
    الجواب جد الزوجة لا تعتبر زوجاته محارم لذلك الزوج إلا الأم التي أنجبت هذه الزوجة، فيختص التحريم بمن أنجبت هذه الزوجة، فمثلا: لو أن محمدا كانت له زوجة اسمها خديجة، وله ثلاث زوجات غير خديجة، فأنجبت خديجة عبد الله، ثم عبد الله أنجب عائشة، وعائشة تزوجها علي، فإنه يختص التحريم بأم عائشة ولا يشمل بقية زوجات الجد؛ لأن زوجات الجد لسن بمحارم، ولذلك يعتبرن أجانب بالنسبة لذلك الزوج.
    لكن هؤلاء محارم بالنسبة لذريته وأولاده، فأولاده هم الذين لا يختص التحريم في زوجات أبيهم بأمهن -يعني: أمهن التي أنجبتهن، والتي هي الجدة- وإنما يشمل بقية زوجاته، فلو أن الجد كان له أربع نسوة، سواء بقين في عصمته أو طلقهن، أو مات عنهن وهن في العصمة فهن محارم لذريته وأولاده وأولاد أولاده وإن نزلوا، لعموم قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء:22] فجعل التحريم مختصا بكل امرأة عقد عليها الأب وأبوه -وهو الجد وإن علا- فيشمل كل امرأة عقد عليها، بغض النظر عن كونها هي التي أنجبت ذلك الابن أو غيرها.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

  4. #364
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب البيع)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (364)

    صـــــ(1) إلى صــ(12)


    شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [10]
    عاقبة الإجارة إما سلامة وإما ضرر، وحالات الضرر تسمى بمسائل الضمان في الإجارة، وهي مما تعم به البلوى، والضمان في الإجارة لا يختص بالأجير في كل أحوالحا؛ لأن الشارع حفظ حقوق كل من الأجير والمستأجر، فجعل الأجير ضامنا في الأحوال، كما جعله غير ضامن بشروط منها: ألا يتعدى ولا يقصر، وأن يكون العمل مأذونا به.
    كما أن الشارع جعل أهل الحجامة والطب والبيطرة غير ضامنين لما تجنيه أيديهم إذا عرف حذقهم.
    من صور الإتلافات
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ، ولا حجام وطبيب وبيطار لم تجن أيديهم، إن عرف حذقهم] .
    الإجارة إذا وقعت بين الطرفين لم تخل من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون على السلامة، فتستأجر الأجير فيقوم بالعمل على الوجه المطلوب دون حدوث أي ضرر من هذه الإجارة، فحينئذ لا إشكال.
    والحالة الثانية: أن تستأجر الأجير، وأثناء قيامه بمهمة الإجارة المطلوبة يحدث الضرر، كأن تستأجر عاملا ليقوم بعمل فيصلح شيئا في الدار أو نحو ذلك، فيكسر ذلك الشيء، فيتلفه بالكلية أو يتلف بعضه ويعطل المنافع الموجودة فيه، ففي هذه الحالة يرد
    السؤال هل الأجير يتحمل المسئولية عن العين التي تطلب منه المنفعة بإصلاحها والقيام عليها؟ وهذا يشمل كثيرا من الإجارات، سواء كان ذلك في الأشخاص أو كان في الحيوانات، أو كان في المركوبات أو كان في العقارات، فأنت إذا استأجرته ربما أنه يستأجر لإصلاح الإنسان -كالطبيب يقوم على إصلاح بدن الإنسان- فيحدث ضررا بطبه، فيعطل منفعة العضو الذي يراد علاجه، أو يحدث ضررا في مكان آخر، فيكون -بإذن الله عز وجل- سببا في علاج موضع ولكن يحدث الضرر في موضع آخر، هذا في إصلاح الآدميين، وربما تستأجره لإصلاح حيوان كالبيطار، فيقوم بعلاج الدابة فيفسدها، أو تعتل صحتها بسبب الأدوية والعقاقير أو نحو ذلك، أو تستأجره لإصلاح جدار فينهدم أثناء إصلاحه، أو إصلاح زجاج فينكسر ويتهشم، أو إصلاح الأمور الأخرى من المرافق المتعلقة بالبيوت والدور ونحو ذلك.
    فكل هذه صور قد تقع في بعض الأحيان، فالإجارة إما سلامة وإما ضرر، ففي حال السلامة لا يسأل السائل، ولكن يرد السؤال في حال الضرر، وحالات الضرر تسمى بمسائل الضمان في الإجارة، فمسائل الضمان في الإجارة لا تختص بالأجير، بل لربما أنك تستأجر سيارة للنقل فيكون في السيارة ضرر يؤثر على صحة الراكب، أو تستأجر شيئا من أجل أن تقضي مصلحة منه، فيخرج ذلك الشيء من المصلحة إلى المضرة، وكل هذه المسائل تسمى بمسائل الضمان في الإجارة، وتعم بها البلوى، وتكثر منها الأسئلة والشكوى، ويحتاج طالب العلم إلى معرفة أحكامها وموقف الشريعة الإسلامية الذي أنصفت فيه الطرفين: فأعطت الأجير حقه، وأعطت المالك حقه.
    فيرد السؤال: ما هي الضوابط؟ وما هي الأمور المعتبرة التي ينبغي العمل بها في مسائل الضمان؟ فشرع رحمه الله في بيان هذه المسائل؛ لأن بيان الإجارة يستلزم بيان الآثار المترتبة على الإجارة، وقد تكون هذه الإتلافات والأضرار الناجمة تعطل الإجارة فيما بقي من المدة، وكل هذا يبحثه العلماء ويبين مسائله الفقهاء رحمهم الله برحمته الواسعة، فشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه المسائل والدلالة على هذه الأحكام.
    فقوله: (ولا يضمن) .
    الضمان: غرامة الشيء التالف إما بمثله أو بقيمته، فالعلماء رحمهم الله إذا قالوا: عليه الضمان.
    بمعنى: أنه يأتي بمثل الشيء الذي أتلفه إن كان له مثلي، أو يأتي بقيمته إن تعذر وجود المثلي.
    وتوضيح ذلك: أن الضمان يفتقر إلى وجود إتلاف وضرر، وهذا الإتلاف سواء كان كليا أو كان جزئيا فإنه إذا فعل شخص بمال غير بدون حق فإن الله عز وجل ألزمه أن يضمن لأخيه المسلم حقه، فمن أتلف الشيء حتى تعطلت منافعه بالكلية ولم يمكن الارتفاق به على وجه، وأصبح تالفا بدون وجه حق، نقول له: اضمن مال أخيك.
    وذلك لأنه إذا أتلف الشيء على هذا الوجه فقد تعدى وظلم، فيجب عليه ضمان تعديه وظلمه، فعلى اليد أن تضمن جنايتها كما قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] فلما اكتسب الجناية وأتلف مال غيره وجب عليه أن يضمن ذلك المال، وتعين عليه أن يقوم برد مثل ذلك المال.
    فمثلا: لو أتلف سيارة لأخيه المسلم بدون وجه حق، نقول له: تأتي بمثل هذه السيارة في مواصفاتها، وبمثلها في شكلها وتعطيها لأخيك.
    فإن تعذر وجود مثل هذه السيارة نقول: تضمن بقيمتها.
    فإذا الضمان: غرامة الشيء التالف -أي: أنه لابد من وجود شيء تالف- إما بمثله إن كان له مثلي، ويضمن المثلي بالكيل كيلا وبالوزن وزنا، فإذا كان مكيلا يضمن بمثله كيلا وبمثله وزنا وبمثله جودة ورداءة وغلاء ورخصا.
    إلى آخره كما سيأتي -إن شاء الله- في الضمان.
    الفرق بين الأجير الخاص والأجير العام
    وقوله: [ولا يضمن أجير خاص] .
    الأجير ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يسمى بالأجير الخاص، والقسم الثاني: ما يسمى بالأجير المشترك.
    فأما الأجير الخاص -ويسميه بعض العلماء الأجير المنفرد-: فهو الذي تعاقدت معه على مدة معلومة تستحق منفعة هذا الأجير خلال المدة كلها، كأن تستأجر شخصا ليعمل عندك في بيتك أو مزرعتك شهرا، فإنه يسمى بالأجير الخاص، فإنه خلال الشهر تكون مدة الشهر كاملة مستحقة لك أنت، ولا يجوز له أن يصرف هذا الاستحقاق والمنفعة لشخص آخر؛ فصار مختصا بك، فيقال له: الأجير الخاص.
    وهناك نوع ثان: وهو الأجير العام والمشترك، مثل: الخياط الذي يخيط الثياب فهو ليس مختصا بك، وإنما يقوم بعمل لك ولغيرك، ومثل: النجار والحداد ونحوهم ممن يقومون بإجارة العمل، ولذلك يقول العلماء: غالبا ما يكون الفرق بين الأجير الخاص والعام: أن الأجير الخاص ينصب العقد ويتعلق بالمدد، وأما الأجير العام فإنه يتعلق بالأعمال.
    فالأجير العام غالبا ما يكون في الأعمال مثل الحدادة والنجارة والمقاولات ونحوها، هذا أجير عام؛ لأنه يعمل لك ولغيرك، وبإمكانه أن يشتغل لثلاثة أشخاص في يوم واحد، بل ولربما لعشرين أو لثلاثين شخصا، فهو لا يختص بشخص معين، إنما لك عليه أن يقوم لك بالعمل فقط، فهذا أجير مشترك، ولا يستوجب عليه أن يكون مفرغا لك بعينك، أما الأجير الخاص فلابد أن يكون مختصا بك.
    هناك فرق بين الاثنين في الضمان: فالأجير الخاص فيه شبهة من جهة كونه مختصا بك والغالب في قيامه بالأعمال أن يكون وكيلا عنك، وتعلمون -كما تقدم معنا في الوكالة- أن الوكيل أمين لا يضمن إلا إذا فرط، فيصبح فقه المسألة في الأجير الخاص: أنك إذا جئت بعامل أو خادم إلى البيت، فإن هذا الخادم أو العامل إذا عمل في البيت صار كالوكيل عنك في الأعمال التي طلبت، بخلاف الأجير المشترك، فإن الأجير المشترك ليس فيه هذا المعنى، وإن كان فيه خصوص التوكيل للعمل نفسه لكن فيه ضمان.
    ففرق طائفة من العلماء رحمهم الله في مسائل الضمان في الإجارة بين الأجير الخاص والأجير المشترك، فقال رحمه الله: (ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ) .
    مثل: الخدامة في البيت، لو أنها قامت بإصلاح مكان طلب منها إصلاحه، فقامت بعملها على الوجه المطلوب فانكسر الزجاج أو تهشم أو انكسر الباب، فإنها إذا قفلت الباب -مثلا- بالقفل المعتاد، ولكن سقط الباب وعلمنا أنه سقط قدرا أكثر من سقوطه فعلا، فنقول: لا تضمن.
    كما لو أنها مسحت فانكسر؛ لأنك وكلت، فهي في كونها مستحقة خلال المدة وأعمالها هذه منحبسة لك صارت كالوكيلة عنك؛ ولذلك لا تضمن، لكن هناك شروط لعدم ضمان العامل.
    الأحوال التي ينتفي فيها ضمان الأجير الخاص لما جنت يداه
    لو جئت بعامل في مزرعة فقام على مكينتها لإدارة الماء، فأدار المكينة بالطريقة المعتادة المتبعة عند أهل الخبرة فانكسرت المكينة أو حدث بها عطل، نقول: كما لو أدرتها بنفسك فتعطلت؛ لأنه في هذه الحالة ليس هناك تأخير، فالعمل الذي قام به قام به بأمرك، فأنت الذي أمرته، فحينئذ كما لو أنك أنت الذي أدرته، فلو قلت له: أنت في المزرعة تقوم على مصالحها وتؤدي مصالحها.
    فقام بها على الوجه المعتبر، فكل عمل يقوم به على الوجه المعتبر كأنك قائم مكانه، فما يضمن إلا إذا تعدت يده أو فرطت، فإن تعدت يده أو فرطت خرج عن كونه وكيلا لك إلى كونه متعديا مفرطا؛ فيضمن.
    إذا: فقه المسألة في الأجير الخاص: إذا أقمته للقيام بعمل لمدة معينة في مزرعة أو دار أو غير ذلك، فإنه لا يضمن إلا إذا حصل منه التعدي أو التفريط.
    وعلى هذا: قال المصنف رحمه الله:
    أن يكون عمل الأجير مأذونا له فيه
    (ما جنت يده) يعني: ما وقع بسبب فعله، لكن بشرط: أن يكون مأذونا له في هذا الفعل، فمثلا: لو أن عاملا قام بعمل في نخل، وقد قلت له: هذه النخلة لا تفعل فيها شيئا، فجاء وفعل، فإنه يضمن؛ لأنه ليس عنده الإذن الذي يكون به وكيلا يسقط عنه الضمان فتكون يده يد أمانة، فلما عصاك وتجاوز حينئذ نقول: يضمن.
    وعلى هذا نقول: لا يضمن إذا قام بما طلب منه، وكان قيامه على الوجه المعتبر الذي لا إفراط فيه ولا تعد، وعلى هذا يعتبر الأجير الخاص غير ضامن.
    وهذا قول جماهير العلماء، وهناك من خالف وقال بتضمين الأجير مطلقا، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه، حتى إنه أثر عن علي رضي الله عنه أنه ضمن الأجراء وقال: لا يصلح للناس إلا هذا.
    أي: كأنه يرى أن حقوق الناس لو قيل: إن الأجراء لا يضمنون؛ تلفت أموال الناس، لكن حين يقال: إن الأجير يضمن؛ فيكون هناك نوع من الصيانة.
    ولكن الأثر عنه مرسل، والصحيح عنه رضي الله عنه أنه لم يضمن الأجير الخاص، وعلى هذا: فإن العمل على أن الأجير الخاص لا يضمن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) وهذا النص له مفهوم -سنبينه إن شاء الله- يدل على أن من قام بالأعمال على الوجه المعتبر، وكان ذلك بدون تفريط وبدون تقصير، فإنه لا يلزم بضمان ما وقع من يده؛ لأنه الأشبه فيه أنه قضاء وقدر، وإذا كان خاصا ففيه شبهة الوكالة، ولذلك النظر الصحيح والأصل الصحيح من كونه وكيلا -كما قررناه في كتاب الوكالة- يقتضي عدم تضمين أمثال هؤلاء.
    أن ينتج الإتلاف عن خطأ لا عن تعد أو إهمال
    وقوله: [ولا يضمن أجير خاص ما جنته يده خطأ] .
    (ما جنت يده خطأ) فهناك الخطأ وهناك التعمد وهو القصد للإتلاف والضرر، فإذا قلت: لا يضمن.
    يترتب أمران، وإذا قلت: يضمن.
    يترتب أمران أيضا.
    إذا قلت: لا يضمن.
    أسقطت عنه المؤاخذة من المكلفين -هذا الأمر الأول- وأسقطت عنه المؤاخذة من رب العالمين، فالشخص الذي تقيمه للقيام بعمل معين في مزرعة أو أرض -وهو الأجير الخاص- ونصح لك واتقى الله فيما أمرته، وأدى ذلك الشيء الذي أمرته به على الوجه المعتبر؛ فإنه إذا وقع منه خطأ بدون قصد ولا تعد ولا تفريط؛ فليس من حقك أن توبخه أو تسبه أو تشتمه، فإن فعلت ذلك فقد ظلمته؛ لأنه غير ضامن أصلا، وما من وجه شرعي يخولك الأذية والإضرار، فيصبح سبه وشتمه وقهره وأذيته وتوبيخه من الاستطالة في عرض المسلم واستباحتها بدون حق.
    وهذا أمر يفرط فيه كثير من الناس إلا من رحم الله، ونحب أن ننبه عليه إن كثيرا من أصحاب الأعمال بمجرد ما يقع الخطأ من عامله بدون تقصير يقوم بتوبيخة وسبه وشتمه، وهذا لا يجوز، وكل هذا السب والشتم إما حسنات تؤخذ منه أو سيئات -والعياذ بالله- يحملها على ظهره، فلا يجوز أن يستباح عرض العامل أو الأجير ما لم يفرط، فإن الله تعالى يقول: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [النساء:148] وصاحب العمل غير مظلوم، فحينئذ ليس من حقه أن يظلم أخاه المسلم بالسوء، هذا بالنسبة للمخلوق، وأما بالنسبة لحكم الله عز وجل وشرعه فإنه لا يطالب بالضمان في الدنيا، ولا أيضا تتعلق مسئولية الآخرة؛ لأنه إذا أدى ما وجب عليه خليت نفسه وبرئت ذمته من الإثم في الآخرة كما برئت ذمته من تبعة الدنيا لسقوط الضمان عنه.
    فقوله: (خطأ) خرج القصد كما ذكرنا، فلو جاء -مثلا- بالزجاج ومسحه بطريقة عفوية فانكسر الزجاج، قلنا في هذه الحالة: لا يضمن.
    لكن لو جاء بالزجاج قاصدا وكسره، نقول: يضمن؛ لأنه في الحالة الأولى أخطأ، وفي الحالة الثانية تعمد.
    من مسائل الخطأ أيضا: لو أنه حمل الزجاج فزلجت يده وسقط الزجاج وانكسر، أو تهشم بعضه، أو حصل منه ضرر على فراش أو نحوه، أو حمل مائعا فانكب على فراش فأفسده أو أتلفه أو أضر به، وكان هذا الحال كله على سبيل الخطأ، إن زلجت يده ولم يتعاط أسباب التفريط، لكن لو كانت يده مبلولة وفيها لزوجة، أو غسل الزجاج بمادة لزجة، ثم جاء بعد لزوجته وأخذه، فهنا نوع من التساهل والتفريط له حكمه الخاص الذي سيأتي.
    إذا: لابد من أن يكون ذلك من قبيل الخطأ، وألا يكون قصده الضرر، وثانيا: ألا يفرط؛ لأنه قد يخطئ وهو مفرط، الآن مثلا: يأتي العامل وتقول له: إذا جاء المساء فعليك أن تقفل باب المزرعة.
    ولكنه ترك الباب مفتوحا، فهذا تساهل وتقصير؛ فحينئذ نقول: إنه مقصر، فهو إما أن يتعدى وإما أن يقصر.
    وعكسها -عدم التعدي- الخطأ، وعدم التقصير إذا أدى العمل على وجه معتبر فجاء شيء وأتلفه قضاء وقدرا.
    إذا على هذا: الأجير الخاص لا يمكن أن تحمله المسئولية إلا إذا تعدى أو قصر.

    أمثلة في تعدي وتقصير الأجير في عمله

    ومعنى (يتعدى) : يجاوز الحدود، كأن يأتي إلى شيء يحمل برفق فيحمله بعنف، أو يأتي إلى شيء يوضع برفق فيضعه بقوة، نحن نعلم في هذه الحالة لو أنه حمل كتبا ثم جاء ورماها بقوة، فتمزقت الكتب، فهذا تعد وإساءة، فنقول له حينئذ: تضمنها؛ لأن هذا من باب التعدي.
    فلو حملت المرضع أو الخادم الصبي ثم رمته بقوة، فنقول: إن هذا تعد واعتداء؛ لأن مثل هذا ما يوضع بقوة، وإنما يوضع برفق، فمسائل الضمان لا تنحصر من حيث الصور والأمثلة، وإنما نذكر نحن أمثلة على حسب اختلاف الإجارات، وإلا القاعدة فيها: ألا يوجد تعد وألا يوجد تقصير، فإذا وجد التعدي أو التقصير فقد فتح العامل والأجير على نفسه باب المسئولية، ويتحمل تبعة كل ما ينشأ على تعديه وكل ما ينشأ على تقصيره.
    (ما جنت يده خطأ) ما لم يتعد أيضا؛ لأنه سيأتي إن شاء الله ذكره في الحجام والبيطار، وهذه الأمور -يعني: القول: إن الأجير لم يتعد ولم يقصر- تضبط بضوابط معينة، أي: أمر تصدره للأجير فإن مقتضى عقد الإجارة يلزمه بالتقيد بذلك الأمر، فلو طلبت منه أن يفتح شيئا في حدود معينة ففتحه أكثر من ذلك الحد أو أقل وترتب على ذلك ضرر ضمن؛ لأنه في هذه الحالة قصر؛ فإن فعل ذلك وكان -والعياذ بالله- عن قصد ونية، أي: لو أنه فتحه أكثر مما يستحق عن قصد فترتب الضرر، فحينئذ -والعياذ بالله- يكون جناية وعدوانا، لكن إذا فتح الشيء وهو غافل ففتحه أكثر مما يستحق، أو أنقصه عما يستحق فحصل الضرر، فنقول: يضمن.
    هذا بالنسبة للتعدي في تنفيذ الأوامر، وقد يكون التعدي من جهة العرف، فقد لا تأمره بشيء، فتأتي بشخص يقوم بعمل وأنت لا تعرف هذا العمل، كالكهربائي والنجار والحداد، وما عندك أمر إلا أن تقول له: أصلح لي هذا الشيء.
    فحينئذ يتعدى إذا خرج عن ضوابط أهل الخبرة في عمله على هذا الشيء الذي يريد إصلاحه، فلو قال أهل الخبرة وأهل الصنعة: إنه يصلح بطريقة معينة، فمثلا: يمر بمرحلتين، فأصلحه على مرحلة واحدة وتركه، فهذا تقصير، وعليه فلو جئت تشغل الجهاز ففسد فهنا يضمن؛ لأنه قصر في إصلاحه، صحيح أنك لم تخاطبه ولم تقل له: أصلحه على مرحلتين أو افعل فيه كذا وكذا؛ لأنك لا تعلم، لكن العرف يخاطبه وأصول الصنعة ومقتضيات المهنة تلزمه أن يتقيد بهذا العمل، فأنت حينما قلت له: أصلح.
    كأنك تقول له: أصلح رحمك الله بما جرى عليه العرف؛ ولذلك المسكوت عنه في العقود مردود إلى ما تعارف عليه الناس.
    وقد يكون التعدي من جهة -والعياذ بالله- قصد العدوان، فتعطيه أمرا أن يصلح شيئا وهذا الشيء لا يمكن استصلاحه إلا بالرفق، فجاء بالعنف والقوة قاصدا إتلافه، فإنه يجب عليه ضمان ما ترتب على ذلك القصد السيئ من الضرر، فبعض العمال والأجراء -والعياذ بالله- يقدم على إتلاف الشيء في موقف معين أو عمل معين وهو يريد بذلك أن ينتقم، والله سبحانه وتعالى هو المطلع على الضمائر، و {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] .
    {والله عزيز ذو انتقام} [آل عمران:4] فالله لا تخفى عليه الخوافي، فإذا فعل هذا الفعل عن قصد وأذية فإنه يصبح في هذه الحالة بينه وبين الله مؤاخذ، وبينه وبين الله يجب عليه ضمان هذا الحق كاملا، وعليه إخبار صاحب الحق عن حقه والتحلل منه، وإلا تحمل مسئوليته، فهو إن لم يضمن في الدنيا فسيضمن في الآخرة، وإذا لم يحلل نفسه في الدنيا فسيعجل الله له عقوبة في الدنيا قبل أن يلقاه في الآخرة.
    فلذلك من حيث التعدي قد يكون التعدي بالأوامر فيجاوز هذه الأوامر، أو قد يكون على ما يضبط بالعرف، فهناك أشياء تحفظ بدرجات معينة ونظام معين وترتيب معين، فيخرج العامل عن هذه الأصول فيضمن.
    كذلك هناك شيء من الضمان يدخل بسبب الجهل، فكل شخص ادعى صنعة وليس من أهلها، أو كان من أهلها ولكن جاءه عمل خارج أو مجاوز لحدود علمه، فإن أي شيء يترتب من الضرر على فعله يضمنه، وهذا سنقرره -إن شاء الله- في ضمان الأطباء، فمثلا: لو أن رجلا ادعى أنه يحسن الكهرباء، فجئت به من أجل إصلاح أجهزة، وهو لا يعرف إصلاحها، فأفسدها وأتلفها أو عطل بعض منافعها، فإنه يضمن تعدى أو لم يتعد، كل ذلك يوجب الضمان عليه، فالجهل موجب للضمان.
    كذلك لو كان من أهل هذه الصنعة -كصنعة الكهرباء- وهو يتقن قسما ولا يتقن قسما آخر، والقسم الذي لا يتقنه يجب عليه شرعا أن يقول: لا أعلم هذا الشيء.
    أما إذا أقحم نفسه فيه فإنه يضمن.
    هذا من حيث الأصول العامة: أن الضمان للأجير الخاص إذا وكلته فإن يده يد أمانة، ولا يضمن إلا إذا تعدى أو قصر.
    وعلى هذا: فإنه يجب على المسلم أولا ألا يحكم بكون الأجير الخاص ضامنا إلا إذا توفرت دواعي الضمان، ووجدت الأمارات والعلامات والشروط التي يجب توفرها للحكم بضمانه.

    لا ضمان على الحجام إذا عرف حذقه

    وقوله: [ولا حجام] .
    الحجامة هي: إخراج للدم الفاسد من البدن بالمص، ولها مقامعها المعروفة وطريقتها المشهورة، وتكون متعلقة بالأوعية الدموية، وأما الفصد، فإنه يكون للعروق، وكلاهما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرعيته، ودل الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام باعتباره، كما في الحجامة أنه احتجم وأمر بالحجامة (إذا اشتد الحر فاحتجموا، لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم) وكذلك أيضا الفصد، ثبت عنه في الصحيح أنه أرسل إلى أبي بن كعب رضي الله عنه طبيبا، فقطع منه عرقا ثم كواه عليه، وهذا يدل على مشروعية الفصد.
    فالحجامة صنعة لا ينبغي لأحد أن يقوم بها إلا إذا كان من أهلها، وهي تحتاج إلى معرفة بالطب، وليس كل من أخذ محاجما فهو حجام، وقد تدخل على الإنسان ضررا لا يعلمه إلا الله عز وجل! فهي سلاح ذو حدين، إذ أن هناك مواضع في الجسد لو حجمت أهلكت الإنسان، وهناك مواضع في البدن لو حجمت استقامت صحته، وهناك أوقات لا تحسن فيها الحجامة ولا تصلح، وهناك أوقات تصلح فيها الحجامة، فهي علم مستقل.
    وأطباء المسلمين المتقدمون ألفوا في الحجامة الكتب، فهي ليست صنعة لكل من هب ودب؛ لأنها تتعرض لأخطر الأشياء بعد الدين وهو الجسد؛ لأن أجساد الناس وأرواحهم متوقفة -بعد الله عز وجل- على الطب، ولذلك كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول في الطب: إنه ثلث العلم، وكان يقول: ضيعوا ثلث العلم.
    وكان يقول رحمه الله قولته المشهورة: لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب.
    فالطب ليس بالسهل، فأرواح الناس وأجسادهم أمانة عند الحجام، فهناك مواضع لو حجمت أذهبت ذاكرة الإنسان، وأصبح -والعياذ بالله- كثير النسيان، وهناك مواضع لو حجمت لربما أصابته بالشلل والعياذ بالله، فهي خطيرة وليست بالسهلة.
    فإذا: لا يجوز لأحد أن يتعاطى الحجامة إلا إذا كان عالما بالمواضع التي تحجم وكيفية الحجامة، فلابد أولا من العلم بالمواضع؛ لأنه قد يعرف كيف يحجم، ويعرف لون الدم الفاسد من الصالح، ويعرف زمان الإمكان بسحب المحاجم وتركها، وطريقة التشريط، وطريقة المص، قد يعرف هذا، لكن لا يعرف المواضع، وهذا أكثر ما يقع فيه الجهل، فقد تجد حجاما يحسن الشرط ويحسن المص، لكن ما يحسن معرفة المواضع، ولذلك ينبغي أن يكون عالما بهذه المهمة على الوجه المطلوب.
    ثانيا: إذا كان عالما يجب عليه شرعا أن يؤدي العمل وفق المتبع عند أهل الخبرة؛ لأنه قد يكون عالما ولكن لا يحسن التطبيق، وقد يكون عالما ولا يتم التطبيق؛ أي: أنه متساهل، فإذا كان جاهلا بالصنعة ضمن، وإذا كان عالما بالصنعة جاهلا بتطبيقها ضمن، وإذا قام بالصنعة وكان عالما بتطبيقها ولكنه لم يتم العمل على الوجه المتبع عند أهل الخبرة ضمن.
    إذا: كلها مداخل للضمان؛ لكن إذا أدى الحجامة على الوجه المعتبر، وعرف الموضع الذي يحجم، وأتم الحجامة على الصورة والصفة المعتبرة، فلا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في سنن أبي داود وغيره في الحديث الصحيح أنه قال: (من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن) (من تطبب) : تفعل، أي: تكلف، مثل: تحلم وتصبر إذا لم يكن من أهل الحلم لكنه تكلف الحلم، وكذلك أيضا تصبر، هذه الصيغة تدل على أنه تكلف الطب وليس من أهل الطب.
    وقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب) عام، ولذلك قرر الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله برحمته الواسعة في كتابه النفيس العظيم (الطب النبوي) وهو منتزع من (زاد المعاد في هدي خير العباد) قرر أن قوله: (من تطبب) عام، وأن الطب بجميع فروعه يدخل تحت قوله: (من تطبب) ، وأنه من جوامع كلمه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكل من يقوم بأي مهمة طبية لا يعرفها، أو يعرفها ولكن ليس تمام المعرفة المعتبرة التي تؤهله بشهادة أهل الخبرة للقيام بذلك الشيء الذي قام به فإنه متطبب.
    فقال: يمكن أن يكون المتطبب حجاما.
    لأنه إذا تعاطى ذلك فإنه قد دخل في الطب، صحيح أن الطب عام، ولكن من الطب الحجامة؛ ولذلك يعتبر متطببا إذا تعاطى الحجامة ولا يعرفها، وكذلك أيضا الفصاد، قال: إذا تعاطى الفصد ولا يعرفه فقد تطبب، وكذلك الجراح إذا تعاطى الجراحة وهو لا يعرفها فقد تطبب.
    وهكذا بقية الأطباء، حتى علم الأعشاب، لو قال -مثلا-: خذ العشب الفلاني، أو ضع العشب الفلاني، أو افعل بالعشب الفلاني، أو العشبة الفلانية علاج لكذا ودواء لكذا.
    فإنه تطبب إذا لم يكن على بينة وعلم.
    إذا: قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب) يدل على تضمين الحجام؛ لأن الحجامة من الطب، وعلاج يتادوى به، ومن مجالات الطب، فيدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب) .
    لا ضمان على الحجام إذا حجم بالصفة والطريقة المعتبرة.
    ويشترط في الحجام ما يأتي: أولا: أن يكون عالما بالحجامة.
    وثانيا: أن يشهد له أهل الخبرة أنه أهل للقيام بهذا.
    وثالثا: أن يؤدي هذه الحجامة بالطريقة المتبعة عند أهل الخبرة.
    فلو أنه كان عالما، وكان مستطيعا للتطبيق، وطبق ما علم في حدود أهل الخبرة، ولكنه قام بالعمل بدون إذن صاحبه، فجاء إلى شخص وحجمه بدون إذنه، فهذا يضمن؛ لأن الإذن هو الذي فيه التوكيل الذي يسقط الضمان، فأصبح هناك أربعة شروط لابد من توفرها: العلم بالحجامة، والقدرة على تطبيق ذلك العلم على الوجه الصحيح، وأن يقوم بالمهمة وفق الأصول المتبعة عند أهل العلم بالحجامة، وأن يأذن الشخص المريض أو وليه بفعل الحجامة، وهذا الشروط الأربعة على التفصيل الآتي: قلنا: أن يكون عالما.
    فإذا كان جاهلا ليس من حقه شرعا أن يعرض أرواح المسلمين وأجسادهم للتلف، فيضمن.
    ثانيا: أن يكون قادرا على التطبيق.
    الآن ربما تقرأ كتابا في الحجامة وتتصور الحجامة، وربما تقرأ كتابا في الجراحة الطبية وتتصورها، لكن لو وقفت أمام الدماء والعروق والأشلاء والقطع لما أحسنت التصرف؛ لأن التطبيق شيء والعلم شيء آخر، ولذلك لابد مع العلم من القدرة على التطبيق، وأن يكون هذا التطبيق الذي طبقه موافقا للأصول المتبعة عند أهل الخبرة؛ ولذلك نستطيع أن نضمن أعرف الناس بالطب إذا خرج عن السبيل المتبع عند أهل الخبرة، فعلمه وقدرته على التطبيق محكومة بالضوابط والأصول المتبعة عند أهل الخبرة، فإذا خرج عنها صار متحملا للمسئولية، وخارجا عن السنن الذي جعله الله علاجا ودواء للأجساد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تداووا عباد الله؛ فإن الله لم يجعل داء إلا وجعل له شفاء ودواء) فقال: (جعل له شفاء ودواء) فهذا الجعل نعرفه عن طريق أهل الخبرة والمعرفة، فلما جاء وخرج عن حدود أهل الخبرة وتطبيقاتهم فقد خرج عن السنن الذي جعله الله سبحانه وتعالى علاجا، فصار مخاطرة ومجازفة واجتهادا يتحمل مسئوليته وتبعته.
    مثال: لو أن المريض يحجم في نقرة الرأس، فجاء وقال: أنا أفضل أن تكون في النقرة اليمنى ولا تكون في الوسط.
    فانحرف يمينا أو شمالا، أولا: هو يعرف كيف يحجم، أي: عنده علم، ثانيا: عنده قدرة على التطبيق، ثالثا: لم يطبق وفق أصول أهل الخبرة؛ لأن أصول الخبرة تستلزم أن يضع في هذا الموضع.
    من أمثلتها أيضا: أن يحدد الموضع ويحدد المكان للحجامة، فيقوم بالحجامة، ولكن المتبع عند أهل الخبرة أنه يعالج الجرح بعد انتهاء الحجامة وينظفه قبل الحجامة؛ لأنه إذا جاء يجرح ينبغي أن يكون قد قام بتنظيف مكان الجرح، فإذا لم يحتط وعاجل بجرحه قبل تنظيف المكان فتسمم المكان، أو حدث ضرر بسبب هذا التفريط والخروج عن الأصل المتبع عند أهل الخبرة، وهو أنه لا يمكن أن يقوم بحجم موضع إلا بعد تنظيفه وتهيئته للحجامة، فنقول: هذا خروج؛ مع أنه عالم وقادر على التطبيق، وعنده معرفة، ولكن خرج عن السنن المتبع عند أهل الخبرة، وهذه ضوابط مهمة.
    الأمر الرابع: أن يوجد الإذن، فإذا وجد الإذن وأذنت له أن يحجم لي فإنني في هذه الحالة وكلته لعلاج نفسي، فكأني أنا الذي أعالج نفسي؛ ولأني إذا أذنت تحملت مسئولية الآلام، ورضيت بالضرر المترتب على وجود الألم والمشقة المترتبة عليه، فإذا لم آذن لم أرض لنفسي هذا الضرر، فعند إقدامه عليه بدون وجود إذن يضمن.
    إذا: لو كان المريض مغمى عليه، أو كان صبيا صغيرا لا يحسن النظر في مصلحة نفسه، يقوم وليه مقامه، فللولي أن يقوم مقامه ويأذن، فإذا جاء وليه وقال له: احجم هذا الصبي.
    وكان أبوه أو عمه وهو قائم على أمره حينئذ يعتبر إذنا موجبا لسقوط الضمان.

    مسائل في عدم ضمان الطبيب

    وقوله: [وطبيب وبيطار] .
    أي: ولا ضمان على الطبيب، والطب هو حفظ الصحة الموجودة واسترداد الزائلة بإذن الله عز وجل، والطب نوعان: طب وقاية، وطب علاج ودواء.
    فالطبيب لا يخرج عن هذين الأمرين: إما أنه يحرص على بقاء الصحة كما هي -وهذا ما يسمى بالطب الوقائي- وإما أن يسترد شيئا زال -بقدرة الله عز وجل- بسبب المرض، وفي الجسم ثلاث خصائص: السوداء، والصفراء، والبلغم.
    فإذا اعتدلت واستوت فالجسم في صحة وعافية بقدرة الله عز وجل، ولا يصيبه مرض إلا إذا خرج أو إذا زاد أو طغى أو بغى واحد من هذه الثلاثة.
    فهذا الطب يقوم على الجانبين، والأطباء من حيث هم ينقسمون إلى أقسام: فهناك علاج بالدواء، وهناك علاج بالجراحة، والعلاج بالدواء -أيضا- على فروع وأقسام، منه ما يتعلق بالأعضاء، ومنه ما يتعلق بالنفس والروح، فالطب النفسي شيء والطب الجسدي شيء آخر، وكلها مجالات في الطب، فإذا قال: (ولا طبيب) يشمل جميع هذه الأقسام.
    ثم إذا قلنا بالطب فهناك أشخاص ينزلون منزلة الطبيب وهم مساعدو الأطباء كالممرضين والمحللين والمصورين بالأشعة.
    ونحوهم ممن يستعان بهم -بعد الله عز وجل- في القيام بالمهمات الطبية، فهؤلاء كلهم لهم علوم ولهم ضوابط ولهم أصول معروفة عند أهل الخبرة والاختصاص، فالطبيب لا يضمن بشرط أن يكون عالما بالطب، بمعنى: أن يكون قد شهد له أهل الخبرة أنه أهل للقيام بالعمل الطبي، عنده معلومات تؤهله للقيام بالمهمات الطبية، عالما، قادرا على التطبيق كما ذكرنا، ثالثا: أن يطبق وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة، فإذا وجدت هذه الشروط في شخصه انضاف إليها في المريض وجود إذن من المريض بالمداواة، فأصبحت أربعة شروط.
    لكن الشرط الأخير في الإذن بالمداواة تستثنى منه الحالات الطارئة، فالأطباء في الحالات الطارئة لهم الحق أن يعالجوا، ولهم الحق أن يداووا إذا لم يوجد من يأذن لهم بشرط وجود الإذن العام، مثل ما يوجد مثلا في المستشفيات من اللجان الطبية التي تأتيها الحوادث العاجلة، مثلا: حينما يأتينا المريض مغمى عليه، قد لا نعرف عنوان أوليائه، ولو غرمنا عنوانه واتصلنا بأوليائه فقد لا يحضرون إلا بعد وفاته، فتكون حالة لابد أن تجرى العملية لها، فهذا نقول: فيه إذن عام.
    وهذا ذكره بعض العلماء رحمهم الله، ويعتبر إذن ولي الأمر العام إذنا للأطباء، ما دام عند الأطباء إذن عام من الولي العام بمعالجة مثل هذه الحالات الطارئة فيستلجأ إلى الإذن العام؛ لأن السلطان ولي من لا ولي له، والحالات الطارئة يفتقد فيها من يلي حفظ النظر، فولي الأمر له الحق أن يفوض لهذه الجهات أن تعالج الحالات الطارئة ولو لم يوجد الولي، ولم يوجد إذن من المريض نفسه.
    ولذلك القاضي ومن في حكمه ممن له ولاية عامة ينظر لمصالح الناس وإن كانوا غير موجودين؛ لأنه ما جعل وليا لأمر الناس إلا من أجل مصالحهم، فهذا يسمى بالإذن العام.
    هذه أربعة شروط لابد من توفرها: أن يكون الطبيب عالما، فإذا كان الطبيب جاهلا ضمن؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن) .

    وسيلة معرفة حذق الطبيب في مهنته

    وهنا
    السؤال متى نحكم للطبيب بأنه عالم بالطب؟ هذا يفتقر إلى جهات لها حق أن تأذن للطبيب وتشهد له أنه أهل للطب، وفي زماننا الشهادة الطبية بمزاولة المهنة الطبية من الجهات المعتبرة تعتبر دليلا على علمه، موجبة لسقوط الدعوى عليه أنه جاهل، بمعنى: لو جاء شخص وقال: هذا لا يعرف الطب.
    وعند الطبيب شهادة من جهة معترفة معتبرة، نقول: أبدا، قول المريض: إن الطبيب لا يحسن، ساقط؛ لأن أهل الخبرة شهدوا له أنه طبيب، وأذنوا له بمزاولته لمهنة الطب.
    وكما ذكره الإمام ابن قدامة وغيره من الأئمة كـ الماوردي والإمام النووي -رحمة الله على الجميع- كلهم قرروا أنه لابد من وجود معرفة وعلم، وفصل بعض العلماء وقال: بشهادة أهل الخبرة.
    والمصنف هنا -الإمام ابن قدامة رحمه الله- يقول: (إن عرف حذقهم) فيدل على أنه قد اختبر، ولذلك الجهات المتخصصة في الطب لا تعطي هذه الشهادة إلا بعد اختباره في العلم النظري والعلم التطبيقي، فنحن نعتبر هذه الشهادة موجبة لزوال التبعة والمسئولية في قوله: (من تطبب) .
    هذا إذا شهد له أهل الخبرة.
    في بعض الأحيان قد تثبت خبرة الإنسان وحذقه بالتجربة، وهذا أمر ذكره العلماء رحمهم الله في أحوال مستثناة، وهذا في القديم، ومثل ما يقع في الطب الذي يزاول.
    مثلا: رجل نشأ في بيت معروف بالطب، وأخذ عن والده هذا الطب، وعرفنا أنه في أغلب علاجه لأهل القرية وأهل المدينة أنه يصيب، وجاءت حالة معينة وأخطأ، فنقول: هذا رجل معروف بالحذق، فننزل المعروف عنه عرفا منزلة شهادة تزكي علمه، ما لم يكن هناك شيء معين يدل على أنه تعدى أو أنه تجاوز فهذا أمر آخر يستثنى، لكن نحن نقول: يحكم للطبيب بجواز أن يزاول ذلك العمل عند شهادة أهل الخبرة بثبوت كونه عالما بهذه المهنة الطبية.
    ثالثا: التطبيق: أن يكون قادرا على التطبيق، وقلنا: هذا يعرف بالتجربة، أن يطبق وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة، وهذا يحتاج إلى شهادة أهل الخبرة، وبناء على ذلك: تتفرع المسألة: أن كل دعوى ضد طبيب أنه أخطأ ينبغي الرجوع فيها إلى الأطباء المتخصصين في هذا المجال، فلو أنه عالج عينا أو أذنا أو قلبا وادعى المريض أنه أخطأ، وأنه تجاوز الأصول المتبعة عند أهل الخبرة، فنقول: يسأل أهل الخبرة بهذا المجال الذي هو فيه، فإن قال أطباء العين أو أطباء القلب أو أطباء النظر أنه أخطأ، أو أنه تجاوز الأصول المتبعة عند أهل المهنة ضمن، وإن قالوا: إنه عمل ما لزم، وأدى عمله وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة سقط عنه الضمان، وما نوجب الضمان عليه، فالطبيب إذا لابد من توفر هذه الشروط كلها فيه حتى يسقط عنه الضمان، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب ولم يعرف منه الطب ... ) فلما قال: (يعرف) دل على أن من عرف منه الطب بالتجربة وشهادة أهل الخبرة أنه لا يدخل في الصنف المذكور في الحديث؛ لأن الحديث فيه منطوق وفيه مفهوم، فمنطوقه: وجود الضمان على الطبيب الجاهل، ومفهومه: لا ضمان على الطبيب العالم الذي عرف منه إحسانه وإتقانه للطب.
    وقوله: [وبيطار] .
    وهو الذي يداوي ويعالج الحيوان.

    أمثلة في تعدي الطبيب أو تقصيره

    وقوله: [لم تجن أيديهم] .
    بمعنى: أنها لم تتعد، مثلا: في الجراحة لو كان يقطع عضوا تالفا من المفصل، فزاد عن المفصل، فحينئذ يضمن هذه الزيادة، ولو قال: قصدت أن أؤذيه.
    صارت جناية، وفيها القصاص إن أمكن القصاص، ولذلك فإن ضمان الطبيب إما أن يوجب القصاص إذا كانت متعمدا، كأن يسقيه دواء يعلم أنه يقتله واعترف أنه يريد قتله، فيجب عليه القصاص، وهذا بالإجماع؛ لأنه خرج عن كونه طبيبا إلى كونه قاتلا وقاصدا القتل.
    الأمر الثاني: في بعض الأحيان لو لم يقر، وجاءت الدلائل الواضحة، يقول -مثلا-: وضعت له جرعة في حدود سبعين غراما -مثلا-، والسبعون غراما عرف في علمه وطبه أنها قاتلة، وقيل له: وضعت له سبعين؟ قال: نعم.
    وتعلم أنها قاتلة؟ قال: نعم.
    نقول في هذه الحالة: كونك تعترف بالقتل أو لا تعترف لا يهمنا؛ لأنك تعلم أنه إذا سقي هذه الجرعة فسيموت، فإذا كانت الجرعة في الغالب تقتل، فعندها يصبح قاتلا متعمدا سواء أفضت إلى الموت أو لم تفض، هذا بالنسبة للضمان في الجناية (ما لم تجن أيديهم) ، فإذا جنت يده -يعني: قصد القتل- أوجب القصاص، الذي هو القود كما تكلمنا.
    ثانيا: قد يسقط عنه القصاص إذا لم يقصد قتله وتعاطى الطب عن جهل ولكن أخطأ، وحصل الضرر، نقول له: تضمن، ويكون الضمان، إذا أتلف يد المريض فيها نصف الدية، نقول له: تدفع نصف الدية.
    لكن لو أنه دفع نصف الدية هل ينتهي كل شيء؟ لا، الطبيب الجاهل لا يجوز تركه، بل يعاقب، ونص الأئمة والعلماء على أنه يجلد ويشهر به إذا كان التشهير يردع غيره؛ لأن هذا أمر يتعلق بأرواح الناس وأجسادهم، والأمر ليس بالسهل، فيجلد ويشهر به، ويعزر على قدر الجناية وعلى قدر العلم الذي ادعى معرفته.
    فادعاء معرفة العلوم الطبية التي تؤدي إلى الخطر، مثل العقاقير السامة، والعمليات الخطرة، ليس كادعاء العمليات البسيطة والعلاج بالأشياء البسيطة، كل شيء له تعزيره الذي يناسبه، وهذا يرجع إلى القاضي وسيأتينا في باب التعزير.
    فقوله: (لم تجن أيديهم) فتجني يده بالقص والعدوان -والعياذ بالله- وهذا يوجب القصاص، وتجني يده بالمجاوزة للحدود المعتبرة عند أهل الخبرة، فيأتي إلى شيء يجهله خارج عن تخصصه، فمثلا: لو أن طبيبا متخصص في الأذن جاء لعلاج عين فهذه جناية؛ لأن العين ليست من تخصصه، صحيح أن الأطباء يلمون بالمعلومات العامة في الطب، وكل طبيب لابد أن تكون عنده معلومات عامة ثم يتخصص، لكن نحن نتكلم إذا انتقل من العين إلى الأذن؛ لأن هذا فيه تخصص، فعلاج الأذن لا يمارسه إلا من تخصصه، لكن هناك عند الأطباء ضوابط معينة يحتكم إليها ويرجع إليها، وهي المواد والقوانين التي وضعت بالتجربة والاستقراء ووضعها أهل الخبرة والمعرفة، إذا خرج الطبيب عن تخصصه إلى تخصص ليس له، وتعاطى أو عمل أو زاول شيئا يجب عليه فيه الرجوع إلى المتخصص وإحالة المريض إليه يضمن.
    لكن هناك أحوال طارئة، وهناك أحوال مستثناة لها أحكامها وضوابطها المعروفة في عرف الطب يرجع إليها.
    الشاهد: أننا نضمن الطبيب إذا جنى بالجهل، وإذا تجاوز حدود معلوماته أو تكلف شيئا، أو فعل شيئا لا ينبغي فعله، أو قصر في حفظ صحة المريض فتلفت صحة المريض.
    مثلا: الآن عندنا أدوية معينة توضع بترتيب معين عند الأطباء، فعالج المريض وقصر في هذا الترتيب، أو لم يخبر المريض بطريقة استعمال الدواء، أو أعطاه الجرعات على مواعيد متباينة، كل هذا جناية، لكنها مبنية على التقصير وليست على التعدي والقصد.
    وقوله: [إن عرف حذقهم] .
    حذق الشيء إتقانه وكونه ماهرا فيه، وقال رحمه الله: (إن عرف حذقهم) ؛ لخطورة الأجساد والأرواح، فلا ينبغي لكل طبيب أن يتولى الطب، بل ينبغي أن يكون حاذقا، وهذه أمانة ومسئولية؛ ولذلك لا يجوز في المستشفيات الأهلية أو نحوها أن تضع طبيبا إلا إذا كان على درجة من الحذق، خاصة إذا كان يتعامل مع كثير من الناس، فينبغي على صاحب المستشفى أو نحوه أن ينصح لله ولعامة المسلمين، فلا يأتي بكل طبيب، والله سائله ومحاسبه إذا وقف بين يديه إن فرط في اختيار الأطباء لعلاج الناس؛ فلا يختار للناس إلا من يرضاه لنفسه ويأمنه على نفسه، فكما يأمنه على نفسه يأمنه على أنفس المسلمين وعلى أرواحهم، ولا يذهب ليأخذ طبيبا لا يعرف منه حذق، ويأتي ويضعه في موضع يعلم أن كثيرا من الناس سوف يراجعونه ويحتاجون إليه، فينبغي في هذه الحالة أن يعرف حذق الطبيب وإتقانه؛ نصيحة للأمة، ودفعا للضرر المترتب على غير الحاذق.

    مسألة في تعدي الراعي

    قال رحمه الله: [ولا راع لم يتعد] .
    الراعي الذي يرعى الغنم أو البهم له ضوابط: أولا: لا ينبغي أن يتعدى في رعايته للغنم، وهو يعتبر أجيرا خاصا لا يضمن إلا إذا فرط، والتفريط: أن يرعى الغنم في أرض مسفعة، فهذه الأرض المسفعة إذا أدخل الغنم فيها وهو يعلم أنها مسفعة ضمن، لكن لو أمره صاحب الغنم وقال له: ارعها هنا، وقم بالرعي في هذا الموضع.
    فإنه لا يضمن؛ لأن الضمان يسقط عن الراعي بالإذن.
    كذلك أيضا يتحمل الراعي الضمان إذا قصر، مثل: تقصير في سقي الغنم، وحفظ الأغنام المريضة، أو قصر في إرضاع صغير الغنم وصغير البهم، فكل ذلك يوجب الضمان، فيتقيد الراعي بالأصول المتبعة في إجارة الرعي، فإذا قصر في هذه الأصول وتساهل فيها حتى حصل الضرر ضمن، وإذا تجاوز الحدود التي حددت له وحصل الضرر ضمن، فهو إما أن يتعدى وإما أن يقصر؛ لأن أغلب مسائل الضمان تدور على هذين الأصلين: التعدي والتقصير، فقال رحمه الله: (ولا راع) أي: لا يضمن الراعي، ويقال: إن جماهير السلف والخلف قالوا بعدم تضمين الراعي، وقال الشافعي: لا أعرف أحدا ضمنه.
    يعني: لا يعرف أحدا ضمن الراعي، فالراعي أجير خاص؛ لأنك وكلته بالرعاية فيكون أجيرا خاصا، لا يعرف تضمينه، وعلى هذا فإن يده تعتبر يد أمانة ما لم تتعد أو تفرط كما قررناه فيمن قبله.

  5. #365
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب البيع)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (365)

    صـــــ(1) إلى صــ(16)


    شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [11]
    من مسائل الإجارة مسائل تتعلق بالأجير المشترك، كالغسال والخياط والنجار الذين يستأجرهم الناس في أعمالهم، وقد بين الفقهاء رحمهم الله تعالى أحكام الضمان المتعلقة بهم، وفرقوا بين ما يتلفه الأجير بيده وما يتلف عنده بغير عمله، وهذه المادة تشتمل على بيان ذلك.


    ضمان الأجير المشترك


    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
    أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ويضمن الأجير المشترك ما تلف بفعله] تقدم معنا أن من المسائل المتعلقة بالإجارة مسائل الضمان، ومسائل الضمان مما تعم بها البلوى لما يترتب عليها من الحقوق، سواء كانت حقوقا راجعة إلى المستأجر أم إلى الأجير، وبينا ما يتعلق بتضمين الأجير الخاص.
    وهناك نوع ثان من الضمان يتعلق بالأجير الذي يشترك فيه الناس، وهذا الأجير الذي يشترك فيه الناس تقوم إجارته على الأعمال.
    ولذلك يشترك فيه أكثر من شخص كما في الغسال، وكذلك الحداد والنجار، ونحوهم من أصحاب الحرف الذين يقومون بالأعمال للناس، فهم ليسوا أجراء لشخص معين كالأجير الخاص، فالخادم في المنزل والراعي وحارس المزرعة هذا أجير خاص، وقد بينا أحكامه وما يتعلق بتضمينه.
    لكن بالنسبة لمن يكون مشتركا بين الناس؛ فيضع الناس عنده ثيابهم من أجل أن يغسلها كالغسال، أو يضع الناس عنده أقمشتهم من أجل أن يخيطها كالخياط، فمثل هذا الأجير يضمن ما تلف عنده، فيضمن الأجير المشترك من حيث الأصل ما كان للناس، ولكن على تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله تعالى بين ما فيه تعد أو تفريط، وبين ما لا تفريط فيه ولا تعد.
    ضمان الأجير المشترك بتعديه مطلقا وبتقصيره
    هذا الأجير المشترك تارة يكون إتلافه مع حضور مستأجره وتارة يتلف الشيء مع غيبة مستأجره، فتختلف أحواله؛ ولذلك شرع المصنف -رحمه الله- في بيان مسائله فقال: [ويضمن المشترك ما تلف بفعله] .
    فخالف الأجير المشترك الذي اشترك فيه الناس الأجير الخاص في الضمان، فالأجير الخاص لا يضمن، والأجير المشترك يضمن، وبناء على ذلك لو أعطيت غسالا ثوبا، فلو أنه أراد أن يغسله فأتلفه أثناء الغسيل، أو أتلف جزءا منه، أو أعطيت خياطا قطعة من القماش على أن يخيطها لك ثوبا، فلم يحسن خياطتها، ولم يحسن ضبطها فإنه يضمن، ويلزمه رد مثل ذلك الشيء الذي أتلفه.
    ولو أعطيت الغسال ثوبا فغير لونه بالأصباغ، أو وضع عليه مواد أحرقته، أو أحرقت جزءا منه، أو بقيت فيه علامات هذه المواد، أو أراد أن يكويه فأحرقه فتلف الثوب لزمه أن يضمن مثل الثوب.
    وهكذا الخياط، لو أنك أمرته أن يخيط الثوب، ثم أثناء الخياطة أتلف الثوب، أو لم يحسن خياطته، أو خاطه على غير الوجه الذي أمرته به، فإنه يضمن.


    عدم ضمانه في غير التعدي أو التقصير


    قال: [ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله ولا أجرة له] : هناك فرق في ما تلف عند الأجير المشترك بين ما يقع بفعله وبين ما يقع بغير فعله.
    أما ما وقع بفعله فيضمنه، كما إذا وقع ذلك أثناء كي الثياب بأن أحرق الثوب، وأثناء خياطة الثياب بأن لم يحسن التفصيل.
    وهكذا إذا طلبت من حداد أو نجار أن يصنع لك بابا أو نافذة، ومن يهندس السيارات كما في زماننا، فهذه الورشات التي تتقبل من الناس عموما تأخذ حكم الأجير المشترك.
    وبناء على ذلك لو أعطيته السيارة ليعمل فيما يتعلق بالكهرباء، أو يتعلق بجرم السيارة، أو يتعلق بلون السيارة ليصبغها، أو يحسن سمكرتها، أو نحو ذلك، فأتلف شيئا أثناء قيامه بهذا العمل، فإنه ضامن ويلزمه الضمان.
    فما كان بفعله فإنه يضمن، كمن جاء يصبغها فأخطأ في اللون فإنه يضمن، ولو جاء يصلحها بسمكرة أو نحوها فأخطأ، أو جاء يصلح جهازها من كابح للسيارة أو نحو ذلك فأخطأ، فإنه يضمن جميع ما أتت عليه يده من الأخطاء، فيضمن ما جنت يده وما وقع بفعله وإن كان في الحقيقة يريد الإصلاح، إلا أنه حين أخطأ يتحمل المسئولية، ويتحمل ضمان ما أتلفت يداه.
    لكن لو أنك وضعت عنده السيارة، ثم سرقت السيارة وكان قد حافظ عليها محافظة تامة، فكسر قفله وأخرجت السيارة ثم سرقت، ففي هذه الحالة يكون قد وضع الشيء في حرزه وتعاطى أسباب الحفظ ولم يقصر، فإذا تعاطى أسباب الحفظ كان أمينا، والأمين لا يضمن.
    لكن إذا أتلف شيئا بفعله فإنه يتحمل مسئولية الإتلاف؛ لأنه من جناية يده، فهناك فرق بين هذه الحالة وبين أن تتلف السيارة، أو يتلف الثوب أو يتلف الحديد أو الخشب المأمور بصنعه بسبب غير جنايته أو تفريطه.
    فلو أنه سرق من محله وكان قد أقفله وأوثقه وأحسن حرزه وأتقن ذلك ولم يقصر في شيء من ذلك، فإنه لا يضمن؛ لأنه في هذه الحالة كالأمين؛ لأنك وضعت السيارة عنده وديعة والوديعة في حكم الأمانة كما سيأتي إن شاء الله.
    وإذا كان في حكم الأمين فإنه إذا لم يقصر في حفظ السيارة فسرقت فإنه لا يضمن، ولو أنه عمل في السيارة واشتغل فيها فأدى عمله ولكن جنت يده أثناء القيام بالإصلاح فإنه يضمن؛ لأنه من كسب يده ومن فعله، فإذا جاء يشتغل في السيارة أو في القماش أو في الحديد أو في الزجاج، ففي هذه الحالة يتحمل مسئولية عمله وما يترتب على عمله.
    وأما إذا كان التلف والضرر قد جاء بسبب سرقة، أو أخذ من السيارة فلم تسرق كلها وإنما سرق بعضها بعد تعاطي الأسباب نقول حينئذ: تنتقل المسألة إلى مسألة الوديعة؛ فالسيارة في داخل ورشته، والحديد في داخل ورشته، والخشب في داخل ورشته أمانة، فإذا جاء وقت العمل، فإنه يضمن ما أثر فيها بعمله.
    وأما إذا غاب عنها، فإنه إن قصر يضمن، وإن غاب ولم يقصر فأقفل بابه، وتعاطى جميع أسباب الحفظ فسرقت فلا شيء عليه؛ لأنه أمين وقد تعاطى أسباب الحفظ، فوضع السيارة في حرز مثلها، وأغلق عليها الباب، وتعاطى جميع أسباب الحفظ المهيئة عرفا لحفظ مثل هذه السيارة، فلا يضمن.
    لكن لو أنه قصر؛ مثل أن يترك أبواب محله مفتوحة، فسرق من السيارة شيء أثناء عمله، سواء أكان موجودا أم غير موجود فإنه يضمن؛ لأنه فرط في الحفظ، والأمين إذا فرط في حفظ أمانته يضمن.
    وبناء على ذلك نقول: يأتي الضمان من جهة الإخلال أو يأتي الضمان من جهة التعدي المقصود أو غير المقصود.
    وعلى هذا فإنه يقال: في الأجير المشترك التفصيل، فما كان من الضرر مترتبا على فعله ضمن، وهذا مأثور عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وشريح القاضي، وهو من أئمة التابعين، وكان قاضيا لأربعة من الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، كلهم ولي لهم القضاء رحمه الله برحمته الواسعة.
    فكان يضمن الأجراء المشتركين، وكان علي رضي الله عنه يقول: لا يصلح للناس إلا هذا، يعني أن يحفظوا أموال الناس ويقوموا عليها، وهذا الأثر تقدم الكلام على سنده، لكن على القول باعتباره والعمل به، فإنه محمول على الأجير المشترك لا على الأجير الخاص.
    ففي هذه الحالة رتبنا المسألة فقلنا: كل أجير مشترك يكون مسئولا من حيث الأصل عن ودائع الناس، ويترتب على هذا أننا نضمنه فيكون مسئولا عن أموال الناس التي عنده، فنضمنه إذا كان الضرر بفعل يده، قصد أو لم يقصد، ولا نضمنه إذا حفظ الشيء في مكانه ثم سرق أو أخذ كله أو بعضه، ونضمنه في مسألة الحفظ إذا قصر في الحفظ.
    فإذا: عندنا تضمينه في حالة تعديه قاصدا، وفي حالة تعديه مخطئا، وفي حالة التساهل في حفظ أمتعة الناس وحقوقهم.


    تحديد موعد للتسليم هل يرفع المسئولية عن الأجير بعد المدة


    ومما يتفرع عن هذا المسألة الموجودة الآن أن بعض الغسالين يقول لك: هذا الثوب أغسله لك وأنا مسئول عنه في حدود أسبوع، فإذا لم تأت بعد أسبوع فلست بمسئول عنه، فشرطه هذا شرط باطل ولا عبرة به، ولو حضرت بعد عشر سنوات فثوبك أمانة عنده شاء أم أبى؛ لأن قوله: لست مسئولا عنه بعد أسبوع معناه أنه قد أخلى يده كلية عن الثوب، والثوب أمانة عنده، لا تزول يده عن الأمانة إلا بالتسليم.
    ولو قال قائل: إنه قد اشترط والمسلمون على شروطهم! قلنا له: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط؛ لأن الذي في كتاب الله أن أخاك المسلم قد استودعك هذا، فهب أنه جاءه ظرف فعطله عن أن يأتيك خلال أسبوع، أفتسقط حقوق الناس وتضيع أموالهم بمثل هذه الشروط؟ فإذا وجود الشرط وعدمه على حد سواء؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله، فالعبرة بالشروط إذا كانت موافقة للشرع لا مضادة له موجبة لضياع أموال الناس، وقد حرم الله عز وجل إضاعة المال.
    ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) وهذا من إضاعة أموال الناس، ولذلك لا يعتبر هذا الشرط ملزما ولا يترتب عليه تبعية، فنحن نقول: إن الغسال من حيث الأصل مطالب بأن يبذل ما في وسعه لغسل الثوب، والخياط مطالب بأن يبذل ما في وسعه لخياطة الثوب؛ فإن أردت أن تضمنه ضمنته من وجوه: الوجه الأول: أن يأتي بضرر ناشئ عن فعله، كأن تعطيه زجاجا من أجل أن يقصه، أو يصنعه على شكل معين، أو يضعه في نافذة فلما جاء يحمل الزجاج سقط من يده وانكسر، أو انكسر أثناء عمله، أو أثناء قصه، فإنه يضمن مثل هذا الزجاج؛ لأنه تلف بفعله.
    وهذا لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديه، فيلزمه أن يضمن مثله، فإذا لم يوجد مثل ذلك الزجاج؛ فإنه يضمن قيمته، وقد بينا هذا في مسائل الضمان بالمثل، والضمان بالقيمة، على التفصيل الذي تقدمت الإشارة إليه.


    حكم الأجرة مع التلف بعد لزوم المثل أو القيمة


    قال: [ولا أجرة له] : قد عرفنا متى يضمن الأجير المشترك ومتى لا يضمن، وهنا يقال: لو أن غسالا غسل ثوبا، ثم بعد أن قام بمهمة الغسيل نشره في مكان، ثم جاءت الريح وأخذته دون أن يشبكه ويتعاطى أسباب الحفظ، فضاع الثوب، ففي هذه الحالة يضمن؛ لأن المفروض عند هبوب الريح أن تحتاط لثياب الناس.
    أو وضعه في مكان النشاف الموجود في الآلات، فلو أنه زاد النشاف فأحرق الثوب أو أفسده، أو جاء يكوي فزاد عيار الكهرباء فأحرق الثوب، ففي هذه الحالة يضمن، فإن قال: أنا أضمن الثوب وقد غسلته وكويته، فيعطيني أجرة الغسيل والكي، وأعطيه قيمة الثوب أو مثل الثوب! قلنا: لا أجرة لك؛ لأن العمل إنما تستحق عليه الأجرة إذا سلمته، صحيح أنك قمت بالعمل، لكنك لم تسلمه، فقيامك بالعمل لا يعتبر موجبا لاستحقاقك الأجرة إلا إذا سلمته.
    فهنا لابد من الانتباه لهذا الأمر، فلا يستحق الأجرة إلا إذا سلم العمل؛ فالعمل الذي قام به لم يستلمه المستأجر حتى نقول: إنه يلزمه دفع الأجرة.
    وعلى هذا قال رحمه الله: [ولا أجرة له] : أي لا يستحق الأجرة، فلو دفع المستأجر الأجرة مقدمة فإننا نقول للأجير: رد لصاحب الثوب الأجرة، وليس من حقك أخذ هذه الأجرة؛ لأنك لا تستحقها إلا بتسليم العمل، وقد قمت بالعمل ولم تسلمه، فلا حق لك في هذه الأجرة.


    متى تلزم الأجرة للأجير


    قال رحمه الله: [وتجب الأجرة بالعقد إن لم تؤجل] : الإجارة عقد، وقلنا: إن العقد كلمة (أجرتك) و (قبلت) .
    أعني: الإيجاب والقبول.
    وبناء على ذلك فكل إيجاب وقبول بشيء هو عقده، فلما قال له: أجرتك داري لسنة بعشرة آلاف، وقال: قبلت.
    لزمه أن يدفع العشرة آلاف، فهذا لازم بأصل العقد، وأما متى تستحق؟ ومتى يجب دفعها؟ فهذا فيه تفصيل.


    لزوم الأجرة بمجرد العقد في إجارة المنافع


    فالعقود محترمة، والشريعة تحترم اللفظ الذي بين المتعاقدين لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] .
    فالمؤجر والمستأجر بينهما إيجاب وقبول، فإذا صدر هذا الإيجاب والقبول فقد ثبت في ذمة المستأجر التزامه بدفع عشرة آلاف أجرة لهذه الدار سنة كاملة، إذا تجب الأجرة بمجرد العقد؛ فالاتفاق والعقد بين الطرفين يوجب ثبوت الأجرة، سواء أكان هذا في إجارة الدور أم الأرضين أم السيارات أم غيرها.
    وقوله: [إن لم تؤجل] : فلو قال له مثلا: بعد سنة، أو بعد شهر، أو في منتصف المدة، أو بعد مدة طالت أو قصرت على حسب الاتفاق بينهما، فإذا اتفقا على التأجيل تأجلت.
    وأما الأصل فإنها لازمة بالعقد، ولذلك قالوا: تجب الأجرة بالعقد حتى تخرج من بيع الدين بالدين؛ لأنها لو لم تجب بالعقد لصار الثمن مؤجلا، والمنافع مؤجلة، فتصير من بيع الكالئ بالكالئ، وقد قدمنا هذه المسألة وبينا أن أصول الشريعة لا تصحح بيع الكالئ بالكالئ، والنهي عنه في حديث ضعيف أخرجه أبو داود في سننه، وقال الإمام أحمد: أجمع المسلمون على العمل بمتنه.
    فهو ضعيف السند لكنه صحيح المتن، وقد يكون الحديث ضعيف السند صحيح المتن، فلو جاءنا حديث يأمر بالصلاة وهو ضعيف السند نقول: هذا ضعيف السند لكنه صحيح المتن، فليس ضعف سنده يوجب رد العمل به.
    فمعنى صحيح المتن: أن العمل بمتنه لا نعتقد أنه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هناك أصول وأدلة تغني عنه وتشهد بصحته، فتشهد تلك الأصول لا بهذا الحديث.
    إذا تجب الأجرة بالعقد، قال بعض العلماء: الأجرة في المنافع تثبت شيئا فشيئا، وبناء على ذلك لو استأجر دارا يوما فإن الإجارة تثبت ساعة فساعة على أجزاء المنافع، فكل ساعة سكنها كان مقابلها جزءا من الأجرة العامة المتفق عليها، فلو أنك اتفقت معه على مائة وعشرين ريالا على أن تسكن اثنتي عشرة ساعة، فكل ساعة تمضي يكون لها عشرة ريالات، فهو يستحق كل عشرة مقابل كل ساعة تمضي من ذلك اليوم والنهار (هذا في إجارة المنافع) .
    إجارة الذمة تستحق أجرتها بتسليم العمل


    قال: [وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة] : هذا بالنسبة لإجارة الذمة فإنها تستحق فيها الأجرة بتسيلم العمل مثلما ذكرنا، ففي حال اتفاقك مع شخص على أن يبني لك عمارة، أو على أن يصلح لك سيارة، أو على أن يصلح لك جهازا كثلاجة أو غسالة، فلا يستحق أجرة ذلك إلا بعد أن ينهي الإصلاح الذي طلبته فيما فسد، أو يبني العمارة، أو غير ذلك مما اتفق عليه.
    فإذا أتم العمل وسلمك ما عمله ثبت الاستحقاق، أما قبل أن يسلمك كما ذكرنا في مسألة التضمين فإنه إذا لم يسلم فإنه لا يجب عليك دفع الأجرة له -كما ذكرنا في مسألة التضمين- لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) .
    فقوله: (قبل أن يجف عرقه) يدل على أنه في إجارة المنافع لا تلزم الأجرة إلا عند انتهاء الأعمال؛ لأنه قبل أن يجف عرقه معناه أنه عمل فسال عرقه من شدة الإعياء والتعب، فيعطى قبل أن يجف عرقه، فيعني أنه انتهى من كل شيء، فتعطيه حقه، بعد أن سلمك حقك كاملا.


    الإجارة الفاسدة والأجرة اللازمة فيها


    قال رحمه الله: [ومن تسلم عينا بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل] : كل الذي تقدم معنا كان في الإجارات الصحيحة، وقد بينا المسائل المترتبة على القعد الصحيح، لكن يرد
    السؤال لو أن اثنين اتفقا على إجارة فاسدة، مثل أن يتفقا على إجارة دار مجهولة بثمن مجهول، أو على أن يتفقا بعد العقد على الثمن، ففي هذه الحالة العين المؤجرة هي الدار مجهولة.
    وقد قدمنا أنه يشترط في صحة الإجارة العلم بالدار المؤجرة، فلو أنهما اتفقا على دار مجهولة ثم جاء وسكن الدار، أو مضت مدة الاتفاق ولم يسكنها وقد مكنه المؤجر من سكنها، نقول: يلزم المستأجر أن يدفع أجرة المثل.
    لأنه إذا سكنها وأخذ منافعها، استحقت الأجرة من جهة المنافع، وهذا قد تقدم معنا في مسائل البيوع حينما ذكرنا مسائل العيوب، وقلنا في هذه الحالة: حينما يؤجره داره وتكون الإجارة فاسدة، ثم يتفق الطرفان على أنها لشهر أو لسنة، وتمضي السنة أو يمضي الشهر، ثم يتبين فسادها بعد انتهاء العقد، نقول: إن هذه المنافع قد حبست لمصلحة المستأجر.
    وتعطيل المنافع يوجب ضمانها، وقد رضي بذلك، فهو وإن لم يصح عقد الإجارة إلا أن التزامه بضمانه ورضاه بذلك وتحمله لمسئولية استهلاك هذه المنافع على حسابه، سواء تحقق ذلك بالفعل أم لم يتحقق، يلزمه ضمانها من جهة الضمان لا من جهة الإجارة، فإذا ضمن فإنه يضمن بأجرة المثل.
    فلو كانت تستحق بالأجرة للزمته الأجرة المتفق عليها بين الطرفين، لكن الواقع أن الإجارة فاسدة، فحينئذ يضمن أجرة المثل.
    فهناك فرق بين الأمرين، إذ لو كانت الإجارة صحيحة لألزمناه بدفع الأجرة المتفق عليها بينهما، لكن لما كانت الإجارة فاسدة ألزمناه بدفع أجرة المثل.
    فنقول: هذه الدار التي مضت عليها سنة بهذا العقد الفاسد كم أجرتها في السوق؟ فيقال: هذه الدار مثلها يؤجر في السوق بعشرين ألفا لسنة، فنقول: يلزمك دفع عشرين ألفا من باب ضمان الحقوق كما ذكرنا.


    الأسئلة





    حكم توقيف العامل عند عدم الإعجاب بعمله


    السؤال إذا اتفقت مع عامل على أن يعمل عندي شهرا بمبلغ من المال، وبعد مضي أيام من عمله لم يعجبني عمله وأوقفته، فهل أعطيه أجرة الأيام التي عملها، أم أجرة الشهر كاملا.
    الجواب إن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] فبينك وبين أخيك المسلم عقد إجارة شهر كامل، فلابد من إتمام هذا العقد إلا إذا وجد العذر الشرعي.
    وأما قولك: لم يعجبني عمله، هذا القول فيه تفصيل: إن كان مرادك أنه لم يقم بالعمل على الوجه المعتبر وأنه يقصر ويضيع ويفرط، فمن حقك أن توقفه وتقول له: إما أن تؤدي العمل تاما بدون تفريط، وإما أن ألغي الإجارة فيما بقي من الشهر.
    ومن حقك أيضا أن تقدر أجرة مثله فيما مضى، فلا يأخذ الأجرة كاملة.
    مثال: لو أنك استأجرت شخصا لأجل القيام بمصلحة النجارة أو الحدادة، فجاء نجار على أنه نجار، وعمل نصف ما ينبغي أن يعمل مثله، كأن يكون بطيء العمل، ثقيل اليد، لا يحسن الإدارة للعمل، حتى أصبح نصف العمل قد سقط، فمثله يستحق أجرة خمسين وأنت أعطيته مائة، فمن حقك أن تعطيه على الأعمال الماضية أجرة خمسين، وتقول له: إما أن تلتزم بأداء العمل بما يستحق مثلك ممن يأخذ مائة، وإما أن تفسخ العقد، وتعطيه مهلة يوم أو يومين حتى يستقيم وتنظر، إن أتم العمل فبها ونعمت.
    والسبب في هذا التفصيل: أن العقود والاتفاقات محتكم إليها؛ لأن الله أوجب علينا أن نفي بهذا المتفق عليه، فأنت اتفقت معه على أن يقوم بعمل يستحق المائة، لكن العمل الذي قام به يستحق الخمسين، فيصبح أخذه للخمسين الزائدة من أكل المال بالباطل، سواء كان في مزرعة أو ورشة أو شركة، أو في أي مجال، فإذا لم يؤد العمل الذي يستحق بمثله الأجرة التي خصصتها له، كان من حقك أن ترده إلى أجرة مثله، وأن تخيره فيما بقي من الشهر؛ إما أن يتم العمل الذي يستحق به المائة وإما أن يفسخ العقد، هذا من حقك، وما ظلمته، لأننا لو جئنا نفتح هذا للناس فإننا قد حدنا وصار من الجور، وأصبحنا مع العامل ضد صاحب الحق، ولا يجوز أن يكون حكم الشرع مائلا إلى أحدهما، بل لابد من العدل، فما دام اتفق معه على أن يقوم بالعمل الذي يستحق به مائة فينبغي أن يؤدي عمله الذي يستحق به المائة.
    لكن لو أن هذا العامل أدى الطاقة التي يستحق بها المائة، لكن الطاقة التي يستحق بها المائة فيها مرتبة كمال ومرتبة وسط ومرتبة دنيا، فمثلا: إذا جئت به في ورشة فإن طاقته الإنتاجية التي يستحق بها المائة ريال أن ينتج ثلاثة أشياء من العمل الذي طلبته، هذه الثلاثة الأشياء إذا أنتج الثالث منها ينتجه بصفة كاملة إذا كان على الأكمل، الطاقة الوسطى -التي هي دون الكمال- ينتج من الثالث ثلاثة أرباع، الطاقة الدنيا أن ينتج من الثالث نصفه، فأنت أعطيته مائة على أساس الطاقة الإنتاجية من حيث الأصل المعتبر أنها اثنين ونصف، أي: هي مرتبة الإجزاء، فكون الأكمل يأتي بثلاث وهو عجز عن الثلاث فهذا لا يوجب إسقاط العقد، فقولك: لا يعجبني.
    قد يراد به الكمال، وإذا أردت به الكمال فليس من حقك أن تنقص أجرته ولا أن تلغي العقد فيما بقي من الشهر إلا برضاه؛ لأن الأصل الذي اتفق عليه يستحق به المائة، وهو الاثنين والنصف، والأكمل ليس مطالبا به، مثل المزارع يقوم في المزرعة بسقي الماء والقيام على البهائم الموجودة في المزرعة، فالأكمل في مثل هذا الشهر أن يقوم بهذا العمل أولا -الذي هو إدارة الماء- والقيام على البهائم وتقليم الشجر، فلم يعجبك؛ لأنه أدى الاثنين ولم يؤد الثالث، فلم يأت في مرتبة الإعجاب وفي مرتبة الكمال.
    فقول: لم يعجبني.
    فيه تفصيل، والعجب عند الناس مراتب، لكن نحن نقول: الحق أن تحتكم أنت والعامل إلى الحق، فالعجب واستعجاب الشيء ومحبته تختلف موازينها وتختلف ضوابطها، ولا ينبغي لك أن تلغي هذا العقد إذا كان قد أتى بما يجزيه وما يستحق عليه الأجرة المتفق عليها، ويجب عليك إتمام ما بقي من الشهر، إلا إذا اتفقتما برضا منكما على فسخ العقد، والله تعالى أعلم.


    الشبه بين تصرف الأجير بغير إذن وبين تصرف الفضولي


    السؤال ذكرنا أن الأجير الخاص لو قام بعمل دون إذن صاحبه فإنه يضمن، فهل هذه المسألة تشبه مسألة تصرف الفضولي؟
    الجواب تشبه مسألة تصرف الفضولي إذا كان الفضولي عنده إذن أصل، وأما إذا لم يكن عنده إذن في الأصل فإنها لا تشبهها؛ لأن الأجير عنده إذن من حيث الأصل، وأما بالنسبة للفضولي فليس عنده إذن في بعض الصور وعنده إذن في بعض الصور.
    مثاله في الفضولي: إذا قلت له: اشتر لي سيارة واحدة.
    فاشترى سيارتين، فقولك: اشتر.
    أصل، وهو التوكيل بالشراء، لكن خرج إلى كونه فضوليا في السيارة الثانية، والأجير أجير، لكنه إذا زاد عن الحد المعتبر يصبح في هذه الحالة لم تأذن له بشيء زائد، يصبح عنده أصل عام وزيادة، والفضولي يشاركه إذا وجد أصل عام؛ لأن الفضولي في بعض الأحيان لا يكون عنده أصل عام، مثل شخص أخذ منك سيارة على أن يذهب بها إلى الجامعة ويذهب بها إلى المسجد، ثم وجد رجلا يقول له: بع هذه السيارة بعشرة آلاف، ورأى من المصلحة أن يبيعها لك بعشرة آلاف فباعها، أنت ما قلت له: بعها، وليس عنده أصل عام، فقد يتصرف الفضولي وليس عنده أصل عام، وقد يتصرف وعنده أصل عام، وهناك فرق بين المسألتين.
    فشبه مسألة إجارة الفضولي عند وجود أصل عام يمكن أن يستند إليه، وهو عام من حيث الشكل -يعني: الأصل- لكنه خاص أريد به الخصوص الذي هو الشراء في الحدود المعينة، وعلى هذا يكون تصرف الفضولي مشابها لهذه المسألة في القيد الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.


    حكم الدعاء عند الطواف والسعي بغير العربية


    السؤال هل يصح الدعاء عند الطواف والسعي بلغة أخرى غير اللغة العربية؟
    الجواب لا بأس بالدعاء عند الطواف بالبيت بغير اللغة العربية إذا كان لا يحسن اللغة العربية، وإذا دعا بلغته فإنه يجزيه، ولا يشترط أن يدعو باللغة العربية؛ لأنه مكان ذكر وثناء على الله عز وجل، وسؤال له من فضله، وهذا يشمل الدعاء بغير العربية كالدعاء بالعربية، إلا أن الدعاء باللفظ العربي تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع إذا كان يتقنها هو الأصل، فلما تعذر في مثله لعدم إمكانه أو عدم معرفته بالأدعية المأثورة فلا بأس أن يدعو بلسانه، والله تعالى أعلم.


    حكم عدم الوقوف عند المشعر الحرام


    السؤال صليت الفجر في مزدلفة، ثم اطرحت ولم أقف عند المشعر الحرام، فماذا علي؟
    الجواب مزدلفة كلها مشعر حرام، فما دام أنك وقفت في أي موقف من مزدلفة فأنت في المشعر الحرام، والمشعر كل شيء أشعر الله بتعظيمه، وقيل له: (المشعر الحرام) لأنه قبل عرفات، فعرفات بعده خارجة عن حدود الحرم، فمزدلفة يأتي بعدها حدود الحرم، ثم تأتي نمرة، ثم يأتي وادي عرنة، ثم عرفات، فالمشعر الحرام داخل الحرم، وقيل له (مشعر) من المشعر، و (المشعر الحرام) لأنه داخل حدود الحرم، لكنها اشتهرت باسم (منى) ، وقيل لها (المشعر الحرام) لأنها وسط بين ما في الحرم وبين ما هو خارج عن الحرم، ولكنها من الحرم؛ لأن مزدلفة بين عرفات وبين منى، ولذلك هي كلها مشعر حرام {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة:198] أي: مزدلفة كلها كما جاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام بلفظ: (مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر) وأما اللفظ الآخر: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة) أما بالنسبة لمزدلفة فقال: (مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر) فاستثنى وادي محسر، وهو الوادي الذي حسر الله فيه الفيل، وقيل: من الحسر، بمعنى: الكلال، يقال: كل إذا أعيا؛ لأنهم كانوا يدفعونه إلى الحرم فيمتنع حتى أرسل الله عز وجل عليهم العذاب في ذلك الموضع.
    فالمقصود: أن وادي محسر ليس من منى ولا من مزدلفة، وهو فاصل بين منى ومزدلفة، والمشعر من فج المأزمين إلى وادي المحسر كله مشعر، وفج المأزمين عند الإفاضة في جهة المسجد والجبلان الصغيران اللذان بحذاء المشعر، الجبل الصغير الذي هو جبل قزح بحذائه فج المأزم، هذا هو المدخل الذي يؤتى من طريق المأزمين؛ لأن طريق المأزمين بين جبلين غربي القناة المعروفة في حضن الجبل، هذا الطريق -الذي هو طريق المأزمين- في نهايته وفي رأسه عند مشعر المزدلفة هو بداية مزدلفة، ثم تنتهي مزدلفة من جهة منى عند وادي المحسر، فمن وقف عند هذه الحدود فقد وقف في مزدلفة، ومن بات فيها للحج فقد بات في مزدلفة.
    وأما من دخل إلى حدود وادي المحسر فإنه ليس من مزدلفة، مضطرا أو مختارا، ولذلك لا تسري عليه الأحكام الشرعية؛ لأنه مأمور بالتحري والاحتياط، ومأمور بالسؤال، والأعلام موجودة، وكل شيء معروف، وليس له من عذر أن يقول: أنا أجهل.
    فهذا كله تلاعب وتساهل، فشخص يأتي ويقول: لا أعرف حدود عرفة ولا أعرف حدود مزدلفة ولا أعرف حدود منى، وهي واضحة، ويمكنه السؤال، والمعالم واضحة، والناس متواجدون ومتكاثرون، ومع هذا يقول: أنا جاهل.
    ويقال: هذا جاهل ليس عليه شيء.
    فنقول: هذا ليس بجهل، هذا تقصير وتلاعب وتساهل، فالشخص الذي يتلاعب ويتساهل ويقصر يضمن الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (فدين الله أحق أن يقضى) فإذا كنا في حقوق الآدميين نقول له: يضمن إذا قصر.
    فما بالك بحق الله عز وجل الذي هو أجل وأعظم؟! فينبغي أن يراعى: أن من وقف في هذا المكان الخارج عن حدود مزدلفة فليس بمزدلفة، أما لو أنك صليت الفجر ووقفت في أي موضع من مزدلفة، فقد وقفت في المشعر الحرام وذكرت الله فيه، أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم ومن جميع المسلمين والله تعالى أعلم.


    حجية الإجماع


    السؤال معلوم أن الإجماع أحد أدلة الشرع، ولكن -كما تعلمون- أن انعقاد الإجماع المنضبط لا يكاد يقع بعد عهد الصحابة، ولا يخفاكم قول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب.
    وقول العلماء: إن في حكاية ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما الإجماع فيه نظر.
    وبناء على ذلك: هل الإجماع الذي يحكى في كتب العلماء لا يعتبر باعتباره إجماعا غير منضبط؟ وهل يرى فضيلتكم أن اتفاق العلماء في المجمع الفقهي في العصر الحاضر يعتبر إجماعا وحجة؟

    الجواب الإجماع حجة، قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء:115] فتوعد الله من ترك سبيل المؤمنين، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحتجون بإجماع من قبلهم، فيحتجون بما كان على عهد أبي بكر وعهد عمر فيقولون: فعله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أبو بكر والصحابة معه.
    فيحتجون بذلك.
    أما مسألة من ادعى الإجماع: أولا: الإجماع: اتفاق جميع مجتهدي الأمة في عصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على أي حكم شرعي.
    فهو من حيث الأصل اتفاق جميع المجتهدين، إلا أنه قد يتعذر ضبط الجميع، وإنما المراد اشتهار المسألة ونص العلماء عليها في كتبهم وتناقلهم، وهذه الكتب مشهورة معروفة ولا يعرف من أنكرها أو خالفها؛ لأنه لو وجدت دواع للنقل والبواعث على النقل موجودة ولم يوجد من ينقل عنه المخالفة دل ذلك على عدم الوجود غالبا؛ لأن غالب الظن يحتكم إليه.
    فنحن نقول: اعلم رحمك الله أن الإجماع حجة، وقول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب.
    على حالتين: إما أن يكون مراده رحمه الله شيئا خاصا، بمعنى أن قوله: من ادعى الإجماع.
    يعني به الإجماع بكل شخص من الأمة بغض النظر عن كونه مجتهدا أو غير مجتهد، فهذا صحيح؛ لأنه لا يمكن اتفاق كل الأمة وإجماع كل الأمة، وهذه عبارات تأتي عن بعض الأئمة يقصد منها المصطلحات الخاصة، يعني: من ادعى الإجماع بغير المصطلح الخاص -وهو اتفاق العلماء- فقد كذب؛ لأنه لا يستطيع إثبات أن كل الأمة أجمعوا على ذلك، وقد كان الإمام أحمد رحمة الله عليه كإخوانه من الأئمة، لكن له مواقف عجيبة بديعة في الورع، فكأنه يقول: يا من تحكي الإجماع! ينبغي أن يكون عندك ورع، أي: لا تعتقد أن الأمة كلها أجمعت.
    وليس المراد أن الإجماع ليس بموجود؛ لأنه هو نفسه احتج بالإجماع، ولا يختلف اثنان أن مذهب الإمام أحمد على أن الإجماع حجة، ونص الكتاب والسنة لم يخالفه رحمة الله عليه، بل إنه لما ذكر المساقاة والمزارعة حكى فيها إجماع الصحابة ومن قبلهم.
    بل الإمام أحمد بن حنبل نفسه رحمة الله عليه يحكي الإجماع ويحتج بالإجماع، فمن يعرف فقه الإمام أحمد ويعرف تماما الإمام أحمد يعرفه بالورع رحمه الله برحمته، فكأنه ينبه كل من يحكي الإجماع ألا يعتقد أنه إجماع لكل الأمة بمعناه الحقيقي، فمن ادعى الإجماع بمعناه الحقيقي لا معناه الاصطلاحي فقد كذب، ليصبح من يدعي الإجماع ويقول الإجماع من الفقهاء عنده ورع وعنده تحفظ، وهذا هو العلم: أن العلماء يضعون أشياء اصطلاحية وأشياء أصلية مبنية على اللفظ؛ لأن الإنسان مؤاخذ بلفظه، والإمام أحمد كان يتورع حتى في اللفظ، حتى الحرام يقول: أكرهه.
    وكان ينفض يديه، وكان يتغير وجهه؛ أن يقول: هذا حرام.
    رحمته الله برحمته الواسعة، وجزاه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، فكان على ورع عظيم رحمه الله.
    الشيء الثاني: نحن عندنا النصوص واضحة في أن الإجماع حجة، وأما مسألة أن بعض العلماء يتسامح في نقل الإجماع، فاعلم رحمك الله أن الإمام ابن عبد البر حينما ينقل الإجماع ليس من باب التساهل ولا من باب التلاعب، وينبغي لك أن تنتبه لكلمات العلماء وحذر الشيوخ من الإجماع عن ابن عبد البر بالسماع ليس المراد به أن الحافظ الإمام الحجة ابن عبد البر كان متساهلا، كلا والله، وليس من أهل التساهل، بل هو القدم الراسخة في العلم، فهو الثبت الحجة رحمه الله برحمته الواسعة، ولكن كان له عذره؛ لأنه كان بالأندلس، ويحكي الإجماع على قدر علمه، فيخفى عليه خلاف أهل المشرق، وكان أهل المغرب يخفى عليهم خلاف أهل المشرق.
    وإما إجماع النووي فإياك إياك! فإن الإمام النووي إمام فقيه وحجة، وله باعه العظيم في حكاية الإجماع ومعرفة خلاف العلماء، ولكن من الذي يفهم كلام النووي؟! الإمام النووي يقول: واختلف أصحابنا.
    ويكثر من حكاية أقوال أصحابه في خضم المسائل الخلافية، فيقول: واختلفوا هل يجوز أو لا يجوز على وجهين وعلى قولين، والأظهر والصحيح والأصح.
    ثم يقول: وكل هذا إذا لم يقصر، فإن قصر فبالإجماع لا يجوز.
    يعني: إجماع مذهبنا وإجماع أصحاب القولين، أي: ليس فيه قولان ولا وجهان أي: في مذهبه.
    فيأتي من لا يحسن النظر ويقول: الإمام النووي حكى الإجماع في هذه المسألة، وقد أخطأ، وقد خالف المالكية وخالف الحنابلة.
    وهو لا يريد الإجماع خارج المذهب، وهذه أوهام يقع فيها من لا يحسن تتبع كلام العلماء.
    أما الإجماع فإنه حجة، ولا شك أنه يحتاج إلى نوع من التحري والضبط، ولا شك أن نقل العلماء المعروفين وتواتر النقل عنهم بأن هناك إجماعا يوجب للمسلم أن يعمل بمثل هذا الإجماع.
    وأقل ما يقال، وهو ختام ما نقوله: هب أنه ليس بإجماع، فإن أقل ما يقال فيه: إنه السواد الأعظم.
    فإذا جاءك مثل الإمام النووي أو الإمام ابن قدامة رحمة الله عليهما ممن اشتغل بالخلاف واكتحلت عيناه بالسهر وهو يقلب في دوواين العلم، ووجد أن كل دواوين العلم تحكي ذلك، ولم يجد مخالفة، فماذا تقول؟ وأنت لو ذهبت إلى عالمين جليلين فاضلين وسألتهما، وكل منهما قال لك: لا يجوز، مثل أن نسأل مشايخنا نسأل الله أن يحفظهم وأن يجري أعمارهم بعفو وعافية ويجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، لو ذهبت إلى عضوين من أعضاء هيئة كبار العلماء وسألتهما، وقالا: لا يجوز.
    فعند ذلك تحدث في نفسك طمأنينة ورضا، فما بالك بأئمة العلم ودواوين السلف الذين كانوا آية من آيات الله عز وجل في العلم والعمل، إذا كان سوادهم الأعظم على هذا القول، هل ترضى نفسك أن تشذ عنهم وتخالفهم؟؟ فإياك إياك! إذا حكي الإجماع من العلماء الجهابذة الأثبات، فإنك تأمن بهذا وترتاح نفسك وتطمئن، وتتبع سبيل أمثال هؤلاء العلماء كما قال الإمام مالك؛ فحق على كل طالب علم أن تكون فيه سكينة ووقار، واتباع لآثار من مضى قبله.
    والنقطة الأخيرة: مجمع الفقه مجمع له مكانته، وإذا اتفق العلماء في مجمع الفقه فليس بإجماع، لكنه له منزلته والفتوى منه لها منزلتها، وبالمناسبة: فإن مجمع الفقه وهيئة كبار العلماء بالتتبع والمعرفة أنهم لا يبحثون مسألة ولا يفتون في مسألة ولا يسقط قرار إلا بعد تعب شديد في تحري المسائل وتتبعها، وسؤال أهل الخبرة، وأقول: إياكم أن تظنوا أن هذه الفتاوى التي تصدر من هيئات كبار العلماء والمجامع الفقهية أنها سهلة، أحيانا بعض المسائل تدرس إلى ما يقرب من عشرة أشهر، وقد تطول إلى اثني عشر شهرا، وترجع وتؤخر لاستكمال النظر فيها، رزق الله هذه البلاد علماء عرفوا بالصلاح والخير، ووضع الله لهم القبول ووضع الله لهم الثقة بين الناس، فنسأل الله العظيم أن يوفقهم وأن يسددهم، وأن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
    وهذه ذمة على كل مسلم: أن يدعو لهم؛ لأن هؤلاء هم الذين يحملون الخير لهذه الأمة، ويحفظون ثغورا عظيمة، فيكثر من الدعاء لهم، ويحسن الظن بهم، ويوثق في أقوالهم.
    ونسأل الله العظيم أن يرزقنا حبهم، وأن يجمعنا بهم في دار كرامته {يوم لا ينفع مال ولا بنون} [الشعراء:88] * {إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:89] .
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.


  6. #366
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب السبق )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (366)

    صـــــ(1) إلى صــ(26)


    شرح زاد المستقنع - باب السبق
    من مميزات الإسلام أنه دين يحرص على القوة وأسبابها، ولذلك أمر بالإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل، واعتنى بالإعداد إلى حد أنه أباح لأتباعه أن يتسابقوا على عوض في الخيل والإبل والسهام، وأباحه في غيره بدون عوض، وبالتالي فعلى المسلم أن يكون عارفا بأحكام هذه المسألة وما يتعلق بها وشروط جوازها.
    تعريف السبق لغة واصطلاحا
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب السبق] : السبق من المسائل التي اعتنى الشرع ببيان جملة من أحكامها، وهذا الباب ذكره العلماء رحمهم الله لاشتماله على الحقوق، فإن المتسابقين، خاصة إذا كان السباق بينهما بعوض، ووقعت المنافسة بينهما على جائزة أو نحو ذلك، يكون فيه نوع استحقاق، وحينئذ يرد السؤال عن الأحكام المتعلقة بهذا النوع من العقود.
    يقال: سبق فلان فلانا إذا تقدم عليه، فالسبق في أصل اللغة المراد به: التقدم على الشيء، ولا يختلف المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، فحقيقته اصطلاحا هي حقيقته لغة، فالسابق هو المتقدم على غيره.
    وهذا الباب المراد به: بيان الأحكام المتعلقة بالمنافسات، فإن الشريعة أجازت للمسلم أن يسابق على أشياء، ولم تجز له أن يسابق على أشياء أخر.
    ومن هنا يرد
    السؤال ما هي الأشياء التي يجوز أن يسابق فيها وعليها؟ وما هي الأشياء التي لا يجوز أن يقع السباق عليها؟ وهذا الباب الكلام في مقدماته:



    مشروعية السبق والأدلة على ذلك


    أولا: في مشروعية السبق: شرع السبق بدليل الكتاب، ودليل السنة، والإجماع.
    أما دليل الكتاب فقد قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: {قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا} [يوسف:17] .
    فقولهم: {إنا ذهبنا نستبق} [يوسف:17] : أي: نتسابق، وهذا شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولم يرد شرعنا بخلاف ذلك، بل جاء بمشروعيته.
    فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت مشروعية السبق بالقول وبالفعل، والسبق بإسكان الباء: المسابقة، والسبق بالفتح: العوض المدفوع في المسابقة.
    فالسبق ثبت بفعله عليه الصلاة والسلام، وبقوله: أما بفعله: فقد صارع عليه الصلاة والسلام ركانة، وسابق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين خرج معها إلى مسجد قباء، وكان إذا خرج معها يسابقها عليه الصلاة والسلام في الطريق، فكان يسبقها، فلما كبر عليه الصلاة والسلام سبقته رضي الله عنها، قالت: (فلما أخذه اللحم سبقته) فقال عليه الصلاة والسلام: (هذه بتلك) صلوات الله وسلامه عليه.
    وكذلك أيضا ثبت أنه أقر صحابته وسابق بينهم، فقد سابق بين الخيول، وسابق بين الرجال، وسابق بين سلمة بن الأكوع وبعض الصحابة رضوان الله عليهم، وسابق أيضا بين الخيل المضمرة وغير المضمرة، فسابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وذلك ما يقرب من ستة أميال إلى سبعة أميال.
    والخيل المضمرة: هي الخيل التي تسقى وتعلف، ثم يمسك عنها العلف حتى تضمر، وتكون أسبق وأخف في العدو وفي السرعة.
    وسابق عليه الصلاة والسلام بين الخيول، وشجع أصحابه رضوان الله عليهم على هذه الفروسية لما فيها من معاني الجهاد والقوة على الجهاد في سبيل الله.
    وكذلك أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية السباق من حيث الجملة، وأنه لا بأس بالمسابقة على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله تعالى.



    إباحة السبق المقصود به الوصول إلى طاعة الله عز وجل


    لكن الذي ينبغي أن يعلم أن الله تعالى أحل هذا النوع من المنافسات لحكمة عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فقبل أن يدخل طالب العلم في هذا الباب ينبغي أن يتنبه إلى أن أي شيء فيه منافسة فإن فيه ضررا، وذلك أنه يحدث الشحناء ويحدث البغضاء ويحدث إغارة الصدور بعضها على بعض.
    ولكن الشريعة نظرت إلى مصلحة أعظم، فإن الجهاد في سبيل الله يحتاج إلى قوة في البدن، وقوة في العدد والعدة، وهذا يستلزم تهيئة البدن للجهاد في سبيل الله عز وجل، فالسباق ليس مرادا لذلك، وإنما هو مراد لما هو أعظم منه.
    ولذلك نص العلماء على السباق فيما يستعان به على القوة في سبيل الله عز وجل، لا في مطلق المسابقة، وهذا أمر ينبغي لطالب العلم أن يتنبه له.
    ولذلك نجد النصوص انصبت على ما يقوي المسلم على الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لأن الله أمر بالإعداد فقال: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [الأنفال:60] فأمر بالإعداد.
    ومن الإعداد: تهيئة النفوس لمثل هذا، فإن المسلم إذا سابق ونافس غيره صارت عنده النفسية المتقبلة للمنافسة، فإذا دخل إلى ميدان الجهاد في سبيل الله، فهو بطبعه وبما أخذ من تجربته ومرور الحوادث المتكررة عليه في السباق، تجعله في قوة وجلد في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
    ولذلك خصت بالذكر ثلاثة أشياء لوجود العوض فيها، ولم يبق السبق على إطلاقه؛ لأنه لو خرج عن دائرة هذه الثلاثة الأشياء أوغر الصدر، وجعل المسلم يتمنى أن أخاه ينكسر، ويتمنى أنه يسبقه أو نحو ذلك، ولكنه إذا كان في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وبقصد الاستعانة على طاعة الله، ارتفع عن هذا إلى ما هو أسمى وأعلى، وصار قربة وطاعة لله عز وجل، فيؤجر المسلم عليه ويثاب، بخلاف ما إذا كان محضا لما يراد به من أمور الدنيا.
    أما من حيث الأصل العام: فإن السباق فيه فوائد تعود على بدن الإنسان، وعلى قوته مثل قوة الرمي، ومثل قوة الخيل على العدو في سبيل الله عز وجل كما ذكرنا في الجهاد، ثم إن هذا التنافس يجعل المسلم دائما يطمح إلى السمو بنفسه إلى المكان الأعلى، وفيه أيضا تشجيع لمن أعطاه الله عز وجل القوة وشدة الكلد أن يبقى على قوته وكلده، حتى يستعان به على طاعة الله عز وجل إلى غير ذلك من المصالح.
    وقد أجمع العلماء على شرعيته من حيث الجملة، لكنهم اختلفوا في التفصيل.



    أنواع السبق


    والسباق يكون بالأبدان، الذي هو سباق الأشخاص، وإذا كان بالأبدان فإما أن يكون بالعدو، وإما أن يكون بالقوة، فإن كان بالقوة فهو المصارعة كأن يصطرع معه، أو يكون بالعدو وهو الجري، فهذا السبق بالأقدام ونحوها.
    ويكون أيضا السباق بالدواب، وإذا كان بالدواب فإما أن يكون بذوات الحافر أو الخف كالخيول والإبل، وإما أن يكون بغيرها، فإذا كان بغيرها كالبغال ونحوها فهذا فيه تفصيل.



    السبق بالعوض ومتى يصح؟


    النصوص الشرعية بينت ما يقع به السبق، وما يصح أن يكون به السبق بعوض وما يجوز به المسابقة بدون عوض.
    فهناك فرق بين المسابقة التي تكون بعوض، والمسابقة التي تكون بدون عوض، فالمسابقة التي تكون بعوض خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء فقال: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) فهذه ثلاثة أشياء مشروعة للسباق بالجوائز، وتكون عليها الحوافز.
    وعلى هذا نقول: السباق بالجري والعدو، والسباق بالمصارعة، وغيرها من الأشياء الأخر من حيث الأصل العام لا تدخل في العوض، لكن يجوز أن تسابق غيرك بالعدو والجري، بشرط أن لا يكون هناك عوض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة على غير عوض وقال: (لا سبق) بالتحريك أي بعوض (إلا في نصل) الذي هو الرمح (أو خف) الذي يقصد به الإبل (أو حافر) الذي يشمل الخيل وما في حكمها.
    وبناء على ذلك نقول: إن السبق إما أن يكون بعوض، وإما أن يكون بغير عوض، فيفصل فيه على هذا التفصيل فانقسم إلى هذين النوعين.
    هذا حاصل ما يقال في مقدمات السبق، وفي كل أحكامه التي سيذكرها المصنف رحمه الله.
    قال رحمه الله تعالى: [يصح على الأقدام] : الأقدام: جمع قدم والمراد بذلك الجري، فلو أن جماعة قالوا: نريد أن نتسابق، لننظر من يسبق، وكان ذلك بغير عوض، فتسابقوا فلا بأس.
    الدليل على ذلك: ما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سابق عائشة رضي الله عنها، فالسباق بالأقدام ليس فيه بأس، إذا كان بدون عوض.
    قال رحمه الله تعالى: [وسائر الحيوانات] : وذلك كالبغال، والحمير -أكرمكم الله- ونحوها من سائر الحيوانات، ويمكن أن يتسابقوا بالمراكب الموجودة الآن كالدراجات فيمكن أن يتسابقوا بها، ولا بأس بها حينئذ، إذا كان السباق بدون عوض.
    قال رحمه الله تعالى: [والسفن] : وكذلك يكون السباق في المراكب والسفن، فليس في هذا بأس، هذا من حيث الأصل العام، أنه يكون السباق بما كان من الثلاثة وغيرها إذا لم يكن بعوض.
    قال رحمه الله تعالى: [والمزاريق] : الزرق: الرمي يقال: زرق فلان فلانا إذا رماه، وأصلها رماح يرمى بها وتكون قصيرة مثل الحربة، وكانوا في القديم يترامون بها، وينظرون أنهم أبعد رميا، هذه المزاريق، وهي بخلاف النصل الذي هو السهم، فالسهام يراد برميها إصابة الهدف، لكن المزاريق تراد للبعد، وذلك ممكن أيضا بالحجارة، مثل أن يرمي شخص حجرا، ويرمي آخر حجرا، وينظران أيهما أبعد رميا، فالمزاريق من جهة الرمي للبعد، والنصل من جهة تحديد هدف معين، أو غرض معين يصاب، فيكون السباق فيها من جهة تحديد الإصابة ومكان الإصابة ونوعية الإصابة، وهذا سنذكره إن شاء الله تعالى.



    يجوز العوض في سبق الإبل، والخيل، والسهام دون غيرها


    قال رحمه الله: [ولا تصح في عوض إلا في إبل] : هذا ظاهر الحديث لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سبق) فهذا معنى لا تصح، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سبق) السبق بالتحريك ما فيه عوض، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في خف) ، المراد به الإبل، ولذلك قال رحمه الله تعالى: (في إبل) ، وإذا كانت في إبل فلها شروط، فلا بد من تعيين هذه الإبل بأوصافها، وذواتها، فهل هي من العرابي التي لها السنام الواحد، أو بختية ذات السنامين، ويحدد المركوب منها، فيقول: هذه الناقة وهذه الناقة، فتحدد الإبل التي يراد أن ينافس عليها.
    قوله رحمه الله: [وخيل] : في حديثه صلى الله عليه وسلم قال: (أو حافر) ، فقوله: (أو حافر) ، المراد به الخيل.
    قوله رحمه الله تعالى: [وسهام] : السهام: جمع سهم، فهذه الثلاث جائز دفع العوض في المسابقة فيها؛ ولذلك قال المصنف: [ولا تصح في عوض إلا في إبل، وخيل، وسهام] ، أي لا تصح المسابقة بجعل عوض من أحد المتسابقين، أو من غيرهما، إلا في هذه الثلاثة، لورود السنة بذلك.
    وهذا يدل على الاختصاص؛ لأنه المفهوم من قوله: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) ، فكأنه ينهى عليه الصلاة والسلام عن إعطاء العوض في غير هذه الثلاث.
    وقد بينا السبب في ذلك: أن الإبل يستعان بها على الجهاد في سبيل الله عز وجل، والخيل يستعان بها على الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود بنواصيه الخير إلى يوم القيامة) والحديث صحيح.
    وكذلك أيضا بالنسبة للنصل فإنه يستعان به على الجهاد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي) .
    وكما بينا أن العوض يوغل الصدور، ويحدث الشحناء والبغضاء، إلا أن وجود المصلحة في الجهاد أعظم من هذا كله، وهذا من باب تقديم المصلحة على المفسدة، ولذلك يقولون: إنه في بعض الأحيان من حيث الأصل تقدم المفسدة على المصلحة.
    ويمكن أن يقال: إن درء المفاسد وإن كان مقدما على جلب المصالح، إلا أن جلب المصالح قد يقدم على درء المفاسد، وذهب بعض العلماء إلى أن الجهاد في سبيل الله درء لمفسدة أعظم، فيكون هذا من باب درء المفسدة الأعظم بارتكاب الأخف، وعلى هذا فإن مصلحة الجهاد وإن كان مصلحة في الظاهر، لكنها في الحقيقة رد لكلف العدو وأذيته للمسلمين، وهذا درء للمفسدة، وهذا وجيه، والقول الأول هو أوجه.



    شروط السبق فيما يؤخذ فيه العوض





    تعيين المركوب












    قال رحمه الله: [ولابد من تعيين المركوبين] : أي: لابد لصحة المسابقة من تعيين المركوبين، هذه الناقة وهذه الناقة، فلابد أن يعين المركوبين، ويعين جنسهما ونوعهما، ويكون هناك نوع من التكافؤ، كما سيذكره المصنف رحمه الله.
    أما لو كان المركوب مبهما وغير معروف، فإنه لا يصح، فلابد من تعيين المركوبين، هذا إذا قلنا بأنه يريد أن يسابق في خف، أو حافر فلابد وأن يكونا معينين.
    والتعيين ضد الإبهام، فلا يصح أن يكونا مبهمين، أو مجهولين، بل لابد أن يعينهما ويحددهما.



    اتحاد المركوبين


    قال رحمه الله تعالى: [واتحادهما] : اتحاد المركوبين من حيث إنك تجعل الاثنين يدخلان إلى المسابقة، وكل منهما يقول: يمكن أن يسبقني نظيري.
    أما لو كانا مختلفين، كأن يكون أحدهما من الإبل العرابية، والثاني من الإبل البختية؛ فحينئذ اختلف النوع، والجنس واحد -وهو كونهما من الإبل- فإذا اختلف نوعهما فقد اختلف العلماء: فقال بعض العلماء: يصح السبق مع اختلاف النوع واتحاد الجنس.
    وقال بعض العلماء: لا يصح إذا اختلف النوع مع اتحاد الجنس، كما نص المصنف.
    وفي الحقيقة -من حيث الدليل- فإن القول بأنه لا يشترط الاتحاد قوي جدا، وهذا يختاره بعض العلماء.
    فاتحاد المركوبين الأشبه فيه أنه لا يشترط، لكن يشترط ألا يأمن أحدهما أن يسبق الآخر -هناك وجه من جهة الاشتراط أنه عدم أمن أن يسبقه- حتى يتحقق العدل؛ لأنه إذا كان السبق بعوض، ودخل الإنسان بفرس، ولا يشك أن فرسه سابق، وفرس الآخر مريض، أو هزيل، أو كبير، ولا يشك أنه سيسبقه؛ فحينئذ لا شك أنه سيأكل المال بالباطل؛ لأنها ليست مسابقة حقيقية.
    وبناء على ذلك: لابد وأن يكونا متحدين في القوة متحدين في العدو، وبينهما اتحاد من جهة الوصف، هناك فرق بين اتحاد النوع واتحاد الوصف، فإذا اتحدا على وجه لا يأمن معه أن يسبق زميله، أو رفيقه أو منافسه صحت، أما إذا كان الاتحاد المراد به اتحاد النوعين فلا.
    وعلى هذا فإنه إذا كان اختلاف النوعين مؤثرا صح ما ذكره المصنف في حالة فقط وهي: أن يكون أحدهما عرابيا والثاني بختيا وتكون البختية ثقيلة، والعرابية سريعة العدو؛ فحينئذ يترجح قول المصنف رحمه الله، لكنه على سبيل الخصوص لا على سبيل العموم.
    فالخلاصة: أنه من حيث الاتحاد، عند اتحاد الجنس، واتحاد النوع، واتحاد الصفة، هناك ثلاث مراتب: فاتحاد الجنس: أن تكون -مثلا- كلها من الإبل، ولو أن هناك جنسا عاما وجنسا خاصا، فالمراد هنا أنها من جنس الإبل الخاص.
    وأما اتحاد النوع فإن الإبل فيها العرابية وفيها البختية، فالعرابية لها سنام واحد، والبختية لها سنامان، فإذا قلت: يشترط -أيضا- اتحاد النوع، فحينئذ لا يصح أن يسابق بين عرابية وبختية.
    ولكن الصحيح أنه يجوز أن يسابق بين العرابية والبختية، بشرط: اتحاد القوة، وعدم أمن السبق، كما ذكرنا، وفي هذه الحالة نشترط اتحادهما في الصفات من جهة السرعة والعدو، وليس المراد اتحادهما من جهة النوع، كما ذكرنا.
    والدليل على أنه لا يشترط الاتحاد: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أو خف) ، فالإبل إذا كانت عرابية أو بختية فهي ذات خف، وقد عمم النبي صلى الله عليه وسلم في المسابقة بين ذوات الخف، سواء أكانت متحدة النوع أم مختلفة النوع، فيبقى على هذا العموم.
    فالذي يظهر -والعلم عند الله- أنه لا يشترط اتحادهما من جهة النوع.



    تعيين الرماة


    قال رحمه الله تعالى: [والرماة] : أي: لابد من تعيين الرماة، والرماة: جمع رام، وتعيين الرماة كأن يقال: فلان، وفلان، أو نترامى أنا وأنت ومعنا فلان، فيتحدد الأشخاص الذين يريدون أن يتسابقوا على الرمي.
    قلنا: لابد من تحديد الرماة حتى يتحقق ما ذكرناه من عدم أمن السبق، ويكون هناك نوع من التكافؤ بين الرماة، فلابد أن نعلم أشخاص الرماة حتى يغلب على ظننا تكافؤهم، وحينئذ يتحقق المقصود من المسابقة، أما لو كان أحد الراميين مريضا هزيلا مثلما ذكرنا في الخيل فلا يتأتى؛ لأنه لا يشك حينئذ أنه سيحوز سبقه وسبق صاحبه.



    تعيين المسافة وتعيين الهدف


    قال رحمه الله تعالى: [والمسافة بقدر معتاد] : أي: ويجب تعيين المسافة، وهذا في حالة الرمي، فيجب تعيين الرماة، وتعيين المسافة التي يرمى لها -مثلما ذكرنا في المزاريق- فإذا أرادوا أن يصيبوا هدفا، أو يتراموا بالبعد، -كما قال بعض العلماء: إن النصل عام يشمل رمي الهدف ورمي البعد- فإذا قلنا: إنه يشمل رمي الهدف والبعد، فإنه ينبغي في هذه الحالة إذا أرادوا أن يرموا هدفا-: أولا: تحديد هذا الهدف، فما هو الهدف، أو الغرض الذي يراد أن يرمى ثانيا: تحديد مكان الإصابة، فتحدد -مثلا- دوائر، يقال: الدائرة الأولى، الدائرة الثانية، الدائرة الثالثة.
    أو يوضع شيء في داخل الغرض، ويقال: على إصابة هذا شيء، وعلى إصابة ما في هذا العمود شيء آخر، فلابد من تحديد الهدف.
    وكذلك لابد من تحديد قدر الإصابة، وعدد الإصابة، كتحديد الرمي بعشر طلقات لكل واحد.
    وإذا قلنا: إن النصل للهدف وتعيين الهدف -لأن هذا مما يستعان به على الجهاد- فإنهم إذا تراموا لإصابة هدف معين، فتارة يكون كل شخص أمامه غرضه فيقال: تضرب عشر طلقات، ويكون هناك -مثلا- مواضع مرتبة فيضرب فيها.
    فتحدد عدد الطلقات، ويقال: لك عشر طلقات، فانظر كم تصيب منها، إما أن تصيبها كلها، أو تصيب أكثرها، فننظر أيهما أكثر إصابة، فيمكن حينئذ التفاضل من جهة كثرة الإصابة.
    وتارة يقول أحدهما لصاحبه: ترمي طلقة وأرمي طلقة، على أن نصيب غرضا معينا، أنا أرمي ثم ترمي أنت، وترمي أنت ثم أرمي أنا.
    فالأول على عدد الإصابات، والثاني على مطلق الإصابة، ثم قد يتحدد مطلق الإصابة، فهناك إصابة الهدف دون جرحه، وإصابة الهدف بجرحه، وإصابة الهدف بخزقه، وكلها لها مراتب معينة.
    فالمقصود في الجهاد في سبيل الله عز وجل قوة الرمي بحيث إذا رمى في سبيل الله يكون رميه قوي الوقع.
    فهو إذا رمى بالسهم حال السبق فلقوته ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: أن يصيب السهم ويخرق وينفذ، فهذا سهم نافذ، وهذا أبلغ ما يكون في الإصابة، فيقال: لا يعطى العوض إلا لمن يخرق سهمه، فإذا أصبح شرطا، فلا عوض ولا سبق إلا لمن خزق وخرق ونفذ السهم.
    النوع الثاني من الإصابة: أن يصيب ويبقى في نفس الشيء المصاب، فلا يخزق، لكن يتعلق به، فيكون السهم معلقا، وهي الدرجة الثانية من الإصابة.
    الدرجة الثالثة من الإصابة: أن يصيب ويسقط فلا يثبت؛ لأنه يشد الوتر، فإذا كان رميه قويا فإنه يثبت؛ لأن النصل يثبت في الهدف، فإذا كان الرمي قويا خزق كما ذكرنا، وإذا كان دونه في القوة ثبت، وإذا كان ضعيفا ضرب ثم سقط، فإن ضرب ثم سقط فتارة يجرح، وتارة لا يجرح.
    فإذا كل هذه تفصل وترتب، وفي زماننا قد يكون هناك نوع آخر من الإصابة، كما هو معلوم في علم الرماية، على حسب ما هو معروف في أعراف الرماة وتراتيبهم.
    فالمهم أنه لابد من التعيين؛ لأن التعيين ينفي التنافس وينفي الشحناء، فإذا حدد الهدف، وحددت إصابة الهدف، وعدد الإصابة، وطريقة الإصابة، فإنه لا يأخذ السبق حينئذ إلا من كان مصيبا على الوجه الذي اتفق عليه بين الطرفين.
    التكييف الشرعي للسبق والعوض فيه

    السبق جعالة
    قوله رحمه الله تعالى: [وهي جعالة لكل واحد فسخها] : (وهي) : أي المسابقة.
    (جعالة) الجعالة من الجعل، والأصل فيها قوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف:72] ، فقد جعل يوسف عليه السلام لمن جاء بصواع الملك حمل بعير، وهذا من باب الجعل، والجعل يكون للأشياء المحتملة الوقوع.
    تقول مثلا: من أحضر بعيري الشارد أعطيه مائة، أو من أحضر ساعتي الضائعة، أو قلمي المفقود، أو كتابي الضائع، أو ابني، أو سيارتي، أو أي شيء ضائع منك، من أحضره فله كذا وكذا، فالشيء الذي تجعله هو الجعل، ويقع في كثير من الأشياء.
    وأصلها من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا سعيد وأصحابه على أخذ الجعل كما في حديث الرقية قالوا: (اجعلوا لنا جعلا فجعل لهم الجعل قطيعا من الغنم) فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فالجعالة سيأتي -إن شاء الله- بيان أحكامها ومسائلها.
    فإذا قال له: إذا سبقتك فلي مائة، وإذا سبقتني فلك مائة؛ فحينئذ يكون الجعل هو المائة وهي جعالة، إذا قلت: إنها جعالة تسري عليها أحكام الجعالة.

    من أحكام الجعالة
    ومن أحكام الجعالة: أنها لا تستحق إلا بالقيام بالشيء المشروط على التمام.
    ولذلك لو قلت لشخص: إذا أحضرت سيارتي المفقودة أعطيك عشرة آلاف، فبحث خمس سنوات عن السيارة، فلا يستحق شيئا إذا لم يأت بها، فلا يستحق الإنسان الجعل إلا إذا قام بالعمل تاما كاملا.
    وعلى هذا تتفرع مسائل منها:

    عقد الجعالة هل هو جائز أو لازم؟
    أن عقد الجعالة كما سبق وأن ذكرنا في أول كتاب البيوع، عندما ذكرنا أنواع العقود اللازمة وغير اللازمة، أن عقد الجعالة من العقود الجائزة في أول الحال، اللازمة في آخر الحال، أي: هو جائز ويئول إلى اللزوم.
    وبناء على ذلك لو قال له: تسابقني على مائة، أو نتسابق على ألف، فالألف جعل، فإذا قلت إنها جعالة في ابتداء العقد لو قال: قبلت.
    ثم بعد دقيقة قال: رجعت، فمن حقه؛ لأنها ليست بلازمة إلا إذا دخل في المسابقة.
    فلا تلزم إلا إذا حصل السبق، فإذا دخل في المسابقة -أيضا على هذا القول الذي اختاره المصنف- فلا تلزم إلا إذا سبقه، فإذا سبق أحدهما الآخر، وجاء الآخر يريد أن يرجع، فليس من حقه، ولزمه ما اتفقا عليه، فلو قال أثناء المنافسة: أنا رجعت، قبل أن يسبقه، كان له حق الرجوع.
    فإذا تكون جائزة ما لم يسبق أحدهما الآخر، فإذا تقدم أحدهما على الآخر لزمته وصارت مستحقة، وهذا إذا كانا مع بعضهما، وكان الجعل من أحدهما.
    أما لو دخل المحلل بينهما، فقال بعض العلماء: تصير لازمة بدخول المحلل؛ لأنه طرف أجنبي التزم له، وقال بعض العلماء: تبقى جعالة؛ لأن الجعل أيضا للمحلل كما هو لواحد منهما.
    وهذا القول طبعا في المذهب على أنها جعالة سواء أدخل المحلل أم لم يدخل، وهذا من حيث الأصل، لكن قال بعض العلماء من مذهب المالكية وطائفة: عقد المسابقة من حيث الأصل لازم من أول الحال، ويرون أن الاثنين إذا اتفقا على المسابقة وقال الأول: نستبق على كذا وكذا، وقال الآخر: قبلت.
    لزمه الوفاء بما اتفقا عليه؛ لعموم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] فيرون أنها عقد لازم من أول الحال وثاني الحال، وليس من حقه الرجوع.

    المناضلة وحكمها

    المناضلة يقصد بها التقوي على الرمي في سبيل الله عز وجل
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتصح المناضلة على معينين يحسنون الرمي] شرع المصنف رحمه الله تعالى في بيان مسألة المناضلة، وهي من المسائل المتعلقة بباب السبق، وذلك أن المناضلة -وهي الرمي بالسهم التام، الذي له نصل وريش في قول بعض العلماء رحمهم الله تعالى- المقصود منها أنها تعين على الرمي في سبيل الله عز وجل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح الذي تقدمت الإشارة إليه- قوله: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) ، والشاهد منه قوله عليه الصلاة والسلام: إلا في نصل).
    والرمي بالسهام يتقوى به المسلم على الجهاد في سبيل الله تعالى، ولذلك لا يراد من السباق أن يغلب أحد المتسابقين الآخر، وليس المقصود من وجود السباق في الرمي تنافس الفريقين، إنما المقصود تقوية النفوس وشحذ الهمم على مراعاة هذه الخصلة التي هي من فروسية الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [الأنفال:60] أنه قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن القوة الرمي، إلا إن القوة الرمي، إلا إن القوة الرمي) ، وهذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أن استعانة المسلم بقوة الرمي في سبيل الله عز وجل مقصودة شرعا.
    ومن هنا أجاز الشرع المسابقة بالرمي، وقال بعض العلماء: إنها من أفضل أنواع الفروسية، وذلك لأن النكاية به في العدو أبلغ، ولذلك أدخل الله تعالى الجنة بالسهم الواحد يرمى به في سبيل الله عز وجل ثلاثة: من صنعه يحتسب أجره عند الله عز وجل، ومن براه يحتسب أجره عند الله سبحانه وتعالى، ومن رمى به في سبيل الله عز وجل يحتسب أجره عند الله سبحانه، وهذا يدل على فضل هذه الخلة والخصلة من خصال الفروسية، لما فيها من عظيم الثواب عند الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا قال العلماء: تصح المناضلة.
    وتقع المناضلة والمسابقة إما بين شخصين، أو أكثر من شخصين، ثم إذا كانوا أكثر فإما أن يكون كل شخص على حدة، وإما أن يكونوا طوائف ومجموعات، وكل ذلك جائز ومشروع، ولذلك بين المصنف رحمه الله جوازها، وشمولها لهذه الأحوال كلها.
    فلو أن شخصين أرادا أن يتسابقا في الرمي بالسهم، فحينئذ لا بد من تحديد الغرض، وتحديد مقدار الرمي، عدد الرميات وعدد الإصابة، وتقدم معنا بيان وجه اشتراط ذلك، دفعا للتنازع والخصام.
    وكذلك معرفة من هو الآخر ومن هو السابق؛ لأنه إذا كان المقصود المسابقة فلا بد أن يظهر أحد الاثنين على الآخر، أو تظهر إحدى المجموعتين على الأخرى، وذلك يفتقر إلى تحديد الإصابات ونوع الإصابة، وإذا حدد الغرض، بعض العلماء يقول: يجعلون غرضين، يصاب الغرض، ثم يصاب الغرض الثاني، وحملوا ذلك على قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما بين الغرضين روضة من رياض الجنة) ، ولكن الحديث ضعيف، وأثرت بعض الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا ينتضلون، ويترامون بالسهام، والمصنف رحمه الله أطلق المسألة وقال: تصح المناضلة، ولا شك -من حيث مقصود الشرع- أن تصحيحها مبني لتقوية النفوس على الجهاد كما قلنا.

    التشجيع في المناضلة وطلب العلم
    نبه بعض العلماء، وبعض المتقدمين رحمهم الله تعالى على أنه لا يجوز أن تجعل المناضلة وسيلة لإثار الشحناء والبغضاء، فإذا حضر المناضلة أشخاص آخرون غير المترامين فلا ينبغي أن يشجع أحدهم الآخر على وجه يوغر به صدر الآخر على أخيه، ولذلك قالوا: إنه ينبغي أن يكون ذلك على وجه يعين على الإحسان لا على الفرقة، ولا على الشحناء ولا على الخلاف، ولا على إغارة الصدور بعضها على بعض؛ لأنه إذا ذموا المقصر وأهانوه وأذلوه، أوغر ذلك صدره على أخيه المسلم، فبدل أن تحصل المصلحة للجهاد في سبيل الله عز وجل من اجتماع القلوب واجتماع المسلمين على القوة في سبيل الله عز وجل -ومن أعظم ذلك-: اجتماع القلوب، يصبح العكس، والله تعالى قرن افتراق القلوب بالفشل فقال سبحانه وتعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال:46] .
    ومن هنا: إذا كانت المسابقة في الرمي بالسهام فيها إغارة للصدور بعضها على بعض، فإن هذا يؤدي إلى مفسدة قد تفوق المصلحة التي من أجلها شرع الرمي.
    ولذلك نبه العلماء رحمهم الله تعالى على أنه لا يجوز عند الانتضال بالسهام أن يذم من قصر، وأن يمدح الذي أصاب على وجه تحدث به الفتنة، وفرعوا على ذلك مسائل، منها: مسألة المدح لطالب العلم إذا أصاب والذم لمن قصر من طلاب العلم، وهذه المسألة اختلفت فيها أقوال العلماء رحمهم الله تعالى، فمن أهل العلم من قال: الأفضل للعالم والأتم له والأكمل أن ينقي علمه، وألا يمتحن طلابه بالسؤال؛ لأنه ربما سأل الطالب أمام الناس وفتن، وأصابه العجب وأصابه الرياء بالجواب أمام الناس، وفي ذلك مفسدة قد تفوق المصلحة التي من أجلها شرع العلم، ولأنه لا يؤمن عليه من العجب، وغير ذلك من المفاسد التي قد تترتب على بروز الشخص وظهوره، وقد يكون الذي يجيب عند طرح السؤال صغير السن، وإذا تصدر الحدث افتتن، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (إذا تصدر الحدث افتتن) ، قالوا: ولأن طالب العلم إذا لزم في مجالس العلم السكينة والوقار والاستماع، فإن ذلك أتم للخشوع وأكمل للوقار، وأعظم في هيبة العلم، وأعظم في السكينة، خاصة وأنه يكون بعيدا عن الرياء، وبعيدا عن ما يشوش فكره عن التركيز لفهم المراد.
    وقالوا أيضا: والغالب من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أنه لم يكن يمتحن أصحابه، ولم يكن يسألهم، وإنما كان يلقي العلم، ولأنه ربما سأل طالب العلم، وكان في ذلك الوقت مشغول البال بهم أو غم أو كرب نزل به، أو شرد ذهنه بسبب ضعف البشر، فإن الإنسان يسهو في صلاته فضلا عن مجلس العلم، قالوا: فلا يأمن أن يكون من خيرة طلاب العلم فيسأله أمام الناس فيحرجه، ولأجل هذه المفاسد كلها قالوا: الأفضل والأكمل أن يقتصر على إلقائه للعلم، وأن لا يكون السؤال سببا للفتنة.
    ومن أهل العلم من قال: إنه يستحب أن يسأل العالم طلابه حتى يتأكد ويتحقق أنهم فهموا ووعوا، وذلك لأن السؤال فيه إحراج للإنسان، فإذا أحرج المسئول خاف غيره السؤال، وهذا مجلس للعلم، إلى غير ذلك مما ذكروه من مقاصد.
    وتوسط بعض العلماء في المجالس العامة، والمجالس الخاصة، فقالوا: إذا كانت المجالس لخاصة طلاب العلم، ويقصد منها الضبط، فالأفضل أن تقوم على السؤال والمحاورة، والمذاكرة والضبط، وأما إذا كانت عامة فيها من يحسن ومن لا يحسن، فلا شك أن القول بعدم السؤال أبلغ وأتم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة عن الشجرة، وسألهم عن مسائل خاصة في المجالس الخاصة، ولم يسأل في مجالسهم العامة، وقالوا: إن هذا أبلغ وأبعد عن الرياء، فالشاهد في مسألة مدح من يجيد وذم من يخطئ أنهم قالوا: إن المفاسد في ذلك عظيمة، والأفضل والأكمل أن يكون على هدي السلف الصالح من إلقاء العلم، دون تعرض لمدح من أحسن وذم من أصاب.
    إلا أنه لا بأس أن يمدح طالب العلم إذا غلب على الظن أن ذلك يشجعه على طلب العلم، ويقوي نفسه ويشحذ همته، وتؤمن الفتنة، أما إذا غلب على الظن أنه سيفتن، وسيغتر، وأنه يحب الظهور ويحب المدح، فلا شك أنه لا تجوز إعانته على ما لا يرضي الله عز وجل، ومن تأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الأئمة والسلف فإنه يجد أن هديهم على إلقاء العلم دون تعرض للسؤال حتى كان بعض العلماء يقول: لا أحب للعالم أن يسأل طالب العلم: أفهمت؟؛ لأنه يخشى أن يجامله فيقول: فهمت، فيكذب، فيحمله على الكذب.
    فالأفضل والأكمل أن يدعه لله تعالى، ولا شك أن طالب العلم إذا ترك لله عز وجل، وترك أمره فيما بينه وبين الله عز وجل، لا شك أنه سيصيبه الخير إن أخلص، ويحرم -والعياذ بالله- على قدر ما فاته من الإخلاص.

    شروط المناضلة
    وعلى هذا فإنه تصح المناضلة وتشرع، وتوضع على ذلك الجوائز، ولا بأس بوضع الحوافز للمتسابقين في الرمي، ولا بد من التحديد، تحديد المجموعتين، كما تقدم معنا في شروط الرمي، أنه لا بد من تحديد الراميين، فيقال: فلان وفلان، وهذا الشرط الأول.
    الشرط الثاني: أن يكون الذي ينافس ويسابق قادرا على الرمي وعنده إحسان للرمي، فلو كان جاهلا بالرمي، ولا يحسن الرمي فإنه لا يسابق؛ لأن الغالب أنه سيغلب، وبذلك تكون المسابقة على غير وجها، فلا بد أن يكون محسنا للرمي.
    الشرط الثالث: أن يحدد الهدف الذي يصاب، ونوعية الإصابة وعدد الإصابة.
    وقد ذكرنا أن نوعية الإصابة تختلف بقوة الرمي، فهناك إصابة بالسهم تجرح الغرض، ولا يثبت السهم في المكان، وهناك إصابة يثبت فيها السهم ولا يخرق الهدف، وهناك إصابة يخرق فيها الهدف، وفي زماننا يشرع أن تكون المسابقة على إصابة الغرض والهدف بالطلقة النارية الموجودة في زماننا، وتعلم ذلك يعتبر من الفروسية، ويعتبر من الأمور المحمودة؛ لأن المسلم يستعين بذلك على الجهاد في سبيل الله عز وجل، ويكون فيه ما ندب إليه من إعداد القوة، كما أمر الله سبحانه وتعالى بذلك في كتابه المبين.

    الأسئلة


    استحقاق الأجير المشترك الأجرة مع ضمان التلف

    السؤال في حالة عدم تضمينه لما تلف من حرزه، فهل يأخذ الأجرة؟
    الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فالأجير المشترك لا يستحق الأجرة، لا في حال التفريط ولا عدم التفريط ما لم يسلم العين المتفق على العمل فيه، والقيام به فيها.
    وبناء على ذلك تفوت أجرته بفوات العمل؛ لأنه لم يسلم العمل، فيستوي أن يكون مفرطا أو غير مفرط؛ لأن التسليم للعمل لم يقع، والقاعدة عندنا في الأجرة: تسليم العمل، فإذا لم يسلم العمل فإنه لا يستحق الأجرة سواء أكان فوات المحل بتفريط، أم بدون تفريط.
    والله تعالى أعلم.

    الحوافز في العلم الشرعي

    السؤال ما هو الأفضل بالنسبة لتعليم الصغار ونحوهم، من حيث إعطاء الحوافز وعدمه؟
    الجواب أما من حيث العلم الشرعي، فلا شك أن تربية الصغير والكبير على الإخلاص لله الذي هو عماد الدين، والذي لا يقبل الله القول والعمل إلا به أن ذلك هو الأساس، والذي ينبغي التعويل عليه والحرص عليه.
    فإن النشء الصغير إذا نشأ من صغره على محبة هذا العلم، وإرادة وجه الله عز وجل وأن لا يأخذ على علمه شيئا إلا مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك يشجعه ويحفزه على مواصلة علمه، وطلبه العلم لوجه الله، وابتغاء ما عند الله.
    فالواحد من مثل هؤلاء يعدل أمة من غيره.
    فلا يمكن أن يستقيم أمر العلم إلا بالإخلاص، ولا يمكن أن يستقيم أمر العلم إلا بإرادة وجه الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} [ص:86] .
    فالإنسان إذا تربى من صغره على أنه يريد وجه الله ويتعلم لله، ويقرأ لله، ويكتب لله، ويريد ما عند الله عز وجل، كان ذلك توطئة لنفسه على الخير، ومحبة المعاملة مع الله عز وجل.
    فتجده أصبر على طاعة الله، وأقوى على مرضاة الله، ومنذ الصغر وهو لا يعرف إلا إرادة وجه الله سبحانه وتعالى.
    وهكذا تربى السلف، وتربى أبناؤهم، وتربى صغارهم، وتربى على ذلك صغيرهم ونشأ عليه كبيرهم، وهم لا يريدون إلا وجه الله.
    ولكن إذا دخلت الحوافز، ودخلت الدنيا، وهم في الصغر فليس في عقولهم ما يمنعهم من حقد بعضهم على بعض، وإغارة صدور بعضهم على بعض، وكراهية بعضهم لبعض، ولقد رأيت بعيني من بعض الزملاء حينما كانوا يتنافسون في بعض المسابقات يحقد بعضهم على بعض، ويشتم بعضهم بعضا، ووالله لقد سمعت بأذني ممن هم من حملة القرآن، إذا تنافسوا في مسابقته، سب بعضهم بعضا، وعاب بعضهم قراءة بعض، بسبب دخن الدنيا، حتى إنني سمعت من يقول: سأدعو الله أن لا تتفوق علي، وأن لا تتقدم علي، وأن لا يكون كذا، وأن لا يبارك لك في ما تأخذ.
    كل هذا من فتن الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا فتتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم) ، فلا يمكن للإنسان أن يجد لذة هذا العلم إلا بالمعاملة مع الله وحده لا شريك له.
    فإذا أراد وجه الله وامتلأ قلبه بالله سبحانه وتعالى، سهرت عيناه وتعب جسده، وتغرب وهو يجد أنه في لذة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وخرج من أجل أن يعلم الناس، ولو مشى آلاف الكيلو مترات، ولو إلى الأقطار والأمصار وهو يتلذذ بكل ثانية؛ لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
    لأنه يعلم أن هذه الخطوات، وأن هذا التعب والعناء والجد والتحصيل، أن ذلك كله يخط في صحيفته وتخطها ملائكة حافظون لا يغشون ولا يكذبون، ويلقاها أمام عينه في يوم ينفع الصادقين صدقهم.
    فالإنسان لا يمكن أن يربي نفسه في هذا العلم، وأن يقيم علمه على الصراط المستقيم، وأن يقوم بحق هذا العلم إلا بالإخلاص وإرادة وجه الله سبحانه وتعالى.
    قال الحسن البصري رحمه الله: (لا يزال الرجل بخير إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله.
    (فأساس الأمور كلها في الدين العلم الذي قرنه الله بالإيمان، فقال: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11] فما رضي بشيء يقرن بتوحيده إلا العلم.
    وذلك لشرفه وعلو مقام أهله عند الله سبحانه وتعالى، وتكفل بأجره فقال: (يرفع الله الذين آمنوا منكم) ثم قال: (والذين أوتوا العلم درجات) .
    فمعنى (أوتوا) أنه ليس لهم الفضل في هذا العلم حتى يدخلوه في الدنيا، أو يتكالبوا به على الدنيا، وإنما أريد به وجه الله، فهو عطية من الله، ويبتغى به ما عند الله، والثواب في ذلك كله من الله سبحانه وتعالى.
    فالواجب على طلاب العلم صغارا وكبارا تربية أنفسهم على قصد وجه الله عز وجل، وينبغي على كل معلم، وكل مرب أن يوطن طلابه ومن يربيهم على إرادة وجه الله عز وجل، فتجد الواحد من أمثال هؤلاء الذين يتربون في مدرسة الإخلاص يفوق أمة ممن يحفظون الكتب، حتى ولو لم يحفظ القرآن، فلو حفظ مثل هذا عشر آيات طيبة زاكية خالصة، وقلبه فيه تقى لربه سبحانه وتعالى، كان هذا خيرا من الدنيا وما فيها، ممن يحفظ القرآن كله من أجل أن ينال شيئا من عرض الدنيا.
    فلذلك تمحق البركة، وتذهب البركة، وتجد الشخص يحفظ القرآن، ويحفظه العشرات، ويحفظه المئات، لكن ليس لهذا الحفظ أثر ولا بركة؛ لأنه إذا دخلت الدنيا ودخلت دواخل الدنيا أفسدته.
    ووالله لا يجتمع في قلب عبد آخرة ودنيا إلا غلبت إحداهما؛ فإما أن يريد الآخرة ويكون تقيا نقيا، وإما أن يريد الدنيا.
    وهذا في كل شيء من العلم، ليس في التحرير فحسب وليس في الكتابة فحسب، وليس في مجالس العلم فحسب، بل في كل مجلس تحضر فيه مجالس العلم فلتفتح عما في قلبك، لترى هل تريد ما عند الله؟ أو غير ذلك؟ فإن وجدت غير الله فاتق الله واستغفر، وقل: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أسألك العفو، اللهم إني قد أذنبت، اللهم إني قد أسرفت، فقد كان السلف يتهمون أنفسهم في الإخلاص، فكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (ما وجدت مثل نيتي إنها تتقلب علي) تتقلب ألوانا من فتن الدنيا، ونحن تارة نقول: نشجعهم، وتارة نقول: نحمسهم، فلا تجد إلا مبررات، ولا يمكن أن يحصل الإنسان على الإخلاص إلا إذا سار على منهج السلف الصالح رحمهم الله، فقد كان لحافهم السماء، وبساطهم الأرض، مرقعة ثيابهم، وكانوا حفاة الأقدام، ولكنهم أغنياء بالله سبحانه وتعالى، أغنياء بالإخلاص وإرادة وجه الله، فحفظوا دواوين العلم وحفظوا دواوين السنة، والرجل يمسي ويصبح وهو جائع لا يجد الطعمة، حتى أن طلاب الحديث -رحمهم الله برحمته الواسعة- كانوا يجلسون، فربما يمضي على الرجل اليوم الكامل ولا يجد طعامه، فيجلس من أجل أن يهيئ الطعام فيقال: إن الشيخ فلان قد عقد مجلس الحديث فيترك طعامه وينتقل إلى ذلك المجلس جائعا، من أجل أن يحفظ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم حديثا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    هذا الإخلاص الذي سمت به الأمة وزكت، وأصبحت علومها خالدة تالدة؛ لأن الله نظر إلى قلوب أهلها فعلم أنهم لا يريدون إلا وجهه، وما أريد به وجه الله بقي، وما أريد به ما عند الله كمل وشرف وحسنت عاقبته في الدنيا والآخرة.
    فلا يمكن أن نصلح الأبناء والصغار والكبار إلا بالتوحيد والإخلاص، فهذه هي العقيدة وهذا هو الأساس الذي ينبغي أن ينبني عليه هذا العلم.
    لكن إذا أصبح الطفل يتحمس لحفظ هذه السورة بمال، ثم بعدها بمال، ثم إذا حفظ السور نافس غيره للمال، أصبح جميعهم منذ الصغر وأنفسهم متربية على محبة المنافسة وإظهار النفس على الأقران، والطبع يغلب التطبع.
    فتجده كلما جلس في مجلس أراد أن يتميز على غيره، وأن يغلب غيره، حتى ولو لم يجد منافسة بمال ومسابقة جلس معك فقال: أسمعني وأسمعك؛ لأنه فتن في شيء لا يستطيع أن يملكه، خاصة إذا كان من الصغار، فلذلك ينبغي علينا أن نربي وأن ننشئ الصغار على الإخلاص.
    فإن قال قائل: لن يبقى أحد! قلنا: لو لم يبق إلا واحد يريد وجه الله، فهو بملء الأرض ممن لا يريدون إلا الدنيا.
    فهذه الأمور ينبغي التربية عليها، والتنشئة عليها وهي أساس الدين، إذ أساسه التوحيد والإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل.
    نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل ما نتعلمه ونعلمه خالصا لوجهه الكريم، اللهم اجعله خالصا لوجهك الكريم، وما كان من دخن وما كان من خطأ وخلل، نسألك اللهم يا عفو يا كريم أن تعفو عنا وأن تسامحنا، وأن ترحمنا فيه، ولا تعذبنا، وأن تسامحنا فيه ولا تؤاخذنا، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
    والله تعالى أعلم.
    جهة إعطاء الجعل في السباق
    السؤال الجعل ممن يكون في حال السباق؟

    الجواب سيأتي تفصيل هذه المسألة، وبيان الصور التي يكون فيها الجعل من أحد المتسابقين، وتارة يكون من خارج عنهما، وتارة يكون الجعل منهما معا، ويدخل المحلل بينهما.
    هذه كلها صور للجعل، وإذا كان الجعل من خارج عنهما، فتارة يكون من بيت المال وتارة يكون من غيره، فمن سبق أحرز نصيبه ونصيب صاحبه، وتارة يدخل المحلل بينهما فيكون السبق بينهما مع وجود المحلل الذي لا يدفع شيئا على التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله.
    والله تعالى أعلم.

    الفرق بين الرهان والسبق

    السؤال نرجو توضيح مسألة ما إذا دخل اثنان في منافسة على أن يدفع كل واحد منهما للآخر؟ أثابكم الله.
    الجواب جمهور أهل العلم رحمة الله عليهم على أنه لو تنافس الشخصان على أن يدفع كل منهما للآخر إن سبقه، فإنه في هذه الحالة لا بد من دخول المحلل، وهو شخص ثالث عنده قدرة على أن يسبقهما، هذا الشرط الأول: أنه لا يؤمن سبقه؛ فإذا كان يؤمن سبقه وكان ضعيفا فيكون وجوده وعدمه على حد سواء فلا يفيد.
    مثلا: لو أنهما تسابقا بفرسين، فقال أحدهما: أعطيك عشرة آلاف إن سبقتني، وتدفع لي عشرة آلاف إن سبقتك، قال: قبلت، فلا بد من دخول المحلل؛ لأنه إذا لم يدخل كان قمارا، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وفيه حديث تكلم العلماء على سنده، لكن العمل عليه عند جمهرة أهل العلم، وهذا هو الصحيح الذي عليه العمل والفتوى عند الجمهور: أنه لا بد من دخول المحلل بينهما، لما في ذلك من قطع معنى القمار والغرر، والمخاطرة بين الطرفين.
    الشرط الثاني: أن لا يدفع لأحد الطرفين، يكون محللا ويدخل بدون دفع شيء، فإن سبقهما أحرز السبقين، وإن سبق أحدهما أحرز الذي وعد به، وسبق صاحبه.
    بمعنى: لو قلت: إن سبقتني لك عشرة آلاف، وإن سبقتك لي عشرة، فإن سبقتني لك مني العشرة التي وعدتني بها، وأخذت العشرة مني، والعكس أيضا فإن سبق هذا الثاني أحرز السبقين.
    وبناء على ذلك قالوا: إنه لا بد من دخول المحلل بينهما قطعا للقمار، ولا شك أن صورة القمار ظاهرة فيه ما لم يدخل المحلل بينهما، والعمل على هذا الحديث؛ لأن الضعف فيه من جهة الحفظ، وليس من جهة الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه صحيح ومتنه قوي، ولذلك لا بد من دخول المحلل بين الطرفين، والله تعالى أعلم.

    وصايا في طلب العلم والثبات على طاعة الله عز وجل

    السؤال أنا شاب ملتزم قريبا، وأنا في حيرة، فبم تنصحني في كتابة العلم؟ ومع من أسير في هذا الطريق؟
    الجواب أوصيك أخي في الله: أولا: أن تحمد الله سبحانه وتعالى، قل: الحمد لله الذي هداني لهذا، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله، وإن الله تعالى قد تأذن بالزيادة لمن شكر، فقرن المزيد بشكره، ووعد سبحانه وتعالى أنه ما من عبد يشكره بقلبه وبلسانه، وبجوارحه وأركانه إلا أتم نعمته عليه.
    فاحمد الله عز وجل واشكر هذه النعمة أن أخرجك من الظلمات إلى النور، واحمد الله سبحانه وتعالى أن وجدت الشيء الذي طالما يتمناه كل مخلوق خلقه الله تعالى من أجل عبادته.
    أما الأمر الثاني بعد شكر الله عز وجل: فأوصيك بالثبات على طاعته، فإن من دلائل البركة في النعم أن يثبت الإنسان عليها، فإذا أراد الله أن يتمم عليك النعمة، وأن يبارك لك فيها، تممها بالثبات.
    ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما كما ثبت عنه في الرواية الصحيحة، كان إذا رقى على الصفا قال دعاءه المشهور: (اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا أن تستجيب، وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم كما هديتني للإسلام فلا تنزعه مني أبدا حتى تتوفاني عليه) .
    فكان يسأل الله عز وجل أن يثبته على الحق، وأن لا يزيغ قلبه؛ وهذه دعوة الصالحين، والأبرار المتقين، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين حكاية عنهم: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} [آل عمران:8] ، فعليك بالثبات على هذا الخير.
    ومن أعظم الأمور التي يثبت الله عز وجل بها من اهتدى: الاستكثار من طاعة الله، والجد والاجتهاد في مرضاة الله، ألا وإن أفضل ما يستكثر به العبد من طاعة الله: كثرة ذكر الله عز وجل، فأكثر من ذكر الله بالاستغفار والتسبيح والتحميد والتكبير.
    إن الإنسان ربما تمضي عليه عشر دقائق يستطيع أن يستغفر فيها ما لا يقل عن مائة مرة، ولربما تجلس ربع ساعة وأنت تسأل الرجل كيف حالك، كيف أهلك؟ كيف إخوانك؟ ووالله قد تبلغ في بعض الأحيان مئات من التسبيح والاستغفار والتحميد والتكبير، وجرب ذلك.
    حين تكون جالسا للحظات يسيرة، وتستطيع في بعض الأحيان أن تستغفر عشرة آلاف مرة في خلال ساعة، أو ساعة ونصف، فهي كنوز عظيمة وأجر عظيم ونحن في غفلة عنها، ومثل هذا الذكر هو الذي يثبت الله به قلب العبد على طاعته، فإن الله يقول: {فاذكروني أذكركم} [البقرة:152] .
    ولا يزال العبد في حرز من الشيطان، وحرز من الخذلان، وحرز من الخيبة والخسران، ما ذكر العظيم الرحمن، فلذلك أوصى الله بذلك عباده المؤمنين فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله} [الأحزاب:41] ، وما وقف عند هذا حتى قال: {اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا} [الأحزاب:41 - 42] ، فأكثر من ذكر الله عز وجل واستكثر من الخير.
    ومن أهم الأسباب التي تعين على الثبات، وتجعلك على خير، وتفتح لك أبوب هذا العلم: برك لوالديك، فبعد ذكرك وكثرة ذكرك لله عز وجل بالاستغفار والتسبيح والتحميد، وغير ذلك مما شرعه الله من ذكره، وقراءة القرآن، تبر والديك، فإن الله يفتح لك أبواب الرحمة، فرضي الله عمن أرضى والديه.
    أما ما سألت عنه من العلم فأوصيك أخي في الله: أولا: بالإخلاص الذي يبارك الله به في قولك، وعملك، وظاهرك، وباطنك، وليلك، ونهارك، فلا يبارك لطالب العلم في علمه إلا بالإخلاص، كما ذكرنا.
    ومن الإخلاص أن لا تخرج من بيتك لأي مجلس من مجالس العلم، ولا تخرج لمحاضرة، ولا تخرج لزيارة أخ لك في الله، إلا وأنت تريد ما عند الله عز وجل، ودائما تتهم نفسك بالتقصير، وإذا وجدت في نفسك التقصير فالجأ إلى الله سبحانه وتعالى أن يجبر كسرك، وأن يغفر ذنبك، فإن الله غفور لمن استغفر.
    ثانيا: إذا رزقك الله الإخلاص، فعليك أخي في الله أن تحرص على كل كلمة تسمعها، فإن أرفع الناس منزلة في العلم من جمع فأوعى، وأعظم الناس أجرا في هذا العلم من ضبطه على أتم الوجوه وأكملها.
    ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم لمن حفظ هذا العلم على أتم الوجوه وأكملها، فقال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) .
    فيحفظ الإنسان هذا العلم حفظا متقنا، وأنت تعلم أن الله يرضى عنك ذلك، وأن الله يحب منك ذلك، واعلم أن من دلائل الإخلاص إتقان هذا العلم، فلا تضع منه كلمة.
    واعلم أن من الأمور التي تعينك على عدم تضييع شيء في مجلس العلم: ألا تنتقص نفسك وتحقرها؛ لأن الشيطان دائما يقول لك: من أنت حتى تفهم كل ما يقوله الشيخ؟ ومن أنت حتى تضبط كل هذا المجلس؟ أبدا والله لقد جلسنا في العلم ونحن لا نفقه شيئا، ونقول هذا اعترافا بفضله سبحانه وتعالى، ووجدنا قوله تعالى: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] .
    فالله إذا علم من قلبك أنك تحب إتقان العلم فتح عليك، ويسر لك وأعانك، فلا معين غيره، ولا ميسر سواه؛ فلتكن عندك همة صادقة في حسن الظن بالله، فإذا جلست للعلم فلا تقل: لا أفهم هذا الكلام كله، فقد جلسنا في مجالس العلم وكنا صغارا ولم نكن نفهم كثيرا مما يقال، فما مضت فترة إلا وأصبحت هذه الكلمات مثل الغذاء لأرواحنا، نهلك إذا جعنا ونحس بالظمأ إذا افتقدناها.
    فالإنسان ينبغي عليه أن يوطن نفسه دائما على حسن الظن بالله، ولو أن أي شخص إذا أتى إلى أي مسألة، أو مهمة، أو عمل، وهو لا يفقه في هذا العمل شيئا، وقيل له: إذا ما أتقنت هذا الشيء سيحدث كذا، أو يصير كذا، فإنه سيحصل كل صغيرة وكبيرة.
    فالنفس فيها طاقة، وفيها قوة، ولكن الإنسان ينبغي أن يعلم أن هناك شيطانا يخذله، وأن هناك عدوا لدودا يقول له: من أنت حتى تفهم؟ من أنت حتى تعلم؟ ومن أنت حتى تكون عالما؟ قل: إن الفضل كله لله، فالفضل كله لله سبحانه وتعالى، وإنما عليك أن تحسن الظن بالله تعالى.
    فقد كنا نسمع بعض المسائل ونحن في ابتداء طلب العلم، وما كنا نظن أننا سنسأل عنها وكان المشايخ يوصون بضبطها وإتقانها، حتى سئلنا عنها في الأمم، وأفدناها وانتشرت بين الناس، وما كنا نظن أنه يأتي اليوم الذي نبلى فيه هذا البلاء الحسن.
    ولكن من تعب وجد واجتهد، وكانت له البداية المحرقة، فإن الله يجعل له النهاية المشرقة، فمن جد وجد، ومن زرع حصد، وإن المعروف لا يبلى والخير لا ينسى، والله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملا.
    فتتقن هذا العلم، ولا تقل: إني صغير، فأنت كبير بهمة صادقة وبنية صادقة مخلصة لوجه الله عز وجل، وبجد واجتهاد، وترى -بإذن الله عز وجل- عواقب هذا الجد والاجتهاد حينما تمضي كل فترة وأنت تحس أنك تبني على أساس مستقيم.
    أما لو جلس طالب العلم في مجالس العلم وهو ضعيف وبنفس منهزمة، ويقول: هذا علم كثير والشيخ مستواه كبير فلن ينتفع، فما عليك إلا أن تجد وتجتهد، وتفرض على نفسك الواقع الذي تراه، وتحس برحمة الله بكل كلمة تسمعها، وفي كل حكمة تعلمها.
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعل هذا العلم خالصا لوجه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

  7. #367
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب العارية )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (367)

    صـــــ(1) إلى صــ(18)



    شرح زاد المستقنع - باب العارية [1]
    شرع الله تعالى جملة من الأمور ينتفع بها الناس، والعارية عقد من عقود المنافع التي تعم به البلوى؛ لأن الناس يحتاج بعضهم إلى بعض، وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، وهي مباحة أو مندوبة أو واجبة أو محرمة بحسب ما تستخدم له من وسائل.

    أحكام باب العارية

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب العارية] .

    تعريف العارية

    العارية مأخوذة من اعتوار الشيء، وهو تردده مرة بعد المرة وتكراره.
    وأما في الاصطلاح: فنوع من العقود يقصد منه تمكين الشخص من منفعة الشيء على سبيل البر والإحسان، وعرفها المصنف -رحمه الله- بأنها: إباحة منفعة العين، وعرفها بعض أئمة الحنفية والمالكية بأنها: تمليك المنافع بدون عوض، فالحنفية يقولون: تمليك المنافع مجانا، والمالكية يقولون: تمليك المنافع المؤقتة بدون عوض، وهناك فرق بين أئمة الشافعية والحنابلة من وجه، وأئمة الحنفية والمالكية من وجه آخر، فعندنا طائفتان من العلماء: طائفة تقول: العارية إباحة.
    وطائفة تقول: العارية تمليك.
    وتوضيح ذلك: أن الشخص لو كان عنده بيت فأراد أن يعطي شخصا منفعة السكنى، فيقول له: أعرتك بيتي تسكنه شهرا، أو تكون عنده سيارة فيقول له: أعرتك سيارتي تركبها هذا اليوم، أو أعرتك سيارتي تذهب بها إلى المدينة.
    فحينما يأخذ السيارة من الشخص فإنه يملك منفعتها، وليس له حق بيع السيارة ولا هبتها، ولا التصرف فيها بغير الانتفاع بالمنفعة، فبعض العلماء يقول: إذا قلت له: خذ السيارة، أو أعطيتك السيارة إلى المدينة، أو أعرتك السيارة إلى المدينة، أو بكل لفظ دال على العارية، صراحة أو ضمنا؛ فقد ملكته المنفعة.
    والفرق بين القولين: أننا إذا قلنا: العارية تمليك يكون من حقك أن تعطي هذه المنفعة لشخص آخر، وإذا قلنا: العارية إباحة، فليس من حقك أن تعطيها لشخص آخر، فأنت إذا أعرت شخصا سيارة من أجل الركوب عليها والذهاب بها إلى المدينة ثم الرجوع، فأعطاها غيرك، فعلى القول بأنها تمليك فإنك إن ملكت منفعتها جاز لك أن تتنازل عنها لأخيك، وعلى القول بأنها إباحة فقد أباح لك ولم يبح لغيرك.
    وبناء على ذلك: لو أعطيتها لغيرك فركبها وذهب بها إلى المدينة ورجع فإنك تدفع قيمة الأجرة، وتغرم لصاحبها أجرة مثلها من مكة إلى المدينة، فالعارية فيها وجهان: إما إباحة، وإما تمليك.
    واختيار المصنف رحمه الله ومن وافقه من أنها إباحة أصح وأقوى.
    والسبب في هذا: أنها لو كانت تمليكا لكانت مؤقتة، ولا تصح مطلقة؛ لأن التمليك المطلق فيه غرر، ولذلك وجب تقييدها لو كانت تمليكا، والثابت في السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار بدون تأقيت، كما في حديث صفوان حينما استعار منه النبي صلى الله عليه وسلم أدرعه يوم حنين، وقال: (أغصبا يا محمد -عليه الصلاة والسلام-؟ قال: لا، بل عارية مضمونة) وهذا لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم غزو الطائف واحتاج إلى السلاح، وكان الذين خرجوا معه من مكة من المسلمين عددهم كبير؛ لأن الجيش الذي خرج به من المدينة ازداد عدده بفتح مكة، وخرجت معه قريش حمية؛ لأنه يريد غزو الطائف؛ لذا طلب عارية صفوان، فقال له صفوان: (أغصبا يا محمد؟!) هل تأخذ مني السلاح غصبا، قال: (لا.
    بل عارية مضمونة) ، فلو كانت العارية تمليكا لقال: عارية إلى شهر، أو إلى شهرين، ولأقت وحدد، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤقت ولم يحدد؛ فدل على أنها إباحة، وأن الشخص حينما يعير فقد أباح المنافع ولم يملكها، وعلى هذا يأتي التفصيل -إن شاء الله- فيما لو أجر الدار لغيره، أو تصرف المستعير في العارية، وهل يضمن أو لا يضمن؛ كل ذلك يترتب على هذا الخلاف.

    أدلة مشروعية العارية

    والأصل في مشروعية العارية كتاب الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه في معرض الذم والتوبيخ لمن وهبه نعمته فحرمها غيره: {ويمنعون الماعون} [الماعون:7] فجاءت هذه الآية في سياق الذم لمن منع غيره أن ينتفع مما أعطاه الله سبحانه وتعالى، وذكر الماعون لأنه شيء يسير غالبا، وهو تنبيه إلى ما هو أكبر منه وأكثر، ولأن الحاجة إلى الماعون عظيمة فهو يحتاج إليه في صنع الطعام وإعداده، فيكون في منعه وحبسه المشقة على الغير، ففي هذه الآية الكريمة الدليل على مشروعية العارية، ولذلك فسرها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كحبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع: بأنهم كان يمنعون الماعون أن يعار.
    وعلى هذا: دلت الآية الكريمة على مشروعية الإعارة؛ لأنها لو لم تكن مشروعة لما ورد الذم والتوبيخ لمن حرم الغير أن ينتفع بالماعون.
    وكذلك دلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، منها: أنه استعار من صفوان أدرعه كما في الحديث المتقدم.
    وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث المخزومية التي كانت تستعير المتاع ثم تجحده، ووجه الدلالة من الحديث: أنه نقم عليه الصلاة والسلام منها جحد المتاع ولم ينقم منها عارية المتاع.

    حكم العارية

    أجمع العلماء -رحمهم الله- على أن العارية مشروعة، ولكن اختلفوا في حكمها، هل يجب عليك أن تعير الأشياء، أو يندب لك، أو يباح، هناك أوجه: بعض العلماء يقول: إن العارية مباحة من حيث الأصل، وجائزة، ومنهم من يقول: ليست مباحة فقط بل مندوبة.
    وهذا هو الصحيح، بمعنى: أنه ينبغي للمسلم أن يحرص عليها، ولا يفوته خيرها وبرها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا مر به أخوه المسلم وهو في الطريق واحتاج إلى الماء فمنعه وهو قادر على أن يعطيه -وهذا في غير العارية كما هو معلوم- أن الله تعالى يقول: (سألك عبدي أن تعطيه الماء فمنعته، فاليوم أمنعك فضلي كما منعته فضل مائك) فهذا يدل على أنه لا ينبغي للمسلم أن يمنع إخوانه المسلمين من الانتفاع بالأشياء التي لا يحتاج إليها، والتي يكون في سعة منها، حتى ولو كان ذلك مدة معينة، فيقول له: أعرتك كتابي أو قلمي أو سيارتي، ويحدد ذلك على حسب ما يمكنه أن يبذله من منفعة ذلك الشيء المعار.
    وقد تكون العارية واجبة، وذلك إذا احتاج إلى شيء عندك توقف عليه إنقاذ نفس محرمة، فلو أن غريقا سقط في بئر ولا يمكن إخراجه إلا بحبل عندك وليس موجودا عند غيرك، وبإمكانك أن تعطي الحبل ولا ضرر عليك؛ فإنه إذا امتنع في هذه الحالة يعتبر آثما في قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالله أوجب علينا إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك، فإذا كان إنقاذها واجبا فقد توقف تحقق هذا الواجب على فعل وهو إعارة الحبل أو الشيء الذي يمكن تخليصه به، كذلك لو احتاج جارك أو صديقك شيئا لمريض عنده أو مكروب أو نكبة نزلت به أو نحو ذلك، فإنه يجب عليك ويتعين أن تعطيه؛ لأنه ليس هناك غيرك، ويجب عليك في هذه الحالة أن تبذل ما تستطيعه لإنقاذ هذه النفس المحرمة أو دفع الضرر عنها.
    وتكون العارية مندوبة إذا كان فيها توسعة على الجار وعلى الأخ والقريب، وتختلف درجات الندب، فإعارة الشيء للقريب أعظم أجرا من إعارته للغريب، ففيها أجران، أجر العارية وأجر صلة الرحم، ومن وصلها وصله الله عز وجل، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإعارة الجار ليست كإعارة غير الجار، فإذا أعرت الجار كان الأجر أعظم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم يخاطب نساء المؤمنين: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو كفرسن شاة) يعني: لا تحتقر أمة الله عز وجل ما تقدمه لأختها المسلمة من جيرانها ولو كان كفرسن شاة، وهو اللحم اليسير الذي يكون بين أظلاف الدابة، فهذا شيء حقير جدا، ولكن هذا الحقير عند الله عظيم الأجر؛ لما فيه من الإحسان للجار.
    ولو أنك نظرت إلى الشيء الذي يعار؛ فإعارة ما فيه مصالح دنيوية أجره أقل من إعارة ما فيه مصالح دينية، ومن ذلك إعارة كتب العلم لمن يحفظها ويحافظ عليها، وينتفع بها، فإن هذه الإعارة أعظم أجرا والندب فيها آكد من الإعارة لشيء دنيوي، وإعارة السيارة لطالب علم يذهب لطلب علم والمعونة له على طلبه للعلم، أعظم أجرا من إعانته على أمر دنيوي.
    فإذا العارية تتفاوت من جهتين: أولا: من جهة الشخص الذي يستعير؛ من حيث قربه من الشخص وعدم قربه، وعظيم حقه على الشخص، وذلك على حسب تفاوت الناس في مراتبهم في الحقوق.
    ثانيا: من جهة الشيء الذي يستعار، فإن كان الشيء الذي يستعار لمصلحة أفضل فالأجر فيه أعظم، وإذا كان لمصلحة مفضولة فالأجر فيه أقل، هذا بالنسبة للمندوبة.
    وتكون العارية محرمة إذا أعارها لشيء حرام يعينه بها -والعياذ بالله- على قطيعة رحم، أو عقوق والدين.
    مثلا: لو أن شخصا خرج إلى سفر ووالداه لم يأذنا له بالسفر، وهما بحاجة إليه، وقد خرج في نزهة أو صيد، وأنت تعلم أن والده لا يأذن له وغير راض على خروجه، فخروجه عقوق لوالديه، فإذا مكنته من سارتك فقد مكنته من العقوق.
    فإذا: تكون العارية حراما إن توصل بها إلى حرام، وتصبح المسألة تابعة لمسألة: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها) فإن كانت العارية وسيلة إلى واجب فواجبة، وإن كانت وسيلة إلى مندوب فمندوبة، وإن كانت وسيلة إلى مكروه فمكروهة، وإن كانت وسيلة إلى محرم فمحرمة، وإن كانت خلية من الدوافع وسلمت من الموانع فإنها مباحة مستوية الطرفين.
    هذا بالنسبة لحكم العارية من حيث الأصل، وهذا الباب يعتني العلماء -رحمهم الله- فيه ببيان حقيقة العارية، وما تجوز إعارته وما لا تجوز، وكذلك أيضا بيان الأثر المترتب على العارية، ويعتبر هذا الباب مما تعم به البلوى، فالناس يستعير بعضهم من بعض، ويحتاج بعضهم إلى الحوائج الموجودة عند البعض، يقضون بها مصالحهم، ويرتفقون بها في معاشهم، فلذلك تنشأ الأسئلة عن هذا النوع من العقود، وقد تحدث هناك أضرار في الشيء الذي يستعار، فيرد السؤال من الناس عن كثير من هذه المسائل والأحكام.

    حكم العارية عند المصنف

    يقول المصنف رحمه الله: [باب العارية] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بأحكام العواري.
    قال رحمه الله: [وهي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه] .
    (وهي) أي: العارية (إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه) يعني: بعد استيفاء النفع، والمراد ببعد استيفاء النفع: بعد أخذ المنفعة ... ) وهي) أي: العارية (إباحة) تقدم أن المراد بالإباحة أن تجيز للشخص أن ينتفع بالشيء ولا يملك المنفعة، وبناء على ذلك فليس من حق المستعير أن يعير غيره، ولا أن يبيع هذه المنفعة للغير، فيؤجرها على الغير بثمن وعوض، وإذا ثبت هذا فإنه لو أعار الغير -كما سيأتي- فإنه يضمن ويغرم، وتصبح يده يد ضمان، خاصة على القول بالتفريق بين الضمان والأمانة، وكذلك أيضا يكون ملزما بدفع الأجرة التي تجب لقاء هذه المنفعة المبذولة للغير.
    (تبقى) العين، (بعد استيفائه) يعني: بعد استيفاء النفع.
    تدل هذه العبارة على أن العارية تدخل في المنافع ولا تدخل في الذوات، يعني: تبيح المنافع ولا تبيح الذوات، بناء على ذلك: لو أن شخصا أعطى غيره تفاحة ليأكلها، هل نقول: هذه عارية؟ لا؛ لأن العين هنا لا تبقى، وإذا كانت العين لا تبقى بعد الاستيفاء فإنها ليست بعارية وإنما هي هبة، وتعطيها حكم الهبات أو صدقة إن قصد بها القربة لله سبحانه وتعالى، فهي هبة أو عطية أو صدقة على التفصيل الذي ذكرناه.
    وبناء عليه لا بد من أن تكون العارية في المنافع، والمنافع تكون في العقارات والمنقولات.
    فإما أن تكون منفعة عقار أو منفعة منقول.
    منفعة عقار: مثل: البيت، والمزرعة، والمسبح، والديوان، والحوش، هذه كلها عقارات، تقول له: أعرتك بيتي تسكن فيه شهرا أو سنة، أعرتك مزرعتي أو الديوان أو المسبح.
    هذه كلها إباحة منفعة تستوفيها، وهذا الاستيفاء يكون بدون عوض، ولذلك قال الحنفية والمالكية: بلا عوض؛ لأنه تمليك، لكن الشافعية والحنابلة قالوا: إباحة.
    فلم يحتاجوا إلى قيد: بلا عوض؛ لأن قولنا: إباحة، معناه: الإذن بالشيء بدون وجود عوض فيه، وعلى هذا فليس فيها عوض، وتكون العين مضمونة بالرد كما سيأتي إن شاء الله.

    ما يباح إعارته من المنافع

    قال رحمه الله: [وتباح إعارة كل ذي نفع مباح، إلا البضع، وعبدا مسلما لكافر وصيدا ونحوه لمحرم، وأمة شابة لغير امرأة أو محرم] قال رحمه الله: (وتباح إعارة كل ذي نفع مباح) .
    أي: تباح إعارة الشيء الذي فيه منفعة مباحة.
    وقوله: (كل) عام، ويشترط في هذا الشيء الذي يعار أن يكون له نفع، فلا يعار الشيء الذي فيه ضرر؛ لأننا بينا أن العارية فيما فيه مضرة محرمة.
    ويكون النفع أيضا مباحا؛ لأنه قد يكون محرما، وعلى هذا: فهذه كلها ضوابط للشيء الذي يعار.

    أركان العارية

    أركان العارية: مستعير، ومعير، وشيء يعار، وصيغة.
    هذا عند جمهور العلماء: أولا: المستعير: هو الشخص المحتاج إلى هذه المنفعة رجلا كان أو امرأة، لكن لا شك أنه لا بد فيه من وجود العقل، فلا يعار مجنون أو صبي لا يؤمن منه الضرر إلا إذا كان مميزا يحسن التصرف في الأمور، كأن يستعير من إنسان شيئا يرتفق به؛ فيجوز أن تعير الصغير والكبير، فلا تختص العارية بالبالغين.
    ثانيا: المعير: لا بد أن يكون أهلا للتبرع، فلا تستعير من صبي غير مميز؛ لأن مثله ليس له حق أن يهب المنافع، فلابد أن تكون فيه أهلية الهبة، فإذا كان فيه أهلية الهبة للمنفعة صحت إعارته، أما لو لم تكن فيه أهلية بأن كان مجنونا فإنه لا تصح إعارته، فلو جاء إلى مجنون فقال: أعرني هذا الكتاب، فقال له: أعرتك.
    لا تصح حتى يكون أهلا للهبة والإعارة، كذلك تكون العارية بالاختيار لا بالإكراه، فلو أكرهه لم يصح ولم يجز، فلابد وأن يكون بطيبة نفس منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه) ، وعلى هذا لا بد أن يكون الشخص المعير فيه الأهلية.
    ثالثا: الشيء المعار: فصله المصنف -رحمه الله- فقال هذه القاعدة: (كل ذي نفع) ، فخرج الذي فيه مضرة والذي لا منفعة فيه، ويكون النفع مباحا غير محرم، وإذا ثبتت هذه القاعدة فتحتاج إلى أمثلة لما لم تتوفر فيه الشروط، والذي لا تصح إعارته، فمثل المصنف -رحمه الله- بالأمثلة التي أراد بها تقرير هذه القاعدة.

    حكم عارية البضع

    قال رحمه الله: (إلا البضع) .
    (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، وهو هنا اللفظ (كل) العام، وإذا أردت أن تضبط القاعدة، فإن الشيء الذي يعار ينقسم إلى قسمين: الأول: منفعة عقار.
    الثاني: منفعة منقول.
    منفعة العقارات: مثل: البيوت والمساكن والأراضي والمزارع.
    ومنفعة المنقولات: مثل: الكتب ومنفعة القراءة فيها، والقلم ومنفعة الكتابة به، واللباس والسلاح الذي يحتاجه، وينتفع به لدفع الضرر عنه، إلى غير ذلك مما يرتفق به من المنقولات، فإما أن يكون عقارا، وإما أن يكون منقولا.
    ويجوز إعارة المنقولات والعقارات؛ إذ ليست العارية مختصة بأحد النوعين، إنما هي عامة شاملة، لكن بشرط أن يكون كل من العقار والمنقول فيه نفع، وأن يكون النفع مباحا.
    ثم هناك أمر مهم جدا: وهو أنك إذا وهبت هذه الأشياء وأعطيت منافعها، يشترط ألا تكون وسيلة إلى حرام، فمثلا: لو أن شخصا كان محرما بالحج أو العمرة، فإن الصيد عليه حرام -كما سيأتي-؛ لأن يده مرتفعة عن الصيد، وإعارته تخالف نص الشرع بتحريم الصيد عليه، فيحرم تمكينه من الصيد، سواء على سبيل العين أو على سبيل المنفعة، وعلى هذا فلابد من التفصيل في هذه المسألة: القاعدة من حيث الأصل العام: إباحة كل شيء فيه نفع مباح، لكن الأمثلة التي سيذكرها المصنف كلها وسائل لمحرم، والأمثلة مختلفة باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، وعلى هذا لك أن تمثل بكل مثال تكون فيه العارية وسيلة إلى حرام.
    قوله: (إلا البضع) : البضع المقصود به: فرج المرأة -أكرمكم الله- فلا يجوز أن يعيره آخر، فالزوج يجوز له أن يستمتع بامرأته لكن لا يجوز له أن يعير البضع لآخر.

    حكم استئجار الأبضاع لأجل الحمل

    بناء على هذا: تتفرع المسألة الموجودة في زماننا من استئجار الأبضاع من أجل الحمل، فيؤخذ ماء الرجل وماء المرأة ويخصب في فرج أجنبي، ثم ينقل على صور مختلفة في التلقيح المعاصر المعروف، وهذا لا شك أنه محرم، لما فيه من عدة محاذير، فإن هذا التلقيح لا يمكن أن يكون إلا بأمور: أولا: النظر إلى العورة.
    ثانيا: الإيلاج.
    ثالثا: اللمس للعورة.
    رابعا: الأدهى والأمر من ذلك كله: أن الغالب فيه أن هذا العمل لا يكون إلا من قبل الرجال.
    وكل هذه المحاذير لا تجوز إلا عند الضرورة، ومسألة الحمل وطلب الولد ليست من الضروريات، ومن يقول: إنها من الضروريات لا شك أنه قد أبعد، فللضروريات قواعدها المعروفة عند العلماء، وهي: الخوف على النفس أو على عضو من الأعضاء، والشخص إذا لم يولد له ولد لا يخاف على نفسه ولا على عضو من أعضائه، فليس في مقام الضرورة.
    ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى العقم ابتلاء منه، نقول: إذا كانت المرأة عاجزة عن الحمل والإخصاب ولا تستطيع أن تحمل لضعف في البويضات ونحو ذلك فيشرع علاجها وإعطاء الدواء لها لتقوية هذه البويضات وحصول الحمل بالطريق المشروع لا بالطريق الممنوع، لكن أن نتصرف ونولج في الفرج ونغير ونبدل فلا؛ لأن هذا الفرج لا يستباح إلا بنكاح شرعي صحيح، ضوابطه معروفة وأصوله مقررة، ومن أراد أن يطلب هذا الحلال من وجهه حكمنا بالحل، ومن طلب غير ذلك حكمنا بأنه قد طلب ما لم يأذن به الله، وينطبق عليه قوله تعالى: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المعارج:31] من ابتغى: أي طلب، وراء ذلك: أي وراء الشيء الذي أحله الله وأباحه، إذا قال قائل: هذا يريد الولد، نقول له: هذا أمر الله عز وجل، كما أن العقيم يسلم أمره لله، نقول للطبيب: تقف عند حدود معينة فلا تعالج هذه المرأة، وتعالج هذا الرجل من خلال الشيء المباح، من دواء أو تقوية لهذه البويضات، أما أن ننقل من فرج إلى فرج، ويعبث بالفروج والأنساب، فإن هذا كله لا يجوز شرعا، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سبي أوطاس أنه لما أخذت الإماء؛ حرم النبي صلى الله عليه وسلم وطء الحوامل حتى يضعن ما في بطونهن، فأراد رجل أن يطأ امرأة حاملا وهي أمة، مع أن الولد للذي قبله، فقال عليه الصلاة والسلام لما رآه كأنه يهم أن يصيب الأمة: (أيغذوه) يعني: إذا جامعها؟ (أيغذوه في سمعه وبصره) يعني: أنه إذا جامعها وأنزل المني فإن هذا المني سيكون له أثر في اغتذاء الجنين بماء الثاني بعد ماء الأول، فقال عليه الصلاة والسلام: (أيغذوه في سمعه وبصره، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) الفروج أمرها عظيم، وينبغي على الإنسان أن يتوقف وينتبه، وعلى طالب العلم أن يتورع في الفتوى، وأن لا يستعجل ويتقي الله عز وجل، وأن يجعل الجنة والنار نصب عينيه، هذه أمور عظيمة، ولو قرأ طالب العلم ما الذي كتبه العلماء في كيفية ختان المرأة، وكيف يستباح النظر إلى عورتها؛ لرأى كيف تعظم الفروج عند العلماء رحمهم الله.
    شددوا في ذلك حتى إن بعضهم يبالغ ويقول: تشتري أمة من أجل أن تختنها ولا تختنها امرأة أجنبية، كل ذلك تعظيما لحرمة الفرج، وكانت الفروج تسال دونها الدماء، ويضحي الإنسان فيها بنفسه وروحه ولا يوصل إلى مساس حرمة من حرمات عرضه، فعجبا فضلا عن أن يستباح الكشف عنه من قبل الرجل، ويكون ذلك بتكرار.
    المسألة تحتاج إلى نظر وتفصيل وإلى وضعها على الضوابط الشرعية، ولو نظر الإنسان إلى مجمل المحاذير التي تتكرر مرة بعد مرة حتى إن الطبيب يصبح عنده النظر إلى الفرج شيئا مألوفا معتادا، لا يعظم فيه حرمة من حرمات الله، ولا يتورع فيه عن أمر حرمه الله عز وجل، ولربما وقع المحظور، ولا شك أن هذا كله معارض ومصادم للشرع، حتى إن المرأة تألف نظر الرجل إليها، والمرأة إذا أصبحت صائنة لدينها وعرضها، ولا يمكن أن يكشف عليها رجل، حفظ الله لها دينها، وعصمها وجعل لها من همها فرجا ومخرجا، وهذا مشاهد ومجرب، ومعروف، لكن ما إن تفتح لنفسها أبواب الرخص، وتألف هذا الشيء حتى إن الرجل يكشف عليها، لربما -والعياذ بالله- نزع الحياء من وجهها، ولربما وقعت في الفتنة فأصبحت تعاني بلاءها مدى حياتها، حتى إنها تجد في بعض الأحيان أنها لا تستطيع أن تمتنع من هذا الشيء، لأنها غلبت عليه، فهذا أمر لا بد من وضع حد له.
    فإجارة الأبضاع محرمة، ولا يجوز إعارة البضع، وهذا أمر محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.
    وعلى هذا فإنه لا يجوز إخصاب الأجنة، ونقل الماء من الرجل إلى المرأة واستعارة الفرج؛ لأن ذلك مخصوص بإباحة معينة، لا يجوز في غيرها كما نص الله عز وجل على ذلك في كتابه المبين.
    تحريم إعارة العبد المسلم للكافر

    قال رحمه الله: (وعبدا مسلما لكافر) .
    ولا يجوز إعارة العبد المسلم للكافر؛ لأنه أولا: إذا أعاره للكافر أهانه وأذله.
    وثانيا: أن في ذلك عزة للكافر على المسلم، والله تعالى يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] .
    والعزة للمؤمن على الكافر لا للكافر على المؤمن، وهنا: تفهم أن المسألة مبنية على الوسائل، فلما كانت إعارة المسلم للكافر وسيلة لإهانته وإذلاله وتسلط الكافر عليه حرم، وصار كل شيء فيه إعارة يفضي به إلى هذا المحظور أو أمثاله فإنه محرم.

    تحريم إعارة الصيد للمحرم

    قال رحمه الله: (وصيدا ونحوه لمرحم (ولا تجوز إعارة الصيد ونحوه لمحرم فقد حرم الله على المحرم الصيد، فلا يجوز له أن يصيد، ولا أن يعين على الصيد بالإشارة أو بالكلام، فلو كان هناك رجل حلال لم يجز للمحرم تنبيه الحلال الغافل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة في الصحيحين: (هل أحدكم أعانه؟ قالوا: لا) ؛ لأنه سقط قوس أبي قتادة رضي الله عنه، فسألهم أن يعينوه فلم يعينوه، فقال: (هل أحدكم أشار إليه؟ قالوا: لا، قال: فكلوا) ، فدل على أنهم لو أعانوه أو أشاروا إليه أو مكنوه من الرمي فيعتبر فعلهم هذا انتهاكا لمحظور الصيد، وقد حرم الله صيد البر دون صيد البحر، فلا يجوز للمحرم أن يصيد ولا أن يصاد من أجله؛ لأن الصعب بن جثامة رضي الله عنه وأرضاه لما صاد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم رد الصيد عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) وعلى ذلك ترجم الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه وتقدم بيان هذه المسألة.
    من المسائل المتفرعة على الصيد: أنه لا يجوز للمحرم أن يستديم الصيد، كما لا يجوز له ابتداؤه، وهذه مسألة يختلف فيها فبعض المحظورات تجوز استدامتها ولا يجوز ابتداؤها، وبعضها لا تجوز استدامتها ولا يجوز ابتداؤها، فالرجل لو كان عنده زوجة قبل الإحرام يجوز أن يستديم النكاح، وتبقى زوجة له وهو محرم بالحج والعمرة، لكن لا يجامعها، إنما المراد بقاء عقد النكاح، لكن هل يجوز أن يبتدئ عقد النكاح وهو محرم؟
    الجواب لا.
    إذا: لا يجوز أن يبتدئ ويجوز له أن يستديم، ومن هنا قالوا: يجوز للمحرم أن يراجع زوجته؛ لأن المراد أنه لو طلقها أثناء العمرة، ثم أراد أن يرتجعها، فهل الارتجاع ابتداء للنكاح أو استدامة؟ قالو: استدامة، فيجوز له أن يراجعها، ولا يجوز له أن يعقد عليها بعد خروجها من عدتها.
    لكن في الصيد لا تجوز الاستدامة ولا الابتداء، فلو كان عنده صيد قبل الإحرام بالحج والعمرة وجب عليه إطلاقه بمجرد أن يدخل في نسك الحج والعمرة، فلو صاد حمامة أو وعلا أو نحو ذلك من الصيود، ثم قال: لبيك عمرة، نقول له: يجب عليك إطلاق الصيد؛ لأنه لا يستدام ولا يبتدأ، فههنا نفس الحكم: لا يجوز أن تعطيه هذا المصيد وهو محرم، فالمسألة مفرعة على أن المحرم لا يستديم الصيد كما لا يجوز له أن يبتدئ وينشئه، فلا تجوز إعارة الصيد للمحرم.

    حكم إعارة الأمة الشابة

    قال رحمه الله: [وأمة شابة لغير امرأة أو محرم] .
    فلا تجوز إعارة الأمة الشابة، وخرجت المرأة والأمة العجوز؛ لأن الغالب أن المفسدة تحصل بإعارتها لغير امرأة، وكانوا في القديم يستعيرون الإماء، فيقولون: يا فلانة أعطنا الأمة التي عندك.
    وفي زماننا الخدامة، فإذا كان عند الشخص خدامة في بيته، وطلب الجار أو طلبت جارة خدامة جارتها، ففيه تفصيل: إن كانت هذه الجارة هي التي تريد الخدامة للعمل، ورضيت الخدامة؛ لأن الخدامة جاءت لعقد معك أنت فلا يجوز أن تعيرها للغير، وبناء على ذلك إذا طلبت أن تنتقل لتعمل عندها ورضيت الخدامة بذلك لأمر عارض، كمساعدتها في شيء طارئ، إن كانت امرأة مثلها، وغلب على الظن السلامة من الفتن؛ فلا بأس وتكون العارية حينها مندوبة، لكن إذا غلب على الظن وقوع المحظور، أو كان زوجها -والعياذ بالله- فاجرا وهي تعينه على الفجور فإنه لا يجوز ويحرم حينئذ أن تعيرها، ولا يعتبر من منع الماعون، ولا يعتبر داخلا في الوعيد الوارد في منع العارية، وعلى هذا نقول: إنه يفصل في الإعارة على حسب ما يترتب عليها من المصالح والمفاسد.

    الأسئلة

    حكم العائد في الهبة والعارية

    السؤال هل العائد في إعارته كالعائد في هبته؟
    الجواب العائد في هبته مذموم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء؛ العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه) ، وهذا يدل على ذم العودة في الهبات.
    والهبة تقع في الذوات وتقع في المنافع، فإذا قلنا: إن الهبة هنا بالمعنى العام، شملت العارية، لكن إذا أعار شخص شخصا لا تخلو العارية من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون مؤقتة.
    الحالة الثانية: أن تكون مطلقة.
    فإن كانت مؤقتة قال له: خذ سيارتي وانتفع بها، ومتى ما أردت أخذتها، فهذه عارية مطلقة، فالعارية المطلقة إذا أخذها المستعير وانتفع بها ولو مرة واحدة ثم طلبتها منه، فإنه لا بأس بذلك؛ لأن الهبة مطلقة، وتصدق على أقل ما تقع به العارية.
    لكن الإشكال إذا قلت له: اسكن في داري شهرا، فقد وهبته السكنى شهرا وقيدت، فحينئذ لا يكون الرجوع قبل تمام الشهر، فإن أتاه في نصف الشهر أو قبل تمام الشهر ولو بيوم فإن هذا يكون رجوعا في العارية.
    لكن هذا الرجوع فيه تفصيل: إن كان الرجوع بسبب عارض ألم بك، فأنت معذور فيه.
    لو أن شخصا وهب سيارته ثم احتاجها لأهله أو لأمر طارئ عليه، وقد وهبها حينما لم تكن عنده حاجة ثم طرأت له حاجة؛ وقال له: طرأت لي ظروف وأريد أن آخذها، فينبغي على الأخ الثاني أن يقدر، وإن كان الأفضل والأكمل تورعا لهذا الحديث أن لا يسأله ذلك.
    وأما لو سأله فعنده وجه إذا اضطر إلى ذلك، وأما إذا لم يضطر وكان ذلك على سبيل الرجوع فهذا لا شك أنه مذموم، ويشمله الحديث لعموم الهبة من الوجه الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    حكم الانتفاع بالعارية ومنافعها التابعة لها

    السؤال لو أعاره ناقة ليحمل عليها، فهل له أن ينتفع بصوفها وبلبنها؟
    الجواب الهبة إذا كانت للبن والصوف الذي على الناقة، أو قال له: أعرتك هذا البعير، ووهبتك صوفه أو وهبتك لبنه، جاز الانتفاع به.
    أما إذا قيد العارية بالركوب ولم يذكر هبة للصوف ولا للوبر ولا للبن؛ فلا يجوز أخذ شيء من ذلك إلا بالإذن.
    وهناك شيء يمكن أن يستفاد من الإبل ضمنا، فلو قال له: خذ هذه الناقة وسافر بها إلى المدينة، فإن الناقة إذا كانت حلوبا أو فيها لبن يمكن أن ينتفع بها.
    نفهم من هذا أنه إذا حلبت ليس معقولا أن يحفظ الحليب حتى يرجع إلى مكة -خاصة في القديم- قد يحتاج إلى وقت وقد يفسد اللبن قبل أن يعيده، فنفهم من هذا أنه قد وهبه الأصل ومنافعه المترتبة عليه، فنقول: لا بأس.
    وأما إذا لم يفهم ذلك، ولم يكن فيه دليل فإنه يبقى على الأصل من حرمة مال المسلم، إلا بعد إذنه، والله تعالى أعلم.

    حكم الحج عن المريض إذا حصل له الشفاء بعد الحج

    السؤال حججت عن والدي وهو رجل مسن مريض ثم شفي من مرضه، فهل ينبغي له أن يحج؟
    الجواب إذا كان المرض الذي أصاب الوالد مما يرجى برؤه فحينئذ لا يستقيم أن يحج عنه، ولا يسقط حج الفرض على هذا الوجه، وأما إذا كان مرضه مما لا يرجى برؤه وشاء الله بقدرته وشفاه، فحينئذ يقع الحلاف المشهور بين العلماء -رحمهم الله- في مثل هذه المسألة، وهي: أن نظن بقاء العذر على المكلف، ثم يزول العذر ويتمكن، فهل يوجب ذلك الرجوع إلى الأصل أو لا يوجبه؟ ولهذه المسألة عدة صور: فتارة يشفى بعد تمام الحج وبراءة الذمة، وتارة يشفى أثناء الحج، وإذا شفي أثناء الحج: إما أن يشفى بعد وقوع أركانه، وإما أن يشفى قبل وقوع الأركان، فهذا كله فيه تفصيل ويتفرع على المسألة التي ذكرناها.
    من أهل العلم من قال: إذا كان الظن صحيحا وكان مرضه لا يرجى برؤه غالبا أو غلب على الظن أنه لا يسلم، وقال: يا بني حج عني، فحججت عنه، قالوا: إن الشرع يجيز هذا الحج لوجود العذر، ثم إذا قام المكلف بالحج عن والده على هذا الوجه، فقد سقطت الفريضة عن الوالد؛ لأن الإذن الشرعي يوجب سقوطها، فإذا سقطت الفريضة وتم الحج وزال العذر بعد تمام الحج فلا وجه أن نطالبه بالحج مرة ثانية.
    هذا وجه لبعض العلماء، ويقول: كما أذن له في الأصل؛ فإن هذا الإذن يستلزم صحة الحج وبراءة الذمة.
    ومن أهل العلم من قال: القاعدة: (لا عبرة بالظن الذي بان خطؤه) ، فهو إذا ظن أن والده لا يشفى ثم شفي فإنه حينئذ يرجع إلى الأصل؛ لأن الأصل أن يحج عن نفسه، وقد رخص الله عز وجل أن يحج الغير عنه إذا عجز، وهذا لم يعجز لأن العجز كان عارضا ومؤقتا، كما لو مرض مرضا مؤقتا فإنه لا تسقط عنه فريضة الحج ولا يجوز له أن يوكل، ولا شك أن القول ببراءة الذمة من حيث الأصول فيه قوة، لكن إذا كانت البراءة أثناء الحج وكان شفاؤه أثناء الحج فهذا أمر آخر؛ لأن الذين قالوا بأنه تبرأ ذمته اختلفوا: هل العبرة بالابتداء أم العبرة بالانتهاء؟ فمنهم من يقول: إذا وجد العذر عند الابتداء يسقط وله صور.
    منها: مسألة ما لو رأى الماء أثناء الصلاة وقد تيمم؛ لأنه ابتدأ لعذر، فيصح له أن يتم ولا يقطع الصلاة.
    بناء على هذا لو شفي بعد دخولك في الحج فيتفرع على مسألة زوال العذر أثناء العبادة، فإن قيل في المسألة: التيمم لا يقطع، كذلك هنا: لا يقطع حجه ويتمه، ولا شك أنه في أثناء الحج يختلف الأمر عما لو شفي بعد تمام الحج وبراءة الذمة؛ فإن الخلاف فيه أضعف، والله تعالى أعلم.

    حكم حج من هو في خدمة والديه

    السؤال إذا كان لوالدي حاجة لا تقوم إلا بي، فهل يشترط إذنهما للذهاب إلى الحج؟
    الجواب إذا كان الوالدان يتضرران ضررا يخشى عليهما منه، بأن يخشى هلاكهما، مثل أن يكونا في منطقة نائية، أو شيخين كبيرين في السن، يحتاجان إلى دواء وعلاج، ولا بد من وجودك بجوارهما لعارض ينتاب أحدهما مثل العوارض التي تكون في الأمراض النفسية أو نحوها، ويغلب على الظن أنه يحصل ضرر عظيم ببعدك عنهما، فحينئذ يرخص لك في ترك الحج ما دام أنهما لا يستطيعان أن يعيشا بدونك، ولا يجب عليك الحج.
    أما لو كان حجك نافلة فلا شك أن بر والديك أفضل عند الله من حجك وعمرتك، ولذلك لا إشكال في تقديم بر الوالدين على الحج، قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) وفي الحديث الصحيح: (أحية أمك؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها؛ فإن الجنة ثم) فالذي يريد أن يحج حجة نافلة لا يحج إلا بإذن الوالدين، ورضاهما حتى ولو كان الوالدين قويين، ومستطيعين ولا يحتاجان للولد، فإذا قالا لك: لا تحج.
    فلا تحج، ويكتب لك أجر الحج لأن العذر شرعي، ولا يجوز للمسلم أن يسافر إلا بإذن والده، لحديث: (أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) وفي الحديث الصحيح الآخر: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما) رده عن الجهاد في سبيل الله وشراء الجنة وبيع نفسه في سبيل الله عز وجل من أجل بر الوالدين.
    ولذلك نص العلماء -رحمهم الله- على أنه لا يجوز للولد أن يسافر بدون إذن والده، لما في ذلك من المشقة والعناء النفسي، وقد يقول لك الوالد: لا تسافر مع هذه الرفقة، وقد تكون لك فتنة في هذا الرفقة، فإن أطعت والدك حفظك الله من الفتن، وكم من حوادث وقعت لأناس عصموا فيها من البلاء في دينهم ودنياهم بفضل الله عز وجل ثم ببر الوالدين.
    قص لي بعض الأخيار: أن شابا صالحا كان بارا بوالديه، وكانت معه رفقة فيها بعض أقربائه، وكانوا يخفون الشر -والعياذ بالله- ويتعاطون بعض المخدرات، فزعموا أنهم خارجون لعمرة، وسأله أحد إخوانه أن يخرج معهم، وخرج هذا الأخ وكان عاقا لوالده، لم يأذن له والده، فقال: أنا سأخرج معهم رضي الوالدان أو لم يرضيا، وأما الثاني فقال: أنا لا أخرج إلا بعد أن يرضى والدي، فقال والداه: لا تخرج، فلما خرج وإذا بهم أخذوه إلى -نسأل الله العافية- بغيتهم التي يريدون، ثم وقع في هذه الجريمة، وابتلي بها، وذلك من شؤم عقوق الوالدين، والحوادث في هذا كثيرة.
    وكم من شاب صالح بر والديه، وامتنع من الخروج, وخرجت رفقته فانقلبت بهم السيارة، فلم تبق فيهم نفس تطرف.
    فالله يحفظ الإنسان ويصونه بفضله سبحانه ثم بطاعته، والطاعة فيها خير كثير، وأحب الطاعات إلى الله بعد الإيمان بالله بر الوالدين، فلا شك أن بر الوالدين أفضل من الحج، ومقدم عليه.
    في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فلا شك أن برك لوالديك أفضل من حجك وعمرتك إذا كان حجك وعمرتك نافلة.
    أما لو كان الحج والعمرة فريضة فحينئذ لا يستأذن الوالدان في الفريضة إلا إذا حدث الضرر وهناك ظروف على نفس الوالدين، كما ذكرنا، ويغلب على الظن أن الوالدين يتعرضان للهلاك كما في الأحوال التي تطرأ عليهما إن كانا شيخين كبيرين في السن، ويتضرران بغياب الولد، فهذه مسألة مستثناة، أما الأصل: فالفرائض العينية من الحج والعمرة والصلاة لا يستأذن فيها الوالدان ولا يشترط فيها إذنهما، كما قدمنا.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.



  8. #368
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب العارية )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (368)

    صـــــ(1) إلى صــ(21)


    شرح زاد المستقنع - باب العارية [2]
    العارية تفضل وإحسان ممن يعير، وهذا الإحسان لا ينبغي أن يقابل إلا بالإحسان، ولهذا إذا حصل تلف للعارية فإن المستعير يضمن هذا التلف، وكذلك إذا أخذها فإنه يردها ويتحمل مؤنة ردها، وهذا كله من مقابلة الإحسان بالإحسان.



    مسائل تترتب على العارية


    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا أجرة لمن أعار حائطا حتى يسقط] .
    فقد تقدم بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالعارية، ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان بعض المسائل التي تترتب على العارية، ومن ذلك لو أن جارا احتاج إلى وضع خشبه على جدار بيتك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا يمنع بعضنا بعضا من ذلك، وأن يكون بيننا من إخوة الإسلام والمحبة في هذا الدين ما يجعل الدنيا تبعا ولا تكون أساسا للعبد، فإذا سأله أخوه هذه المصلحة أعانه عليها ويسر له السبيل للوصول إليها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه على جداره) وفي لفظ: (أن يغرز خشبة على جداره) فدل هذا الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه لا ينبغي للمسلم إذا طلبه جاره معونة بوضع الخشب على جداره أن يمتنع من ذلك.
    وهنا يرد
    السؤال هذا الجدار الذي لجارك إذا وضعت عليه الخشب فإنه يأخذ حكم العارية؛ لأنك استعرت من الجار منفعة وضع الخشب على جداره، وتكون هذه المنفعة منفعة استناد بيتك أو سقف بيتك على هذا الجدار.
    إذا ثبت أنه يشرع للمسلم أن يمكن جاره من وضع خشبه على جداره، فلو أنه وهبه في الابتداء فلما وضع الخشب وبنى بيته قال له: منعتك من ذلك، إما أن تدفع الأجرة وإما أن ترفع الخشب، فهل من حقه أن يرجع؟ هذا هو السؤال.



    أقسام العارية


    من حيث الأصل: العارية تنقسم إلى قسمين: - قسم مؤقت.



    -

    وقسم غير مؤقت، وهي العارية المطلقة.
    من حيث الأصل الشرعي أن من أعطاك شيئا تنتفع به كالسيارة والبيت للسكنى؛ فإن من حقك أن تنتفع به ما لم يرجع، فلو قال لك: رجعت عن عاريتي، وكنت سألته السيارة أن تسافر بها إلى المدينة فأعطاك إياها الظهر، ولما أردت أن تخرج العصر جاءك وقال: لا أريدك أن تذهب بها، فرجع عن العارية مثل صاحب الجدار رجع عن عاريته، من حيث الأصل فالمسلم لا ينبغي له أن يهب شيئا ويرجع فيه؛ لكن النص في كتاب الله عز وجل يدل على أن من تبرع بالشيء ليس عليه من سبيل، فلو بذل الشيء كاملا ثم طرأت له ظروف وأخذ الشيء فليس عليه من شيء، قال تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] ، أما إذا لم يوجد له عذر فيقبح منه فعل ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء؛ العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود يأكل قيئه) نسأل الله السلامة والعافية.
    إذا ثبت أنه من حقك أن ترجع في العارية من حيث الأصل العام: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] ففي بعض العواري لا يكون هناك ضرر وفي بعضها يكون هناك ضرر.



    أحوال الرجوع في العارية وحكمها


    فكل من أخذ منك شيئا إعارة وأردت أن ترجع في هذه العارية فلا يخلو الرجوع من حالتين: إما أن يكون هذا الرجوع لا ضرر فيه، وأصبحت مصلحة الإنسان ليست بمتعلقة به على الوجه الذي سنذكره في القسم الثاني.
    وإما العكس؛ فإن كان لا ضرر ولم يرتبط شيء بذلك الشيء الذي وهبت منفعته فيجوز لك الرجوع، وليس من حقه أن يمتنع، ويجب عليه أن يرد لك العين.
    الصورة الأولى: مثال: لو قلت له: خذ بيتي أو شقتي واسكنها شهرا، ثم طرأت لك الظروف أثناء الشهر فقلت: يرحمك الله تحول عن مسكني؛ فإنه يجب عليه أن يتحول، ولك الحق في الرجوع، وهكذا لو أعطيته سيارة أو أرضا.
    الصورة الثانية: أن يحصل الضرر إذا رجع، مثال: أن تعطيه سفينة يركبها فلما صار في وسط البحر قلت: يرحمك الله تحول عن السفينة، فلا يمكن هذا؛ فإن الغالب أنه يهلك، أو كان له متاع فقلت له: هذا المركب وانقل به متاعك من طرف النهر إلى الطرف الآخر، فلما صار في وسط النهر قلت: أرجعه وهناك خطر عليه وضرر، حينها نقول: ليس من حقك أن ترجع، وعليك أن تبقى على عاريتك حتى ينتقل إلى الشق الثاني، ويخرج من لجة البحر.
    وكذلك في مسألة الجدار: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقك أن تقول له: ارفع الخشب؛ لأن في هذا ضررا، وقد رضيت على نفسك بالضرر ابتداء فلزمتك العارية ولزمك البذل إلى أن يسقط الجدار، فإذا سقط الجدار بنفسه فحينئذ لا شيء على صاحب الجدار -كما سيأتي- ولا يلزم الجار بدفع الأجرة ولو جلس الجدار مائة سنة يبقى الخشب عليه، لأنه قد التزم بذلك، لكن لو سقط الجدار فجأة فحينئذ تنقطع العارية وتنتهي، هذا بالنسبة لما فيه ضرر.
    من أمثلتها: الخشب على الجدار، والسفينة في وسط البحر، لكن لو كانت السفينة على طرف البحر فمن حقه أن يقول له: تحول عن سفينتي، ومن أمثلته: الأرض للدفن؛ فلو كان عنده أرض، وقال للناس: ادفنوا فيها موتاكم، أو أذن لميت أن يدفن في هذا الموضع ثم أراد أن يبنيه ورجع عن عاريته، وقال: انقلوا الميت من أرضي، نقول: ليس هذا من حقك حتى يبلى الميت، فإذا بلي الميت وصار ترابا -في قول طائفة من العلماء- صح الرجوع، وإلا فلا.
    إذا القاعدة في العارية: من حقك أن ترجع لمصالحك، لكن بشرط أن لا تتسبب في الضرر على الغير، وإذا أثبتنا أنه من حقك الرجوع فينقسم الرجوع إلى قسمين: القسم الأول: أن لا يكون هناك ضرر، فنقول: من حقك الرجوع، لكن يقبح بك أن ترجع بدون عذر؛ للحديث الصحيح: (ليس لنا مثل السوء ... ) وأما إذا وجد الضرر فحينئذ نقول: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقه أن يقول: ادفع الأجرة، أو ارفع خشبك؛ حتى يسقط الجدار؛ لأنه قد رضي ببقائه على ذلك الجدار فلزمه ما التزم به.
    القسم الثاني: السفينة إذا ركبها فلجج بالبحر، إذا كان مكانا غريقا لا يمكن التحول فيه، والأرض للدفن، والأرض للزرع وفيها تفصيل، لو قال لك قائل: أريد أن أزرع أرضك الفلانية أو روضتك الفلانية، فقلت له: أعرتك إياها هذه السنة تزرعها، ولا أريد منك أجرة على ذلك، فأخذ الأرض فزرعها فلما زرعها ونمى الزرع وقبل الحصاد قلت له: اقلع الزرع وأخرجه عن أرضي، فحينئذ رجعت عن العارية والرجوع يتضمن الضرر وفساد الحصاد، وإذا كان على هذا الوجه فقال طائفة من العلماء: من حقك أن ترجع.
    وقولنا: (من حقك أن ترجع) لا نقول له: اقلع الزرع إلا إذا كان بالإمكان نقل الزرع، لكن إذا كان مثل الحب فلا يمكن نقله وبقية الزروع مثله، فنقول: تبقى إلى الحصاد، ومن العلماء من يقول: ليس من حقك الرجوع إلى الحصاد.
    وهذا هو الصحيح، مثل قضية الجدار، والسفينة، فالقياس من حيث وجود الضرر أنك حينما سمحت بزراعة الأرض فأنت متحمل لجميع التبعات والآثار المترتبة على هذا الإذن.
    لكن لو قلنا بقول بعض أئمة المذهب رحمهم الله الذين يقولون: من حقك أن ترجع، لا تفهم أنها تنتقل المسألة من العارية إلى الإجارة، ويصبح هذا الذي أخذ الأرض مستأجرا بعد أن كان مستعيرا، مثال ذلك: لو أخذ الأرض لزرع يستغرق أربعة أشهر فمضى شهران، فرجع صاحب الأرض وبقي شهران، على هذا القول يدفع أجرة الشهرين الباقيين، ونقول: أبق الزرع ولكن تلزمك أجرة بقية الأشهر أو المدة الباقية؛ لأنه انتقلت من الإعارة إلى الإجارة، والصحيح: أنه ليس من حقه أن يخرجه حتى يحصد الزرع، للأصول التي ذكرناها.



    سقوط الخشب الموضوع على جدار الجار وضمانه


    قال رحمه الله: [ولا يرد إن سقط إلا بإذنه] .
    (ولا يرد)، أي: الخشب.
    قررنا أنه إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقه أن يرجع، وإذا قلت: ليس من حقه أن يرجع.
    وجدت عدة عبارات، تقول: ليس من حقه أن يرجع، لا أجرة له، أي: تصبح يد إجارة بعد يد العارية؛ لأن يد العارية يد ضمان، ويد الإجارة لا ضمان فيها.
    وفائدة المسألة: أنه لو حصل ضرر يضمن إن كان مستعيرا ولا يضمن إذا كان مستأجرا كما تقدم في الإجارة، إذا ثبت هذا فقد قلنا: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقك أن ترجع حتى يسقط الجدار؛ فإن سقط الجدار فلا يخلو سقوطه من حالتين: إما أن يسقط الجدار بدون وجود سبب من المالك؛ كأن تأتي الريح فتسقطه وينهدم البيت، فإذا سقط الجدار وتلف بسبب سقوطه الخشب فحينئذ يكون هناك سببية في التلف، وهو أن سقوط جدارك هو الذي تسبب في إتلاف الخشب، فيرد السؤال الآن: لو تلف خشب الجار فهل يضمن صاحب الجدار قيمة الخشب أو لا؟ قالوا: لا ضمان على مالك الجدار مادام أنه لم يتلفه بنفسه، لكن لو أن مالك الجدار قال لشخص: اهدم هذا الجدار، فلما هدمه انكسر الخشب بسقوطه فحينئذ يضمن مثل الخشب، ونقول له: رد لصاحب الخشب مثله؛ لأنك أتلفته فإذا كان الخشب ليس له مثلي ونوع نادر أو قديم، نقول لأهل الخبرة: قدروا قيمة الخشب يوم سقط الجدار وانكسر، فإن كانت قيمة الخشب في الوقت الذي سقط فيه الجدار ألف ريال، ولما وقعت الخصومة بين الطرفين كانت تساوي ثمانية آلاف، نقول: العبرة بيوم سقوط الجدار.
    الخلاصة: إذا سقط الجدار فالجدار ملك للجار، ويتحمل مسئولية ما ينشأ عن سقوطه وعلى هذا نقول: إذا تلف الخشب بفعل السقوط فالأصل يقتضي أنه يضمن، إلا أنه إذا لم يتسبب في الإسقاط فلا ضمان عليه، فإذا ضمن نقول له: أحضر خشبا مثل هذا الخشب في نوعه وصفته وجودته ورداءته وعدده وقدره، فإذا لم يوجد مثله نقول له: اضمن قيمته، وإذا قلنا: إنه يضمن القيمة، ف
    السؤال هل يضمن القيمة من يوم سقوط الجدار، أو يضمن قيمة الخشب يوم بناء الجدار، أو يضمن قيمة الخشب يوم الخصومة عند القاضي؛ لأنه قد تختلف القيمة، وقد يكون غاليا فيصبح رخيصا والعكس؟ فنقول: عليك الضمان يوم السقوط؛ لأنه لما سقط شغلت ذمة المالك للجدار لضمان حق أخيه المسلم، فوجب عليه ما كانت عليه القيمة في ذلك الوقت الذي ترتب عليه الضمان.



    ضمان العارية


    قال رحمه الله: [وتضمن العارية بقيمتها يوم تلفت ولو شرط نفي ضمانها] .
    هذه المسألة مسألة خلافية، وهي: إذا استعار شخص منك شيئا هل يضمن أو لا يضمن؟ كشخص استعار منك السيارة ثم تلفت في الطريق، هل نقول: عليه الضمان أو لا ضمان عليه؟ قبل الدخول في هذه المسألة ينبغي أن نعلم أن التلف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: إما أن يكون التلف بالتعدي والتفريط.
    فهذا بإجماع العلماء يضمن فيه المستعير، فلو خرج بالسيارة وساقها على طريق فيه ضرر نقول: يضمن، فكل شيء فيه تعد وإساءة وإضرار تنتقل فيه يد الأمانة إلى الضمان بإجماع العلماء؛ فإذا أخذ منك أي شيء ولم يحسن التصرف أثناء أخذ منفعته المأذون بها فإنه ضامن.
    القسم الثاني: أن يأخذ منك الشيء ولا يتعدى ويحسن الانتفاع به؛ فتأتي آفة سماوية أو معتد مجهول ويفسد هذا الشيء، كما لو أخذ منك السيارة ثم أوقفها في مكان أمين، فجاء شخص وأخذ منها أشياء ففي هذه الحالة يرد
    السؤال هل يضمن أو لا يضمن؟ إن أخذ منك كتابا فجاء شخص وأتلفه ولم نعلم من الذي أتلفه، إذ لو علمنا لضمناه، لكن السؤال: إذا لم نعلم، وقال: والله إن الكتاب الذي أخذته منك سرق.
    في هذه الأحوال كلها إذا كان فيه تعد يلزمك الضمان، لكن إذا لم يفرط هل يضمن أو لا؟ قولان عند العلماء: القول الأول: كل عارية تؤخذ من صاحبها فإنها مضمونة حتى ترد، وهذا القول هو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث وأئمة السلف رحمة الله على الجميع.
    القول الثاني: العارية لا تضمن إلا إذا تعدى، وهذا مذهب المالكية والحنفية، والمالكية عندهم تفصيل بين الشيء الظاهر والشيء الخفي، لكن من حيث الجملة متفقون مع الحنفية على أن العارية لا تضمن.
    أما بالنسبة للذين قالوا: إن العواري تضمن فقد استدلوا بأدلة: الدليل الأول: ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وأحمد في مسنده وصححه الحاكم وغيره من حديث سمرة -وفيه الخلاف المشهور في سماع- الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) والصيغة صيغة إلزام ومعنى: (على اليد) الشخص الذي أخذ، فذكر الجزء وأراد الكل، وهذا معروف في لغة العرب كقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب) [المسد:1] ذلك بما قدمت يداك} [الحج:10] والمراد: كلك، فقوله: (على اليد) ، يعني: على الإنسان الذي أخذ أن يؤدي الذي أخذه، فإذا أخذ منك قلما يكتب به؛ يلزمه أن يرد ذلك الشيء، فلما قال: (عليه) ، معناه: أنه ضامن، متحمل للمسئولية، ومعناه: أنه متكفل بذلك الشيء؛ بحيث لو طرأ عليه أي ضرر فإنه يتحمل مسئوليته.
    الدليل الثاني: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه غير واحد من العلماء: أنه لما أراد الخروج إلى غزوة حنين استعار من صفوان رضي الله عنه وأرضاه أدرعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزو حنين خرج معه المسلمون والمؤلفة قلوبهم من مكة، فزاد عدد الجيش الذي خرج من المدينة مع الذين أسلموا يوم الفتح، فاحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مثل هؤلاء أن يكون معهم سلاح زائد، فاستعار من صفوان رضي الله عنه سلاحه وأدرعه فقال صفوان: (أغصبا يا محمد!) يعني: هل أخذت مني هذه العارية بالقوة والغصب والقهر، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة) أي: ما أخذت حقك -وما كان صلى الله عليه وسلم ليأخذ حقوق الناس- بل سأقضي بها حاجتي ثم أردها إليك، ثم قال: (مضمونة) أي: أتحمل ردها إليك كاملة.
    فهم من هذا الفقهاء رحمهم الله الذين يقولون بالضمان: أن كل عارية تأخذها فأنت مسئول عنها حتى تردها كاملة إليه، يستوي في ذلك العقار كالبيوت ونحوها أو المنقولات كالسيارات ونحوها.
    فائدة هذا الحديث في دلالته على هذه المسألة: أننا نلزمك برد الشيء الذي أخذته حتى ولو تلف بدون اختيارك أو تفريط منك، وهذا معنى قوله: (بل عارية مضمونة) أي: سأرد لك هذا الشيء الذي أخذته منك عارية ولا أفرط فيه حتى يعود إليك كما أخذته.
    القول الثاني: الذين قالوا: بأنه لا يضمن، استدلوا بالقياس، وقالوا: الأصل العام في قواعد الشريعة: أن العارية كالوديعة، وكما أن الوديعة أمانة ولا تضمن إلا إذا فرط من استودع، كذلك العارية لا يضمن المستعير إلا إذا فرط فيها وعرضها للضرر، والصحيح ولا شك هو وجود الضمان وثبوته.
    فائدة الخلاف: أننا إذا قلنا: إنها مضمونة.
    فإنك لو أعطيت سيارة أو دارا وحصل أي ضرر على هذه السيارة أو الدار ولو لم يكن للمستعير فيه دخل ولم يكن بتفريط منه فإنه يلزمه الضمان، وكما أخذها كاملة يردها كاملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) وقال: (بل عارية مضمونة) هذا بالنسبة لمسألة الضمان.



    حكم الاستعارة بشرط عدم ضمان العارية


    عرفنا أن القول الراجح هو: أن العارية مضمونة بدلالة السنة على ذلك، لكن يرد
    السؤال إذا كانت مضمونة؛ فلو أن شخصا أراد أن يستعير منك كتابا وقال: أستعيره بشرط أني لا أضمنه، هل من حقه ذلك أو لا؟ وهل هذا الشرط الذي اشترطه عند الاستعارة يسقط الضمان أو لا يسقطه؟ على القول بأن الضمان ثابت، يصبح الخلاف عند الشافعية والحنابلة قولان: القول الأول: الشرط باطل؛ لأنه مصادم للسنة، والسنة تقول: (بل عارية مضمونة) ، ودل على أن شأن العواري أن تضمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط) ، فالشروط التي تعارض الشرع لا يلتفت إليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه العارية بكونها مضمونة، فلا يمكن أن نلغي هذا الوصف بالشرط.
    القول الثاني: أن العارية إذا قلنا بضمانها يمكن إسقاط الضمان بالشرط، فتقول له: أستعير منك السيارة بشرط أن لا أضمنها إذا تلفت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم) وهذا مسلم قد اشترط أنه لا يضمن عاريتك.
    والصحيح: أن الشرط فاسد؛ لأن السنة دلت على وصف العارية بأنها مضمونة، وأن من شأنها أن تضمن؛ فإذا اشترط أنه لا يضمن فقد خالف شرع الله عز وجل، ولذلك نقول: لا نعرف العارية في الشرع إلا مضمونة، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فألزم الرد.
    ثم إننا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل في الشروط فيقول: (كل شرط ليس في كتاب الله ... ) والمراد بقوله: (ليس في كتاب الله) ، ليس في الكتاب والسنة؛ لأن السنة من كتاب الله كما قال: (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) فإذا كان الشرط يعارض السنة ويخالفها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فإننا نقول بالضمان.
    الأمر الثاني: مما يرجح هذا القول: أنه كما ترجح من جهة الأثر يترجح من جهة النظر، فإن صاحب الشيء المستعار الذي أعطاك سيارته أو كتابه قد تفضل وأحسن، ولا يمكن أن نجعل عليه غرمين، فهو لم يأخذ أجرة مقابل المنفعة، وليس من العدل أن نقول: وأيضا تضمن التلف، بل العدل أن هذا يأخذ العارية وينتفع بها ويتحمل مسئولية ردها ويضمنها؛ بناء على ذلك: لو اشترط المستعير على المعير أن لا يرد فقد أجحف به وأضر، ولم يتحقق العدل الذي قامت عليه هذه الشريعة؛ وبناء على ذلك لابد من عدل بين الطرفين: المستعير والمعير، ونقول: إنه إذا اشترط فإن الشرط مجحف وفيه ضرر؛ فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه.



    مؤنة العارية وأجرة ردها


    قال رحمه الله: [وعليه مؤنة ردها إلا المؤجرة ولا يعيرها] .
    وعلى المستعير مؤنة رد العارية.
    هذه المسألة تقع في الأشياء التي تحتاج إلى كلفة النقل، وفي زماننا توجد الآلات التي يكون حملها فيه مؤنة أو يكون ما استعاره نقله من بلد إلى بلد، مثال: شخص جاءك وقال: أريد منك هذه الماكينة الزراعية فأخذها وانتفع بها سنة ثم جاءك بعد السنة، وقال لك: ائت خذ ماكينتك أو خذ الآلة التي أعرتني، تقول له: إن الشرع يلزمك بردها إلي: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ما دمت أنك قد أخذتها من مزرعتي فأنت ملزم بردها إلى الموضع الذي أخذتها منه، ولا يلزم بشيء زائد على ذلك.
    وإذا قلنا: إنه ملزم.
    تفرعت العبارة التي ذكرها المصنف، أنه يدفع مؤنة حملها، فلو قال لك: أنا نقلتها إلى مزرعتي؛ لأني محتاج إليها، والآن أنا لست محتاجا بل أنت الذي تحتاجها فعليك ردها، لو كان فقيها يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ، فدل على أنه يرد العارية، وأنه ملزم بردها، وعلى ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بل عارية مضمونة) ، فنلزمه بالرد إلى الموضع الذي أخذ منه العارية، فلو أخذ العارية من طرف المدينة وأوصلها إلى المكان الذي أخذها فيه وقال لصاحبها: خذ عاريتك، قال: لا أقبل حتى تحضرها إلى بيتي، نقول: لست ملزما بذلك بل أنت ملزم بإحضارها إلى الموضع الذي أخذتها منه، هذا بالنسبة لما فيه كلفة ومؤنة النقل.



    حكم رد العين المؤجرة


    ثم قال: (إلا المؤجرة) .
    هذه العبارة استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، مثلا: لو أخذ منك سيارة واستأجرها لكي يقضي عليها مصلحة، وجاء بالسيارة وأوقفها في مكان ما، وقال لك: خذ سيارتك، نقول: نعم.
    العين المؤجرة لا يلزم المستأجر ردها إلى صاحبها ومؤنة الرد عليه، مثل الشركات الموجودة الآن، لو استأجر هذه السيارة من الشركة على أن يذهب بها إلى المدينة والشركة في مكة، نقول: من ناحية شرعية يذهب بها إلى المدينة والشركة ملزمة برد سيارتها؛ لأن العين المؤجرة لا يضمن فيها المستأجر بردها إلى الموضع الذي أخذها منه، لكن لو كان الاتفاق أنه يرجع ما استعار، ففي هذه الحالة نقول: عليه أن يردها إلى الموضع الذي فيه الشركة.
    وبناء على ذلك يفصل في الإجارة: من حيث الأصل العام لا نلزم المستأجر برد العين المؤجرة ويلزم فقط بالمحافظة عليها؛ لأن هناك فرقا بين رد العين المؤجرة ومؤنة ردها وبين المحافظة عليها، وتقدم في كتاب الإجارة أن المستأجر يجب عليه شرعا أن يرد العين التي استأجرها مثلما أخذها، فإذا استأجر عمارة أو شقة أو دارا يردها كاملة إن أخذها كاملة ويردها ناقصة إن كانت ناقصة، فإذا أخذها واستأجرها سنة فأتلف شيئا في جدرها أو نوافذها أو أبوابها فإننا نلزمه بإصلاح ذلك الذي أتلفه كله، ويجب عليه أن يرد العين كاملة كما أخذها كاملة.
    هذا من جهة المحافظة، وليس له علاقة بمسألتنا.



    الأسئلة





    حكم العارية إذا مات المستعير قبل انتهاء مدة الإعارة












    السؤال رجل أعار أرضا ثم مات ولم ينته الزمن الذي قد حدده، فهل للورثة رد العارية قبل الموعد؟
    الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فمن استعار شيئا، وكانت العارية مؤقتة بزمان، وقال له صاحب الأرض: خذ هذه الأرض سنة، وتوفي في نصف السنة، فإن العارية إذن بالمنفعة وليست بتمليك، وتتخرج على نفس المسألة التي ذكرناها، وفي هذه الحالة يجب على الورثة أن يردوا الأرض إلى المالك الحقيقي؛ لأنهم لا يقومون مقام مورثهم، وليس للمستعير أن يقيم غيره مقامه، فإذا وجد فيها زرع نقول للورثة: عليكم دفع أجرة الزرع في النصف الباقي من السنة، فتنتقل العارية من كونها عارية إلى كونها إجارة إلا إذا طابت نفس المالك الحقيقي وقال: أعرتكم كما أعرت مورثكم.
    وفي هذه الحالة لا إشكال، والله تعالى أعلم.
    وجوب الضمان للعارية حتى ولو لم يوجد تفريط


    السؤال هل تضمن العارية في حالة وقوع التلف أثناء الاستخدام حتى ولو لم يكن في استخدامه تعد أو تفريط؟
    الجواب إذا استخدم السيارة بدون تعد أو تفريط وحصل تلف فهذا هو الذي فيه الخلاف، مثلا: خرج بالسيارة من المدينة إلى جدة وفي الطريق حصل تلف في السيارة، فهذا التلف أهل الخبرة يقولون: ليس استعماله مؤثرا، إنما هو تلف عارض، فنقول في هذه الحالة: تضمن سواء كان التلف بسببك أو بدون سببك؛ لأنه إذا كان التلف بسببه فبالإجماع يضمن، ومحل الخلاف فقط: إذا كان التلف بغير سببه هل يضمن أو لا يضمن؟ والصحيح أنه يضمن لظاهر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
    هناك قاعدة دلت عليها السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة في سنن أبي داود، وهي مما أجمع العلماء على العمل بمتنها، وهو من الأحاديث التي تكلم في سندها وصح متنها، وقد قرر شيخ الإسلام وأئمة الحديث أن من السنة ما صح متنه وضعف سنده؛ فأغنت صحة متنه وشهرته بين العلماء عن طلب السند، لأن الأصول تصححه وتقويه، فلو كان سنده ضعيفا فإن الأصول الشرعية تدل على ثبوته، كما لو جاء حديث ضعيف يأمر بالصلاة فضعف سنده لا يوجب رده وقد يكون المتن صحيحا فنعمل بالمتن، لكن ضعف السند يمنعنا من نسبة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك فرق بين القضيتين.
    ولذلك تجد البعض يشنع على من يقول بأحاديث ضعيفة، فيغفل عن هذه القواعد والضوابط التي قررها أهل العلم رحمة الله عليهم، فإن الحديث إذا كان ضعيفا وحكاه أهل العلم وأشاروا إلى ضعفه أو عزوه إلى من أخرجه، كان ذكره من باب الاستشهاد بالمتن الذي شهدت له الأصول.
    يقول الإمام أحمد في حديث: (الخراج بالضمان) حديث عائشة الإجماع على العمل به، يعني: أجمع العلماء على العمل بمتنه، فهنا في العارية من الذي يأخذ المنفعة، من الذي يستفيد؟ المستعير، فنقول: تضمن هذه العين التي أنت آخذ منفعتها إذا حصل الضرر مدة الانتفاع.
    فحتى مع أصول الشريعة القول الذي يقول بالتضمين يستقيم من جهة النظر، ويستقيم أيضا من جهة الأثر للحديث الذي ذكرناه، فسواء فرط أو لم يفرط فهو ضامن حتى يرد العين كما أخذها، والله تعالى أعلم.
    حكم تضمين العامل إذا أتلف شيئا على الزبائن
    السؤال لي محل لإصلاح الأجهزة، فأتلف العامل جهازا لأحد الناس على وجه الخطأ، فمن الذي يضمن، العامل أم صاحب المحل؟

    الجواب هنا أمران: الأمر الأول: الأجير أو العامل في المحل تارة يكون عاملا عند صاحب المحل بالأجرة، وتارة يكون شريكا معه، وهذا يقع على اختلاف العلماء في مسألة الشراكة، إذا كان العامل الذي في الدكان يعمل ويأخذ أجرة شهرية، فصاحب الدكان يتحمل ضرر العامل الذي لم يخرج فيه عن أصول المهنة، وكل ضرر يقع من العامل بدون تفريط أو خروج عن أصول المهنة يضمنه صاحب المحل؛ لأن صاحب المحل يأخذ ربح المحل فيتحمل الخسارة التي تقع في المحل على القاعدة التي ذكرناها.
    لكن لو أن العامل تساهل فحمل الزجاج ويده مبللة فسقط وانكسر، نقول: يضمن العامل؛ لأن المباشرة تسقط حكم السببية، وعلى هذا فقد باشر العامل الإتلاف بتفريط، وذلك عن طريق حمل هذا الشيء بطريقة محتملة للضرر ولم يتعاط أسباب المحافظة، وهذا تقصير وإهمال، ولو أن العامل جاء لكي يضع الغطاء على الشيء الذي أصلحه فوضعه بقوة فكسره أو أتلفه أو عطل شيئا فيضمن العامل؛ لأن فعله وطريقة وضعه لا تتفق مع أصول المهنة، ولو جاء العالم بالأجهزة الكهربائية فشبكها -مثلا- في الأفياش الكهربائية فاحترقت الأجهزة وكان هناك شيء في داخل الجهاز، نقول: إذا كانت أصول العمل عند الكهربائي أنه كان ينبغي عليه أن يفتش الجهاز الذي يريد إصلاحه فلم يفتش عن ذلك وجاء مباشرة وشغله حتى احترق فإنه يضمن لأن الاحتراق وقع بفعله، حينما أدخل هذا الفيش واشتعل الجهاز بسبب شبكه للفيش، فهو الذي باشر ويلزم بالضمان.
    كل هذا فيه قواعد وثوابت تدور حول إهمال العامل وعدم إهماله، فإذا فعل العامل أي شيء لا نستطيع أن نقول: إنه مهمل أو غير مهمل إلا عن طريق أهل الخبرة، فإن كان العامل في الحدادة نرجع إلى الحدادين، النجارة النجارين، أي صنعة نرجع إلى أهل الخبرة فيها، وهذا شيء تكلم العلماء عليه كلاما نفيسا، وهي مسألة: شهادة أهل الخبرة.
    ومن قرأ الفقه الإسلامي يعلم عزة هذه الشريعة وعظمتها وسموها، ويدرك أن كل شيء وضعه العلماء والأئمة فهو في موضعه؛ لأن هذه الأحكام تفرعت وبنيت على شريعة كاملة، وما بني على التمام والكمال كان له حظ من ذلك الوصف، فالشيء الذي يبنى على قواعد يكون شيئا مقربا وثابتا.
    فالعامل إذا عمل شيئا خلاف ما قرره أهل الخبرة نقول: عليك الضمان، إذا عمل عملا ليس موافقا لكلام أهل الخبرة، وإذا حصل شيء قضاء وقدرا فإنه يضمن صاحب المحل وعليه الضمان بالشرط الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.



    الرجوع إلى العرف في الانتفاع بالعارية


    السؤال إذا كانت العارية إذنا بالمنفعة وليست ملكا للمنفعة، فأشكل علي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار أدرعا من صفوان رضي الله عنه وأعطاها الصحابة ولم ينتفع بها هو عليه السلام؟
    الجواب لله درك، هذا سؤال جيد واستشكال جيد، وهذا قررناه وبيناه في مسائل الإجارة، مثلا: عندما تقول لشخص: وكلتك في تنظيف العمارة، فإن الوكيل ليس له أن يوكل غيره، لكن العرف والمعروف أن مثله ليس هو الذي ينظف، ولما قلت له: وكلتك في تنظيفها، يعني: وكلتك أن تأتي بمن ينظفها، فهذا شيء له ضوابطه وثوابته: أن العطاء للعارية إن كان على وجه جرى به العرف واقتضى تقييدا وإطلاقا قيد وأطلق به ولا إشكال في هذا، والحمد لله، والله تعالى أعلم.



    حكم تكرار العمرة للمتمتع قبل الحج


    السؤال رجل تمتع بعمرة إلى الحج، ثم أراد أن يعتمر تطوعا قبل اليوم الثامن، فهل يجوز له ذلك؟
    الجواب العمرة جائزة في سائر السنة، وليس هناك محذور في إيقاع العمرة وزيارة البيت في أي وقت ما لم يكن الإنسان متلبسا بنسك الحج في وقت يمتنع عليه أن يأتي بالعمرة فيه، واختلف العلماء رحمهم الله في الحاج إذا تحلل وأراد أن يأتي بالعمرة في أيام التشريق، وهي مسألة خلافية تقدم الكلام عليها في كتاب المناسك، لكن بالنسبة لمسألتنا: لو جاء بعمرة من بلده ثم بقي بمكة ثم أنشأ عمرة ثانية وهو بمكة؛ فإن هذا جائز من حيث الأصل العام، ويستوي في ذلك أن تكون العمرة له أو لغيره، كأن ينشئ عمرة عن والده الميت الذي لم يعتمر، أو عن والدته، أو عن إنسان آخر لم يعتمر؛ فأراد أن يبرئ ذمته فهو مأجور على ذلك، أما عن نفسه فإن الأشبه والأولى أن لا يفعل ذلك، لكن لو فعله فليس هناك دليل يدل على التحريم والمنع، لكن يرد السؤال: لو فعل العمرة الثانية فهل التمتع بالأولى أم بالثانية؟ والجواب: أن التمتع واقع بالعمرة الأولى لا الثانية؛ لأن العمرة الأولى أنشأها في أشهر الحج وهو ناو للحج من عامه، وكان المنبغي عليه بعد انتهائه من عمرته وعند إرادته للحج أن يرجع إلى الميقات، فصار وجوب الدم عليه مبنيا على سقوط السفر إلى الميقات، فاستوى أن تدخل عمرة أو لا تدخل؛ لأن العبرة بكونه لم يسافر للإحرام بحجه من الميقات، ولذلك إذا رجع إلى بلده أو إلى ميقاته أو مسافة القصر سقط عنه دم التمتع، وعلى هذا فإننا نقول: إن العمرة الثانية لا تقطع العمرة الأولى على الوجه الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.



    سقوط طواف الوداع عمن دون مسافة القصر


    السؤال من كان ساكنا بمنطقة مكة وخارج حدود الحرم -كأهل حي البحيرات- فهل عليهم طواف وداع؟
    الجواب من كان خارج حدود الحرم ففيه تفصيل: إن كان دون مسافة القصر -كأهل الجموم- فهؤلاء ليس عليهم طواف وداع، وأما إذا كانوا فوق مسافة القصر -كأهل عسفان وقديد- فهؤلاء يلزمهم طواف الوداع، والله تعالى أعلم.



    حكم القارن إذا لم يستطع سوق الهدي


    السؤال رجل يريد الحج قارنا ولم يستطع سوق الهدي، فهل يصح هذا النسك؟
    الجواب ظاهر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ساق الهدي، ولا يجوز للقارن أن يترك هذه السنة التي أطبقت فيها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: (إني قلدت هدي ولبدت شعري؛ فلا أحل حتى أنحر) فدل هذا على أن الأصل في القارن أن يسوق الهدي معه وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم العبرة بأن يوقف الهدي معه، فإذا حصل ذلك أجزأه حتى ولو أخذه من مكة، وأما بالنسبة لكونه يترك هذه السنة ويأخذ الهدي من مكة وهو قادر على سوقه، فقال بعض العلماء: يكون آثما لمخالفته هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفعلي الذي قال: (خذوا عني مناسككم) فلابد من سوق الهدي في القارن على الوجه الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.



    أخذ المال على الحج عن الغير


    السؤال إذا أردت الحج عن الغير بمقابل مال لنفقة الحج ولتسديد الديون، فهل هذا يجوز؟
    الجواب لنفقة الحجة نعم، أما لتسديد الديون فلا يجوز، فالصحيح أن الحج ممكن أن تأخذ عليه أجرة بقدر ما أنفقت من مركب ومسكن ومنزل وهدي إذا كان الحج تمتعا أو قرانا، أما أن يكون الحج محلا للمزايدة والبيع والشراء، أحج عن ميتك بخمسة آلاف، لا بسبعة آلاف، كأنها بيع وشراء فلا، وهذا النوع من الإجارة يسميه العلماء بالإجارة على المقاطعة، والأول يسمونه الإجارة على البلاغ، والإجارة على البلاغ؛ أن يتحمل الورثة بلاغ الحاج إلى مكة، فيتحملون نفقة الركوب والأكل والملبس الذي يحتاج إليه لعمرته وحجه، وتحتسب النفقة ذهابا وإيابا، ويكون الضابط فيها: العرف لمثله؛ فإذا التزموا بذلك وأعطوه مبلغا ونقص المبلغ وجب عليهم أن يكملوه، ولو أعطوه مبلغا وزاد المبلغ وجب عليه أن يرد الزيادة، فلو أعطيت شخصا عشرة آلاف على أن يحج عن ميتك فحج وكلفه الحج أربعة آلاف وجب عليه رد الستة آلاف، ولو أعطيته ثلاثة آلاف وحج واشترى الهدي وبلغت تكاليفه خمسة آلاف تعطيه الألفين، هذا بالنسبة للأجرة على البلاغ، وهي التي يمكن أن يقال بها دون ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.



    توجيهات لطلبة العلم في التعامل مع الحجاج


    السؤال بعض الحجاج يستفتي بعض طلبة العلم فما هو الطريق الصحيح لطالب العلم في مثل هذه الحالة؟
    الجواب لاشك أن تعليم الحجاج ودلالتهم على الخير من أعظم الطاعات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الحجاج ضيوف على الله سبحانه وتعالى، والضيف يكرم ولا يهان يحسن إليه ولا يساء، ومن اتقى الله عز وجل في حجاج بيته فأحسن إليهم أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة، فإن الله وصف الحجاج بأنهم آمون لبيته يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، وأعظم شيء يطلبه الإنسان رضوان الله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة:72] ، وهذا الرضا جعله الله فوق الجنة، أي: زيادة على الجنة، كما في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله يطلع على أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا! وأعطيتنا! وأعطيتنا فيقول الله تعالى: أو لا أزيدكم، أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم أبدا) .
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحل علينا رضاه فلا يسخط علينا أبدا، اللهم إنا نسألك الرضا الذي لا تسخط بعده أبدا.
    فهذا الضيف الذي وعده الله عز وجل برضوانه وعفوه وغفرانه أن يعتق رقبته، وأن يعظم أجره ومثوبته، حتى أن الله لم يرض له جزاء إلا الجنة، يحتاج إلى تذكير بالله ودلالة على الخير، فإذا كان المسلم يستشعر أن الحاج ضيف على الله بهذه العبادة فليعلم أن أكمل ما تكون عليه العبادة هو العلم الشرعي المقرون بالعمل، ولا يمكن أن يكون حاجا على أتم الحج وأكمله إلا إذا كان عالما بالسنة ومطبقا لها، ولا يمكن أن يتعلم إلا إذا وفقه الله عز وجل لمن كان على بصيرة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة؛ فعلمه وأفتاه وبين له الحق.
    أوصي طلاب العلم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، وأن يعلموا أن على أعناقهم ورقابهم أمانة وهي أمانة العلم، فتبليغ العلم أمانة، والله خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات بأداء هذه الأمانة: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة:67] فأمره أن يبلغ، وحتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحس أن هذا البلاغ حتم عليه وواجب، وأنه أمر عظيم ثقيل، وقف عليه الصلاة والسلام أمام الأمة في يوم حجة الوداع في يوم عرفة، وكان أول ما استفتح به عليه الصلاة والسلام أن قال: (أيها الناس! اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أبدا، ثم قال: أيها الناس! إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت.
    فقال: اللهم فاشهد! اللهم فاشهد! اللهم فاشهد) .
    هذا يدل على أن تبليغ العلم ودلالة الناس على الله عز وجل والقيام بهذا الواجب العظيم فريضة على كل من استبان له هذا الصراط المستقيم أن يدل الناس عليه، فالواجب أن تنظروا إلى الحجاج أنهم بحاجة إلى هذا العلم فتأخذوا بمجامع قلوبهم إلى الله، وأعظم ما تقدمونه لهم: صلاح دينهم وإيمانهم بالله عز وجل، وسلامة عقيدتهم بالإخلاص لله جل جلاله الذي من أجله كان الحج والعمرة، وشرائع الإسلام، وهو التوحيد الخالص والإيمان الكامل، ودلالتهم على صلتهم بالله عز وجل في الدعاء والاستغاثة والرجاء والذبح وغير ذلك من مسائل العقيدة المهمة التي عليها مدار الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، بل عليها قبول الأعمال وردها، بل من أجلها أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، وأول أمر في كتاب الله أمر الله به خلقه: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة:21] ، وأول نهي في كتاب الله عز وجل نهى عنه خلقه: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة:22] ، فالواجب على طلاب العلم أن يبدأوا بهذا الأساس العظيم الذي عليه صلاح الدين والدنيا والآخرة واستقامة الأمور كلها.
    أما الأمر الثاني الذي يجب على طلاب العلم أن ينتبهوا له: تعليم الناس هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلمونهم السنة وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحج، وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمر، وماذا كان يفعل، وماذا كان يقول، فهذا من أعظم ما يكون فيه الخير والبر: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) هكذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله) النضارة: الحسن والنور في الوجه، فأهل السنة وجوههم مشرقة في الدنيا والآخرة.
    فلا يزال طالب العلم في نور ورحمة يخوض غمار رحمات الله عز وجل، ومن هنا يبارك الله لطالب العلم في علمه حين يعلم الناس ويحرص على دلالتهم على الخير، وإذا جئت تحج تنظر عن يمينك وشمالك من الذي يحتاج إلى فتوجيه فتوجهه ولكن بالتي هي أحسن، فتنظرون إلى كبيرهم كأب ووالد تقدرونه وتجلونه، وتنظرون إلى من في سنكم أنه أخ لكم في لا إله إلا الله وبينكم وبينه وشائج الإسلام، وتنظرون إلى من هو صغير أنه مثل فلذات الكبد عزيز عليكم تنزلونه المنزل اللائق به، وتفعلون ذلك لله وفي الله وابتغاء مرضات الله.
    لا تنظروا إلى لون ولا جنس ولا مصر ولا قطر ولا طائفة، ولكن انظروا إلى شيء واحد وهو الأخوة في الإسلام، وكونهم إخوة لكم في هذا الدين تحبونهم في الله، ولتعلموا أنهم ضيوف عليكم، والله يعلم أنهم ضيوف عليكم وأنهم يحبونكم في هذا الدين، وأنهم قد استودعوا صدورهم حسن الظن بكم، ولنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم فوق ما يظن بكم من خير، والله أنعم على هذه البلاد نعمة عظيمة، فإن الناس يأتون هذا البيت ويزورونه فيخرجون بالمشاعر الطيبة، يخرجون وقد رأوا شعائر الإسلام وأخوة الإسلام، ورأوا أمة تقوم بصلاتها وزكاتها وعبادتها والتآلف فيما بينها، فهذا لا شك أنه نعمة عظيمة، يرون الإسلام أمام أعينهم بكم أنتم إذا وفقكم الله لتطبيقه والقيام بحقوقه والالتزام بفرائضه وأداء ما أوجب الله عليكم تجاه إخوانكم، فأحسنوا بهم الظنون، وأحسنوا إكرامهم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيننا وإياكم على ذلك الخير والبر، والله تعالى أعلم.



    حكم الحاج إذا اعتمر عن الغير في أشهر الحج


    السؤال من اعتمر في أشهر الحج عن الغير وحج عن نفسه؛ فهل تلك العمرة التي أداها عن الغير مؤثرة وتصير النسك إلى التمتع؟
    الجواب إذا اعتمر عن شخص وحج عن آخر أو حج عن نفسه أو العكس فليس حاله بحال المتمتع ولا يلزمه دم التمتع، ويكون اعتماره عن الغير كاعتمار الغير معه، كما لو جاء الغير معه معتمرا وهو حاج عن نفسه؛ ونحو ذلك: إذا نوى العمرة عن والده ثم حج عن نفسه أو العكس، لكن المشكلة لو أنه دخل من ميقات الجحفة ناويا العمرة عن والده والحج عن نفسه؛ فإن الواجب عليه بعد انتهائه من عمرة الوالد أن يرجع فيحرم بالحج من ميقات الجحفة؛ لأنه مر بالميقات ناويا النسكين، فيلزمه أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، فلا يحرم بالحج من هنا إلا إذا كان قد جاء بعمرة ولم ينو الحج في هذا العام، ثم طرأت عليه نية الحج وهو بمكة؛ فأصبح هناك صورتان: الصورة الأولى: أن يأتي من خارج المواقيت ناويا النسكين بالنوعين اللذين ذكرناهما، فنقول: ليس بمتمتع، هذا الحكم الأول، الحكم الثاني: يرجع بعد العمرة لكي يأتي بالحج من الميقات، فلا يتمتع بالعمرة إلى الحج لأنها عمرة منفصلة عن الحج، وإنما تكون العمرة متصلة لو كانت عن الشخص نفسه {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة:196] فهي للشخص نفسه، أما لو كانت العمرة عن شخص والحج عن آخر فإنه يكون كحج لشخص وعمرة لشخص جاءا مع بعضهما، هل نقول: عليهما دم تمتع؟ نقول: لا، فكذلك إذا نواه عن الغير؛ لأنه نية الغير ليست له هو، ولم يتمتع بها لحجه هو، وكذلك إذا كان الحج لوالده فلم يتمتع بها لحج والده، ولذلك تقع لوالده حجة مفردة ولا تقع تمتعا.
    الأمر الثاني: يلزمك أن تخرج إلى الميقات؛ لأنك مررت بالميقات في زمان الحج ناويا النسكين، إلا إذا طرأت نية النسك الثاني وأنت بمكة فتحرم من مكة ولا شيء عليك، فإن لم يرجع إلى الميقات -في الصورة الأولى- وأحرم بالحج من مكة فعليه دم الجبران لا دم التمتع، وعليه جماهير السلف والخلف وأئمة الصحابة رضي الله عنهم ورحم الله أئمة العلم أجمعين.
    والله تعالى أعلم.



    حكم طواف الإفاضة لمن عجز عنه


    السؤال من عجز عن طواف الإفاضة لكبر السن، وليس له مال يدفعه لمن يحمله ويطوف به، فما الحكم؟
    الجواب طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، ومن حيث الأصل: التوكيل يجوز في الحج كله ويجوز في بعضه، وورد التوكيل في مسألة الرمي، فكان بعض مشائخنا رحمهم الله يقول: إذا طرأ عذر على الحاج ولم يستطع أن يطوف طواف الإفاضة وانتقل إلى بلده، مثلا: حصل عليه حادث فانعاق كلية، أو حصل عليه ضرر لا يستطيع معه أن يطوف البتة، ففي هذه الحالة قولان: القول الأول: أنه لا يجب عليه أن يطوف، كالميت الذي وقصته دابته فلم يلزمه إتمام نسكه للعجز؛ ولكن هذا القول مرجوح، وهناك من بعض مشائخنا من ناظر في هذه المسألة من كان يقول بهذا القول وقال: الأشبه أن يوكل؛ لأنه تعذر عليه أصالة، وقد صح شرعا أن يوكل في كل الحج، فلأن يصح في جزء الحج من باب أولى وأحرى.
    القول الثاني: أنه يوكل غيره في حال عجزه الكلي، فإن كان لا يستطيع أن يطوف البتة، فإنه يمكن أن يقال بأنه يوكل من يطوف عنه، كما لو تعذر عليه الحج كله، فإنه يجوز أن يحج عنه غيره.
    وبناء على ذلك: يستقيم أن يوكل من يطوف عنه طواف الإفاضة، ويبقى ممتنعا حتى يطاف عنه، يعني: يكون التحلل الثاني بالنسبة له متوقفا على هذا الطواف.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.

  9. #369
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب العارية )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (369)

    صـــــ(1) إلى صــ(21)






    شرح زاد المستقنع - باب العارية [3]
    أباحت الشريعة عقد العارية حتى ينتفع الناس بعضهم من بعض، لكن لم تطلق الشريعة للمستعير أن يتصرف في العارية بما شاء، بل وضعت له ضوابط وقيودا متى تعداها تحمل مسئولية هذا، فإذا اختلف هو وصاحب العارية فيرجعان إلى القضاء فيفصل بينهما بضوابط قد نص عليها العلماء.

    أحكام التصرف في العارية

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
    أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا ومنكم صالح الأقوال والأعمال، وأن يعيد علينا هذه الأيام المباركة بكل خير وبركة، وأن يجعلها عزا لدينه ونصرة لأوليائه؛ إنه السميع المجيب.
    كان حديثنا عن جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بعقد العارية، وكنا قد ذكرنا أن هذا العقد يعتبر من أهم العقود التي تعم بها البلوى؛ لأن الناس يحتاج بعضهم إلى بعض بعد الله سبحانه وتعالى، فيحتاج المسلم إلى استعارة شيء من أخيه المسلم، وبينا مشروعية ذلك وجوازه، والأحكام المتعلقة بذلك، والمسائل المترتبة على هذا العقد.

    حكم إعارة العارية

    قال رحمه الله: [ولا يعيرها] .
    لا يجوز للمستعير أن يعير العارية للغير، وهذه مسألة مفرعة على ضابط العارية، بعض العلماء يقول: العارية إذن بالمنفعة.
    وبعض العلماء يقول: العارية تمليك للمنفعة.
    فهناك مذهبان: مذهب يقول: كل شيء تعيره للناس فقد ملكته لمن استعار.
    وهناك مذهب آخر يقول: كل شيء تعيره للناس فقد أذنت لمن استعار أن ينتفع به، توضيح ذلك بالمثال: لو كان عندك سيارة، وقلت: يا محمد! أعرتك سيارتي هذا اليوم تستفيد منها، وعند المغرب تردها لي، هذه عارية، وأخذ العارية وتحددت بالزمان وهو يوم، فلما نظرنا في كلامه: (خذ السيارة يوما) وجدنا العلماء ينقسمون إلى طائفة تقول: محمد يملك منفعة السيارة، وطائفة تقول: صاحب السيارة أذن فقط لمحمد أن ينتفع.
    الفرق بين القولين: أن القول الأول الذي يقول: محمد ملك المنفعة، يكون من حق محمد أن يعطي السيارة لغيره لكي يركبها ويأذن لغيره بأن ينتفع مثلما أذن له؛ لأنه ملك هذه المنفعة، فمن حقه أن ينتفع هو وأن ينفع غيره، وأيضا من حقه أن يأخذ السيارة منك عارية ويؤجرها للغير ويضمنها حتى يردها إليك.
    هذا بالنسبة للقول الذي يقول: إنه مالك للمنفعة.
    ويختار هذا القول أئمة الحنفية والمالكية والشافعية رحمهم الله، ويقولون: إن العارية تمليك للمنفعة.
    وقال طائفة من العلماء: العارية إذن بالمنفعة.
    وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وعليه المذهب، أن العارية إذن وسماح بالمنفعة، وإذا قلت: إذن.
    ننظر في هذا الإذن هل هو مقيد أو مطلق؟ وجدناه مقيدا؛ فأنت قلت: يا محمد خذ السيارة إلى المغرب، فليس من حق محمد أن يقيم غيره، وليس من حق محمد أن يؤجر على غيره، فمتى ما أجر على الغير لزمه أن يدفع الأجرة إلى المالك الحقيقي، وينتقل من كونه مستعيرا إلى كونه ضامنا للعين المعارة، وأيضا ضامنا لأجرة السيارة طيلة هذا اليوم، حتى ولو قال لغيره: خذ هذه الدار واسكنها بدلا مني؛ فإنه يضمن أجرة المستعير الثاني، ويكون المستعير الثاني في حكم المستأجر، لكن يضمن الأجرة المستعير الأول؛ لأنها أعطيت له إذنا ولم تعط لغيره، فصار الغير إذا سكن كأنه انتفع بمال غيره؛ فوجب عليه الضمان، من الذي مكنه من ذلك؟ مكنه المستعير الأول، فنقول للمستعير الأول: ادفع الأجرة.
    وعلى هذا: فإن العارية ليست بتمليك للمنفعة وإنما هي إذن، وهذا هو الأشبه والأقوى إن شاء الله.
    وشرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان ما يتعلق بالتصرف في العارية، فإذا أخذت من أخيك المسلم شيئا على أنه عارية، كأن تأخذ دابة أو سيارة على أنك تنتفع بها مدة معينة، فإن الواجب عليك أن تتصرف في هذه العين التي استعرتها على وفق ما اتفقت عليه مع أخيك المسلم، فالأصل أنك أنت الذي تستفيد لا غيرك، ولذا قال رحمه الله: (ولا يعيرها) ، بمعنى: أنك لو قلت لأخيك: أعرني سكنى دارك شهرا، قال: أعرتك، فإنه لا يجوز لك أن تقيم الغير مقامك على أحد قولي العلماء، وذكرنا هذا القول ووجهه عندما بينا حقيقة العارية، وقلنا: إنها إذن بالمنافع وليست بتمليك للمنفعة، فالذي يقول لك: اسكن داري، أذن لك أن تسكن ولم يأذن لغيرك، وأذن لك أن تستعير هذه السكنى ولم يأذن لك أن تتصرف فيها بالإجارة، فلا يحل لك بيع هذه المنفعة فتؤجرها على الغير.
    إذا ثبت هذا فيدك يد مأذون لها بالتصرف لك لا لغيرك، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى: أن لك أن تعير للغير، وأن العارية تمليك للمنافع، واختارها بعض العلماء، وهو قول عند الحنفية والشافعية رحمة الله على الجميع؛ وبناء على هذا القول الذي اختاره المصنف لا يجوز لك شرعا أن تقيم غيرك مقامك، فلو أخذت السيارة من أخيك على أن تستفيد منها ما بين المغرب والعشاء، لا يجوز أن تعطيها لآخر، ولا أن تبذل منفعة ركوبها للغير، هذا من حيث الأصل العام والذي اختاره المصنف.
    ولاشك أن الذي ينبغي للمسلم دائما أن يحتاط في حقوق الناس، وأن يتصرف على وفق ما اتفق عليه مع الطرف الثاني دون زيادة أو خروج عن العقد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] ، فأنت إذا قلت لأخيك المسلم: أعرني، قال: أعرتك، اختص الانتفاع بك لا بغيرك، فكما أنك لا تقبل أن يقوم غيره مقامه كذلك لا ينبغي لك أن تقيم غيرك مقامك، وكم من شخص يأذن لإنسان لحقه عليه ولا يأذن لغيره، خاصة في المنافع التي يكون بذلها للغير فيه إحراج لصاحبها ومالكها الحقيقي.
    قال رحمه الله: (ولا يعيرها) وهذا يدل على مسألتين: المسألة الأولى: سقوط الحق.
    المسألة الثانية: حصول الإثم؛ لأننا إذا قلنا: لا يملك المنفعة فإنه يأثم إذا صرف الدابة للغير، ويخرج عن الإثم بتحلل صاحب الدابة، مثلا: أخذ سيارته وأعطاها لشخص آخر، يقول له: إني قد أخذت سيارتك على أني راكبها وأعرتها للغير فسامحني في حقك أو اجعلني في حل من حقك، ونحو ذلك.

    حكم العارية إن تلفت عند المستعير الثاني

    قال رحمه الله: [فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها] الفاء في قوله: (فإن) للتفريع، وإذا كان ليس من حقك أن تقيم غيرك مقامك فأقمته، فأخذ السيارة وتلفت فهذا فيه تفصيل: الحالة الأولى: أن تقيم الغير مقام عاريتك.
    الحالة الثانية: أن تقيم الغير مقام إجارتك، وهناك فرق بين أن تقول للغير: خذ هذه السيارة عارية مني فيما بين المغرب والعشاء، وبين أن تقول له: أجرتك السيارة فيما بين المغرب والعشاء، فيد العارية يد ضمان ويد الإجارة يد أمانة، إذا ثبت هذا فالشخص الثاني الذي تقيمه مقامك له صورتان: الصورة الأولى: أن يعلم بأن المالك الحقيقي للسيارة لم يأذن لك، وأنك قد تصرفت في ماله بدون حق، فيأخذ منك السيارة على أنك قد أعرته وهو يعلم أن السيارة ليست ملكا لك، وأن مالكها لم يأذن لك بهذا التصرف.
    الصورة الثانية: أن لا يعلم بذلك ويكون جاهلا، كجار للإنسان جاء فوجد السيارة التي استعارها جاره فظنها له، فقال: أعرني هذه السيارة أذهب بها لقضاء حاجة أو نحو ذلك، قال: خذها، فأخذها الجار يظنها ملكا لجاره، أو يظن أن مالكها قد أذن لجاره أن يعيره.
    فالصورة الأولى: الجار هو المستعير الأول، أي: الطرف الأول الذي أذن له بأخذ السيارة والانتفاع بها، والمستعير الثاني: هو الذي أعطي السيارة سواء كان عالما أو غير عالم، وهو الذي فصلنا فيه، فأما بالنسبة للمستعير الثاني إذا أخذ السيارة وهو يعلم أنه لم يؤذن للمستعير الأول بالإذن بها، ويعلم أنها ملك لغيره فإنه ظالم، ولذلك يقول العلماء: إنه يعتبر في حكم الغاصب، وهذا أمر مهم جدا؛ لأنه يتفرع عليه ما لو أنه أخذ السيارة فحصل له حادث، أو أن السيارة تلفت بآفة سماوية أو بدون تفريط منه، فسواء تلفت بالتفريط أو بدون تفريط تكون يده يد ضمان، فتستقر عليه قيمتها على ما قاله المصنف.
    فهذه مسألة التضمين، وفيها تفصيل من حيث ترتب الأحكام كالآتي: تقول: المستعير الثاني إذا كان يعلم أن المستعير الأول قد تصرف بدون حق؛ فإنه لا يجوز له شرعا أن يأخذ السيارة، فيعتبر في حكم الغاصب لو أخذها، ويلزمه ضمان أجرة السيارة في المدة التي أخذها، وضمان مثل السيارة إن كان لها مثلي إن أتلفها، أو قيمتها إن لم يكن لها مثلي، فهناك أحكام تترتب على أخذ المستعير الثاني مع علمه باعتداء المستعير الأول، فإن كان يعلم فهو أولا: آثم، وثانيا: يده يد ضمان مطلقا، حتى لو أن السيارة تلفت بدون تفريط أو تعد، فنقول للثاني: يجب عليك أن تضمن السيارة؛ لأنه يعلم أن الشرع لا يأذن له بذلك، وأنها في حكم المغصوبة، ويتفرع على ذلك ضمانه لقيمة السيارة إذا لم يكن لها مثلي، أو مثلها إن كان لها مثلي، وكذا ضمانه لأجرتها.
    فلو أخذها المستعير الأول على أن يسافر بها من مكة إلى المدينة، ثم أعطاها للمستعير الثاني، وقال له: سآخذ السيارة من محمد على أنني سأسافر بها وأعطيها لك، فعلم المستعير الثاني بغش المستعير الأول، فأخذها المستعير الثاني وخرج بها من مكة إلى المدينة، فتلفت قبل وصوله إلى المدينة، نقول: أولا: يأثم.
    هذه مسئولية الآخرة؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، ثانيا: يلزمه ضمان هذه السيارة إن كان لها مثلي، وإن لم نجد في السوق مثل هذه السيارة نقول له: اضمن قيمتها، ويكون ضمان القيمة يوم التلف، فلو كانت السيارة حينما أخرجها من مكة قيمتها خمسة آلاف، فلما تلفت بعد أسبوع صارت قيمتها عشرة آلاف فإنه يضمنها يوم تلفت بعشرة آلاف، واستقرت عليه القيمة يوم التلف، ثالثا: نقول له: عليك أجرة السيارة فيما بين مكة إلى المكان الذي تلفت فيه السيارة، والدليل على هذه الثلاث: أولا: يأثم؛ لأن أموال الناس لا تستحق إلا بطيبة نفس منهم وتراض، قال تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض} [النساء:29] فالبذل مبني على التراضي، ومالكها رضي أن يبذلها منفعة للأول دون الثاني، فإذا صار الثاني غير مأذون له من حيث الأصل، فترتب عليه الإثم.
    ثانيا: أنه أعان هذا الظالم على ظلمه بأخذه للسيارة مع علمه بعدم رضا المالك الحقيقي.
    ثالثا: إذا ثبت أنه ظالم، ولا حق له في الانتفاع بهذه السيارة، فنقول: أصبحت يده يد اعتداء، ويد الاعتداء ضامنة بكل حال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فيده مثل يد الغاصب، وعلى هذا سنقول: إذا تلفت السيارة يضمن، وجها واحدا عند العلماء رحمهم الله، الذين يقولون بأنه لا تملك منافع العارية.
    رابعا: نقول له: عليك أجرة السيارة من مكة إلى المكان الذي تلفت فيه.
    أما إذا كان لا يعلم، كما لو أن شخصا أخذ سيارة من أخيه على أنه ينتفع بها مدة معينة، فأعطاه إياها على أنه ينتفع بها، فذهب وأعطاها شخصا آخر ينتفع بها، فظن الشخص الثاني أن الذي أعطاه يملك السيارة، أو أن المالك الحقيقي قد أذن له بالتصرف فيها وإعارتها للغير، فتختلف هذه الصورة عن الصورة الأولى بأن المستعير الثاني عنده شبهة، ولا يعلم بالاعتداء، ويظن وجود الإذن بالتصرف؛ ففي هذه الحالة يسقط الإثم؛ لأنه لا اعتداء، وإنما وغرر به المستعير الأول؛ لأن الأصل أن الشخص إذا قال لك: خذ هذه السيارة، وأنت ترى أنها تحت يده، فهناك شيء يسميه العلماء: العمل بالظاهر، وظاهر الحال حينما ترى السيارة تحت يد شخص ومفتاحها عنده وقال لك: خذ سيارتي، الظاهر من الحال أنه مالك لها، وهكذا لو رأيته يقودها ويسير بها، وهذا يسمى العمل بالظاهر.
    والظاهر حجة، ومن حيث الأصل يعمل به، فهو إذا جاء إلى غيره وقال له: خذ السيارة هذه الليلة، فأخذها الثاني، فقد غرر به حيث ظن أنه مالك لها وليس بمالك، ويسقط عنه الإثم للشبهة، وفي هذه الحالة يسقط عنه ضمان الأجرة؛ لأنه مغرر به، ويثبت ضمان الأجرة على المستعير الأول وليس على المستعير الثاني.
    أما الدليل على أن المستعير الأول يضمن أجرة السيارة ويلزمه دفع قيمة المنافع التي استغلت تلك الليلة؛ فلأن صاحبها حينما أعطاها للمستعير الأول أذن له ولم يأذن لغيره، فإذا جاء يعطيها للغير فالغير لا يملكها، وما خرجت إلى يد الاعتداء إلا بسببه هو، وهو في هذه الحالة تصرف في منافع لا يملكها؛ لأن المنافع التي يملكها ما كانت له؛ فتصرف في منفعة الغير وحبسها المدة التي انتفع بها المستعير الثاني، فيلزمه ضمانها.
    على هذا لو أعطيته سيارة، فأعطاها لشخص يذهب بها إلى المدينة لزمته أجرته إلى المدينة، ولو أعطيته بيتا يسكنه شهرا، فأسكن الغير لزمته أجرتها تلك المدة، سواء أسكن الغير بأجرة أو بدون أجرة، هذا من حيث الاستحقاق.

    إلزام المستعير الثاني بالضمان عند تلف العارية

    لو أن المستعير الثاني أخذ السيارة إلى المدينة وهو يظن أن السيارة ملك للمستعير الأول وتلفت، من الذي يضمن؟ في هذه الحالة: يضمن المستعير الثاني؛ لأن المستعير وإن كان معذورا لكنه أخذها بيد العارية؛ لأنه قال له: أعرني، فأعاره، فليس عنده شيء يسقط الضمان، والعارية توجب الضمان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة) .
    إذا: هناك صورتان: الصورة الأولى: أن يكون المستعير الثاني عالما باعتداء المستعير الأول؛ فيلزمه ضمان الأجرة وضمان العين إن تلفت تحت يده، أولا: يلزمه ضمان الأجرة؛ لأنه تصرف في مال الغير بدون إذنه، وثانيا: ضيع عليه منفعة هذا الشيء فوجب عليه ضمانها، وثالثا: يلزمه ضمان العين؛ لأنه قد اغتصب تلك العين فأخرجها إلى موضع لم يؤذن له بإخراجها إليه.
    الصورة الثانية: إذا كان المستعير الثاني لا يعلم، أو ظن وجود الإذن، أو ظن أن المستعير الأول مالك حقيقي لها؛ فوقع في التصرف بشبهة الملكية أو بشبهة الإذن، فإنه في هذه الحالة يأخذ حكم المستعير، إلا إذا أخذها إجارة، فله حكم ثان، فإن أخذها استعارة من المستعير الأول يكون عليه ضمانها؛ لأن المستعير يضمن ولا أجرة عليه، والأجرة على المستعير الأول لا الثاني، وتلزم الأجرة المستعير الأول في هذه الصورة الثانية؛ لأنه غرر بالمستعير الثاني وتصرف في مال غيره بدون إذنه، فضمن قيمة المنفعة.
    أما لو أن المستعير الأول أجرها للشخص الثاني، فحينئذ الإجارة لا ضمان فيها إلا إذا تعدى، فلو قال المالك الحقيقي للمستعير الأول: خذ بيتي هذا واسكنه شهرا، فأخذه المستعير الأول وذهب إلى محمد وقال: يا محمد! هذا البيت لي -وكذب عليه- خذه وأسكنه شهرا بمائة، قال: قبلت، فأصبح الشخص الثاني مستأجرا لا مستعيرا، يعني: إما أن يغرر به مستعيرا أو يغرر به مستأجرا، إن غرر به مستعيرا ضمن؛ لأن يده يد ضمان، وإن غرر به مستأجرا ضمن الأجرة ولا يضمن العين إن تلفت؛ لأن يد الإجارة لا ضمان فيها إلا بالتعدي، كما تقدم في باب الإجارة.
    قال رحمه الله: [وعلى معيرها أجرتها] .
    هذه هي الحالة التي ذكرناها، إذا غرر بالمستعير الثاني فإنه يلزمه ضمان الأجرة على التفصيل الذي ذكرناه؛ فإذا كان المستعير الأول مغررا بالمستعير الثاني ضمن الثاني الأجرة، والمستعير الأول حينئذ يضمن الأجرة ويضمن العين بالعارية، ولا يضمن الثاني؛ لأن يده يد أمانة.

    تضمين المعير لأي المستعيرين شاء

    قال رحمه الله: [ويضمن أيهما شاء] .
    ويضمن المالك أي الاثنين شاء، إن شاء ضمن المستعير الأول، وإن شاء ضمن المستعير الثاني؛ لأن المستعير الأول قد تصرف بالاعتداء وكذب على المستعير الثاني، وحينئذ يكون المستعير الثاني ضامنا مع الأول؛ لأن الأول مستعير والثاني مستعير؛ والثاني مغرر به، لكنه رضي بالعارية، وأنت إذا رضيت بالعارية ضمنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بل عارية مضمونة) فكل شخص يقول: أعرني، كأنه يقول: أنا أضمن لك هذا الشيء الذي تعيرني إياه، على ظاهر الحديث؛ بناء على ذلك يشترك الطرفان في مسألة العارية.
    وإن إذا كان الثاني مغررا به ومعذورا، فنقول للمالك الحقيقي: إن شئت ضمن الأول وإن شئت ضمن الثاني.
    فلو أن هذه الدار التي تلفت -واليد يد عارية- تساوي قيمتها المليون، نقول له في هذه الحالة إن تلفت: إن شئت أخذت المليون من المستعير الثاني وإن شئت أخذتها من المستعير الأول؛ لأن يد الأول ضمان ويد الثاني ضمان.
    وبالنسبة لحال عدم الضمان، كما لو أجر المستعير الأول لآخر وكان يظن أنه مالك؛ حينها يضمن المستعير الأول دون المستأجر؛ لأن المستأجر يده يد أمانة وليست بيد ضمان.

    أحكام إشراك المحتاج في منفعة العارية

    قال رحمه الله تعالى: [وإن أركب منقطعا للثواب لم يضمن] .
    يرد
    السؤال أنت حينما تأخذ العارية من غيرك وتعطيها للغير، حينئذ تنتقل العين من يدك إلى يد الغير، ويصبح الضمان فيها على التفصيل من وجود العذر وعدم وجوده، فعقد الإجارة شيء، وعقد العارية شيء، لكن السؤال: لو أركب منقطعا؟ حينما يؤذن لك أنت أن تركب السيارة، معناه: أن المنفعة لك أنت لا لغيرك، وحينما تعطيها للغير عارية أو إجارة فقد أخرجتها باليد إجارة أو عارية، لكن لو أن الاثنين اشتركا في المنفعة، فهل تنتقل يد الأول، وتلغى أم لا؟ وهي التي يسمونها يد التشريك.
    فقوله: (وإن أركب منقطعا) ، أي: أعطيته دابتك، وقلت له: سافر بها من المدينة إلى مكة، فرأى في الطريق منقطعا فأركبه، والمنقطع من حيث الأصل قد يجب عليك إركابه إذا خشي عليه التلف والموت؛ لأن إنقاذ النفس المحرمة واجب شرعا، ولا يجوز أن تتركه إذا رأيته في حال الهلكة، حتى إن بعض الظاهرية يقولون: من رأى مسلما على هلكة وهو قادر أن ينقذه فلم ينقذه فقد قتله قتل عمد، وإن كان هذا القول قولا مرجوحا، والصحيح أنه ليس بقاتل، لكنه يبوء بإثم عظيم، ومثله قالوا: كأن يراه غريقا وهو يحسن السباحة فلا يسبح إليه، أو يراه جائعا وعنده الطعام فلا يعطيه، أو يراه عطشانا وعنده الماء فلا يعطيه، أو يراه منقطعا وهو قادر على حمله ولا يحمله، ولهذا قال المصنف: (منقطعا) ؛ لأن المنقطع يتعين عليك حمله، وفي هذه الحالة يكون دخوله عليك بصورة اللزوم، فلو رأيت منقطعا فأركبته المنفعة فقد أركبته منفعة ليست ملكا لك، ونحن قررنا قاعدة: أن المستعير من حيث الأصل أذن له ولم يؤذن لغيره، فهل التشريك هنا يوجب الضمان أو لا يوجبه؟ فبين رحمه الله أنه لا يوجب فقال: (وإن أركب منقطعا للثواب) .
    ركوب المنقطع له صورتان: الصورة الأولى: أن تركبه بأجرة.
    الصورة الثانية: أن تركبه بدون أجرة؛ فإذا ركب بدون أجرة فحينئذ لا إشكال، لكن إن ركب بأجرة صار بذل المنفعة في مسألة إجارة العين المستعارة توجب الضمان لمنفعتها كلها، وكذلك إجارة جزئها.
    فإذا عندنا حالتان للمنقطع: إما أن يركبه لله بدون أجرة، كما قال: (للثواب) واللام للتعليل، أي: من أجل الثواب، فتبقى يد المستعير كما هي يد ضمان، ولا يلزمه دفع أجرة الراكب؛ لأنه في هذه الحالة متعين عليه أن يركبه؛ لأنه منقطع.
    وإما أن يركبه بأجرة، فركب معه، وحينئذ أصبحت المنفعة منقسمة إلى قسمين: قسم أخذه المستعير، وقسم أجره، في هذه الحالة يضمن أجرة ما أجره ويكون ذلك المال للمالك الحقيقي.
    وفي حالة ما إذا كان المالك الحقيقي قد أذن له باستعارتها فأركب منقطعا بدون مال، تبقى يده يد ضمان، وهذا الراكب لا يضمن؛ لأنه يجب إركابه في هذه الحالة، وبقي الأصل وهو البذل، حتى المالك الحقيقي لو أنه مر على المنقطع لوجب عليه إركابه؛ لأن المسلم يجب عليه إنقاذ أخيه، لكن لو أجره وقال له: أركبك معي بمائة، فركب معه بمائة، ضمن أجرته.
    أما الدليل على تضميننا إياه لأجرته فنقول: الأصل في المنفعة يوجب الضمان إذا أجرها كلها، كذلك لو أجر جزءها، فأنت لو قلت له: خذ هذه الدار واسكنها شهرا عارية مني لك، فسكن نصف شهر وأجرها نصف الشهر، وجب عليه الضمان في نصف الشهر، وعليه: فإركاب الراكب معه تشريك له في المنفعة، فيجب ضمان الجزء الذي أجره للراكب، ويضمن بأجرة المثل.
    وفائدة المسألة: أنه لو أركب الراكب بمائة ريال وأجرة مثله مائتين؛ وجب عليه ضمان المائة الثانية، ففي هذه الحالة تكون الإجارة أجرة المثل.

    مسائل الاختلاف بين المعير والمستعير

    قال رحمه الله: [وإذا قال: آجرتك، قال: بل أعرتني أو بالعكس عقب العقد، قبل قول مدعي الإعارة، وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل] .
    هناك صور في المسألة: الأولى: إن قال: آجرتك، قال: بل أعرتني.
    الثانية: إن قال: أعرتك، قال: بل آجرتني.
    الثالثة: إن قال: أعرتني، قال: بل غصبتني.
    الرابعة: إن قال: آجرتني، قال: بل غصبتني.
    هذه كلها مسائل يصطلح العلماء على تسميتها بمسائل الاختلاف، ومسائل الاختلاف: هي جملة من المسائل التي يختلف فيها العاقدان في كيفية العقد، ولا تختص بباب معين بل تشمل أكثر أبواب المعاملات إن لم يكن جلها، ففي كل باب من أبواب المعاملات شيء يسميه العلماء: مسائل الاختلاف، والحقيقة أن مسائل الاختلاف لو تأمل فيها طالب العلم لوجدها في الأصل راجعة إلى باب القضاء؛ لأن المراد بهذه المسائل معرفة من المدعي ومن المدعى عليه، وبعض العلماء يقول: هو مدعي والآخر مدعى عليه، وهو مدعى عليه والآخر مدعي.
    هذا كله بمعنى قولهم: فالقول قوله، فإذا قالوا: القول قوله، فمعناه: أنه مدعى عليه، وهذه المسائل كلها راجعة إلى باب القضاء.
    أما من حيث المنهجية الفقهية؛ فكان الأصل يقتضي أن هذه المسائل تؤخر إلى باب القضاء؛ لأن مسائل القضاء تختص بباب القضاء، ولكن السبب الذي جعل أهل العلم رحمهم الله يفردون مسائل الاختلاف في كل باب بحسبه: أن هذه المسائل حينما تدرس في كل باب بحسبه تعرف أصول الأبواب الراجعة إلى القضاء، ففي بعض الأحيان تكون قاعدة القضاء عامة، لكنها في باب الشفعة تنخرم، وتكون قاعدة القضاء عامة ثابتة ولكنها في باب العارية تنخرم، فلما تدرس مسائل الاختلاف في كل باب بحسبه يكون ذلك أضبط وأتم لمعرفة الأبواب المستثناة، ومعرفة أصول كل باب وتطبيقها حتى في مسائل الاختلاف، فكما عرفت العارية اتفاقا تعرفها اختلافا.

    اختلاف المعير والمستعير في كون العقد عارية أم إجارة

    فقد يختلف المعير والمستعير في عقد العارية، يقول: أعرتني، فيقول: ما أعرتك بل أخذتها غصبا، قال: أعرتني، قال: بل أجرتك، قال: آجرتني، قال: بل أعرتك، هل هناك فرق بين أن يقول: أجرتك، وبين أن يقول: أعرتك، وبين أن يقول: غصبتني؟ نعم، في بعض الأحيان حينما تكون السيارة ملكا للشخص، ويدعي آخر أنه استعارها، فيقول المالك: بل أجرتك، فمن مصلحة المالك أن يقول: أجرتك، وفي بعض الأحيان يكون العكس، يقول له: أجرتني، قال: لا.
    بل أعرتك، فإن السيارة إذا تلفت الأفضل أن يقول: أعرتها؛ لأنها تضمن؛ لأنه لو قال: أجرتك، لا تضمن، أما لو كانت السيارة موجودة، فإن الأفضل أن يقول: أجرتك؛ لأنه يضمن قيمة المنفعة في المدة التي أخذها ذلك الرجل، فإذا قال: أجرتك.
    وجب عليه قضاء -إذا قلنا القول قوله- دفع الأجرة، لكن هذا في الحقيقة يحتاج إلى ضوابط فقهية صحيحة.
    ومن هنا تجد المصنف رحمه الله رتب المسائل، فابتدأ أولا فقال: إذا وقع الاختلاف بعد العقد مباشرة، أي: أن العين موجودة -التي هي السيارة- فالتلف غير موجود، فحينئذ لا ضمان، ولكن يبقى فقط مسألة المنفعة: هل تكون بأجرة أو بدون أجرة؟ هذا إذا كانت العين قائمة وموجودة، ويترتب الضمان على التسليم بكونها عارية، لكن إذا قال له: أجرتك، قال: بل أعرتني، قال: أعرتك، قال: بل أجرتني.
    والعين تالفة، فإن المالك في بعض الأحيان الأصلح له أن يقول: أجرتك، وفي بعض الأحيان يكون الأصلح له أن يقول: أعرتك.
    وتوضيح ذلك: لو أن العين تلفت فقلنا: قيمتها خمسة آلاف ريال، والعين مضى عليها عند الشخص خمس سنوات، فادعى المالك أنه أجره كل سنة بألفين، فالأفضل أن يقول: أجرتك؛ لأن له عشرة آلاف ريال، وإذا قال: أعرتك، سقطت أجرته ولزمه أن يدفع له ضمان المنفعة، وهو خمسة آلاف ريال، والعكس: فقد تكون الأجرة خمسة آلاف ريال، وقيمة العين عشرة آلاف ريال، فالأفضل أن يقول: أعرتك ولا يقول: أجرتك، إذا: هناك مسألة مهمة وهي معرفة من الذي يقبل قوله؟ هل نقبل قول المالك مطلقا، أم نقبل قول الآخذ سواء ادعى الإجارة، أو ادعى العارية مطلقا؟ هذا فيه خلاف بين العلماء: بعض العلماء يقول: أنا أصدق المالك؛ لأن المال ماله، والأصل إذا قال: أجرتك، أن تكون المنفعة مملوكة ومستحقة، وإذا قال: أعرتك، فالأصل أن عينها تضمن، فلا نفوت حقوق الناس، لأننا إذا أسقطنا قوله في حالة ما إذا ادعى العارية والعين تالفة فوتنا عليه ضمان عينه وماله، وإذا أسقطنا قوله: أجرتك، فوتنا عليه قيمة المنافع، ولا يجوز تفويت حقوق الناس، ولذلك يقول: أنا مع المالك مطلقا، وربما في بعض الأحيان يكون المالك قوله الأضعف ولا يقول بالأصلح؛ فيكون في هذه الحالة تنازل عن الأكثر، فلو كانت قيمة العين خمسة آلاف ريال وأجرتها عشرة آلاف ريال وقال: أجرتني، وقال المالك: بل أعرتك، يصبح في هذه الحالة لا إشكال؛ لأنه تنازل عن الخمسة آلاف الزائدة عن استحقاقه، لكن المشكلة إذا زاد عن الاستحقاق.
    وعلى هذا يقول بعض العلماء: أصدق قول المالك مطلقا.
    وبعضهم يقول: أقبل الأقل وأعتبر الزائد ادعاء، فإذا قال له: أجرتك، والأجرة خمسة آلاف ريال، والآخر قال: بل أعرتني، والعارية ثلاثة آلاف ريال، يقول: اتفق الطرفان على ضمان ثلاثة آلاف، وبقيت الألفان هي محل الخلاف؛ فأنا آخذ باليقين وهي الثلاثة آلاف، وأقول: القول قول من قال موافقا للثلاثة آلاف، فيعتبر قول الأقل؛ لأنه يقين ومتفق عليه بين الطرفين.
    مثال: إذا قال له: أجرتك، والإجارة بعشرة آلاف ريال، قال: بل أعرتني، والعين قيمتها خمسة آلاف ريال، لا نشك أن المالك يستحق خمسة آلاف ريال، فيقول: أقبل القول الذي يثبت الخمسة آلاف؛ لأنه القدر المتفق عليه بين الطرفين، وأعتبر المالك مدعيا للزائد؛ قال: كما لو اختلفا وقال له: استلفت مني ألف ريال، قال: بل استلفت ألفين، فإن الكل متفق على أن هناك ألف ريال أخذها وهي يقين، لكن الشك في الألف الزائدة، فيقول: آخذ باليقين وأترك الشك حتى يأتي الدليل على إثباته؛ لأن ذمة الطرف الثاني في الزائد -وهي الخمسة آلاف ريال- مشكوك فيها، فأبقى على اليقين وهو الأقل وألغي الزائد، وأسقط قول من قال بالزائد حتى يقيم البينة عليه، هذا معنى قولهم: أو فالقول قول من قال بالعارية.
    فالقول قول من قال بالإجارة.
    كل هذا محل خلاف بين العلماء، منهم من يقول: القول قول المالك، وقلنا: علته أنه يرى أن مال صاحب الحق لا يذهب هدرا، وإذا أردت أن تختصرها وتقول: المالك إما أن يريد ضمان عينه، وإما أن يريد ضمان أجرة العين، وفي كلتا الحالتين تضمن الأعيان والمنافع، لأن بيوت الناس إذا تلفت فهي مضمونة ولا تذهب هدرا، وسكنى البيوت والانتفاع بها الأصل أنه مضمون ولا يذهب هدرا، فنحن نقبل قول المالك مطلقا، ومنهم من يقول: آخذ باليقين وألغي الشك.
    وكلا القولين له وجهه وتعليله، والمصنف رحمه الله يقول في هذه المسألة: (وإذا قال: آجرتك، قال: بل أعرتني أو بالعكس عقب العقد، قبل قول المدعي الإعارة) .
    وفي هذه الحالة إذا قبلت قول مدعي الإعارة ستسقط الأجرة.
    مثلا: لو أن شخصا أخذ سيارة من شخص وبقيت عنده شهرا كاملا، ثم قال: آجرتني، قال: بل أعرتك، فحينئذ قالوا: العارية توجب ضمان العين والإجارة توجب ضمان المنفعة، فآخذ بالضمان الأتم الأكمل وأقول: أقبل قول من قال بالعارية لا قول من قال بالإجارة، وعلى هذا يقبل قول من قال بالعارية سواء كان المالك أو المستأجر، وفي كلتا الحالتين تارة تكون المصلحة للمالك أن يقول: أجرتك، وتارة تكون المصلحة أن يقول: أعرتك.
    قال رحمه الله: (وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل) .
    ذكرنا أنهم يقولون: حينما يكون الاختلاف قبل فوات المدة يكون ضمان العين أفضل من ضمان المنفعة، فهو إذا قال: أعرتك، يقولون: عندنا صورتان: الصورة الأولى: أن يقع الاختلاف بعد العقد مباشرة، والصورة الثانية: أن يقع الاختلاف بعد مضي مدة تستحق فيها الأجرة، فقالوا: إذا وقع الاختلاف بعد العقد مباشرة فلا ضمان للمدد، أي: إذا قال له: أعرتك، قال: بل آجرتني.
    قال: آجرتك، قال: بل أعرتني، ولا مدة مضمونة؛ لأنه ما مضى شيء، فقالوا: نقبل قول من قال بالعارية؛ لأنه يوجب ضمان الرقبة بكاملها، وهذا أحظ من ضمان المنفعة التي هي الأقل، وحينئذ يقولون: المالك بين أمرين: إما أن يدعي العارية أو الإجارة، فإن ادعى العارية؛ فحينئذ نقبل قوله وهذه سيارته وهذا ملكه، ونقبل قول من قال بالعارية، وسقط استحقاقه للأجرة، لكن لو قال: آجرتك، وقال الذي أخذ: أعرتني، فسيتضرر المالك من جهة عدم وجود الأجرة، وستؤخذ عليه منفعة الدار بدون أجرة، فلماذا قبلنا قول من قال بالعارية في هذه الحالة؟ لأنه إذا قال له: أعرتك، تبدأ مسألة اللزوم وعدم اللزوم، فبعض العلماء لا يرى لزوم العارية، ويقول: إذا قلنا: نقبل قول من قال بالعارية، ففي هذه الحالة يكون المالك له خيار الإسقاط؛ لأنها ليست بلازمة له، {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] يقول: أعرتك، ثم يقول: أعطني إياها، فيرجع مباشرة وينتهي الإشكال، وعلى هذا فحق المالك مضمون، ولا يفوت عليه الحق.
    وعلى القول بلزوم العارية، قالوا: ضمان العين أفضل من ضمان المنفعة، وعلى هذا: يكون الاستحقاق لليد عند فوات العين بضمانها أتم من استحقاق المنفعة والأجرة.

    اختلاف المعير والمستعير في حصول الغصب وعدمه

    قال رحمه الله: [وإن قال: أعرتني، أو قال: آجرتني، قال: بل غصبتني، أو قال: أعرتك، قال: بل آجرتني، والبهيمة تالفة، أو اختلفا في رد؛ فقول المالك] .
    هذه مسألتان: مسألة من يقبل قوله، ومسألة من يرد قوله ونعني بها الاختلاف بين المتعاقدين، وتحتاج إلى شيء من التفصيل.
    مسألة التنازع في عقد المنفعة


    بينا المسائل المتقدمة، وبقي بيان ثلاث كلمات: آجرتني، أعرتني، غصبتني.
    مثلا: سيارة أو دار ملك لشخص، وكان يسكنها شخص لمدة سنتين، ثم تلفت هذه الدار، فادعى الساكن للدار أنه كان مستأجرا أو كان مستعيرا، وادعى مالك الدار أنه كان غاصبا.
    فما الفرق بين قول الشخص في هذه المسائل: آجرتني أعرتني وقول المالك: غصبتني؟ إذا ادعى ساكن الدار أنه استأجر فهذا له حكم، وإذا ادعى أنه استعار فله حكم آخر، وإذا ادعى عليه المالك أنه غاصب فهذا له حكم ثالث.
    فإذا قال: آجرتني، فمعنى ذلك: أننا سنطالبه بضمان أجرة الدار لمدة سنتين، ولا نطالبه بضمان قيمة الدار، فرضنا أن هذه الدار التي تلفت قيمتها مائة ألف، وأجرة كل سنة عشرة آلاف، فإذا قال: آجرتني، فإنه يقر بأن عليه عشرين ألف ريال، لكن لا يطالب بضمان الدار بمائة ألف، فهو يدعي الأقل حتى يخرج من ضمان الأكثر.
    والسبب في هذا: أنه إذا قال: آجرتني، فإن المستأجر لا يضمن العين المؤجرة إلا إذا فرط أو تعدى -كما تقدم-، فهو يقول: آجرتني، مع أنه سيغرم الأجرة، لكنه سيسلم من ضمان الدار.
    أو يقول: أعرتني، فإذا قال: أعرتني، يخرج من الأجرة ويلزمه ضمان الدار، ففي بعض الأحيان تكون الأجرة أغلى من قيمة الدار، كما لو سكن هذه الدار عشر سنوات، وكل سنة بعشرة آلاف ريال وقيمة الدار خمسون ألف ريال، فإذا قال: آجرتني، فسيدفع مائة ألف، وإذا قال: أعرتني، سيدفع خمسين ألفا، فالأفضل أن يقول: أعرتني.
    فإذا: العلماء رحمهم الله ذكروا قوله: آجرتني أعرتني قال: بل غصبتني هذا كله من جهة الحقوق المترتبة على العين التالفة.
    فالضمان بالأجرة والضمان للعين التالفة مستحق على من تلفت الدار تحت يده، فيضمن الدار إذا كان مستعيرا؛ لأن المستعير لا يدفع الأجرة ولكن يلزمه ضمان العين، لقوله عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة) .
    فإذا قال المالك: بل غصبتني، فإنه يستحق الأمرين، أجرة الدار؛ لأن المغصوب تضمن منافعه، ويستحق قيمة الدار؛ لأن المغصوب مضمون العين، وبناء على ذلك يضمن المنافع وقيمة الدار التي تلفت.
    فإذا قال: غصبتني، يكون له حقان: حق الأجرة، وحق قيمة الدار التي تلفت.
    فإذا اختلف الاثنان، فقال الذي في الدار: آجرتني، قال: بل غصبتني، هل: نصدق المالك أم نصدق الذي في الدار؟! هذه المسألة راجعة إلى مسألة قضائية، وسبق التنبيه عليها، وهي: من المدعي ومن المدعى عليه؟! فإذا نظرت إلى المالك للدار أن الأصل أنه ملك هذه الدار، وأنه تضمن عين الدار وتضمن منافعها؛ لأن أموال الناس محترمة شرعا ولا تخرج عن أيديهم إلا بضمان، نقول حينئذ: القول قول المالك، حتى يقيم الشخص الذي ادعى الإجارة أو العارية الدليل على أنه مستعير أو مستأجر، هذا معنى قوله: فالقول قول المالك.
    يعني: أن القاضي يقبل قول المالك أنه غاصب، ولكن يحلف المالك اليمين بالله على أنه غصبت منه هذه الدار، وأن هذا قد غصبها المدة التي يطالب بأجرتها.
    وبناء على ذلك: يكون المالك مدعى عليه، والمستأجر أو مدعي الإجارة يطالب بالبينة.
    والقول قول المالك يكون في الصورتين، أي: سواء ادعى الذي في الدار الإجارة أو العارية؛ لأن في الدار شيئين: الشيء الأول: قيمة الدار التي انهدمت.
    والشيء الثاني: منفعة سكن الدار عشر سنوات.
    فلماذا قلنا: القول قول المالك؟ قالوا: أولا: الأصل واليقين أن الإنسان لا يعطي الشيء إلا بقيمة أو بمقابل، فضمناه الأجرة.
    وثانيا: الأصل في أموال الناس أنها لا تذهب هدرا، فما دام أن الدار سقطت وهي تحت يد فلان فالأصل أنه ضامن حتى يثبت أن يده يد أمانة لا ضمان فيها.
    ولذلك لو اختلف اثنان، فقال أحدهما: أجرتني، قال: بل وهبتني، فإن الذي يدعيه خلاف الظاهر؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يبذل الشيء إلا بمقابل، فهم يقولون: نضمنه الدار؛ لأن الأموال محترمة، ومادام سقطت تحت يده فالأصل أنه ضامن لها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ، وليس عندنا دليل يسقط هذا الأصل، ونضمنه الأجرة؛ لأن هذه العشر سنوات لا تذهب هدرا حتى يقوم الدليل على أنه قد تبرع بها المالك الحقيقي.
    وليس عندنا دليل.
    هذا من جهة من يقول: القول قول المالك.
    القول الثاني: قول من يقول: القول قول من يدعي الإجارة؛ فهو في هذه الصورة مدعى عليه؛ لأنه يقول: إنه أخذ العين بالمقابل، فجرى على الأصل من أنه مستأجر، وكونه يضمن الدار، أو يكون غاصبا ويحمله قيمة الدار هذا خلاف الظاهر؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها.
    وكل من قال قولا خلاف الأصل فهو مدعي: والمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد فيقول: الأصل أن هذا الشخص الذي في الدار بريء، ومادام أنه قال: أنا مستأجر، والغالب أن الإنسان يأخذ الدار مستأجرا لمنافعها، فإذا تلفت نقول: تلفها مستحق على مالكها حتى يثبت أن هذا الشخص قد تحمل ضمانها بالإعارة، أو بالغصب.
    ثم قالوا أيضا: الغصب خلاف الظاهر، والأصل أن المسلم لا يغصب لأن هذه تهمة، وبناء على ذلك نقول: لابد أن يقوم الدليل على أنه قد غصب؛ لأن الغصب تترتب عليه آثار من الإثم والتعزير، وهذا القول الثاني أيضا من القوة بمكان.
    وعلى هذا ترددت أقوال العلماء بين الجانبين، بعضهم يقول: إننا نصدق الذي في الدار؛ لأنه مدعى عليه، ونطالب المالك بإقامة دليل على أنه غصب، وأخذت منه الدار، وأن هذا هو الذي غصب.
    ومنهم من يقول: نصدق المالك لأن أموال الناس ومنافع أعيانهم الأصل ضمانها.
    وكلا القولين له وجهه، وله تعليل وإن كان -كما ذكرنا- القول الثاني في مسألة الغصب -وهو القول بتصديق المالك- يضعف؛ لأنه تترتب عليه ما ذكرناه من المؤاخذة،؛ إذ لا يقف الأمر على ضمان الأعيان والمنافع بل يتعدى ذلك إلى الاتهام، والأصل براءة المتهم حتى تثبت إدانته.



    اختلاف المعير والمستعير في رد العارية


    قال رحمه الله: [أو اختلفا في رد فقول المالك] .
    هذه المسألة غير المسألة الأولى، والعلماء رحمهم الله لما ذكروا مسائل العواري نبهوا على قضية الرد وعدم الرد، إذا قال: فلان أخذ مني سيارتي عارية، ولم يردها، فقال الذي أخذ: بل رددتها.
    هل نصدق الذي أخذ السيارة أم نصدق المالك؟ إن صدقنا الذي أخذ السيارة، فحينئذ نطالب المالك بإقامة دليل على أن فلانا لم يرد السيارة، وإن صدقنا المالك وقلنا: إنك لم تردها، طالبنا الذي أخذ السيارة بالبينة والشهود على أنه قد رد السيارة.
    مثال: إذا قال له: رددتها، قال: لم تردها، سأل القاضي الذي أخذ السيارة: متى رددتها؟ قال: رددتها ليلة الجمعة، قال المالك: ما ردها ليلة الجمعة، فشهد شاهدان أن فلانا المالك كان يقود سيارته صباح الجمعة، فهذه بينة تدل على كذبه، وأنه فعلا قد ردت إليه السيارة؛ لأنه ادعى عدم الرد، وقد ثبت أنه ردها، لكن إذا لم توجد بينة، فهل نصدق الذي قال: رددت، أو نصدق الذي نفى الرد؟! عندنا مثبت للرد وعندنا ناف، وهذه المسألة ترجع إلى نفس المسألة السابقة: كيف نميز بين المدعي والمدعى عليه؟! فبعض العلماء يقول: إذا أخذ السيارة وادعى أنه ردها، وادعى صاحب السيارة أنه لم يردها، فعندنا شيء اسمه اليقين، وشيء اسمه الشك، واليقين لا يزال بالشك، فهو يعترف أنه أخذ السيارة، وكلا الطرفين مقر بأن هناك أخذا للسيارة.
    فإذا نقول: ما دمت أنك تقر أنك أخذت سيارة فلان فأثبت لنا يقينا أو بما هو في حكم اليقين وبالبينة أنك قد رددتها؛ لأنك مقر أنك أخذتها، ومقر أن ذمتك قد شغلت بهذه السيارة.
    ففي هذه الحالة إذا قال: أعرتك، قال: نعم أعرتني ولكن رددت السيارة إليك، أعرتني دارك ولكن رددتها إليك.
    مادمت قد أقررت أنك أخذت فإن يدك تكون مشغولة بهذا الأخذ، ومحكوم عليك أنك آخذ حتى يثبت أنك قد رددت الذي اعترفت بأخذه، هذا وجه قول من قال من العلماء: إنه يصدق المالك.
    وهذا هو القول الصحيح، أنه إذا أقر واعترف بأنه أخذ السيارة عارية وردها، نقول: أقم البينة على أنك رددتها.
    وبعض العلماء يقول: نصدقه لأن الذي يقول: رددت، مثبت، والذي يقول: لم ترد، ناف، والمثبت مقدم على النافي، ولكن الصحيح أن القول قول المالك كما ذكر المصنف، وهذا هو الصحيح والخلاف هنا ضعيف.
    فإن قول من قال: يصدق الذي قال: رددت، قول ضعيف، خاصة وأن أصول القضاء تقوي أن القول قول المالك؛ لأن الذمة قد ثبت شغلها بالأخذ، فلابد من إثبات الدليل على براءتها بالرد.



    الأسئلة





    الفرق بين الإجارة والعارية من جهة تمليك المنافع وعدمه












    السؤال ما الفرق بين تمليك المنافع في الإجارة وأحقية التصرف فيها، وتمليك المنافع في العارية وعدم أحقية التصرف فيها، مع أن الكل يضمن إن فرط وتعدى؟
    الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فإن المستأجر منك إذا استأجر دارا لمدة سنة بخمسة آلاف فمعناه: أنك لا تملك سكنى هذه الدار سنة كاملة، وتنازلت عنها لقاء خمسة آلاف ريال؛ يملك بها المستأجر هذه المنفعة ملكا تاما، من حقه أن ينتفع هو ومن حقه أن يقيم غيره مقامه، وأنت رضيت بهذا الملك، ورضيت بالمعاوضة عليها، والله أمرك بالوفاء وإتمام العقد على ما اتفقتما عليه.
    فالإجارة فيها عوض، ويجب عليك خمسة آلاف لقاء السكنى سنة، وأما في العارية فلن يدفع لك شيئا، وصارت على محض الإحسان والتكرم والتفضل، وحينئذ تضعف يد الآخذ في العارية أكثر منها في الإجارة؛ لأن الإجارة قد عاوضك وأعطاك قيمة الشيء، وأما في العارية فلم يعطك في مقابل العارية شيئا، وعلى هذا لا يستحق في العارية إذا وهبت له وأعطيت إلا في حدود الهبة والعطية، فتقيدت في العارية وأطلقت في الإجارة، واستحق في الإجارة ولم يستحق في العارية، فالفرق بينهما واضح، ولذلك يكون المستأجر مالكا للمنافع في الإجارة غير مالك للمنافع في العارية، وهذا على القول بأنها إذن بالمنافع وليست بتمليك خلافا للجمهور، والله تعالى أعلم.



    حكم تضمين المستعير إن كانت العارية بها عيب وزاد عيبها عنده


    السؤال إن استعار شخص سيارة بها عيوب ثم تلفت في يديه من جراء تلك العيوب والأعطال التي بها سابقا، فهل يضمن المستعير؟
    الجواب نعم تضمن في هذه الحالة؛ لأن يدك يد ضمان فرطت أو لم تفرط، وتضمنها معيبة ولا تضمنها كاملة، مثال: لو أخذت السيارة وهي في آخر رمق منها، تسير ساعة وتقف ساعتين، ففي هذه الحالة الشرع يقول لك: أي شيء تستعيره فإن يدك يد ضمان، فأنت الذي أدخلت على نفسك الغرر، معنى ذلك: إذا كانت السيارة في آخر رمقها فأنت ضامن، كأنك تقول: أنا أتحمل مسئولية ردها، فإذا لم تردها فيدك يد ضامنة تضمنها بحالتها، فإذا وجدت مثلها تسير ساعة وتقف ساعتين حينئذ تضمن المثلي، وإن كان لا مثل لها وقيمة مثلها ثلاثة آلاف، نقول: عليك ضمان هذه السيارة بالتلف، أي: بالعيوب الموجودة فيها، ولا تضمنها كاملة، وعلى هذا نقول: يدك يد ضمان وليست بيد أمانة حتى يفصل بين كون التلف بتفريط أو بدون تفريط، بسبب موجود أو غير موجود، فقوله: (أغصبا يا محمد! قال: بل عارية مضمونة) نص يدل على أن العواري تضمن، وأن من أخذ العارية فقد تحمل المسئولية.
    وهذا في الحقيقة حكمة من الشريعة؛ لأن الشخص الذي أعطاك العارية تكرم وتفضل بمنافعها؛ فجعل الشرع مكافأة له على هذه المنافع -كنوع من العدل، والشريعة قائمة على العدل- أنك تضمن ردها له تامة كاملة على الصفة التي أخذتها بالتمام والكمال، والله تعالى أعلم.



    حكم تمكين الغير من استخدام العارية عند الحاجة


    السؤال لو أن شخصا استعار سيارة في سفر، واحتاج أثناء الطريق لشخص آخر يقود السيارة عنه، فهل في ذلك حرج؟
    الجواب لا حرج إلا الضمان؛ فلو أن هذا الشخص الثاني تصرف فيها فتلفت تضمن؛ لأن الشخص الثاني إن أقمته مقامك عند الضرورة والحاجة يسقط عنك الإثم، لكن لا يسقط عنك الضمان، فإن الذي ملك السيارة أذن لك أن تقودها ولم يأذن للغير أن يقودها، ولذلك تقف حتى يتراد إليك نفسك؛ لأنه ما دام أنه قد أذن لك أنت أن تقود فإنه لم يأذن لغيرك بقيادتها، وهذه شريعة تامة كاملة تضمن حقوق الناس على أتم الوجوه، قد ترضى لمحمد يسوق ولا ترضى لغيره، فلو جئت تتساهل في هذا الشيء اليسير الذي لا خطر فيه، فقد تتساهل في شيء أعظم خطورة، وشيء أكثر مفسدة، ولذلك -من حيث الأصل الشرعي- لا يقوم غيرك مقامك؛ لأن الشريعة قالت: أذن لك ولم يأذن لغيرك، فتبقى أموال الناس مصونة ومحفوظة، ولا يمكن للغير أن يقوم مقامك إلا إذا أذن المالك الحقيقي بإقامته مقامك، والله تعالى أعلم.
    بالنسبة لهذه المسألة يستثنى منها الاشتراط، كأن تقول له: فإن تعبت يقود عني ابني، أو اجعلني في حل إذا احتجت لغيري أن يسوق بي، فهذا إذن، أيضا يدخل في هذه المسألة الإذن المعروف مثلما يقع بين الأصدقاء والأحبة، تعلم أن أخاك تطيب نفسه أن تقيم غيرك مقامك في حالات الحاجة، وذكروا دليلا لذلك حديث أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سمعت الصيحة في المدينة، خرج الناس فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أروع الأمثلة على شجاعته -بأبي وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، وثبوت قلبه وجنانه، فلما صارت الصيحة والفزع كان أول من خرج عليه الصلاة والسلام، فكان لا يبالي بالموت ولا يبالي بشيء صلوات الله وسلامه عليه؛ وهذا من كمال إيمانه، وكمال رجولته عليه الصلاة والسلام، فكان أتم الناس في قوة إيمانه وتوكله على ربه، فكان أول من خرج على فرس أبي طلحة، وأخذ فرس أبي طلحة من دون إذن أبي طلحة، وللعلماء فيه أوجه، منها: قالوا: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب:6] فقالوا: إذا كان أولى بهم من أنفسهم فمن باب أولى أموالهم، وفي هذا الحديث لا يقل عن ثلاثين مسألة، فقط في أخذ فرس أبي طلحة.
    من هذه المسائل: أنه يجوز أن تأخذ مال الغير إذا علمت رضاه، فإنه ركب فرس أبي طلحة وهو يعلم أن أبا طلحة يحب ذلك ويرضى به، فأنت إذا أخذت الشيء عارية وأنت تعلم أن صاحبه لو وقف واطلع على الشيء الذي فعلته عند حالات الضرورة أذن لك، قالوا: في هذه الحالة يسقط عنك الإثم؛ لأنك تعلم أن من عادته وطبيعته أنه يأذن لك بهذا، وهكذا لو وجدت حذاءه -أكرمكم الله- وأنت محتاج لأخذه فأخذته، ولو وجدت دابته وأنت محتاج إليها فأخذتها؛ وهذا معروف بين الإخوة والأصدقاء والأحبة، قالوا: فيجوز أن تقيم الغير مقامك ليقود بك عند حالات الحاجة، أو تعرفه حليما رحيما إذا حكيت له هذا الظرف وافق على أن تقيم غيرك مقامك، فهذا لا بأس به، ولا إثم فيه، لكن لا يخرج الشيء عن يد العارية الموجبة للضمان.



    حكم الجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع بنية واحدة


    السؤال هل يصح أن أجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع في وقت طواف الوداع بنية واحدة؟
    الجواب أولا: على المسلم أن يلتزم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالخير كل الخير في اتباع هديه والسير على نهجه صلوات الله وسلامه عليه، إن المسلم حينما يعلم أن هديه عليه الصلاة والسلام في يوم النحر أنه نزل وطاف طواف الإفاضة، ثم رجع وبات بمنى ورمى الجمار، ثم رجع وطاف طواف الوداع فإنه يفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يترك هذه السنة، ولا يتساهل فيها، ولذلك حينما يقول: هذا واجب وهذا ركن، والواجب يندرج تحت الركن، يقول بعض العلماء: إن الفقه قد يكون وبالا على صاحبه متى؟ حينما تجد من يتعلم الفقه يقول لك: هذه سنة فيتركها، بينما العامي يعلم أنها سنة ولكن يقتتل عليها حتى يحصلها، فانظر كيف أن هذا جاهل يفوز بالدرجات العلى وهذا عالم يحرم الخير.
    فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يفرط بالسنة، هذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه نزل في يوم النحر وطاف طواف الإفاضة، فلماذا تترك هذه السنة؟ ما الذي أقدم الإنسان من آلاف الكيلو مترات أشعث أغبر من كل فج عميق، وتحمل المشاق؟ ثم يأتي الشيطان يحول بينه وبين الخير ويمنعه من خطوات يتبوأ بها الدرجات العلى والخير الكثير، ويصيب بها الرحمة ويشرفه الله بالطواف ببيته فيمتنع من هذا الخير كله ويتقاعس عنه، ويقول: أجمع بين طواف الإفاضة والوداع؛ لأن الفقهاء يقولون: يندرج الأصغر تحت الأكبر، لماذا يحرم الإنسان نفسه هذا الخير؟ نعم إن وجد عذر، كالمرأة الحائض تحيض في العيد، ويأتي يوم النحر وهي حائض، لا تستطيع أن تطوف طواف الإفاضة، ثم تبقى يوم التشريق الأول والثاني والثالث، ثم تطهر فتريد أن تطوف طواف الإفاضة وتريد أن تصدر، نقول: طوفي طواف الإفاضة ويكون مغنيا لك عن طواف الوداع، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافه) .
    فهذه إذا طافت طواف الإفاضة ونوت تحته طواف الوداع أجزأ؛ لأنه واجب لا يتحقق إلا بالنية، وفي هذه الحالة قد تحقق مقصود الشرع بجعل آخر العهد بالبيت طوافه، لكن القادر والمستطيع وطالب العلم والعالم الذي يعلم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته ويقصر في ذلك، فهذا أمر لاشك أنه حرمان من الخير، وفوات للخير على العبد، وهو من تخذيل الشيطان للإنسان، فينبغي للمسلم أن لا يكون ذلك الرجل، ويحرص المسلم وتحرص المسلمة على أن تنزل يوم العيد وتطوف طواف الإفاضة في يوم النحر؛ لأن في ذلك الخير الكثير، قال تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون [الأعراف:158] .
    جعل الله أحب الأشياء إليه وأعظمها عنده زلفى وقربى منه سبحانه وهي الهداية، جعلها مقرونة باتباع هديه عليه الصلاة والسلام؛ وهي أ'ظم مكافأة يجدها المسلم في اتباعه، قال سبحانه وتعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون [الأعراف:158] ، فنتبع سنته عليه الصلاة والسلام، ونطوف طواف الإفاضة في يوم النحر، ونطوف طواف الوداع إذا صدرنا وخرجنا، ونجعله آخر العهد؛ فإن وجد العذر فلا بأس حينئذ، وأما إذا لم يوجد العذر وفعل الإنسان ذلك متعمدا فقد فاته الخير، وليس هناك دليل على الإلزام بشيء، والله تعالى أعلم.



    حكم حج من أغمي عليه ولم يرم الجمرات


    السؤال رجل أصيب بالإغماء في اليوم الثاني عشر ولم يرم، فما الحكم؟
    الجواب الحجة تامة، إذا كان ذلك بعد وقوع أركانه على الصفة المعتبرة، وفي هذه الحالة إذا أفاق فإنه يرمي ما لم تتأخر إفاقته إلى فوات الوقت؛ فمذهب طائفة من العلماء: أن الإغماء موجب لسقوط التكليف؛ وبناء على ذلك: يسقط عنه التكليف بالإغماء على هذا القول، ومن العلماء من يفرق بين الإغماء الطويل والإغماء القصير، فيقولون: ما كان في حدود الثلاثة الأيام يكون المغمى عليه في حكم المكلف، ولذلك قالوا: إن عمار بن ياسر قضى الصلوات حينما أغمي عليه ثلاثة أيام، والأشبه من ناحية أصولية: أن المغمى عليه أشبه بالمجنون منه بالنائم، فإن من يقول: هو مكلف، يشبهه بالنائم، ومن يقول: إنه غير مكلف، يشبهه بالمجنون، وهذا أصح؛ لأن النائم إذا أيقظه الإنسان استيقظ، والمغمى عليه لو أيقظه لا يستيقظ، ولذلك هو أقوى -من حيث الأصل- شبها بالمجنون، فيسقط تكليفه، والله تعالى أعلم.



    حكم من اعتمر ليلة يوم التروية ثم تحلل وأهل بالحج


    السؤال من يعتمر ليلة يوم التروية ثم يتحلل ويهل بالحج قبل ظهر يوم التروية، فهل هذا يعتبر متمتعا؟
    الجواب نعم.
    يعتبر متمتعا، من جاء بالعمرة قبل الوقوف بعرفة وتحلل منها، سواء وقع ذلك على الوجه الذي يدرك به السنة من يوم التروية، أو كان ذلك على وجه تفوت به السنة، كأن يأتي متأخرا، فما دام أن عمرته قد وقعت قبل الوقوف بعرفة وتحلل منها، ثم بعد ذلك أحرم بنسك الحج فإنه يكون متمتعا وجها واحدا عند العلماء، والله تعالى أعلم.



    حكم الفصل بين الطواف والسعي


    السؤال هل يؤثر الفصل بين الطواف والسعي سواء كان هذا الفاصل قليلا أو كثيرا؟
    الجواب السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الوصل بينهما، ويكون الفاصل بالمأثور وهو ما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام من صلاته لركعتي الطواف، وشربه لماء زمزم، وتقبيله للحجر، ثم مضيه إلى السعي، هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، وخفف العلماء في الفاصل اليسير، كأن يستريح قليلا ويكون من كبار السن، أو تكون معه رفقة يخشى عليهم الضياع فينتظر اجتماعهم، أو نحو ذلك مما هو خفيف يسير، فهذا لا يؤثر عند من يشترط الموالاة بين السعي والطواف، أما لو كان الفاصل بأجنبي، أو كان فاصلا مؤثرا فاحشا، كأن يذهب إلى استراحته وينام، ثم يرجع ويسعى فهذا فاصل مؤثر يفوت به شرط الموالاة عند من قال باعتباره، والله تعالى أعلم.



    ما يشترط في الوكيل لرمي الجمرات


    السؤال هل يشترط في من وكل بالرمي عن العاجز أو المريض أن يكون مؤديا للحج في نفس العام أم يجوز أن يوكل من لم يحج في هذه السنة ويرمي وكان قد حج الفريضة؟
    الجواب المسألة الأولى: لا يجوز التوكيل إلا عند وجود العذر، فمن كان معذورا كأن يكون مريضا أو به ضعف شديد أو عاجز لا يستطيع كالمشلول، فهؤلاء المعذورون هم الذين يرخص لهم في التوكيل، فإن كان العذر موجودا صح التوكيل، وإن كان العذر غير موجود فإنه لا يصح التوكيل ولا يجزئ الرمي، فإن الشخص الذي يذهب يرمي يتعب نفسه إذا علم أن الشخص الذي وكله غير معذور، كالذين يتلاعبون بالحج فينزلون في يوم العيد ويوكلون أشخاصا للرمي عنهم، فهؤلاء رموا أو لم يرموا فالرمي وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأن مثل هذا غير معذور، فيشترط وجود العذر، فإذا وجد العذر صح التوكيل، وإذا لم يوجد العذر لم يصح التوكيل.
    المسألة الثانية: إذا وكل ينبغي أن يكون الوكيل قد حج في نفس العام؛ لأن الرمي عبادة لا تصح إلا من الحاج ولا تجزئ من غير الحاج، تعبد الله بها من كان في النسك ولم يتعبد بها من لم يكن في النسك، فيجب أن يكون الوكيل قد حج في ذلك العام، فالشخص الذي يوكله لابد أن يكون محرما، ولا يكون من الحلال ممن لم يحج، فلا يجوز توكيل غير الحاج، ويبدأ الوكيل بنفسه، فيرمي الجمرات تامة، ثم يرجع ويرمي عمن وكله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) فالرمي نسك تام، فيبرئ ذمته منه تماما ثم يبرئ ذمة من وكله، فلو أنه رمى عمن وكله أولا، ثم رمى نفسه لم يجزئ، وهل ينقلب رمي من وكله عن نفسه أو يلزمه الإعادة؟ وجهان للعلماء: من أهل العلم من قال: ينقلب رميه عن نفسه ثم يرمي عمن وكله، وحينئذ يعيد مرة واحدة على هذا القول؛ لأن الرمي الأول انقلب له، لكن الرمي الثاني نواه عن نفسه فلا ينقلب للغير فيعيد مرة واحدة، وهناك من أهل العلم من قال: يجب عليه أن يعيد الاثنين.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد.

  10. #370
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب الغضب )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (370)

    صـــــ(1) إلى صــ(21)


    شرح زاد المستقنع - باب الغصب [1]
    حرم الله الظلم على نفسه وجعله محرما بين العباد، ومن هنا حرم الله سبحانه الغصب وأخذ أموال الناس بغير حق، وتوعد عليه الوعيد الشديد سواء كان المغصوب عقارا أو منقولا على تفصيل عند العلماء في بعض الأشياء.

    الغصب من كبائر الذنوب


    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الغصب] .
    الغصب: هو أخذ الشيء بالقهر والقوة.
    وليس هناك اختلاف كبير بين حقيقة الغصب في اللغة، وحقيقته في الاصطلاح، وقد عرفه المصنف رحمه الله بقوله: [هو الاستيلاء على حق الغير قهرا بغير حق] .
    وهذا النوع من المعاملات يقع بين الناس في سائر الأزمنة والأمكنة، فابتلى الله عز وجل الناس بعضهم ببعض، وجعل هذا البلاء فتنة: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} [الفرقان:20] .
    فالله من حكمته أن ابتلى العباد بعضهم ببعض، ابتلى الضعيف بالقوي وابتلى القوي بالضعيف، اختبارا لعباده وابتلاء لهم فيما يعملون.
    فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ابتلاهم بهذا لكي يعظم الأجر للمبتلى فيما غصب منه، وكذلك يؤاخذ الغاصب بجنايته وظلمه لأخيه وأخذه لماله بدون حق.
    وباب الغصب باب مهم جدا، والعلماء رحمهم الله اعتنوا ببيان أحكامه في كتب الحديث وكتب الفقه، ولذلك أفردوه بباب مستقل تعظيما لشأنه، وبيانا لمسائله وأحكامه.
    يقول رحمه الله: (باب الغصب) أي: في هذا الموضع سأبين لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بالاعتداء على أموال الناس، وأخذها بالقهر والقوة دون وجود مبرر شرعي لذلك الأخذ، وقد حرم الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام الغصب، وانعقد إجماع الأمة على تحريم هذا الفعل، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب التي توجب سخط الله وغضبه على العبد والعياذ بالله، وتوجب عقوبة الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29] .
    ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله حرم على المسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالباطل، والغصب أكل الأموال بالباطل؛ لأن الباطل هو الذي لا وجه للحق فيه، وكل من اعتدى على أرض أخيه أو ماله أيا كان ذلك المال بدون وجه حق فقد غصبه، وإذا أخذه على سبيل القهر والغلبة -كما سيأتي- فيدخل في عموم الآية أنه أكل المال بالباطل.
    وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر الغصب، ومن أصدق الشواهد على ذلك أنه ثبت عنه حديثان يدلان على عظم الاعتداء على أموال الناس سواء ذلك بالغصب أو غيره، أحدهما: عام، والثاني: خاص.
    أما الحديث العام: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف في حجة الوداع، وكانت خطبته عليه الصلاة والسلام لأمته في ذلك الموقف وذلك اليوم، قال في أول الخطبة: (أيها الناس! اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أبدا) فتصوروا هذه الكلمة والجملة! إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع الناس ويريد أن يقول كلاما ينبههم على أنه قد يكون آخر الكلام، وأنه وصية عظيمة، فمعناه: أنه قد بلغ من الأهمية الغاية، فكان أول ما استفتح خطبته عليه الصلاة والسلام -بعد أن قال هذه الكلمات العظيمة التي خشعت لها قلوب الصحابة وأحس الصحابة أنه يودعهم، وأنه آخر العهد به عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف الذي ما وقف بعده عليه الصلاة والسلام، وما عاش بعده إلا قليلا، قال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) فعظم تحريم الدم والمال والعرض، فما أعظم حق المسلم عند الله عز وجل! حيث حرم ماله ودمه وعرضه.
    فكل انتهاك لهذه المحارم الثلاث فإنه عصيان لله ولرسوله، ونسيان لهذه الوصية، فإذا سفك دم أخيه المسلم أو انتهك عرضه ولو بلمزة ولو بغيبة: فلان فيه! فقد ضيع وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي لما قالها عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف أشهد الله جل جلاله أنه بلغ رسالته وأدى أمانته.
    فقوله: (إن دماءكم) أتى بأسلوب التوكيد (إن) ثم قال: (دماءكم) فجعل الدماء دما واحدا، وقوله: (أموالكم) إذا اعتدي على مال أخيك المسلم فكأنه يعتدى على مالك، والذي يغصب من أخيك سيغصب منك، (وأعراضكم) وجعل الأعراض والأموال بمنزلة الدماء.
    فكما أنه لا يجوز لك أن تسفك دم أخيك المسلم، فإنه لا يجوز أن تغتابه ولا يجوز أن تحتقره، ولا يجوز أن تمس هذا العرض لأخيك المسلم دون وجه حق، فالغصب اعتداء على الأموال.
    ومن أسوأ أنواع الاعتداء: الغصب؛ لأن الغصب فيه نوع من القهر، والقهر فيه إذلال، والعبد قد يختار الموت على أن يعيش ذليلا، ولذلك من الناس من إذا غصب حقه مات من الكمد والألم ولربما أصابه مرض نفسي فطاش عنه عقله، وعزب عنه رشده بسبب ما يجده من ظلم وقهر، ولذلك استعاذ صلوات الله وسلامه عليه بربه وقال: (أعوذ بك من قهر الرجال) فالقهر أمره عظيم.
    فالسارق إذا سرق بالليل أو سرق خفية أخذ المال وذهب، ولكن الغاصب يأتي بقوته واستعلائه وجبروته ويفرض على الإنسان أخذ ماله فيأخذ ماله ويستمتع به، والمغصوب منه يرى ماله يؤكل بدون حق، فهذا من أبلغ ما يكون من الأذية والإضرار وانتهاك حق المسلم وضياع ما أوجب الله عز وجل له من حقوق! كذلك أيضا: صرح عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح بتعظيم أمر الغصب، وقال عليه الصلاة والسلام: (من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) وهذا الحديث صحيح، يقول العلماء: فيه جملة من المسائل: أولها: أنه يدل على تحريم الغصب؛ لأن القاعدة في الأصول: أن الفعل إذا ترتبت عليه عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة أو فيهما معا، أو جاء فيه وصف مشعر بالذنب دل على حرمته، وعدم جوازه، فهذا الحديث يدل على حرمة الغصب، وهذا محل إجماع.
    ثانيا: أنه يدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن القاعدة في الكبيرة: كل ذنب سماه الله ورسوله كبيرة، أو توعد عليه بعقوبة في الدنيا أو عقوبة في الآخرة أو فيهما معا، وهذا قد توعد الله عز وجل عليه بأن يطوق صاحبه من سبع أرضين يوم القيامة، قال بعض العلماء: يطوق يوم القيامة من سبع أرضين على الحقيقة، والله على كل شيء قدير.
    قالوا: يمد عنقه -والعياذ بالله- حتى يسع القدر الذي اغتصبه من مال أخيه ويطوق من سبع أرضين على حقيقة، والله لا يعجزه شيء.
    فضرس الكافر الذي يعذب في نار جهنم يوم القيامة مثل أحد، وجبل أحد لا يقل عن أربعة كيلو مترات، وهذا الضرس فقط، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الكافر -كما في الصحيح- مقعده في نار جهنم كما بين المدينة وبيت المقدس) فالله على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.
    فيطوق على الحقيقة، وهذا الذي نؤمن به: أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبنا بلسان عربي مبين، أنه إذا ظلم أخاه المسلم قدر شبر أنه يطوق يوم القيامة من سبع أرضين، أما كيف ذلك؟ فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء.
    وكذلك أيضا أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه لا يجوز الغصب سواء كان ذلك في العقارات، أو كان في المنقولات، وأن الواجب على المسلم أن يحفظ لأخيه المسلم حقوقه، وألا يعتدي على تلك الحقوق، ولا يعين على الاعتداء عليها.
    وتحريم الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام للغصب لما فيه من الظلم، والظلم من أعظم الكبائر، قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) .
    فالأرض يعظم فيها الفساد ويكثر فيها الشر إذا انتشر فيها الظلم، والله يمسك قطره من السماء، ويمحق البركة في الأرض إذا كثرت مظالم العباد، وبالأخص كما ذكرنا في مسائل الغصب، فإن الغصب يقطع أواصر الأخوة، ويشتت الناس شيعا وأحزابا، ويجعل الناس لا تثق ببعضها، ويجعل حمية الدين تقتل في القلوب وتقطع، حينما يرى المسلم يؤكل ماله وينتهك عرضه ولا يغار عليه، ولا يحفظ له ذلك المال، ولا يحفظ له ذلك العرض.
    ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب على المسلم أن يبتعد عنه وألا يعين عليه، فقد يعين الإنسان على الغصب بكلمة تخرج من فمه، ولربما بإشارة، فالواجب على الإنسان أن يتقي هذه الكبيرة العظيمة وأن يخاف الله سبحانه وتعالى فيها.
    والعلماء ذكروا مسائل الغصب من وجوه، فيعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان حقيقة الغصب وبم يكون الغصب؟! كذلك أيضا يعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان مواضع الغصب، وفي أي شيء يكون؟! وكذلك اعتنى العلماء ببيان الآثار المترتبة على الغصب.
    فإن الله لما حرم الغصب أوجب لهذا الذنب تكفيرا يكون برد العين المغصوبة، سواء كانت زائدة أو كانت ناقصة أو كانت كما هي، فإن كانت كما هي فلا إشكال، ويجب ضمان أجرتها إذا حبسها، وإذا كانت ناقصة فيجب عليه ضمان النقص، وإذا كانت زائدة ردها مع الزيادة، سواء كانت الزيادة متصلة أو كانت منفصلة، ثم يتكلم العلماء على مسألة التصرف في المغصوب، فلو أنه تصرف فيه حتى غير شكله وغير هيئته فأنقص منافعه، أو تصرف فيه فتغيرت بعض المنافع وعوض عنها بمنافع أخر، فكل هذه المسائل يعتني العلماء رحمهم الله ببيانها، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية.
    فالشريعة الإسلامية من سمو منهجها وكمال أحكامها وتشريعاتها أنها لا تقف عند تحريم الشيء، بل تبين حرمة الشيء والآثار المترتبة على تلك الحرمة، ولم يقف قضاء الإسلام يوما من الأيام عاجزا أمام مشكلة أو قضية سواء تعلقت بالغصوبات وآثارها أو بغيرها.
    فالعلماء يتحدثون عن هذه المسائل لأنها تبعات وآثار مترتبة على الغصوبات، وهذا هو الذي سيعتني المصنف رحمه الله ببيانه، وتختلف المتون الفقهية ما بين مطول ومختصر؛ ولعل الإطالة والاختصار بسبب أن الفقيه قد يكون يرى حكما تترتب عليه آثار، وقد لا يرى غيره ذلك الحكم فلا تترتب الآثار، فالذي يرى الحكم يفصل في آثاره.
    فمثلا: إذا قال: المغصوب تضمن زيادته، ولا يفصل سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة، فحينئذ سيتكلم على جميع ما يكون من الزيادات، لكن إذا قال: لا يضمن الزيادة المنفصلة، ويفصل بين الزيادة المتص



    تعريف الغصب


    والشافعية والحنابلة -رحمهم الله- توسعوا في مسائل الغصب، وتوسعوا في مسائل ضمان الغصوبات، والمصنف عقد موضعين: الموضع الأول: بين فيه المسائل التي تقدمت.
    الموضع الثاني: بين فيه كيفية ضمان الغصب، وهو الفصل الثاني، وبين فيه حدود الضمان وصفة الضمان، واختلاط المغصوب بغيره، إلى غير ذلك من المسائل التي بينها رحمه الله برحمته الواسعة وجزاه وإخوانه من العلماء والأئمة سلفا وخلفا خير ما جزى عالما عن علمه وعن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
    قال رحمه الله: [وهو الاستيلاء على حق غيره قهرا بغير حق من عقار ومنقول] .
    الاستيلاء يكون على صورتين: الاستيلاء الحقيقي: كأن يأتي ويدخل على داره ويخرجه من الدار، فيتمكن من نفس العين، فهذا استيلاء حقيقي، لا يستطيع صاحب الدار أن يدخلها، ولا يستطيع أن ينتفع بمنافعها.
    أيضا: جاء إلى سيارته فأخذ مفاتحها ثم حال بينه وبينها، فحينئذ يكون الاستيلاء حقيقيا، لأنه حال بينه وبين العين ومنافعها.
    ويكون الاستيلاء حكميا، مثلا: يقول له: لا تدخل دارك، ولا تركب سيارتك، فإن دخلتها فعلت بك أو سأفعل بك، فهدده ومنعه، فحينئذ لم يستول عليها لكنه حال بينه وبين منافعها والانتفاع بها، فهذا أيضا من الغصب ومن الأذية والإضرار، سواء كان الاستيلاء حقيقيا أو كان حكميا بالحيلولة بين الإنسان وبين الشيء، مع أن العين في الصورة الثانية، -وهو الاستيلاء الحكمي- تكون تحت مالكها، لكن وجودها وعدمها على حد سواء، فحينما يقول له: إذا دخلت دارك أفعل وأفعل!! فوجود الدار وعدمه على حد سواء.
    وإذا قال له: إذا ركبت سيارتك، أو ذهبت على سيارتك أو انتفعت بسيارتك فإني سأفعل بك وأفعل! فالسيارة وجودها وعدمها بالنسبة له على حد سواء، فهذا يعتبر غصبا.
    وقوله: (الاستيلاء على حق الغير) خرج الاستيلاء على المباحات التي لا حق لأحد فيها، كأن يأتي شخص -مثلا- إلى العشب والكلأ فيستولي عليه فإن هذا ليس بغصب.
    وقوله: (على حق الغير قهرا) ، أن يستولي على سبيل القهر والقوة والغلبة، وبناء على ذلك: خرج الاستيلاء خفية كالسرقة، فإن السارق والمختلس -والعياذ بالله- يستولي على مال غيره خفية، وهنا يفرق بين السارق وبين الغاصب، فالغصب يكون عيانا وجهارا، ولكن السرقة تكون خفية، فلا يسمى الغصب سرقة، فلا يقال لشخص جاء إلى آخر وأخذ منه سيارته قهرا أمام عينيه وهو يعلم أن فلانا الذي أخذها، ما يقال: سرق مني سيارتي! لأن السرقة تكون خفية، ولكن يقال: اغتصب وغصبه حقه؛ لأنه أخذه على سبيل القهر.
    ويكون ذلك القهر إما بالتهديد وإما بالقوة والفعل والمس بالضرب، فجميع هذه الصور تعتبر من صور الغصب.
    وقوله: (بغير حق) خرج الاستيلاء على مال الغير وحق الغير بحق، كما لو أن القاضي أمر ببيع مال المفلس بسداد الديون، فإنه حينما تؤخذ أموال المفلس -كما تقدم معنا في باب التفليس- تؤخذ بقوة منه شاء أم أبى، وتباع لسداد ديونه؛ لأن ذمته مشغولة لحق الغير، فحينما أخذنا مال المفلس أخذناه بحق ولم نأخذه ظلما.
    وبناء على ذلك: يكون هذا غير داخل في الغصب، وصحيح أنه أخذ بالقوة وأخذ بالقهر ولكن بوجه حق، وعلى هذا لا ينطبق عليه وصف الغصب.
    وهذا التعريف في الحقيقة من أجمع التعاريف التي ذكرها العلماء رحمهم الله في تعريف الغصب.
    وقوله: (من عقار ومنقول) ، من: بيانية، وعقار: يعني: أن الغصب يدخل في العقارات وفي المنقولات، وقد بينا معنى العقار ومعنى المنقول.
    فغصب العقار من أمثلته: أن يغصب بيته، أو يغصب أرضه، ولو كان قدر شبر، فلو أخذ قدر شبر من أرضه فقد غصبه.
    ومثال الغصب في المنقولات: كأن يغصب سيارته، أو يغصب قلمه، أو يغصب ساعته أو ثوبه، وكل ذلك من غصب المنقولات.


    حكم غصب كلب أو خمر ذمي


    قال رحمه الله: [وإن غصب كلبا يقتنى أو خمر ذمي ردهما] .
    هذه المسألة متعلقة بالتعريف، وهو يقول: الاستيلاء على حق الغير، فلابد أن يكون عندنا غاصب ومغصوب منه، وشيء مغصوب، وهذا الشيء المغصوب يشترط فيه أن تكون له حرمة، وأن تكون له قيمة، فإذا كانت له قيمة كالثوب والدابة والأرض، وله حرمة وقيمة شرعا، حرم شرعا، فإذا لم تكن له حرمة مثل أن يغصب خمرا، فالخمر لا حرمة له شرعا ولا قيمة، فلا نقول: إنه غصب، لكن يفصل بين من يجوز له أن يشرب الخمر وبين من لا يجوز له أن يشرب الخمر، فالذميون وأهل الكتاب يجوز لهم شرب الخمر ومباح في دينهم، فهو محترم بالنسبة لهم ومال وله قيمة في دينهم، لكنه ليس له قيمة عندنا نحن وليس له حرمة.
    ولو أنه غصبه ميتة، فالميتة لا قيمة لها ولا حرمة لها، فحينئذ لا نقول: هذا غصب، لكن في المسألة تفصيل.
    فقوله: (وإن غصب كلبا يقتنى) .
    الكلب -أكرمكم الله- ينقسم إلى قسمين: ما أذن الشرع باقتنائه، وما لم يأذن الشرع باقتنائه؛ فقد أذن الشرع باقتناء كلب الصيد والحرث الذي يكون للحراسة، وكلب الماشية الذي يكون لحراستها أيضا، وكلب الصيد لأن الله أحل لنا أكل صيد الكلاب: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة:4] ، هذه الثلاثة الأنواع من الكلاب -أكرمكم الله- يباح اتخاذها، وأذن الشرع باقتنائها لمن يقتنيها لواحد من هذه الثلاثة: يقتنيها للصيد، أو لحراسة مزرعة، أو لحراسة ماشية، وما عدا ذلك فلا، وليس له قيمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الكلب، وقال كما في الحديث الصحيح في الصحيحين: (ثمن الكلب سحت) ، ونهى عن ثمن الكلب كما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وفي حديث جابر لما سئل عن ثمن الكلب والسنور قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه) ، وفي حديث ابن عباس في السنن: (إن جاءك يريد أخذ ماله -يعني: أخذ مال الكلب- فاملأ كفه ترابا) .
    فإذا: الكلب ليس له قيمة، فلو أنه غصب كلبا فإننا ننظر فيه: إن كان من غير الثلاثة فإن هذا الكلب يعتبر لا قيمة له، ولا يطلق على من أخذه أنه غاصب، لكن لو أنه أخذ كلبا يقتنى فإننا نقول: هناك مسألتان في الغصب: إن قتل الكلب وقضى عليه وأهلكه فلا نوجب عليه الضمان؛ لأنه لا قيمة للكلب، وإن كان الكلب موجودا فنقول: يجب عليك رد الكلب لمن أذن له شرعا باقتنائه، فنرخص بقدر ما رخص الشرع.
    فالذي يغصب الكلب له حالتان: إما أن يكون الكلب مما أذن باقتنائه، فحينئذ يجب عليه رده إن كان موجودا ولا ضمان عليه إن أتلفه، وإن كان الكلب غير مأذون باتخاذه كأن يأتي شخص فيجد شخصا يلعب بالكلب فيأخذ الكلب ثم يتلفه -كما لو كان مأمورا بقتله- فقتل الكلب، فنقول له: لا يجب عليك الضمان ولو كان الكلب حيا لا يجب عليك الرد؛ لأننا لو قلنا: إنه يرده فإن هذا الشخص الذي يقتني الكلب على وجه غير مأذون به شرعا يعتبر متعاطيا للحرام.
    فالآخذ للكلب لو قلنا له: رده، أعان على الإثم والعدوان، فنقول: لا يجب الرد، إن كان الكلب غير مأذون باتخاذه، لكن إن كان مأذونا باتخاده وجب الرد، فإن أتلفه فلا ضمان عليه.
    لكن يبقى
    السؤال إن كلب الصيد يعلم، وربما كان أثناء تعليمه تحمل مصاريف التعليم، ولربما استأجر شخصا من أجل أن يعلم الكلب، فهل يضمن ذلك أو لا يضمن؟ المنصوص عليه عند العلماء عدم الضمان، ويقوم القاضي بتأديب الشخص الذي أخذه، فيكون الضمان هنا للتأديب، ويكون دفع القيمة إجارة للمصلحة، فقالوا: هذا للمصلحة وقد علم كلبه وحصلت له المصلحة، ثم بعد ذلك الضمان لا يضمن، لأن هذا من جنس ما يضمن.
    وهناك قول يقول: يجب عليه ضمان أجرة التعليم، فيضمن له أجرة تعليم الكلب؛ لأنه فوت عليه مصلحة مأذون بها شرعا.
    إذا: بالنسبة للكلب فيه تفصيل على الوجه الذي ذكرنا: إن كان مما أذن باقتنائه وجب رده إن كان حيا، ولا ضمان على من أتلفه، وإن كان غير مأذون باتخاذه نقول: لا يجب عليك رده ولا يجب عليك الضمان إن أتلفته.
    وقوله: (أو خمر ذمي) .
    أي: إن أخذ خمر ذمي وجب عليه الرد إن كان الخمر موجودا، ولا يجب عليه الضمان إن أتلفها؛ لأن الخمر لا قيمة لها، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أنه قام في الغد من فتح مكة وأخذ بحلق الباب -كما في الرواية في السير- وقال عليه الصلاة والسلام في خطبته: إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) فقال: (حرما بيع الخمر) فأسقط قيمة الخمر، ودل على أن حكم الشرع على أن الخمر لا قيمة لها بحكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
    وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما فتح عليه الصلاة والسلام الطائف، جاء له صديق في الجاهلية وأعطاه مزادتين من الخمر هدية له على الفتح، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للرجل: (أما علمت أن الله حرمها؟ -كان يظن أن الخمر مباح- فقال: ما علمت، فقام رجل فساره -أي: سار صاحب المزادتين- قال عليه الصلاة والسلام: بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الذي حرم شربها حرم بيعها) فأسقط المالية عن الخمر، ودل على أن الخمر لا قيمة لها، فلو أتلف الخمر نقول: لا يضمن قيمة الخمر، سواء كانت خمر ذمي أو غيره.
    يقول قائل: الذمي مأذون له في الخمر وماله كمال المسلم بحكم عهد الذمة، قالوا: هذا شريطة ألا يظهر، فإن أظهر فقد أخرجها عن ضمان حقه.


    حكم غصب جلد ميتة


    قال رحمه الله: (ولا يرد جلد ميتة) .
    الميتة من غير الجلد متفق على تحريمها وعدم الانتفاع بها، إلا الشعر ففيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، وأما بالنسبة للجلد فقد تقدم معنا في كتاب الطهارة أن جلد الميتة فيه مذهبان، وجمهور العلماء على أن جلد الميتة لو أخذته ودبغته فإنه طاهر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ومر على ميتة فقال: (هلا انتفعتم بإهابها؟! قالوا: يا رسول الله! إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها) فدل على أن التحريم يختص بالأكل ولا يشمل الانتفاع بالجلد.
    وعند الحنابلة -وهو القول الثاني في المسألة- لا يجوز الانتفاع به، وأن جلد الميتة لا يطهر بالدباغة، واستدلوا بحديث عبد الله بن عكيم الجهني رحمه الله -وهو من التابعين- قال: (أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر أو شهرين وفيه: وألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) فقال: ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب وهو الجلد، ولا عصب، فدل على أن جلد الميتة لا يطهر بالدبغ، ولكن الحديث الأول أصح من هذا الحديث، والحديث الثاني مضطرب إسناده ومتنه، والعمل على عدم ثبوته.
    وبناء على ذلك نقول: إن جلد الميتة يجب رده، إذا كان جلد الميتة مما يمكن دبغه ومما أذن بدبغه من بهيمة الأنعام وما في حكمها، على التفصيل الذي قدمناه في الطهارة، فيجب ضمانه ويكون طاهرا بالدباغ، ويضمن من أتلفه إذا أتلفه بالغصب.


    حكم إتلاف الكلب والخمر وجلد الميتة


    قال رحمه الله: [وإتلاف الثلاثة هدر] (وإتلاف الثلاثة هدر) من أتلف الخمر، أو الميتة، أو الكلب، فإتلاف الثلاثة هدر، ففرق بين الرد وبين الإتلاف، فيرد الأولين وهما: الكلب لمن يقتنيه على الوجه المأمور به شرعا، والخمر للذمي؛ لوجود الإذن الشرعي، وهذا في الرد.
    وقلنا: هناك جانبان: الرد والضمان.
    فبالنسبة للرد يجب إذا كان مأذونا به، مثل: الكلب للصيد أو الحرث أو الماشية، والخمر للذمي؛ لأنه مأذون له به شرعا.
    وأما بالنسبة للإتلاف فلو أتلف فلا ضمان عليه، سواء أتلف خمرا أو أتلف كلبا -على التفصيل الذي قدمنا- أو أتلف جلد ميتة، لكن قلنا: جلد الميتة فيه تفصيل؛ لأن المصنف -رحمه الله- درج على مذهب الحنابلة في هذه المسألة.
    كلمة عن دعم المسلمين في كوسوفو


    أحب في الحقيقة أن أذكر الإخوان جميعا بأمر مهم، لابد من العناية به خاصة في هذه الأيام، وهو ما أصاب إخواننا الألبان في كوسوفو، وهم الآن في أشد الحاجة إلى معونة إخوانهم المسلمين، والوقوف معهم، فإن الله جمع بالإسلام بين المسلمين وألف بين أرواحهم، وجعلهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن كمل إيمانه وكمل إسلامه كان مع أخيه كالجسد الواحد، يتألم بآلامه ويفرح بأفراحه، وإن المسلم ليأن ويتألم وهو في مشرق الأرض لأخيه في مغربها؛ لأن أخوة الإسلام أعز من أخوة النسب، بل وأعز من كل أخوة، وإن الله يرضى عن المسلم الذي تدمع عينه ويتقرح قلبه على إخوانه المسلمين؛ لأن هذا الألم وهذا الحزن يدل على كمال الإيمان، ويدل على الرحمة التي أودعها الله في القلوب، ومن رحم أخاه المسلم رحمه الله في الدنيا والآخرة.
    فالواجب علينا أن نتفكر وأن ننظر في أحوال إخواننا، وأن نحس بالمسئولية والواجب الذي يحتمه علينا ديننا، ويفرضها علينا إسلامنا، وأن يحس المسلم بما أصاب إخوانه من هذه الأذية وهذا الاضطهاد والظلم والعسف والجور، الذي ضيعت فيه حقوقهم، وانتهكت فيه أعراضهم، وسفكت فيه دماؤهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! الواجب على المسلم أن يبذل كل ما يستطيع -بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان- لنصرة إخوانه المسلمين، وهذا أمر يوجبه علينا إسلامنا وديننا، أن نرى هؤلاء المسلمين يشردون ويقتلون، وما نقموا منهم إلا الإسلام، والله لا الأرض، ولا المال، ولا النسب، ليس هناك إلا الإسلام، والمسلم العاقل الواعي يدرك هذه الحقيقة، فليس هناك أي أمر يؤذون من أجله إلا الدين، وما نقموا منهم إلا الإيمان بالله عز وجل في تلك البقعة التي قل أن يوجد فيها مسلم، حرق أعداء الله -شتت الله شملهم، وفرق جمعهم، وجعل بأسهم بينهم- حرقوا عندما رأوا الإسلام في عقر تلك الدار التي قل أن يوجد فيها مسلم، يبقى هذه القرون وهذا الردح من الزمن، وحينما رأوا أن هذه الأمة تفتخر بإسلامها، وأنها متمسكة بدينها تحس أنها مرتبطة بكم برابطة الدين، وهي اليوم تقف محتاجة في أمس الحاجة إلى رحمة ربها أولا وقبل كل شيء ثم إلى رحمة إخوانهم من المسلمين، الله الله في إخوان الإيمان.
    وعلى طلاب العلم وعلى الأئمة والخطباء أن يعتنوا بهذا الأمر، لا يجوز خذلان المسلم، ومن خذل أخاه المسلم خذله الله في الدنيا والآخرة، والمصائب والنقم تحل على المسلمين إذا خذل بعضهم بعضا، والله يرفع البلاء على المسلمين إذا كانوا متراحمين متعاطفين، يعطف بعضهم على بعض.
    كان بعض العلماء يمرض إذا سمع بكارثة نزلت على المسلمين في أي بلاد، وكان البعض منهم ربما يمرض حتى يعاد من شدة الألم والحزن، ونحن لا نبدي الخوف والضعف، والله يعلم ما تستكن به قلوبنا من الثقة في الله جل جلاله.
    وخير ما تنصرون به إخوانكم: أولا وقبل كل شيء: ألا تنسوهم من صالح الدعاء، فإن الدعاء حبل متين، ولا يستهين إنسان بدعواه لعل الله أن يجعل لك دعوة تفتح لها أبواب السماء يكتب لك أجرها، فأنت إذا قلت: اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم، كتب الله لك كل ما يكون من هذه الدعوة، فتكون معهم بالدعاء في سجودك بين الأذان والإقامة في الأسحار، ادع لإخوانك.
    تصور أن هذه المرأة المنكوبة المكلومة المفجوعة المفزوعة أنها أم للإنسان أو أنها أخت أو أنها بنت، ماذا يكون حال الإنسان؟ أليس بيننا وبينهم الإسلام؟! أليست هناك وثيقة أعز وأعظم من وثيقة النسب؟ لو أن إنسانا من قرابتك أصابه عشر ما أصابهم لتقرح قلبك، وشعرت بالأسى والحزن والشجى، فكيف بإخوانك في الله والإسلام؟! فالله الله، على الأئمة والخطباء وطلاب العلم أن يوجهوا الناس وأن يذكروهم وأن يعظوهم بهذه الحقوق، ومن نصر المسلمين نصره الله في الدنيا والآخرة، وليس هناك أعز من أن نعتز بديننا وأن نشعر أن بيننا وبين إخواننا حقا عظيما، وأن ديننا حكم علينا الوقوف بجوارهم، وهذه هيئات الإغاثة والمؤسسات الخيرية -أسأل الله العظيم أن يمدهم بعونه وتوفيقه وتسديده وأن يلهمهم الصواب والرشد- قد فتحت ذراعيها للمعونة والمساعدة، فقد تزور إنسانا غنيا تقول عنده كلمة تأمره فيها بنصرة هؤلاء الضعفاء يكتب الله لك بها رضاه في يوم تلقاه، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يكتب الله له بها الرضا إلى يوم يلقاه، فتأتي إليه وتذكره بهؤلاء الضعفاء، وقد تكون الكربات سببا في دخول الجنة، فكم من متكلم في هذه الحوادث والنكبات يكتب الله له رضاه بكلمات، وكم من كلمات حركت القلوب فكفكفت دموع اليتامى وجبرت قلوب الثكالى كتب الله عز وجل بها عظيم الحسنات.
    الله الله! واحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى، فتكون المساعدة بالمال وبكل ما يستطيع الإنسان، فتجب علينا نصرتهم ومؤونتهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فالمسلم أخو المسلم، ونصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في هذا الأمر.
    والواجب علينا أن نستشعر هذا الأمر وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى -وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استنصر وأنه رفع يديه وكفه إلى الله مستغيثا مستنصرا- اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، اللهم إنا نسألك أن تجعل لإخواننا في كوسوفو وفي كل مكان من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية.
    اللهم ثبت أقدامهم، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب آراءهم، اللهم اعطف قلوب عبادك عليهم، يا حي يا قيوم! اللهم اجبر كسرهم، وارحم ضعفهم، وفرج عنا وعنهم يا حي يا قيوم، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تدمر الكافرين ومن أعانهم، اللهم شتت شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم احصهم عددا، اللهم اقتلهم بددا، اللهم لا تغادر منهم أحدا، اللهم اجعل بأسهم بينهم وسلم المسلمين من شرورهم، يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه


    الأسئلة




    حكم العبادة بمال أو في مكان مغصوب










    السؤال إذا بنيت العبادة على شيء مغصوب هل تصح؟ كمن صلى على أرض مغصوبة، أو توضأ بماء مغصوب، أو حج بمال مغصوب؟!
    الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: هذه المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، من صلى على أرض أو دار مغصوبة فهل تصح صلاته أو لا؟ قولان مشهوران للعلماء.
    جمهور العلماء على أن الصلاة صحيحة وأنه آثم بالغصب، وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة باطلة، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه إلا إذا رجع إلى ذاته، وذات الصلاة مأمور بها وليس بمنهي عنها شرعا.
    وبناء على ذلك فإننا نقول: تصح صلاته بنص السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه ذكر أركان الصلاة في حديث المسيء صلاته وقال: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك) فنحن نحكم بصحة الصلاة وتمامها لتوفر أركانها وشرائط صحتها.
    وأما بالنسبة للغصب فإننا نقول: هو آثم لغصبه، وصلاته صحيحة، وتبرأ ذمته.
    وهكذا لو حج بالمال المغصوب فإن حجه صحيح ولكن يجب عليه بالنسبة للهدي الضمان؛ لأن الهدي يختلف عن مسألتنا فإن الهدي النهي فيه راجع لذاته، وهو يشترط في الحج إن كان متمتعا أو قارنا فيضمن إن كان الهدي مغصوبا، أما أنه لو سافر وماله مغصوب وركب سيارة ونزل داره، فهناك فرق بين فعل العبادة وبين ذات الشيء المنهي عنه.
    وبناء عليه فإن حجه صحيح، ولكن هل يتقبل الله عز وجل حجا من مال حرام؟ إذا حججت بمال لست تملكه فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيت الله مبرور لو حج الإنسان مائة عام ولم يتقبل الله عز وجل حجه فما هي الفائدة؟ يتعب راحلته ونفسه.
    فالمال المغصوب يوجب عدم قبول الحج نسأل الله السلامة والعافية، والحج صحيح، ونقول: أجزأته عن حجة الإسلام، ولكن لا يقبل إلا إذا كان من مال حلال، كما قال تعالى: {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة:27] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل الله إلا طيبا) والله تعالى أعلم.


    حكم أخذ الأب من مال ابنه بدون إذن


    السؤال هل للأب أن يأخذ من مال ابنه بغير إذن، وأنه مهما فعل بمال ابنه فإنه لا يعتبر آثما؟
    الجواب أخذ الوالد من مال ولده جائز، فظاهر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني) وبضعة الشيء كالشيء.
    وفي الحقيقة إذا سأل الوالد ولده المال فعلى الولد أن يبادر وأن يعلم أن حق الوالد كبير، وأن الوالد أعز من المال، وعليه أن يضحي من أجل والديه، وعلى الوالد أيضا أن يتقي الله في الطلب، فلا يطلب إلا في حدود الحاجة، ويطلب بالمعروف ولا يضيق على ابنه، وإنما يكون ذلك على الوجه الذي لا ضرر فيه ولا إضرار، والله تعالى أعلم.
    حكم رد الخمر إذا استحالت فأصبحت خلا
    السؤال إذا استحالت الخمر خلا هل يجب عليه أن يردها؟

    الجواب قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الخمر إذا استحالت خلا وجب ردها، وهذا تفصيل عند الشافعي -رحمه الله- وطائفة من أهل العلم في الغصوبات؛ لأن هناك فرقا بين أن تخلل بنفسها وبين أن يخللها، فإذا خللها فهذا حرام، ولكن إذا تخللت بنفسها فحينئذ تكون قد انتقلت إلى مباح، ومن هنا قال بعض العلماء: يجب عليه ردها؛ لأنها انتقلت إلى مباح، وهذا المذهب قوي، أن الخمر إذا تخللت بنفسها ثم أصبحت خلا وجب ردها؛ لأنها انتقلت عن العين المحرمة إلى العين المباحة.
    وبعض العلماء يقول: إن صاحب الخمر لا يدله، وإذا تخللت عند الغاصب فإنها تكون ملكا للغاصب ولا تكون ملكا للمغصوب منه.
    والأول أوجه وخاصة في الصور التي ذكرها المصنف رحمه الله: من خمر الذمي؛ لوجود اليد وثبوتها من جهة الإذن الشرعي للذميين بشرب الخمر، والله تعالى أعلم.


    مسألة في تنفيذ الحدود على غير المسلمين


    السؤال أشكل علي مسألة تنفيذ الحدود بين المسلمين والكفار، إذا اختلف في كون الشيء محترما عندهم أو غير محترم؟
    الجواب بالنسبة لتنفيذ الحد، فالذمي إذا كان في بلاد المسلمين له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، فحينئذ إذا زنى يقام عليه الحد كما يقام على المسلمين، والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة اليهوديين الذين زنيا، فإنهما لما زنيا أقام عليهما النبي صلى الله عليه وسلم حكم الله عز وجل.
    وعلى هذا يفصل: إذا ارتكب الذمي الحد فينقسم إلى أقسام: تارة يرتكبون الحد ولا نطلع على ذلك، وتارة يرتكبون الحد ونطلع.
    فإذا ارتكبوا الحد ولم نطلع فلهم صورتان: الصورة الأولى: أن يرتكبوا الحد ويقيموا حدودهم بشريعتهم، فهذا لا دخل لنا مادام أنهم لم يترافعوا إلينا.
    الصورة الثانية: أن يقع الزنا بينهم ثم يرفعوه إلينا، فإن رفعوه إلينا هل نحكم بشريعتهم أم بشريعتنا؟ الراجح أن يحكم بشريعة الله، فقد أمر الله عز وجل بالحكم: {فإن جاءوك فاحكم بينهم} [المائدة:42] فأمر الله عز وجل أن نحكم بينهم بحكم الله عز وجل، والله جعل القرآن مهيمنا على الكتب والشرائع المتقدمة ناسخا لها، فيجب إقامة حكم الله فيهم مادام أنهم ترافعوا إلينا.
    أما لو أنه وقع الزنا منهم أمام المسلمين أو شهد الشهود من المسلمين عليهم فحينئذ نقيم عليهم شرع الله عز وجل ويعتبر انتهاكهم لحرمة الله جهارا يوجب إقامة حكم الله عز وجل عليهم بحكم الإسلام، ولا خيار في هذه المسألة ولا خلاف.
    لكن في المسألة السابقة إذا وقعت فيما بينهم وترافعوا إلينا هل يكون مخيرا أم لا؟ هذه المسألة الخلاف فيها مشهور بين أهل العلم لآيات المائدة المشهورة: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة:42] هذا فيه نوع من التخيير، وبعض العلماء يقول به، وبعض العلماء يقول: إن هذا التخيير نسخ.
    والذين يقولون بالتخيير قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على اليهوديين بالتوراة، يعني: نفذ ما في التوراة، فكان منفذا ولم يكن حاكما، قالوا: والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الشهود من أهل الكتاب، والشهود من أهل الكتاب لا تقبل شهادتهم إلا فيما استثناه الله عز وجل من الوصية على آية شهادة الوصية في السفر، وهي آية المائدة المشهورة.
    قالوا: ومما دل على ذلك كون النبي عليه الصلاة والسلام دعا الشهود ونفذ عليهم بحكم التوراة وليس بحكم الشرع، والصحيح: أنه كان منفذا لحكم الله ولكن شهادتهم هنا في مسألة الإقامة تعتبر منسوخة بصريح القرآن أن الله سبحانه وتعالى أمر بالحكم بينهم، ونص على الحكم بشرع الله عز وجل فتكون آية المائدة ناسخة لآية التخيير؛ وعلى هذا فإنه يقام عليهم شرع الله عز وجل من هذا الوجه.
    فإذا أثبت هذا التفصيل ما يقع فيه إشكال؛ لأن مسألة الخمر للذمي غير مسألة انتهاك الحد، مسألة انتهاك الحد أوجدت الموجب والسبب المقتضي لإقامة الحد، ولكن مسألة المالية مختلفة، فمسألة المالية راجعة إلى ثبوت اليد وعدم ثبوتها، والذمي قد جعل الله له يدا على الخمر بخلاف المسلمين، فأنت تتعامل مع من أذن له لا مع من لم يؤذن له، فهذا وجه الفرق بين المسألتين، هذه المسألة وهذه المسألة ولا تعارض في حكم الله بين المسألتين، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.


  11. #371
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب الغضب )

    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (371)

    صـــــ(1) إلى صــ(18)


    شرح زاد المستقنع - باب الغصب [2]

    حتى تعود الحقوق إلى أهلها ألزمت الشريعة من غصب شيئا أن يرده إلى موضعه الذي غصبه منه، ويتحمل ما يترتب على هذا من غرامة؛ لأنه هو الذي جنى واعتدى، ويضمن كل ما يترتب على غصبه من زيادة أو نقص في المغصوب، وهذا من كمال العدل.


    وجوب رد المغصوب إلى صاحبه


    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن استولى على حر لم يضمنه، وإن استعمله كرها أو حبسه فعليه أجرته] .
    فقد تقدم معنا بيان حكم الغصب، وبيان حقيقته في اللغة والاصطلاح، وبينا أن للغصب آثارا تترتب عليه، وقد اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان هذه الآثار وذكر ما دل عليها من أدلة الكتاب والسنة، وإجماع أهل العلم رحمهم الله، ولا بد لطالب العلم من أن يعلم هذه الأحكام والمسائل في باب الغصب.
    أول ما يترتب على الغصب: الحكم بإثم الغاصب وقد تقدم، والسبب في ذلك: عصيانه لله عز وجل، واعتداؤه على حق أخيه المسلم، ونسيانه لحرمته، وتجاهله للأصول الشرعية التي حظرت عليه ذلك الفعل من الغصب.
    أما الأمر الثاني الذي يترتب على الغصب: وجوب رد الشيء المغصوب، وهذا بإجماع العلماء، أن الواجب على من غصب أن يرد الشيء الذي اغتصبه، سواء كان من العقارات أو من المنقولات، وأنه إذا تصرف في الشيء المغصوب فنقله من بلد إلى بلد ومن موضع إلى موضع، فإنه ملزم شرعا برده إلى الموضع الذي أخذه منه، ولو كلفه ذلك ما كلفه، فلو أنه اغتصب دابة وسار عليها إلى بلد بعيد وجب عليه أن يردها إلى البلد الذي اغتصبها منه.
    كذلك لو أنه أخذ متاعا ثم نقله إلى موضع؛ وجب عليه أن يرد ذلك المتاع إلى الموضع الذي اغتصب فيه ذلك المتاع.
    فإذا: الرد، لكن مسألة رد المغصوب تتوقف على وجود الشيء المغصوب، فإن من غصب شيئا تارة يبقى الشيء وتارة لا يبقى، فإذا بقي الشيء وكان على صفاته وجب رده على الصفة التي أخذه عليها ضمانا لنقصه من حيث الأصل، ووجب رده على صفة الكمال إن طرأ كمال وزيادة بعد الغصب، وهذا كله سنفصله إن شاء الله تعالى.
    وبناء على ذلك: ثبت عندنا أنه يجب رد المغصوب، فلو أن هذا المغصوب تلف، كرجل أخذ طعام أخيه المسلم ثم أكله، ففي هذه الحالة لا يمكن رد عين الشيء المغصوب، فيطالب برد مثله، فالأشياء المغصوبة لا تخلو من حالتين:


    ضمان المثلي بمثله


    الحالة الأولى: أن تكون من الأشياء التي لها مثليات، وذلك مثل المكيلات والموزونات، كرجل اغتصب صاعا من بر، أو كيلا من أرز ثم استهلكه واستنفذه وأكله فإنه مستحيل عليه أن يرد عين الذي أخذ، فنقول له: يجب عليك أن تنظر إلى مثل الطعام الذي أخذته في الصفة من حيث جودته ورداءته، ونفس النوع الذي أخذته، ثم ترده إلى صاحبه بالقدر، فإن كان صاعا فصاع، وإن كان أكثر من ذلك فكل شيء بحسابه.
    إذا: يرد عين المغصوب إذا كان موجودا، وإذا تعذر رد عين المغصوب وجب رد مثله، وهذا المثلي -كما ذكرنا- في المكيلات والموزونات، فالمكيلات مثل: الحبوب، والموزونات مثل: القطن والحديد والنحاس، فلو أنه أخذ حديدا ثم أتلف الحديد على وجه لا يمكن رد العين به، فحينئذ ينظر إلى مثل الحديد الذي أخذه، فلو أخذ من جيد الحديد -وهو الصلب- طنا واغتصبه وجب عليه رد طن مثله، فإذا: يرد مثله في النوع، ويرد مثله في الصفة من حيث الجودة والرداءة، ويرد مثله في القدر من حيث الكيل والوزن.


    الضمان بالقيمة عند تعذر المثلي


    فإن تعذر وجود المثلي انتقل إلى القيمة، ويتعذر وجود، إما حقيقة، وإما حكما وتقديرا، وإما شرعا، فيتعذر وجود المثلي حقيقة وحسا، مثل: أن يكون أخذ إناء من الأواني التي لا تنضبط ويكون صنعها على وجه لا مثيل له من حيث التقدير، بحيث لا يمكن الإتيان بمثله في مثل ما ذكرنا، وتقدم معنا في السلم أن الأواني ونحوها التي ليس لها ضوابط في صفاتها -بخلاف الأواني الموجودة في زماننا هذا- كالأواني التي تصنع عند الحدادين ونحوهم لا يمكن رد مثلها، بحيث تنطبق الصفات على وجه تام كامل فعند ذلك ينتقل إلى القيمة، ونقول: تعذر وجود المثلي حقيقة وحسا.
    كذلك أيضا: يتعذر وجود المثلي شرعا كما تقدم معنا في خمر الذمي، فإنه على مذهب من قال: إن الخمر تضمن إذا كانت لذمي، فإن المسلم لا يمكنه أن يشتري الخمر؛ لأنه لا يجوز أن يتملكها، فحينئذ ينتقل إلى قيمتها ويضمنها لصاحبها؛ لأن أهل الذمة لهم حق كما تقدم معنا في باب الذمة.
    أما من حيث التعذر الحكمي فهذا من أمثلته كما ذكر العلماء: أن يكون قد أتلف شيئا له مثل في السوق، ولكن سعره في السوق مبالغ فيه وقيمته أكثر من المثل، فوجد مثل هذه السيارة التي أتلفها ولكن يطلب فيها صاحبها أضعاف قيمتها، فهي موجودة حقيقة لكنها مفقودة حكما؛ والله يقول: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194] فإذا كلفناه أضعاف قيمتها فهذا ليس بمثلي، ولذلك قالوا: هو موجود حقيقة، مفقود حكما.
    إذا: أولا: نضمنه العين، فيجب رد العين، فإن تعذر؛ أوجبنا عليه رد المثل، فإن تعذر وجود المثلي حقيقة وحسا أو شرعا أو حكما؛ انتقلنا إلى القيمة.


    يد الغاصب يد ضمان


    يتفرع على هذا أن تقول: القاعدة أن يد الغاصب ضامنة، فتضمن الزيادة وتضمن النقص، فإذا قلت: إنها ضامنة ففي ضمان النقص تضمن الشيء من الاثنين: ما كان بتعد منها وما كان بآفة سماوية بدون تعد منها.
    فمثلا: لو أنه أخذ أرضا واغتصبها، وكانت الأرض فيها مزرعة وجاء إعصار فيه نار فأحرق المزرعة، نقول: يجب عليك أن ترد الأرض كما هي، لأنك بمجرد اغتصابك تصبح يدك ضامنة، فأي تلف يحدث في العين لا نسأل عن سببه، سواء كان منك أو كان من غيرك فيلزمك أن ترد العين كما أخذتها، فإن حصل التلف فتضمن هذا التلف سواء كان بفعلك أو كان بفعل غيرك، وهذا معنى قول بعضهم: يضمن ما كان بأمر الله، أو ما كان إفسادا من مخلوقين، يعني: يضمن في كلتا الحالتين، ولا يقال: إن الضمان يختص فقط بحال التعدي، والسر في هذا أن يده لما اعتدت على هذه العين وأخذتها من مالكها يصبح عندنا أصل وهو الضمان، أي: أن يده يد ضمان، فواجب عليه أن يرد العين، فإذا قلت: يجب عليه شرعا أن يرد العين وكما هي كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) نهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض لأكل أموال الناس، ثم أمر كل من تعرض لمال أخيه المسلم أن يرده.
    فنقول في هذه الحالة: دل الأصل الشرعي على أنه يجب عليه الرد، فإذا حصل التلف والنقص وجب عليه أن يرد المغصوب كاملا لا ناقصا؛ لأنه أخذه كاملا، ثم ما طرأ من النقص يكون متحملا لمسئوليته، كما أن ما طرأ من الزيادة يكون أيضا واجبا عليه ضمانه، وهذا كله سنفصله ونبين موقف العلماء رحمهم الله فيه.
    إذا تقرر هذا فالأشياء التي تغصب منها يكون من الأموال التي تباع وتشترى وهي محل للمعاوضات، وهذا ينقسم إلى عقارات ومنقولات، فيكون الغصب في العقارات كالأراضي والدور ونحوها، ويكون الغصب في المنقولات كالأطعمة والأكسية ونحوها.


    كيفية ضمان العين إذا زادت أو نقصت


    إذا: يجب ضمان عين المغصوب، ويجب ضمان منفعة العين، فإذا قلنا بالضمان برد عين المغصوب أو ضمانه على التفصيل المتقدم يبقى السؤال في مسألة رد العين المغصوبة، فتارة تكون العين المغصوبة موجودة كما هي، ليس فيها زيادة ولا فيها نقصان، فحينئذ لا إشكال.
    فإذا جئت تحكم في هذه المسألة تقول: ننظر إن كانت العين قد مضت مدة على غصبها وجب ردها ومنفعتها، بدفع قيمة المنفعة التي هي الأجرة، وإن لم تمض المدة وجب رد العين وحدها، هذا إذا كانت العين كما هي بدون زيادة وبدون نقصان.
    أما لو أن العين اختلفت فإما أن تختلف بزيادة وإما أن تختلف بنقص، فإما أن تختلف فيزيد سعرها وتجمل وتكمل، وإما أن تختلف فينقص سعرها، وحينئذ يجب أن يفرق بين المسألتين ويفرق في حكمهما.
    فتارة تختلف العين بالزيادة، كرجل أخذ دابة هزيلة واغتصبها ثم اعتنى بطعامها وشرابها فأصبحت كأحسن ما تكون عليه الدابة، إذا: اختلفت في الزيادة.
    أو أخذ أرضا واستحدث فيها البناء وهي أرض بيضاء، فأحدث فيها البناء أو أحدث فيها الزرع، فحينئذ تكون العين المغصوبة قد زادت ولم تبق على حالتها الأصلية يوم أخذت، وهذه من أمثلة الزيادة في العين.
    وفي زماننا يأخذ سيارة -مثلا- فيصلح مراكبها ويحسن مقاعدها، أو يتصرف في آلة السيارة، تكون السيارة على حالة ضعيفة فتصبح على حالة أفضل، فإذا: تصرف بزيادة.
    الحالة الثانية: أن يأخذ العين على أحسن ما تكون فيردها على أسوأ ما تكون لكنها صالحة؛ لأنه إذا ردها وهي تالفة فالحكم حينئذ: الضمان على التفصيل الذي تقدم، لكن نتكلم في حالة أن العين باقية ولكن فيها نقص، كرجل أخذ دابة وهي سمينة صالحة على أحسن ما تكون عليه، فأساء علفها وإطعامها والقيام عليها، فأصبحت هزيلة، فحينئذ عادت ناقصة، وأخذها كاملة فردها ناقصة.
    وفي زماننا لو أخذ البيت واغتصب العمارة أو الأرض وفيها الزرع فأفسد زرعها، أو فيها نخل فأتلف النخل الذي فيها، أو عطش النخل حتى مات بعضه وبقي بعضه، فحينئذ عادت العين بالنقص.
    أما في حالة الزيادة وحالة النقص فكلتا الحالتين فيهما تفصيل من حيث الأصل الشرعي فنقول: كل زيادة حدثت في العين المغصوبة فإما أن تكون من فعل الغاصب، وتكون العين لا يمكن فصل الزيادة عنها، كالسمن لا يمكن أن نسحبه من الدابة مع صلاح حالها فهذا صعب جدا، ولا يمكن أن يحدث ذلك، فحينئذ ترد كاملة، ولو أخذ الرقيق فعلمه صنعة فلا يمكن سحب الصنعة منه، فيجب رده كاملا على الصفة التي أصبح عليها.
    وأما إذا كانت الزيادة يمكن فصلها عن الشيء المغصوب، مثلا: لو أنه وضع على الأرض بناء من الصناديق، أو البيوت الجاهزة في زماننا فنقول: يجب عليه رفع ما له ورد الأرض كما أخذها إلى صاحبها، فلو أحدث الزرع فيها وجب عليه قلع الزرع ورد الأرض مستوية، وتطمس حفرها وتصلح كما كانت، ويضمن النقص لو أنها نقصت قيمتها بعد هذه الحفر واستصلاحها، وسنفصل هذا كله -إن شاء الله- ونذكر خلاف العلماء رحمهم الله.
    لكن نريد الآن أن نشير إلى مجمل مسائل الغصب حتى إذا دخلنا في التفصيل تكون الصور إن شاء الله واضحة.
    فمن حيث الأصل لما نظرنا إلى الزيادة، قلنا: في حالة الزيادة التي لا يمكن فصلها عن العين المستحقة وتابعة للعين، فيجب على الغاصب أن يرد العين بكمالها، ويضمن هذا الكمال، ويصبح الكمال ملكا لصاحب الأرض، هذا إذا كان قد أحدث فيها زيادة لا يمكن فصلها.
    أما لو أحدث زيادة من ملكه يمكن فصلها نقول له: خذ ما لك واترك ما لغيرك، ورد الأرض كما أخذتها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديها) وترد الأرض على الصفة التي أخذتها عليها، حتى لو أنك نقلت النخلة عنها أو هدمت البناء الذي عليها فاختلفت صفاتها ونقصت قيمتها لزمك أن تدفع هذا الفارق، وسنفصل إن شاء الله.
    إذا: يلزم برد الأرض على صفتها، ويأخذ ما له من الزيادة التي استحدثها، ولا يأخذها إن كانت متصلة لا يمكن فصلها عن العين.
    أما إذا كان هناك نقص وأحدث في العين المغصوبة نقصا فيجب عليه أن يضمن النقص كاملا، ويرد العين ويرد ضمان النقص، فلو كانت العين -أعني: الأرض- لما أخذها واغتصبها صالحة وطيبة وفيها زرع وكانت قيمتها تساوي مائة ألف مثلا، ولما أراد أن يردها ردها بنقص نصف قيمتها نقول: رد الأرض وادفع نصف قيمتها إلى المغصوب منه، هذا من حيث الزيادة والنقص.


    كيفية تقدير القيمة عند الضمان


    وتقدر قيمة الشيء المغصوب ويجب عليه ضمان القيمة على التفصيل عند أهل العلم رحمهم الله كما سيأتي، فمنهم من يقول: نقدر قيمة المغصوب حين الغصب، وبعضهم يقول: نقدر قيمة المغصوب عند التلف.
    وفائدة المسألة: لو أن شخصا أخذ سيارة واغتصبها من أخيه، واغتصبها في أول العام وكانت قيمة السيارة باهظة الثمن، فرضنا: كانت قيمتها خمسون ألفا، ثم لما أصبحت في نهاية العام أتلفها وتعذر وجود مثلها وكانت قيمتها حين أتلفت تساوي خمسة وعشرين، أي: نصف القيمة؛ لأن السيارة في أول العام تختلف قيمتها عن آخر العام، فهل ننظر إلى قيمة المغصوب عند أخذه وغصبه؟ أو ننظر إلى قيمة المغصوب عند تلفه؟ فمن قال: يضمن بالقيمة عند أخذه؛ لأن يده ضمنت ذلك الشيء بأخذه، قالوا: يدفع خمسين ألف ريال.
    ومن قال: يضمن المغصوب بقيمته يوم تلفه؛ لأنه استحق القيمة عند التلف، وكان الواجب عليه أن يرد، فلما امتنع من الرد وحصل التلف ننظر إلى وقت التلف فيدفع خمسة وعشرين أي: نصف القيمة.
    إذا: تضمن المغصوبات بقيمتها يوم أتلفت أو بقيمتها يوم أخذت على الوجهين المشهورين عند أهل العلم رحمهم الله، وهذه كلها آثار مترتبة على الغصب، لكن هذه الآثار متعلقة بمسألة عين المغصوب.


    وجوب ضمان منافع المغصوب


    يبقى
    السؤال هذا الشيء الذي اغتصب وتلف قد يكون الغاصب استفاد منه ومضت مدة انتفع فيها منه؟! فالمغصوب إما أن يكون من العقارات أو من المنقولات، فيكون من العقارات كمن اغتصب بيتا أو عمارة أو شقة وأخذها بالغصب وسكنها ثلاث سنين مثلا، فهذا غصب لعقار مستفاد منه مدة الغصب، فهذه الثلاث سنوات لها أجرة وحينئذ إذا جئت تنظر إلى مسألة أجرتها رجعت إلى مسألة منافع المغصوب، فعندنا عين المغصوب، وعندنا منافع المغصوب، ففي منافع المغصوب من حيث الأصل الشرعي يجب ضمانها، وهذا قول فقهاء الحنابلة والشافعية رحمهم الله، والنصوص تدل على صحة هذا القول؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب ضمان الأشياء بمثلها، ولا شك أن هذه المدة مستحقة للمالك، فلما كان الغاصب قد أخذها ومنع المغصوب منه من الانتفاع بها، ومنعه من تأجيرها على الغير، فإنه يجب عليه ضمانها حتى ولو لم يسكنها، فلو أنه منعه من دخول العمارة واستولى على العمارة، أو منعه من شقته أو منعه من سيارته، وعطلت هذه العين سنة كاملة سواء سكن أو ركب السيارة أو انتفع أو أجرها على الغير أو لم يفعل شيئا من ذلك فإنه يضمن.
    وإذا سئلت عن وجه التضمين، فتقول: لأن المالك الحقيقي كان بإمكانه أن يستفيد من هذه العين، وأن يتحصل على حقه ولكن هذا الغاصب حينما غصبه وحال بينه وبين ماله امتنع وتعذر عليه أن يصل إلى ذلك الحق ووجب على الغاصب أن يضمن.
    إذا: على الغاصب ضمان المنافع، والمنافع تشمل المركوبات كالسيارات والدواب، وتشمل المساكن كالبيوت والعمائر ونحو ذلك من الحرف والصنائع الموجودة في زماننا ومما يستفاد منه من الآلات.
    ففي زماننا لو أخذ آلة نجر الخشب للنجارة، أو أخذ آلة للحدادة، وأخذ هذه الآلة وعطلها سنة، فهذه الآلة يسأل أهل الخبرة كم أجرتها في سنة كاملة؟ سيقولون: أجرتها في كل شهر ألف ريال، فمعنى ذلك: أنه يلزم بدفع اثني عشر ألفا استحقاقا للمالك الحقيقي لهذه الآلة؛ لأنه حال بينه وبين الانتفاع بها.
    إذا: يستوي أن يكون قد انتفع هو أو مكن الغير من الانتفاع أو حبس الآلة وعطلها؛ لأنه لما حبسها وعطلها كان ضامنا لذلك التعدي متحملا لمسئوليته فيجب عليه دفع القيمة التي هي مستحقة لفوات ذلك الزمان


    حكم غصب الحر وضمانه


    وقوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه) أما بالنسبة للأشياء التي لا تملك كالحر فإنه إذا غصب فإننا ننظر إلى مسألة استهلاكه كما سيأتي، فلو أن هذا الحر اغتصبه ثم مات عنده بأمر الله عز وجل وبقدر من الله عز وجل، فنقول: لا يضمنه؛ لأن الحر هذا ليس محلا للمعاوضة، لكن لو كان رقيقا فهذا أمر آخر، ولو كان دابة فهذا أمر آخر، لكن الحر ليس محلا للمعاوضة؛ لأنه لا يباع ولا يشترى؛ ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى يقول: (ثلاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل أعطى عهدا ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فلم يوفه أجره) .
    فقوله: (ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه) فجعله من كبائر الذنوب، ومن الأمور الموجبة للعقوبة الشديدة وهو كونه خصما لله عز وجل -والعياذ بالله- يوم القيامة، وهذا يدل على أنه قد أخذ ما ليس له، وقد ظلم ببيع ما لا يباع؛ لأن الحر لا يباع.
    وإذا ثبت هذا فنقول: إذا مات فحينئذ لا نبحث في مسألة ضمانه، وهذا إذا مات قدرا، أما لو أنه تعدى عليه وقتله فهذا له باب الديات وباب القصاص، وينتقل من مسألة الغصب إلى مسألة التعدي، فالشريعة جعلت لكل شيء حكمه ولكل شيء شرعه: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] .
    فأنت تقول: إذا أخذ هذا الحر واعتدى عليه بالضرب فهناك باب خاص بالاعتداء، فاعتداء المسلم على أخيه فيه الضمان، فإذا حصل تلف في العضو الذي ضربه عليه فإنه يضمن العضو الذي أتلفه على التفصيل الذي سيأتي في الديات.
    وإذا قتله بالضرب فحينئذ يفصل فيه فيما لو قتله عمدا أو قتله شبه عمد ولم يقصد قتله، وكان الذي ضربه غير قاتل خطأ، فهذا يفصل فيه في باب القتل وأحكام القتل.
    وإذا اقتصر على غصبه ولم يتعرض له بشيء فمات عنده فحينئذ يكون قد مات قدرا ولم يتعرض له بالتلف ولم يتعاط أسباب تلفه، فحينئذ يكون قد مات قدرا ومثله لا يضمن؛ لأن الحر لا يضمن إلا بالاعتداء، وهنا لم يحدث اعتداء فلا وجه للتضمين، هذا بالنسبة للحر.
    فابتدأ المصنف رحمه الله بهذه المسألة بأنها ليست محلا للمعاوضة، ثم سيدخل بعد ذلك فيما هو محل للمعاوضات ببيان ما للمغصوب منه وما على الغاصب من الحقوق التي يجب عليه أداؤها، وتركبت على اعتدائه وغصبه لحق أخيه المسلم.
    فقوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه) .
    لاحظ (استولى) ؛ لأن الغصب ما يكون إلا بالاستيلاء، وعلى هذا فالمستولي على حر لا يضمنه، أي: إذا استولى على حر فمات الحر عنده لم يضمنه، إلا إذا كان قد تعاطى أسباب موته وهلاكه، كأن يكون -مثلا- وضعه بغرفة وأقفل عليه فيها، ثم نسي أن يطعمه ويسقيه حتى مات، وقال: ما قصدت قتله، إنما أدخلته على أساس أني أريد أن أروعه وأخوفه وأمنعه من أن يتعرض لي، فأقفلت عليه الغرفة ثم نسيت، فحينئذ إذا ثبت هذا وتقرر فهذا قتل خطأ؛ لأنه تعاطى السبب الذي أوجب هلاكه، ويضمن ديته على التفصيل الذي سيأتي في مسألة الخطأ.
    إذا: لا يضمنه إلا إذا تعدى أو فرط في القتل، وهذا معنى قوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه) ، في تقدير: إن استولى على حر فمات، لكن مات بدون تعد ولا تفريط لم يضمنه.


    حكم استعمال الحر المغصوب أو حبسه


    وقوله: [وإن استعمله كرها، أو حبسه فعليه أجرته] .
    عندنا -كما تقدم-: الذات والمنفعة، فالحر ذاته لا تملك، وليس محلا للبيع والشراء، لكن منافع الحر تملك ويعاوض عليها، ولذلك استأجر موسى عليه السلام نفسه على طعمة بطنه وعفة فرجه صلوات الله وسلامه عليه، فأجر نفسه ثماني حجج وأتمها إلى عشر، فجعلها إجارة ومعاوضة على مهره.
    فالحر لا يملك من جهة الذات، ولكن من جهة منافعه، وكما لا تملك ذاته لا تملك أيضا أعضاؤه، فليست محلا للبيع والشراء، ولذلك لا يجوز بيع الأعضاء ونقلها ونحو ذلك؛ لأنها ليس محلا للمعاوضة، لا كلا ولا جزءا، فلا يجوز بيع كليته ولا قرنيته ولا بيع أجزائه؛ لأنها ليست محلا للمعاوضة، والوعيد في قوله: (باع حرا ثم أكل ثمنه) يشمل الشخص نفسه إذا باع هذا الجزء؛ لأنه ليس محلا للمعاوضة.
    فإذا ثبت هذا فيبقى
    السؤال هل منافع الحر كذات الحر؟
    و الجواب لا، فإن منافع الحر لها قيمة ويستفاد منها ويستفيد منها صاحبها، فلو أنه أخذ حرا وأقفل عليه، فهذا الحر إما أن يكون صاحب صنعة ويستفيد من عمله وعنده عمل فعطله عن عمله ومنافعه، فيضمن مدة تعطيله، سواء استعمله أو لم يستعمله، كرجل عنده عمل، فجاء شخص وأخذه وأغلق عليه في داره شهرا، فتعطل عن عمله، وعادة أن يكون له في هذا العمل ألف ريال، فنقول له: هذا حر يجب عليك ضمان منفعته التي عطلتها بمنعه والإغلاق عليه، فتضمن الألف ريال له، فيضمن منفعته ولا يضمن شيئا آخر، ولو كانت أجرته في الشهر عشرة آلاف يجب عليه ضمان العشرة آلاف؛ لأنه حال بينه وبين هذا الانتفاع بسبب حبسه قاصدا الاعتداء؛ فوجب عليه أن يضمنه.
    إذا: إذا منعه ولم يستعمله فإنه يجب عليه ضمانه إذا كان له عمل ومصالح عطله عنها وهو صاحب صنعة، أما لو استعمله ففيه تفصيل: فإنه إذا استعمله لا يخلو من حالتين: مثال: شخص أخذ صبيا، واغتصب هذا الصبي وأخذه من عند أهله، ثم أخرجه -مثلا- إلى مزرعته خارج المدينة، وجلس هذا الصبي في مزرعة الرجل ثلاثة أشهر، وفرضنا أن هذا الصبي بالغ، أخذه وجلس معه ثلاثة أشهر، فإذا جلس هذا البالغ ثلاثة أشهر في المزرعة وعمل فيها فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون عمل بطواعية منه، كما لو جاء فوضعه في المزرعة، فرأى العمال يعملون فجاء وعمل معهم أو ساعدهم ولم يكرهه أحد على العمل، فحينئذ يكون فعله محض التبرع، ولا يجب على الغاصب أن يضمنه؛ لأنه محض تبرع، فقال: (استعمله كرها) .
    إذا: إذا حصل استغلال من الغاصب فلا يخلو من حالتين: إما أن يستغله بالعمل قهرا وكرها، فيجب عليه ضمان أجرة مثله في العمل، فلو كانت الثلاثة الأشهر عمل فيها ومثله يستحق في العمل الذي قام به في سقي الزرع -مثلا- ثلاثة آلاف، فيجب عليه ضمان الثلاثة آلاف التي هي أجرته، ولو كانت أجرته ألفين في كل شهر فإنه يضمن ستة آلاف.
    إذا: يشترط في استغلال الغاصب للمغصوب وعمل المغصوب عند الغاصب أن يكون بالقهر والقوة، أما لو كان باختياره والرضا فإنه لا يجب عليه الضمان؛ لأنه خرج إلى محض التبرع والإحسان ولا يجب ضمان مثل هذا.
    لزوم رد المغصوب بزيادته


    قال رحمه الله: [ويلزم رد المغصوب بزيادته] .
    (يلزم) أي: يجب، يلزم على الغاصب أن يرد المغصوب بزيادته، والباء للمصاحبة، أي: مصحوبا مع زيادته؛ لأن من معاني الباء المصاحبة: تعد لصوقا واستعن بتسبب وبدل صحابا قابلوك بالاستعلاء فمن معانيها المصاحبة، فقوله: (بزيادته) ، هناك زيادة متصلة، وهناك زيادة منفصلة، وهناك زيادة من فعل الغاصب، وهناك زيادة بأمر الله عز وجل، وكل هذا فيه التفصيل الذي سيذكره المصنف رحمه الله عبر المسائل التي ستأتي.
    لكن هنا أراد أن يشير إلى قاعدة وهي: أن الواجب على الغاصب أن يرد الشيء المغصوب على حالته ولو كانت أفضل من حالته يوم غصب، سواء كانت الزيادة متصلة أو كانت منفصلة، سواء كانت من نماء المغصوب أو كانت من فعل الغاصب مما لا يمكن انفصاله عن الشيء المغصوب على تفصيل سيأتي في مسألة الخلط والتي سيأتي بيانها -إن شاء الله- في الفرق بين زيادة القدر وزيادة صفات العين المغصوبة.



    لزوم رد المغصوب إلى موضعه ولو غرم الغاصب


    قال رحمه الله: [وإن غرم أضعافه] .
    عندنا مسألتان: المسألة الأولى: وجوب رد المغصوب مع الزيادة.
    المسألة الثانية: وجوب الرد نفسه، وأن يكون الرد مع الزيادة.
    عندنا مسألتان: مسألة الزيادة ستأتي، لكن مسألة الرد هنا من حيث الأصل الشرعي العلماء كلهم مجمعون على أن الواجب -من حيث الأصل- على الغاصب أن يرد الشيء الذي اغتصبه، وأن يرد العين التي اغتصبها، سواء كانت من العقارات أو كانت من المنقولات، لكن لو أن شخصا اغتصب شيئا فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الشيء في موضعه ويحول بينه وبين صاحبه، كرجل اغتصب أرضا، فجاء وأخذ من أخيه -مثلا- نصف أرضه، ووضع عليها الحواجز واغتصبها، فالحكم حينئذ رد المغصوب، وسيكون برجوعه إلى الحدود الأصلية التي كانت بينه وبين أخيه.
    أما الصورة الثانية: أن يكون المغصوب قد انتقل وحوله الغاصب من موضع الغصب إلى موقع آخر وهذه هي المسألة التي قصدها المصنف رحمه الله، فيجب رد المغصوب بزيادته ولو غرم أضعافه، يعني: ولو كان رد المغصوب إلى البلد الذي وقع فيه الغصب يكلف أضعاف قيمته، وهذه مسألة مهمة جدا.
    ومن أمثلتها: لو أن شخصا اعتدى على ماكينة زراعية لأخيه المسلم، فجاء وأخذها من أرضه واغتصبها ونقلها إلى أرض ثانية في بلد آخر، فإذا ثبت غصبه عند القاضي فيقول للغاصب: يجب عليك نقل هذه الماكينة وردها إلى الموضع الذي اغتصبتها منه.
    فإذا جئت تتأمل الماكينة تجد أن قيمتها عشرة آلاف ريال، لو جاء يردها ربما كلفه الرد ثلاثين ألف ريال، فحينئذ الرد سيكلف أضعاف قيمة العين المغصوبة، نقول: يجب عليك الرد ولو كلفك أضعافا؛ لأن الرد مستحق.
    لكن لو أن الغاصب قال: أنا لا أستطيع أن أتحمل ثلاثين ألفا، ولكن سأشتري له ماكينة من نفس النوع وجديدة من نفس البلد وأضعها في نفس المكان، فنقول: لا، إلا أن يرضى المغصوب منه.
    من حيث الأصل: لو أصر المالك وقال: ما أريد إلا ماكينتي، ترد له ولو كلفت أضعاف قيمتها؛ لأن العين مستحقة، وهذا حقي، وهذا من عدل الله بين العباد، فمثل ما أخذتها تتحمل مسئولية نقلها إلى موضعها، ما أحد أمرك أن تنقلها، فلما اعتديت بالنقل تحملت جميع ما يترتب عليه من آثار، ومنها: ضمان الأجرة المستحقة للنقل.
    فأولا: عندنا حكم، وهو: وجوب الرد، فالقاضي يقضي بأنه يجب عليه رد الماكينة إلى موضعها، فإذا أصر المالك وقال: أريد ماكينتي، لا إشكال، نقول: يجب عليك ردها ولو كلفك أضعافا، هذه المسألة الأولى.
    المسألة الثانية: لو قال: يا فلان! أعطيك مثلها وأضعها في المكان الذي اغتصبتها منه، قال المغصوب منه: رضيت، فلو قال: رضيت، تنتقل المسألة إلى مسألة الصلح، وتصبح القضية قضية صلح، والصلح جائز بين المسلمين، لكن الصلح إذا كانت فيه مناقلة ومبادلة يكون من باب البيع، فكأنه باعه ماكينته في ذلك الموضع بماكينة في هذا الموضع وتسري عليه أحكام البيع.
    فائدة قوله: تسري عليه أحكام البيع، أنه إذا ترتب عليه ربا النسيئة فلا يجوز، ولا يصح صلحا، مثل: امرأة اغتصبت من امرأة كيلو من الذهب ونقلته من بلد إلى بلد، فهذا الكيلو من الذهب لو أنها جاءت ترده احتاجت إلى حفظه وحرزه، فيكلفها مالا، فقالت: أنا أعطي مثله من الذهب هنا في مكة مثلا، فحينئذ صار ذهبا بذهب، فيجب أن يكون في نفس المجلس وإلا كان ربا نسيئة فلم يصح.
    هذه فائدة قولنا: تنتقل المسألة إلى مسألة الصلح، فلا يصح الانتقال في الغصب إلى المثلي إلا إذا كان من جنس ما أذن الشرع فيه من الانتقال المثلي، فإن اشترط فيه التقابض وجب أن يكون في المجلس الذي اصطلحا عليه، فإن قال: غدا آتيك، أو قال: بعد ساعة أحضر الذهب، كان هذا ربا ولا يصح.
    فإذا: لا بد أن نفصل فيه، الحكم الأصلي: وجوب الرد، ثانيا: أن هذا الرد ولو كلف أضعاف القيمة فهو ملزم به في الأصل إذا أصر المالك الحقيقي على عين متاعه وحقه، فهذا حق من حقوقه وليس لأحد أن يحول بين المالك وبين حقه، فإذا قال: أريد حقي، وجب إعطاؤه حقه، ورده إلى موضعه مهما كلف هذا.
    فإن اختار المالك أو رضي المالك صلحا بالبدل عنه، فصل في أحكامه على ما تقدم في باب الصلح، وصارت مناقلة مبنية على المعاوضة بالبيع على التفصيل المتقدم.
    فقوله: [ويلزم رد المغصوب بزيادته، وإن غرم أضعافه] .
    (وإن غرم) يعني: خسر، (أضعافه) يعني: أضعاف المغصوب، فيجب عليه أن يرد المغصوب بزيادة وإن كلفه ما كلفه.



    الأسئلة





    حكم اتفاق الغاصب والمغصوب منه على بقاء البناء في الأرض المغصوبة












    السؤال إذا طلب المالك من الغاصب أن يبقي البناء بدل هدمه، على أن يرد له قيمته سواء نقدا أو مقسطا، هل له ذلك أم لا؟
    الجواب ليس فيه بأس، لو قال له: أبق هذا البناء وأعطيك قيمته، فإنه حينئذ يكون صلحا بينهما، وهو مأجور على ذلك؛ لأنه خفف عنه ورفق به، والرفق يثاب عليه العبد، خاصة إذا لم يقصد به التضييق عليه، والله تعالى أعلم.



    نصائح لطلاب العلم


    السؤال كيف يمكن لطالب العلم وهو في خضم دروسه وطلبه أن ينظم وقته حتى يغتنمه ولا تتفارق عليه أيامه بدون فائدة؟
    الجواب لا شك أن الله سبحانه وتعالى إذا أحب طالب العلم ورضي عنه بارك له في أيامه ولياليه وفي عمره، ومن دلائل البركة: أن يستمسك الساعات واللحظات وهو يجد ويجتهد في سد ثغور الإسلام، وتعلم الشرائع والأحكام، لا يسأم ولا يمل ولا يكل ولا يشتكي، قد نصف وجهه لله، وجد واجتهد في طاعة الله.
    واعلموا أن الله يكتب ثوابه في كل كلمة يسمعها وفي كل حكم يحرره، وأن الله سبحانه وتعالى يعظم له الأجر والمثوبة في ذلك كله، فهذا كله من دلائل الرضا: البركة في الساعات واللحظات، ولن تكون هذه البركة إلا بالإخلاص وإرادة وجه الله سبحانه وتعالى، وطالب العلم الذي يريد أن يبارك الله له في وقته يبدأ بالإخلاص، ثم يأخذ بالأسباب التي منها تنظيم الأوقات، وإذا وفق الله طالب العلم وعرف قيمة زمانه وشعر أن الله سائله عن كل لحظة من أوانه، سعى في إصلاح ذلك الزمان في طاعة الله عز وجل، فينظم وقته ويرتبه.
    وعليه أن ينتبه لأمرين: هناك فرق بين العلم الحقيقي والعلم الذي يدخله الشيطان عليه من الهوى والغرور، فالوقت لا يبارك فيه بشيء مثل أن يستنفده في العلم الموروث من الكتاب والسنة.
    فمثلا: إذا كان طالب العلم يحضر في مجالس العلم، ويفهم الأحكام، ويخاف من الله سبحانه وتعالى أن يستعجل في المسائل والأحكام لا يحدث الخطأ والخلل ويستنفد غاية جهده للضبط والتحصيل، بعد ذلك إذا جاءته نفسه تدعوه للاجتهاد، تدعوه للتقريب، تدعوه للنظر، وليست عنده آلة الاجتهاد، ولم يشهد له أهل العلم أنه مجتهد، فإن الشيطان يضيع له الوقت.
    ولذلك تجد طالب العلم قد يجلس في مجلس العلم ويسمع أن في المسألة قولين، وعنده استعداد أن يقول: لا، هذا ليس القول الراجح بل القول الأول أرجح من الثاني، فالشيطان يدخل عليه في النفس هوى، والنفس تساق إلى معصية الله عز وجل وتساق إلى هذه المعصية، إما من باب شر واضح المعالم، وإما من باب يدعى أنه خير.
    فقد يجد في مجلس العلم وهو لم يحصل درجة الاجتهاد والنظر لكي يعقب على كل كلمة، فيضيع عليه عمره ويقوم من المجلس يعتقد الباطل بدل الصواب والحق، ولربما ذهب يجلس ويضبط ويتعب في لم العلم ثم بعد أن يجمع المادة يتفرغ لنقدها وتقديم ما أخره العلماء، وتأخير ما قدمه العلماء، أو تصويب ما خطئوه، أو تخطئة ما صوبوه، وما عنده ملكة، ونحن لا نمنع من رزقه الله علما وبصيرة ونورا من الكتاب والسنة أن يجتهد، لكن أن يتطاول على شيء لم يحصله أو يضيع عمره ويذهب زمانه وتمحق بركة علمه، إما بعدم الإخلاص أو بالغرور.
    ولذلك تجد بعض طلاب العلم يجلس في مجلس العلم سنة واحدة فيفتح الله عليه بالفهم، ويفتح الله عليه في التحصيل، ويفتح الله عليه في بركة العلم، فيبارك له في كل ما سمعه؛ لأنه من اللحظة الأولى إلى آخر لحظة لم يشعر بالغرور في نفسه.
    فطالب العلم يحصل ويضبط ويكرر ويكرر ولا يدعي التعالم، ولا يرفع نفسه عن المقام الذي وضعه الله فيه، فإذا مضت عليه سنة وسنوات وهو يأخذ العلم الزكي النقي ممن يوثق في دينه وعلمه، فلا يزيد عليه ولا ينقص، ويكون أمينا حافظا للعلم، يوشك أن يأذن الله عز وجل له بالفتح فيرتقي إلى درجة العلماء الذين أوتوا بصيرة العلم، وعندها تندرج له الأمور، فما كان من حق ثبت عليه، وما كان من خطأ صححه وقومه، ولكن بنور من الله وعلى سبيل وعلى رشد.
    فلا يضيع العمر على الشخص مثل أن يستعجل في طلب العلم، ولذلك تنظر في بعض طلاب العلم في بداية طلب العلم أوقاتهم محفوظة، لكن ما أن يدخل عليه الشيطان بالغرور حتى تجده يفلت الأوقات؛ لأنه في القديم كان يتعب نفسه في الحفظ وفي المراجعة والمذاكرة، لكنه اليوم يشعر أن ليس مثله يراجع، ليس مثله الذي يكرر كالمبتدئين، لا.
    كان أهل العلم مهما أوتوا العلم يتذللون للعلم؛ ولذلك قالوا: من افتقر لله أغناه، ومن ذل لله أعزه، ومن أهان نفسه بين يدي الله أكرمه.
    فذل بين يديه عز، ومهانة بين يديه كرامة، وخضوع وضعة بين يديه رفعة، لكن إذا عرف طالب العلم حقه، ولذلك تجد العلماء الأئمة الراسخين في العلم قد عرفوا قدر أنفسهم قبل أن يعرفوا العلم، فتجد الواحد منهم مهما أوتي من العلم وتبين له الصواب وأنه أخطأ في مسألة فإنه مستعد أن يرجع عنها ولو كان على رءوس الأشهاد، وهذا هو العلم الذي يبارك الله فيه في الأوقات والأعمار، فاستنفدت في أنوار الكتاب والسنة حتى أصبحت القلوب مفرغة للوحي، مأمونة على الدين، أمانة صادقة كاملة مباركا فيها.
    فطالب العلم تنزع منه البركة إذا حاد عن هذا الصراط السوي الذي أوله الإخلاص ومعرفة العبد قدر نفسه، فنحن نتعلم علما موروثا لا يجوز لنا أن نقدم فيه ولا نؤخر إلا إذا شهد أهل العلم لنا أننا أهل للتقديم والتأخير، قال الإمام مالك: (لا يحق لأحد أن يفتي في هذا الأمر حتى يشهد له أهل الشأن أنه أهل للفتوى، فما جلست في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أفتيت حتى شهد لي سبعون من أهل العلم في هذا المسجد أني أهل للفتيا) .
    هذا العلم الموروث الذي يكون فيه الإنسان على نور من الله، يرجو ثوابه ورحمته، فيبارك له في كلمة يقولها، ويطيب الله العلم من لسانه؛ لأنه حفظه وحافظ عليه.
    لكن إذا خرج عن السنن وأصبح مغترا بنفسه، ويضيف الإضافات، ويعلق التعليقات، ويذهب إلى المطولات ويأتي منها، ويفعل ويقدم ويؤخر، فاختلطت عليه الأمور، واختلط عليه الحابل بالنابل، فعند ذلك تنزع البركة من علمه، للناس، فيأتي بعلم ورثه وبعلم يدعيه، فما كان موروثا ففيه البركة، وما كان مدعى لا بركة فيه، ولربما نزع الله البركة منهما، فيمحق الله بركة ما ورثه بسبب ظلمه واعتدائه لحد الله فيما يدعي.
    فادعاء العلم صعب، وواجب على طالب العلم أن يعرف حق العلم عليه، فالبركة في الأوقات والأعمار مقرونة بمعرفة طالب العلم للواجب والفرض عليه، قال تعالى: {ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} [الأحقاف:4] .
    يقول بعض العلماء: من كان صادقا في العلم فهو الأثر، ما معنى أثارة من علم؟ معناه: أنه جلس بين يدي العلماء فقال ما قالوه، وذكر ما ذكروه، لم يزد ولم ينقص، أمين يخاف الله جل جلاله.
    فالوقت يستوجب حفظ هذا العلم وضبطه، لا نقول: بالتعصب، بل نقول: بالتعصب بالحق، فإذا كان الذي تأخذ عنه العلم يتكلم بحجة من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتكلم ببصيرة، فتتعصب للحق ولا تتعصب للرجل، ولكن تعرف حقه وتعرف قدره؛ لأن الله فتح عليه، والله يقول: {لكن الراسخون في العلم} [النساء:162] فالناس يختلفون.
    فأئمتنا وعلماؤنا ومشايخنا الذين رزقهم الله البصيرة وعندهم علم وشهد لهم في هذا العلم وعرف لهم أهل الشأن حقهم في ذلك، نبقى على أثرهم، متقربين لله عز وجل بذلك؛ لأن الله فرض علينا أن نكون مع أهل العلم، متبعين لهم لا مبتدعين ولا مغيرين لا مبدلين، فإذا جئنا نطلب العلم ونجلس في مجالس العلم وبورك لنا في أوقاتنا وساعاتنا ولحظاتنا وكلها في العلم الموروث لا نزيد عنه ولا ننقص، والله كما بورك لأشياخك وأشياخ أشياخك ومن تلقيت عنهم ليباركن لك؛ لأنه كله موروث من الكتاب والسنة.
    ولكن ما يبارك لطالب العلم إلا إذا التزم بهذا المنهج، فعلينا أن نعرف قدر أنفسنا وحق علمائنا؛ فلذلك نقول: لا بد من المنهجية في تحصيل العلم من جهة الانضباط، فإذا رأينا طالب علم يحضر الدروس في أسبوعه، ووضع لكل درس وقتا للمراجعة، لا يزيد ولا ينقص، وكان منضبطا لهذه الدروس، أمينا على الأحكام التي سمعها وتلقاها دون أن يغير ويبدل، فبإذن الله سيبارك له؛ فالمنهجية تكون على أصول.
    أما كيف يكون المنهج؟ أي وقت أي ساعة كم القدر؟ هذا يختلف باختلاف الأشخاص، وقد كررت غير مرة كما كان بعض مشايخنا يقول: من الصعب أن يضع العالم لطالب العلم وقتا معينا إلا إذا كان بالطريقة القديمة طالب العلم مع العالم أربعا وعشرين ساعة، وفرغ نفسه وارتحل إليه، هذا أمر ممكن، لكن الآن صعب، ولذلك لو وضعنا أوقاتا معينة وصادف الإنسان أنه مشغول فيها قد يكل ويترك العلم، ولذلك من الصعب وضع برنامج معين.
    لكننا ننبه على ما هو أزكى وأفضل من البرنامج وما فيه الفتح من الله والتيسير من الله وهما الأمران: الإخلاص، والإلتزام، فكما قال السلف رحمهم الله: أن نكون متبعين فقد كفينا أن نتبعهم.
    وإذا لم نتبع العلماء من الذي يتبع؟!! وإذا لم نتبع الذي يأخذ بنص الكتاب من الذي يتبع؟! وإذا لم نتعصب للكتاب والسنة فلأي شيء نتعصب؟! فنحن نريد موازين صحيحة لكي يبارك الله في أوقاتنا وأعمارنا ويبارك أيضا في علمنا.
    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم.
    اللهم إنا نسألك علما نافعا، وعملا صالحا! اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل ما تعلمناه وعلمناه حجة لنا لا علينا! اللهم اجعلنا ممن قلت له بين يديك: صدقت، اذهبوا به إلى الجنة! اللهم لا تجعلنا ممن كذب على رءوس الأشهاد! اللهم إنا نسألك أن ترحمنا في ديننا ودنيانا وعلمنا وتعلمنا بالإخلاص لوجهك، وابتغاء ما عندك! اللهم ألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مدبرين يا حي يا قيوم! يا رب العالمين! يا أرحم الراحمين! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.
    حكم تلف أو ضياع المال الذي يعمل فيه المغصوب مكرها
    السؤال من استولى على حر واستعمله مكرها، ثم تلفت العين أو ضاع المال الذي يعمل فيه المغصوب كأن يقوم على الرعي فضل به الإبل، فهل يضمن هذا العامل المغصوب ما تلف أو ضاع؟

    الجواب هذه المسألة ترجع إلى مسألة ضمان الأجير، فقد تقدم معنا خلاف السلف في مسألة تضمين الراعي، قال طائفة من العلماء: إن الراعي يضمن، ومن أهل العلم من يرى أنه لا يضمن الراعي إلا إذا فرط.
    وصورة ذلك: يذهب بالإبل أو يذهب بالغنم أو يذهب بالدواب إلى أرض مسفعة، ويعلم أنها مسفعة وسيتلف شيء منها، فعند ذلك يضمن، وهكذا إذا تكاسل أو تساهل في لمها وجمعها وحراستها وتشتت وتفرقت وضاعت فإنه يضمن، فهذه كلها من صور التعدي التي يكون فيها ضمان، والله تعالى أعلم.
    وبناء على ذلك: يسري عليه حكم الأجير؛ لأنه في هذه الحالة إذا غصبه غصبه على إجارة، ولذلك يجب عليه أن يدفع الأجرة، فيكون حكمه حكم الإجارة، وتسري عليه أحكام الإجارة، ومن هنا ألزمناه بقيمة الأجرة على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.



    حكم المطالبة برد المغصوب إلى غير موضعه


    السؤال هل من حق المغصوب منه أن يطلب رد ما اغتصب منه في أي موضع غير الموضع الذي اغتصب منه فيه؟
    الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأصل يقتضي أن الغاصب ملزم برد المغصوب إلى الموضع الذي غصبه منه، فلو طلب المغصوب منه رده إلى غير الموضع لم يكن من حقه ذلك، إنما الذي من حقه أن يرد إلى الموضع الذي اغتصب منه، فلو حصل بينهما صلح واتفقا على شيء فهذا أمر خارج، والصلح جائز على التفصيل الذي ذكرناه في مسألة المصالحة.
    أما من حيث الأصل الشرعي -ونحن نتكلم على الإلزام- فمثلا: لو أنه غصب منه شيئا في مكة ونقله إلى الطائف، وقال له مثلا: انقلها لي إلى جدة، نقول: ليس من حقك أن تطلب نقلها إلى جدة ولو كانت المسافة واحدة، فلا يكون النقل إلا إلى نفس الموضع، هذا هو حقك، وإن أردت نقلها إلى غير ذلك وتم الاصطلاح بين الطرفين فلا بأس بذلك، والله تعالى أعلم.



    حكم بناء مسجد على أرض مغصوبة


    السؤال إذا غصب رجل أرضا ثم بنى عليها مسجدا فما الحكم في هذه المسألة؟
    الجواب مطعمة الأيتام من كد فرجها لكن ليلى لا تزني ولا تتصدق يعني: شيء حرمه الله عز وجل ويبني عليه مسجد!! ذهب طائفة من العلماء إلى أن المسجد إذا بني على أرض مغصوبة لم تصح الصلاة فيه، لكن المراد بالغصب: الغصب الحقيقي، أما لو كان المسجد يحتاج إلى توسيعه وهناك دور متصلة بالمسجد وفيه مصالح، كالمساجد العظيمة كالحرمين ونحوها فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هدم دار العباس وعاوضه عليها، وأخذ بهذا الصحابة ولم ينكروا عليه رضي الله عنه وأرضاه.
    فإدخال الأراضي إلى المساجد بالقوة والقهر لوجود المصلحة العامة هذا مستثنى، أما إذا كان يأخذها ويبني عليها المسجد فهذا من أعظم الظلم، وتتقى الصلاة في مثل هذا، حتى أن الإمام أحمد رحمه الله وأصحابه يرون أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تصح، وأنه لو صلى في الدار المغصوبة لزمه أن يعيد الصلاة.
    ولذلك ينبغي أن يحتاط في هذا، وهذا أمر عظيم، والله عز وجل لا يطاع من حيث يعصى، والله طيب لا يقبل إلا طيبا، فالله سبحانه طيب كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا) .
    وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صدقة من غلول) وقد دل على أن التصدق ومحض التبرع والإحسان لا يكون إلا بشيء أحله الله ومن باب أذن به سبحانه، والغصب لم يحله الله ولم يأذن به.
    ولذلك لا يجوز هذا الفعل، ولا يسري على هذا المسجد أحكام المسجد، فالوقفية لا تثبت، فلو قال: أوقفت هذه الأرض، فالوقفية لا تثبت، ويصبح المسجد ملكا لصاحبه الأصلي، ويهدم المسجد ثم ترجع الأرض إلى مالكها وهو بالخيار، إن شاء أن يبقيها مسجدا وإن شاء أن يهدمها فله ذلك، والله تعالى أعلم.


  12. #372
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب الغضب )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (372)

    صـــــ(1) إلى صــ(21)




    شرح زاد المستقنع - باب الغصب [3]
    حفظت الشريعة الحق لكل صاحب حق، فلو بنى غاصب على أرض مغصوبة أو زرع فيها، فإن الشريعة تحفظ حق الجميع، ولا تعطي أحدا على حساب الآخر، أما بالنسبة للغاصب فإنه يضمن كل ما جنته يده على حسب ما فعله، وهذا ما فصله العلماء في أنواع الضمان.

    مسألة البناء على الأرض المغصوبة

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع] .
    (وإن بنى في الأرض أو غرس) فيه مسائل، ونبدأ -أولا- بالبناء ثم بالغرس.
    من اغتصب أرضا وأحدث فيها غرسا، فإنه يصدق عليه أنه غاصب، وهذا مذهب جمهور العلماء، أن الغصب يقع على الأراضي والعقار، وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة والقاضي أبو يوسف عليهما رحمة الله، فقالا: لا غصب في العقارات؛ لأن الغصب عندهما يكون فيه شيء من الحيازة والنقل، والأرض لا تستطيع أن تنقلها من موضعها، ولذلك قالوا: إنه لا يتحقق فيها الغصب، وقد أجاب الجمهور عن ذلك بأدلة منها: أولا: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري وغيره: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض) وفي رواية: (من غصب) وقوله: (من غصب قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) قال: (من الأرض) ، فجعل الأرض محلا للغصب، فدل على أن الغصب يقع في العقارات كما يقع في المنقولات.
    كذلك أيضا مما يدل على هذا: عموم الأدلة الواردة في رد ما أخذ، والمنع من الاعتداء على حق المسلم، فيكون ذلك غصبا واعتداء على أموال الناس.
    ثالثا: أن الاستيلاء على الأرض ومنع مالكها منها ومن التصرف منها يعد غصبا كالمنقولات، وما وجدنا فرقا بين العقار والمنقول، فالشخص حينما يغتصب أرضا ويمنع مالكها من الانتفاع بها، ومن سكناها ومن تأجيرها، لا فرق بينه وبين من اغتصب طعاما، ولا فرق بينه وبين من اغتصب دابة، وكون الصورة ليس فيها نقل لا يؤثر، المهم أنه حال بينه وبين الانتفاع بها بالاستيلاء والقهر، وتلك حقيقة الغصب.

    أقوال العلماء في مسألة البناء على الأرض المغصوبة

    نبدأ أول شيء بمسألة البناء، إذا أحدث في الأرض البناء وأردنا أن نرد العين المغصوبة إلى مالكها، وثبت عند القاضي أن هذا الشخص غاصب وأن البناء بني على أرض مغصوبة، فما الحكم؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال هي: أئمة الحنفية -رحمهم الله- يقولون: من اغتصب أرضا وبنى عليها ففي ذلك تفصيل: فإما أن يكون البناء قيمته أكثر من قيمة الأرض، وإما أن يكون العكس، فتكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء.
    مثال: لو أن شخصا أخذ أرضا قيمتها مليونا، وأحدث بناء عليها بمليونين، فقيمة البناء أكثر من قيمة الأرض نفسها، والعكس: تكون قيمة الأرض مليونين والبناء قيمته مليونا، فحينئذ تكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء، قالوا: إذا كانت قيمة الأرض أكثر فحينئذ يكون الواجب على الذي غصب أن ينقل بناءه، أو يعاوضه المالك عما أحدثه في أرضه.
    فالمبلغ الذي بنى به البناء يجب أن يدفعه المالك ويسترد أرضه ويكون البناء ملكا له.
    أما لو أنه أحدث بناء أضعاف قيمة الأرض أو يزيد على قيمة الأرض فإننا نقول في هذه الحالة: ادفع لمالك الأرض قيمة أرضه ويبقى الغاصب في الأرض والبناء له.
    هذا مذهب الحنفية، يرون أنه ينظر في قيمة البناء الذي أحدثه الغاصب وقيمة الأرض، فإن كانت قيمة الأرض أغلى فيثبت المالك ويخرج الغاصب ويخرج قيمة البناء، وإن كانت قيمة البناء أغلى يثبت الغاصب ويخرج مالك الأرض، وهذا بنوه على القاعدة: إذا تعارضت مفسدتان روعي دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، فيقولون: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين.
    فلما كان ضرر المالك للأرض أعظم روعي حقه، والعكس بالعكس.
    المذهب الثاني: مذهب المالكية رحمهم الله، يقولون: إنه ينظر إلى حق المالك المغصوب منه، وننظر في البناء، فقالوا: نقدر البناء ونسقط من البناء الذي أحدثه الغاصب قيمة الهدم ونقل المهدوم، ثم يدفع له المالك ذلك الفضل، وإن شاء ألزم الغاصب أن يهدم وأن يخرج من أرضه، فيخير بين الأمرين.
    فقالوا: ننظر إلى حق المالك ونقول له: إن شئت أن تدفع لصاحب البناء قيمة البناء، وتنقص منها قيمة الهدم والنقل وأرش النقل، وإن شئت تقول له: اهدم بناءك واخرج عن أرضي ورد لي الأرض كما كانت، هذا مذهب المالكية.
    وبناء على ذلك: يرون أن الأرض للمالك، فليس للغاصب أي طريقة على الأرض خلافا للحنفية رحمهم الله، لكنهم قالوا: بالنسبة للشخص الذي غصب نقول له: ليس لك إلا قيمة البناء وننقص من قيمة البناء تكلفة الهدم.
    مثال: لو أن شخصا غصب أرضا، ثم بنى عليها بناء وثبت عند القاضي الغصب وأمر برد الأرض المغصوبة، فلما أمر برد الأرض المغصوبة قلنا للمالك: أنت بالخيار بين أمرين: تثمن البناء، فالبناء الموجود عظما أو مفصلا، قيمته يساوي مليونا، وقال أهل الخبرة: هذا بناء يكلف مليونا، نقول: لو هدم ونقل الأنقاض بعد الهدم، كم سيكلف؟ قالوا: مائتي ألف، فنقول له: إما أن تدفع له ثمانمائة ألف أو نلزم الغاصب بهدم البناء ورد الأرض كما كانت، فيخير المالك ولا يلزم بواحد منهما.
    وهذا مذهب لا شك أنه مما يردع الناس، وإن كان ما سيأتي من مذهب الشافعية والحنابلة ألزم للأصل.
    الشافعية والحنابلة رحمهم الله قالوا: ليس لعرق ظالم حق، وهذا منطوق الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: الغاصب معتد، وحينئذ نقول له: انقل بناءك ورد الأرض كما كانت، وإن شاء في هذه الحالة أن يهدم بنفسه، وإن شاء أن يعطي كلفة هدم البناء للمغصوب منه فعليه أن يفعل ذلك.
    أما الأرض فإنها ترجع كما كانت، وليس له حق في هذه الأرض ولا يختلف الحكم عندهم لا ببناء ولا بغرس.
    وفي الحقيقة من حيث الأصول والأدلة فمذهب الحنابلة والشافعية أصح هذه المذاهب؛ وذلك لأن الغاصب معتد على غيره، وبهذا الاعتداء بنى في غير ملكه، فلا يثبت للبناء حرمة؛ لأن الشرع لا يثبت الحرمة إلا لشيء مبني على أصل صحيح، وما بني على باطل فهو باطل، والفرع تابع لأصله، وهذا أصل حرام فكيف ينبني عليه استحقاق المعاوضة ونقول: من حقه أن يعاوض؟! أما ما ذكره أصحاب المذهب الأول من قولهم: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، فنقول: يرتكب أخف الضررين فيما له حرمة، ويكون الضرران في شيئين لهما حرمة، وأما هذا فهو غاصب لا حرمة له، وتصرفه في مال غيره، وهذا مالك حقيقي ملك الأرض وهي أرضه وأفسدت عليه أرضه، وقد يكون أرادها لزرع فأصبحت لبناء، فليس لعرق ظالم حق، خاصة أنه صلى الله عليه وسلم نص على ذلك.
    ثانيا: نقول لهم: لو قلنا بمذهبكم لتلاعب الناس وأمكن للظلمة والأغنياء أن يتسلطوا على أموال الفقراء، فالأمر بسيط، يذهب إلى فقير ليس عنده مال، ويغصب أرضه ويحدث عليها بناء بالملايين، ثم يقول له: الذي أحدثته أغلى من أرضك، فخذ قيمة أرضك واخرج، وهذا لا شك أنه يفتح باب شر عظيم، ويؤدي إلى باطل لا تقره الشريعة، فأصبح المغصوب منه تؤخذ منه أرضه، ولربما لا يرضى ببيعه، وتؤخذ منه قهرا.
    وعلى هذا: الذي يصح هو مذهب من قال: إنه ليس لعرق ظالم حق، ونقول: على الغاصب أن يقلع البناء من الأرض، وأن يرد الأرض كما كانت، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، فقال رحمه الله: (وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع) .
    لزمه قلع البناء بالهدم، ورفع أنقاض البناء، فجميع الآثار الباقية بعد البناء ينبغي إزالتها، وإذا بقيت آثار حفر أو نحوها تردم، فإن ردمت وتشوهت الأرض بعد الردم وأصبحت معيبة وجب عليه دفع النقص، بحيث لو كانت قبل الغصب قيمتها ثلاثمائة ألف، وبعد الغصب صارت قيمتها مائتي ألف، فعليه أن يرد الأرض ومعها مائة ألف ضمانا للنقص الذي حدث بسبب آثار الغصب التي وقعت.
    حكم من اغتصب أرضا وقام بزراعتها
    بقي
    السؤال لو أن رجلا اغتصب أرضا ثم قام بزراعتها، فما الحكم؟
    الجواب أنه إذا قام بغرس الأرض والزراعة فيها فلا يخلو: إما أن يكون الزرع مما تطول مدته ويمكن نقله كالنخيل وأشجار الفواكه ونحوها، وإما أن يكون الزرع مؤقتا يمكن أن يصبر عليه الشهر والشهران ونحو ذلك كالحبوب.

    الحكم في الزروع إذا كانت مما لا تطول مدتها

    أما من زرع في الأرض شيئا مما لا تطول مدته، كزروع الحبوب، مثل: الشعير والذرة ونحو ذلك، ففي هذه الحالة يحتاج هذا الزرع إلى أن يبقى مدة، ثم بعد ذلك تعود الأرض كما كانت، ف
    السؤال إذا قلنا للغاصب: اقلع هذا الزرع لم ينتفع به ولم ينتفع به صاحب الأرض، ففي هذه الحالة يسقط الزرع، حيث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وفق هذه المسألة.
    ففي حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه عند أبي داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من زرع أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته) قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي رواية للنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بهذه القضية وفصل فيها أن الزارع وهو الغاصب ليس له في الزرع حق، ما يقول: آخذ هذا الزرع وأقلعه، ليس له في الزرع حق.
    وبناء على ذلك أسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزرع استحقاق الغاصب وأثبت للغاصب استحقاق النفقة، فيقدر له تعبه، وأجرة التعب قيل: تقدر له قيمة البذر وتقدر له قيمة الحراثة والكلف والمؤونة التي تكلفها في إنبات هذا الزرع بإذن الله عز وجل.
    إذا: مذهب الحنابلة رحمهم الله على أن من اغتصب أرضا وزرعها، والزرع باق ولم يحن حصاده، ولم يحصده الغاصب ففي هذه الحالة فإنه يقضى بأنه لصاحب الأرض، ويعطى الغاصب نفقة البذر ومؤونة الزراعة.
    مثال ذلك: لو أن زيدا اغتصب أرضا، فزرعها وكان قد تكلف بذره خمسمائة ريال، ثم قام بالحراثة والزراعة ومؤونة الحرث تكلف ثلاثمائة ريال، فحقه ثمانمائة ريال، ثم يخلي بين صاحب الأرض وبين الزرع، هذا بالنسبة لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
    لكن لو قال المالك للأرض: لا أعطيه شيئا وليس عندي شيء أعطيه، فما الحكم؟ هل نقول: يجب عليه قلع الزرع، والزرع يحتاج إلى شهر أو شهرين حتى يحصد، فيكون إتلافا للمال وإفسادا للثمرة؟ فقال فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- في هذه الحالة: نقول لمالك الأرض: تمكن الغاصب من إبقاء الزرع إلى الحصاد ولك أجرة مثله.
    إذا: هناك خياران لصاحب الأرض، الخيار الأول: نقول له: خذ الزرع وادفع قيمة البذر وكلفة المؤونة.
    والخيار الثاني: أن نقول له: اترك الغاصب حتى يحصد ولك أجرة الأرض حتى يكون الحصاد، ويكون له أيضا أجرة المدة التي مضت، هذا بالنسبة لمذهب الحنابلة رحمهم الله.
    أما الشافعية فقالوا: إنه يؤاخذ بقلع الغرس ولا يضمن صاحب الأرض إلا إذا اتفقا وتراضيا فيما بينهما.
    وأما الحنفية فقالوا: إذا اغتصب أرضا للزراعة، فإما أن تكون الأرض معدة للزراعة، وإما أن تكون الأرض معدة للإجارة، وإما أن تكون الأرض غير معدة لواحد من الأمرين، فإن كانت الأرض معدة للزراعة فينتقل العقد بين مالك الأرض وبين الغاصب عقد مزارعة، وينظر في العرف الموجود في ذلك البلد، كم يكون لصاحب الأرض؟ وكم يكون لصاحب الزرع؟ وتقسم الثمرة من الناتج بينهما على العرف، بناء على القاعدة الشرعية التي تقول: العادة محكمة.
    وأما إذا كانت الأرض معدة للكراء، كرجل كان يعد أرضه للإجارة -كأن يؤجرها للناس مستودعات أو نحو ذلك- فاغتصبها شخص وزرعها قالوا: تقدر أجرة مثلها، وتدفع الأجرة، فتنتقل إلى الإجارة ويبقى الزرع حتى يحصده غاصبه.
    وهذا المذهب في الحقيقة من حيث الأصول له وجهه، لكن من حيث السنة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسمت الأمر فهي تدل دلالة واضحة على أنه يجب في هذه الحالة تخيير المالك للأرض بين هذين الخيارين، نقول له: خذ الزرع وادفع لصاحبه المؤونة وقيمة البذر، أو اتركه وزرعه حتى يحصد ولك أجرة المثل.
    فلم نظلم صاحب الأرض؛ لأنه أخذ أجرة مثله، ولم نظلم صاحب البذر لخوف الفساد أو الإتلاف والإهمال، وإلا فالأصل أنه لا حق له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لعرق ظالم حق) .
    كل هذا الكلام إذا كان الزرع في حال استوائه، لكن لو أنه كان قد استوى وحصده الغاصب حينئذ يضمن الغاصب أجرة الأرض، ويكون الزرع ملكا له.
    مثال: لو أن رجلا اغتصب أرضا وزرعها وحصد الزرع ثم باعه وكانت قيمة الزرع خمسين ألف ريال فإننا في هذه الحالة نطالبه بأجرة الأرض، فقد تكون أجرة الأرض عشرة آلاف ريال، وعلى هذا لا نقول: إن صاحب الأرض يملك الزرع، إلا إذا كان الزرع قائما موجودا، أما إذا حصده الغاصب فليس لصاحب الأرض إلا أجرة المدة التي استغلها الغاصب في أرضه، وضمان ما يكون بعد تسوية الأرض وإصلاحها وردها على حالتها، وما يكون من النقص يضمنه.
    الخلاصة: إذا كانت الأرض قد اغتصبها وزرع فيها النخيل ففي هذه الحالة ذكرنا أنه إذا اتفق الطرفان على شراء النخل من مالك الأرض فإنه يلزم الغاصب بدفع الأجرة لما مضى، والعقد صحيح وينتقل إلى صلح بالبيع، وتسري عليه أحكام البيع التي تقدمت.
    ثانيا: إذا قال الغاصب: لا أبيع، نقول له: اقلع الغرس الذي هو الشجر، ثم بعد ذلك نسوي الأرض، ثم بعد ذلك ادفع أرش النقص بين القيمتين للأرض، وادفع أجرة الأرض للمدة التي مضت، هذا بالنسبة إذا كان قد اغتصب أرضا وزرعها نخلا.
    أما إذا زرع الزروع فقلنا: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الزرع إذا كان قائما فإننا نقول لمالك الأرض: خذ الزرع وادفع نفقته لمن زرع، ويدفع في هذه الحالة قيمة البذر وقيمة الكلفة.
    وأما إذا قال: لا أريد ذلك، فلا يكره عليه، ونقول له في هذه الحالة: اترك صاحب الزرع حتى يحصد زرعه؛ لأنه لا يمكن إتلاف هذا الزرع لأنه من باب الفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد.
    بخلاف البناء، فإن البناء له شأن آخر وقد قدمنا التفصيل فيه.

    الحكم إذا أصر الغاصب على نقل الزرع

    الحالة الثانية: أن يقول رب الأرض: أريد الزرع أن يبقى، ويقول الغاصب: أريد أن آخذ زرعي، فحينئذ يجبر رب الأرض على تمكين الغاصب من أخذ زرعه ونقله؛ لأن رب الأرض وصاحب الأرض يملك الأرض، والزرع ليس ملكا له، فيترك صاحب الزرع ينقل زرعه.
    فإذا قال: أريد أن آخذ زرعي، وقال رب الأرض: بل تتركه وأعطيك قيمته، لم يفرض على الغاصب أن يتركه، وحينئذ يمكن من نقل هذا الزرع، وتسري الأحكام التالية: أولا: يطالب بضمان المدة التي أمضاها غاصبا، فيدفع أجرة الأرض طيلة مدة الغصب، فلو مكث سنتين وهو غاصب للأرض دفع أجرة السنتين.
    ثانيا: يطالب بقلع هذا الغرس في أقرب مدة، ولا يماطل ولا يتأخر، فكل تأخير وكل مماطلة إذا كانت بنوع من التلاعب فيستحق التعزير عليها، وإذا كانت بدون تلاعب خارجة عن إرادته ضمن أجرة مدتها -أي: إجارتها- لصاحب الأرض.
    ثالثا: بعد قلع الغرس يطالب بتسوية الأرض، وإعادتها كما كانت.
    فإذا: يطالب بالقلع، ثم يطالب بالأجرة، ثم يطالب بتسوية الأرض وإعادتها كما كانت، فيردم الحفر بعد نقل النخل، وكما هو معلوم في الزراعة أنه لا يمكن نقل النخلة لوحدها، بل تنقل بترابها حتى لا تفسد، ففي هذا يقول بعض العلماء: تضرب هذه الجذور ويقلع منها التراب، حتى إن بعض العلماء أو بعض القضاة من علماء المسلمين كان يأمر بوضع هذه الجذور حتى يستخلص منها التراب، وتخرج النخلة بجذرها فقط؛ لأن التراب ملك لصاحب الأرض، وهذا من أبلغ ما يكون في إحقاق الحق وإبطال الباطل.
    ولا شك أن الأصول تدل على هذا، لكن بعض العلماء تسامح في هذا وقال: إنه قد يفسد النخل، ومادام أنه يمكن ردم هذه الحفر ببديل يضمن له مثل الأرض، فيقوم بدفن هذه الحفر، ثم بعد الانتهاء من دفع الأجرة وقلع النخل وتسوية الأرض ينظر في حال الأرض، فإن كانت الأرض قد تشوهت وأصبح حالها بعد قلع الغرس منها مشوها ينقص من قيمتها قيل له: اضمن النقص، فيؤتى بأهل الخبرة الذين لهم معرفة في الأراضي، ويقال: كم قيمة الأرض قبل أن تغتصب؟ يقال: قيمتها مائتا ألف، يقال: بعد أن سويت وبعد أن وضعت بهذا الشكل كم قيمتها؟ يقولون: صارت مائة وثمانين، فيضمن له العشرين ألفا التي هي فرق ما بين القيمتين؛ لأن ذلك كان بسبب الغصب.
    هذا من حيث حكمه: وجوب القلع على الغاصب، ثانيا: تسوية الأرض وإعادتها على الحالة التي كانت عليها، ثالثا: ضمان النقص، رابعا: ضمان الأجرة.
    هذه الأحكام مبنية على أدلة شرعية، فنطالبه بقلع الغرس؛ لأن الأرض ليست بأرضه، وإنما هي أرض أخيه المسلم وليس لعرق ظالم حق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق) ، والعرق: قال بعض العلماء: عرق الشيء جذوره التي يقوم عليها، فإذا كان ليس له حق في هذا فمن باب أولى ما بني عليه، كأنه يقول: إذا انهدم الأصل انهدم ما بني عليه.
    وبعض العلماء يقول: العروق تنقسم إلى أربعة أقسام؛ قسمان منها باطن، وقسمان منها ظاهر، فالغاصب إما أن يكون له عرقان باطنان، وإما أن يكون له عرقان ظاهران.
    فالعرقان الظاهران: البناء والغرس، والعرقان الباطنان: الآبار والعيون، فالبناء والغرس: كأن يغتصب الأرض فيبني فيها أو يغرس فيها فليس له حق، كما صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق) .
    وأما العرقان الباطنان: كأن يحفر بئرا أو يجري عينا، ففي هذه الحالة يطالب بردم البئر وكذلك ردم العين وإعادة الأرض كما كانت؛ لأنه ليس له حق لا في الظاهر ولا في الباطن لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا إذا كان قد زرع فيها زرعا مما تطول مدته فيطالب بهذا.

    الحكم في الزروع إذا كانت مما تطول مدتها

    وفي هذه الحالة يبقى السؤال بالنسبة للزروع مثل: أشجار النخيل، وأشجار الفواكه التي تبقى مدة طويلة كاللميون والتفاح والموز والبرتقال، فهذه الأشجار تبقى مدة طويلة وليست كالزروع الأخر.
    ففي هذه الحالة لو أنه زرع نخلا واتفق مع البائع على أن يعطيه النخل فيسري على ثمرة النخل التفصيل الذي ذكرناه في بيع الثمار التابعة للأصول، ويسري عليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلا وقد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع) .
    لكن اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يكون للغاصب حق في قوله: (فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع) ؟ مادام أن الغصب لا حق فيه ولا استحقاق فيه فهل الثمرة أيضا تسقط؟ وجهان للعلماء، وخصص بعض العلماء هذا بوجود الصلح بين الطرفين.
    حكم اتفاق الغاصب والمغصوب منه على بقاء الزرع

    أما إذا اغتصب أرضا وكان قد زرع فيها نخلا أو نحوه، فإن الحكم الشرعي أنه يطالب بنقل هذا النخل وإخراج هذا الزرع، ويقال له: اقلع هذا النخل وعليك مؤونة القلع، إلا إذا اتفق مع رب الأرض على أن يعطيه قيمة النخل وينصرف عنه.
    مثال ذلك: لو اغتصب أرضا وزرع فيها مائة شجرة من النخيل من نوع النخلة منه بألفين، فإذا كانت مائة نخلة وكل نخلة بألفين فمعنى ذلك أن قيمة النخل مائتي ألف، فلو قال له رب الأرض: خذ المائتي ألف واترك هذا النخل، وتراضيا واصطلحا، فحينئذ لا إشكال، وتنتقل المسألة من الغصب إلى الصلح، وتسري عليها أحكام الصلح المتقدمة وتصبح بيعا، لكن إذا أعطاه مائتي ألف ريال فإنه يضمن الغاصب المدة التي مضت وقد وضع يده على الأرض غصبا، فلو أنه مكث فيها سنتين، وكل سنة لها عشرة آلاف فإنه يدفع له ما عدا أجرة هاتين السنتين، فعشرون ألفا مستحقة لصاحب الأرض، والمائتي ألف مستحقة للغاصب، فيعطى مائة وثمانين ألفا.
    وبناء على ذلك: إذا اتفقا على إبقاء النخل، أو إبقاء الزروع والأشجار واصطلحا على ذلك فلا إشكال، وتنتقل المسألة إلى البيع، ويضمن الغاصب لرب الأرض المدة التي أمضاها غصبا وتدفع أجرتها، فلو تنازل صاحب الأرض وقال: لا أريد العشرين ألفا وهي لك وقد سامحتك في المدة فذلك لهما؛ لأنه صلح ولصاحب الحق أن يتنازل عن حقه كله أو بعضه، هذا بالنسبة في حال اصطلاحهما على إبقاء الزرع كما هو.
    أوجه الضمان في الغصب

    يمكن أن نفهم أن الغصب فيه الضمان من أحد ثلاثة أوجه.
    الوجه الأول: ما يسمى بضمان اليد.
    والوجه الثاني: ويسمى بضمان الجناية والتصرف.
    والوجه الثالث: يسمى بالضمان باليد والجناية.
    فالغاصب نضمنه إما من جهة اليد وهي يد الغصب التي يسميها العلماء: اليد العادية، وإما أن نضمنه من جهة الجناية، وإما أن نضمنه من الوجهين.
    ثم إذا ضمناه في اليد أو الجناية أو من الوجهين، إما أن نضمنه لمنفعة، أو نضمنه لعين، أو نضمنه للعين مع المنفعة، فأصبحت ثلاث صور.

    الضمان باليد والجناية

    أما بالنسبة للحالة الثالثة: وهي الضمان باليد والجناية، فهذه صورتها أن يأخذ الشيء ويبقى عنده مدة لا يتصرف فيه، ثم يقدم على التصرف فيه، فالمدة التي لم يتصرف فيها في ذلك الشيء كما لو مضت سنة على سيارة محبوسة عند الغاصب، وبعد سنة أخذها وأتلفها، فإنه إذا حبسها ولم يستهلكها ولم يفعل بها شيء ضمن باليد، وضمن عين السيارة بالجناية، فهذا ضمان باليد وضمان بالجناية.
    ويجتمع فيه مجموع الدليلين، فنوجب عليه ضمان اليد بدليل اليد، ونوجب عليه ضمان الجناية لوجود الجناية، هذا بالنسبة للأموال المغصوبة: تضمن باليد وتضمن بالجناية وتضمن بمجموع الأمرين اليد مع الجناية، سواء كان الضمان بالمنافع أو كان الضمان للأعيان أو كان الضمان لمجموع الأمرين.
    وفي هذا دليل على عظمة هذه الشريعة وكمالها وسمو منهجها، أنها ضمنت للناس حقوقهم، وخاصة في هذا الزمان الذي أصبحت فيه الحقوق حتى في الأدبيات والاعتبارات والمعاني والحكميات، فلا شك أن ضمان حقوق الناس وصيانتها على هذا الوجه -وخاصة على أرجح أقوال العلماء رحمهم الله بإثبات ضمان اليد- يردع الظالم عن ظلمه، ويوجب إحقاق الحق ورد الحقوق إلى أهلها.
    ولو تصورنا أن الرجل تغتصب منه عمارته أو مسكنه وتمضي عشرات السنين وهو قد حيل بينه وبين حقه، ثم يقال: لا يأخذ إلا العين فقط، ولا يأخذ إلا عمارته! فخلال هذه السنوات كلها قد يستفيد الغاصب وينتفع، ولذلك كان من إحقاق الحق وإبطال الباطل أن يقال: على الغاصب أن يتحمل المسئولية بضمان المنافع وضمان الأعيان وضمانهما معا سواء كان ذلك بجنايته وتصرفه أو كان بمحض اغتصابه وحيلولته بين أصحاب الحقوق وحقوقهم، أو كان بمجموع الأمرين.
    المالكية في المنافع يفرقون بين كونه يستغل أو لا يستغل، ويقولون: إذا استغل الغاصب بنفسه أو بغيره، استغل بنفسه مثل أن يسكن العمارة أو يركب السيارة، واستغل بغيره: كأن يؤجر السيارة على غيره، أو يؤجر المسكن على غيره فيضمن، أما لو أخذ السيارة وحبسها فقط فلا يضمن، وهذا ضعيف، والحقيقة أن مذهب الشافعية والحنابلة في التضمين باليد مذهب قوي، ولا شك أنه يضمن للناس حقوقهم، وأما الحنفية فعندهم أصل، حيث إنهم لا يرون تضمين المنافع مطلقا، حتى ولو أنه استغل وسكن وأجر، ولو أن الغاصب أجر الدار عشر سنين فإنه لا يملك صاحب الدار إلا أن ترد له داره فقط، وهذا سنبينه ونبين دليلهم في ذلك وجوابهم إن شاء الله.

    ضمان الجناية

    ضمان الجناية ضابطه: أن يجني الغاصب على المنفعة أو على العين أو على الاثنين معا.
    يغتصب من أخيه المسلم شيئا فيتصرف في منفعته ولا يتصرف في العين، أو يتصرف في العين ولا يتصرف في المنفعة، أو يتصرف في الاثنين، فيلزمه ضمان المنفعة في الصورة الأولى، وضمان العين في الثانية، وضمانهما معا في الثالثة.
    مثال ذلك: لو أن شخصا اغتصب سيارة، وقام بركوب هذه السيارة واستغلال ركوبها شهرا كاملا، فيضمن منفعة السيارة، فقد يرد السيارة وهي تامة كاملة ليس فيها أي نقص، فالعين تامة، ولكن الذي فات باستغلاله واستهلاكه وتصرفه هو المنفعة، فيقال له: ادفع منفعة السيارة، أي: ادفع أجرة السيارة لمدة شهر، هذا بالنسبة لضمان المنفعة بالجناية والتصرف.
    وأما ضمان العين بالجناية والتصرف كرجل اغتصب الزجاجة ثم كسرها مباشرة، نقول له: يلزمك ضمان هذه الزجاجة، فهو يضمن عين الزجاجة بالمثلي إذا كان له مثلي أو بقيمته إذا لم يكن له مثلي، على التفصيل الذي سيأتي في ضابط الضمان، هذا بالنسبة للجناية على العين.
    ويضمن المنفعة والعين بالجناية مثل: شخص أخذ سيارة وانتفع بها شهرا، ثم بعد شهر ذهب ورماها في الوادي وأتلفها تماما، فحينئذ يضمن أجرة الشهر ضمانا للمدة، ويضمن قيمة السيارة إذا لم يكن لها مثلي أو مثلها إذا كان لها مثلي؛ لأن يده أتلفت بالجناية، فحينئذ يضمن المنفعة ويضمن العين، هذا بالنسبة لضمان العين والمنفعة بالجناية.
    بالنسبة لضمان الجناية الأصل فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) فقوله: لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، يقول بعض العلماء: أي: أنه يورث العداوة، فالشخص حينما يكون مع أخيه فيأخذ كتابه ويأخذ قلمه ويمنعه من القلم هذا يورث الشحناء ويورث البغضاء حتى ولو كان بالمزاح، وخاصة أن الشخص لا يمزح إلا إذا رأى أخاه بحاجة للكتاب، فهذا يورث نوعا من الحقد ونوعا من الضغينة؛ ولذلك أقفل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب ومنع منه فقال: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) فأوجب الرد، وأوجب الضمان في الأخذ والتصرف، فدل على أن من تصرف بالشيء فإنه يضمنه، قال الله عز وجل: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] ، (كل نفس بما كسبت) دل على أن ما فعله الإنسان واجترحه يضمنه، ويكون مرهونا به فقوله: (رهينة) فعيلة بمعنى: مفعولة، أي: مرهونة.
    وبناء على ذلك: بينت الآية أن من اجترح أذية أخيه المسلم بإتلاف عين ماله أو تفويت منفعته أو مجموع الأمرين، فإنه يكون مرهونا بذلك الشيء ويجب عليه ضما
    ضمان اليد


    ضمان اليد يكون الغاصب قد اغتصب الشيء ولم يتصرف فيه، فحينئذ نضمنه بيد الغصب وهي التي أخذت، أو حالت بين المالك وملكه.
    ويد الغصب تثبت على الشيء بضابط الغصب الذي تقدم معنا، وفي هذه الحالة الغاصب لا يتصرف في الشيء المغصوب، فيأخذ أرضا ولا يتصرف فيها، أو يأخذ سيارة ولا يتصرف فيها ولا يحركها ولا ينقلها من مكانها، فإذا كان الغاصب قد اغتصب شيئا ولم يتصرف فيه ولكن حال بينه وبين صاحبه، فقهره عليه وأخذه منه بالاستيلاء -وهذا ما تقدم معنا مما يسمى بالاستيلاء الحكمي- إذا لم يكن هناك نقل حيازة، فإنه في هذه الحالة يضمن المنفعة، ويضمن العين، ويضمن العين مع المنفعة.
    وتصوير ذلك: لو أن رجلا اغتصب سيارة وأخذ مفاتيحها من مالكها، وقال له: إذا قربت السيارة أو أخذت السيارة أفعل بك وأفعل؟! فهدده ومنعه من السيارة واستولى عليها حكما أو استولى عليها قهرا، فالسيارة أصبحت منتقلة من يد الملكية من صاحبها إلى يد الغصب لمن اغتصب.
    فلما غصبها ما تصرف في السيارة، ما فتحها ولا ركبها ولا تصرف فيها بشيء، فالسيارة تلفت في موضعها، بقيت -مثلا- عشر سنوات ثم تعطلت تماما وتلفت، فلم يتلفها الغاصب ولم يتلفها أجنبي ولم يتلفها المالك، وإنما التلف وقع بطبيعة الحال، أو نزلت عليها صاعقة من السماء فأحرقتها، المهم أنها لم تتلف بيد الغاصب ولا بتصرفه، ولا بأجنبي ولا بمالك.
    في هذه الحالة نقول: اغتصابه يوجب ضمانه، وهذا ما يسمى بيد الغاصب، ويد الغاصب يقول بها جمهور العلماء، أنه بمجرد قهره لأخيه المسلم وأخذه لماله والاستيلاء عليه حقيقة أم حكما، حقيقة: كأن يحوزه ويأخذ منه القلم فيجعله عنده في جيبه، أو يضعه في حقيبته، أو يضعه في درجه أو في دولابه، هذا النقل.
    أو حكما: يكون المغصوب في مكانه ولا يستطيع صاحبه أن يصل إليه بسببب منع الغاصب.
    في هذه الأحوال كلها يضمن الغاصب، مع أنه لم يكن هو الذي أتلف، فيضمن المنفعة، ويضمن العين، ويضمن كذلك العين مع المنفعة.
    الصورة الأولى: يضمن المنفعة، مثال ذلك: لو أخذ دارا فأخذ مفاتيحها ومنع صاحبها من الدخول والاستفادة منها، ومضى على هذا الغصب سنة، لم يدخل الدار ولم يتصرف فيها، فهذه الدار منعت سنة كاملة وهي بكامل أجزائها وكامل منافعها، فلما كملت السنة ردت الدار لصاحبها كاملة، فالعين كاملة، لكن تعطلت منفعتها سنة كاملة، فالذي اغتصبها يضمن المنفعة، وهذا مذهب الجمهور: يدفع أجرة الدار سنة كاملة.
    الصورة الثانية: أن يضمن باليد العين، كأن يأخذ مثلا سيارة لشخص ويقهره عليها فيغتصبها، ثم تتلف السيارة مباشرة بعد الغصب ولو بدقيقة، فبمجرد غصب الغاصب للعين تدخل إلى ذمته، سواء تلفت بتصرفه أو بتصرف غيره فيده ضامنة، وهذا ما يسمى بضمان اليد، فيضمن السيارة ولو تلفت بآفة سماوية.
    كما لو أخذ مزرعة واغتصبها ولم يتصرف في المزرعة أبدا، وجاء إعصار بعد الغصب ولو بثانية وأحرقها، ضمن المزرعة كاملة، وهذا ضمان العين.
    الصورة الثالثة: الضمان بالنسبة للعين مع المنفعة، مثل: أن يغتصب سيارة سنة، ثم تلفت هذه السيارة، ولم يتصرف فيها ولم يتلفها فقد ضمن بيد الغصب منفعة السيارة سنة، فيدفع أجرة استغلال السيارة سنة، ويدفع قيمة السيارة ضمانا للعين على التفصيل الذي تقدم في ضمان العين.
    إذا: ضمان اليد يكون للمنفعة ويكون للعين، ويكون للعين والمنفعة معا.
    ما الدليل على مسألة ضمان اليد؟! لماذا نضمن الغاصب ونلزمه بدفع أجرة الشيء أي: (منفعته) ونلزمه بدفع قيمة العين إذا تلفت، ونلزمه بدفع الاثنين إذا حصل الموجب للضمان بهما؟!! الدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فدل على أن الغاصب بمجرد غصبه: (على اليد ما أخذت) بمجرد غصبه وقهره لأخيه المسلم واعتدائه على ماله فقد صار إلى ضمان حتى يؤديه.
    فمن اغتصب عينا وفيها منفعة ألزمناه بدفع المنفعة، وذلك بدفع الأجرة، فألزمناه بضمان المنفعة بدفع أجرتها.
    ومن أخذ عينا وتلفت بعد أخذه ألزمناه بردها؛ لأنه قد أخذها إما حقيقة أو حكما.
    ومن أخذ العين وحبسها مدة فيها منفعة وعطلها عن صاحبها ضمن الأمرين، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر برد الحق كاملا، فمن ضيع المنفعة قلنا له: رد هذه المنفعة بأجرتها، ومن ضيع العين قلنا له: رد هذه العين بضمانها، ومن ضيع الأمرين وجب عليه ضمانهما معا.
    ضمان اليد يقول به جمهور العلماء وينازع فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله وبعض أصحابه، والإمام أبو حنيفة عنده قاعدة، والحنفية رحمهم الله يقولون: ليس هناك في الغصب ضمان للمنفعة، ولا يرون ضمان المنافع.
    وسيأتي هذا معنا -إن شاء الله- ونبين شبهتهم ودليلهم والجواب عليه في المسألة التي سيذكرها المصنف بعد هذه المسألة.



    حكم قلع المبني أو المزروع في الأرض المغصوبة


    قال رحمه الله: [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع] .
    (لزمه القلع) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لعرق ظالم حق) .
    قال رحمه الله: [وأرش نقصها] .
    ينظر في الأرض بعد القلع إن نقصت قيمتها، يقال: ادفع الأرش، وهو الفرق بين قيمتها كاملة وقيمتها ناقصة.
    قال رحمه الله: [وتسويتها] .
    ويلزم بتسويتها، يعني: إعادتها على وضعها وردم الحفر وإعادتها؛ لأنه أخذها مستوية فيردها مستوية، ولا يترك الحفر فيها؛ لأن هذا يشوه الأرض ويضر بمصلحة المالك.



    منافع الأعيان المغصوبة مضمونة


    قال رحمه الله: [والأجرة] .
    ويلزمه دفع أجرة الأرض، وهذا مبني على الأصل الذي ذكرناه من أن منافع الأعيان المغصوبة مضمونة، وخالف في هذه المسألة الحنفية وأشد ما يكون خلافهم في العقارات، فالأرض عندهم أصل ما يثبت عليها غصب.
    يقولون: عندنا مالك وعندنا مملوك، فالأشياء إما أن تكون مالكة وإما أن تكون مملوكة، فالأرض التي غصبت مملوكة، فالشخص إذا جاء وأخذ الأرض قهرا فإنه لا يعتبر غاصبا لها؛ لأن هناك شيئا يسمى التعدي بالتصرف، وهناك التعدي بدون تصرف، وهناك ما يجمع الأمرين، فإذا جاء الشخص وأخذ الشيء فقط ولم يتصرف فيه فإنه في هذه الحالة لا يكون غاصبا حقيقة؛ لأن الغصب عندهم يستقر بإزالة يد المالك عن الشيء، والعقار لا يمكن نقله ولا يمكن إزالة يد مالكه عنه؛ ولذلك لا يرون حقيقة الغصب تنطبق على العقارات في الأرض، سواء غرست أو بنيت، فلا يلزمون بدفع الأجرة؛ لأنهم لا يرون أن منافعه تضمن.
    وعندهم دليلان: الدليل الأول: يقولون: إن المنافع ليست بمال، وإنما تضمن الأموال وما في حكمها، والمنافع ليست بأموال عند الحنفية، ولكن عند الجمهور أنها أموال بدليل: أن الدار تؤجر وتسكن بمائة ألف -مثلا- تدفع لقاء السكن، والدابة أو السيارة تركبها؛ فمنفعتها تدفع لقاءها مائة ريال أو خمسين ريالا، إذا: معنى ذلك: أن السكنى والركوب والمنافع لها قيمة، وتعتبر من جنس الأموال من هذا الوجه.
    الدليل الثاني: قالوا: عندما يأتي الشخص ويغتصب هذه العمارة ويأخذها، فإنه عند سكنى العمارة شهرا كاملا -التي هي مدة الغصب- تكون جميع منافعها ومصالحها تحت ضمان الغاصب، والذي يتحمل مسئوليتها الغاصب، فمن حقه أن ينتفع، ومن حقه أن يغصب هذه المنافع، حتى زوائد المغصوب لا يدفعها ولا يضمنها، وهذا أصل عند الحنفية رحمهم الله، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فألزم بضمان الشيء الذي أخذ، وقد أخذ المنفعة فيلزمه رد قيمتها؛ لأنه يتعذر رد المنافع بمثلها، فيلزم بدفع قيمتها وضمانها بالقيمة، وكذلك أيضا يتعذر رد المنافع بأعيانها؛ لأن سكنى الدار شهرا ذهبت ولا تستطيع أن تردها.
    فما هي كالعين ترد! ولذلك لا يمكن رد المنافع بأعيانها، ولا يمكن رد المنافع بمثلها؛ لأنه ليس هناك دار مثل هذه الدار من كل الوجوه، فمثلا: لو أنه اغتصب دارا في وسط المدينة، فإنه إذا وجد الدار في وسط المدينة لا يمكن أن يجد دارا في نفس المكان وبنفس الصفات، ولابد أن تكون مثلية؛ لأن المثلية يشترط فيها المساواة من كل الوجوه.
    وبناء على ذلك: لا يصح أن يقال: إن المنافع تضمن بالمثل، فتعذر وجود المثلي وتعذر رد عين المنافع، وتعذر رد المثل فوجب ضمانها بالقيمة؛ ولذلك إذا عطل عليه منافعه ومنعه من سكنى الدار سواء استغل أو لم يستغل فإنه يلزم بضمانها.
    حكم من غصب جارحا أو عبدا أو فرسا
    قال رحمه الله: [ولو غصب جارحا أو عبدا أو فرسا فحصل بذلك صيدا فلمالكها] .
    قوله: (ولو غصب جارحا) غصب الجارح يشمل: الكلب المعلم، والطيور الجوارح مثل: الصقر والباز والشواهين والباشق ونحوها من جوارح الطير.
    فالجوارح المعلمة سواء كانت من الطيور أو كانت من السباع العادية، إذا اغتصبه وأخذه وصاد به فللعلماء في ذلك وجهان: قال بعض العلماء: إذا أخذ الكلب وصاد به ملك الغاصب الصيد ورد الكلب.
    وقال بعض العلماء: بل إن الصيد يكون ملكا لصاحب الكلب، وهذا هو الصحيح الذي اختاره المصنف رحمه الله، والحنابلة والشافعية على هذا، أنه إذا اغتصب جارحا فإن صيده يكون للمالك؛ وذلك لأن الجارح هو الذي أخذ الصيد، وأخذه وهو ملك لصاحبه، والشرع أحل لصاحبه المنفعة وأن ينتفع بذلك الكلب ويرتفق به.
    لكن أصحاب القول الأول قالوا: إن الجارح من حيث الأصل لا يملك؛ فليست هناك يد وإنما له يد على المنفعة، فإذا اغتصبه حينئذ لا يكون هناك ملك لصاحب اليد الأصلية، فيبقى الانتفاع للغاصب وليس للمغصوب منه.
    والصحيح: أن الصيد يكون للمغصوب منه.
    وقوله: (أو عبدا) .
    أو غصب عبدا، فصاد هذ العبد وحصلت منه المنفعة، فإنه يكون ملكا للمغصوب منه وليس للغاصب.
    وقوله: (أو فرسا) .
    وهكذا الفرس لو أنه ارتفق به وانتفع، فإنه يضمن، وهذه المسألة تعرف بمنافع المغصوب، ومنافع المغصوب يمثل لها بالحيوانات، ويمثل لها بالعقارات؛ لأن الحيوان إما أن يكون آدميا أو غير آدمي، فمثل لغير الآدمي بالجارح، ومثل للآدمي بالعبد، ومثل لغير المنقول بالعقار وهو الدار، ومثل للحيوان بالفرس.
    فأصبح إما أن يكون حيوانا يملك منفعته، وإما أن يكون حيوانا يملك ذاته، وإما أن يكون آدميا بالنسبة للمنافع، ومنافع الحيوانات إما أن تكون منفعة من حيوان لا تملك ذاته كالأسد والكلب، ولكن تملك منفعته: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة:4] فإنه تملك منفعة الصيد به، ولذلك الكلب لا تملك عينه، وإذا أتلفه الغير فلا يضمن قيمة الكلب كما ذكرنا؛ لأن الشرع أسقط الثمن أو القيمة في الكلب، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثمن الكلب سحت) .
    فإذا: غصب الحيوان يشمل الآدمي وغير الآدمي؛ فإن كان آدميا مثل له بالعبد، وإن كان غير آدمي فإما أن يكون حيوانا تملك ذاته ومثل له بالفرس، فالمنفعة تابعة لملكية الذات، أو يكون حيوانا لا تملك ذاته ومثل له بالجارح، فهذا التمثيل المراد به التقسيم ببيان التنظير في أصل المسألة في ملكية المنافع.
    وقوله: (فحصل بذلك صيد فلمالكه) .
    يعني: من الكلب أو العبد بأن صاد له، أو ركب الفرس وصاد عليه، ففي هذه الأحوال كلها المنافع تكون ملكا للمالك الأصلي للمنفعة أو المالك للرقبة مع منافعها على التفصيل الذي ذكرناه.



    الأسئلة





    انتقال العقد عند الحنفية من غصب إلى مزارعة












    السؤال في قول الحنفية رحمهم الله: إذا كانت الأرض معدة للزراعة ينتقل العقد إلى عقد مزارعة بين المالك والغاصب، ما هي صورة عقد المزارعة بينهما؟
    الجواب تنتقل المسألة من الغصب ومن صورة الاعتداء -لأنهم لا يرون الغصب في العقارات- إلى المزارعة، فنقول في هذه الأرض: هذا المكان إذا دفعت لشخص لكي يزرعها، كم يتفق أهل الأراضي في ذلك الموضع؟ مثال: لو كانت الأرض قريبة من المدن وأعطيت لشخص لزراعتها، فيعطاها على أن له النصف ولصاحب الأرض نصفها، فتكون مشاطرة بين الطرفين، فيقال: فهذه الأرض -المغصوبة- تأخذ حكم الأراضي الموجودة حولها، فيكون نصف الزرع -مثلا- للمالك، ونصف الزرع للذي غصبها، فالنتاج لصاحب الأرض وللغاصب، هذا إذا كانت الأرض يزارع عليها في مكانها ومحلها بهذا القدر.
    وبعض الأحيان يؤثر الشيء المزروع، فمثلا: هناك مزارع يقع فيها عقد المزارعة؛ لأن عقد المزارعة يكون فيها العامل للبذر، فيبذر الأرض ويقوم عليها ويستصلحها ثم يشاركه صاحب الأرض في الإنتاج، فيكون صاحب الأرض قد قدم الأرض وقدم الماء الموجود فيها، ويكون العامل -الذي هو المزارع- قد دخل بالبذر وبالعمل، وهذا قدمناه وذكرناه حينما تعرضنا لمسألة المساقاة والمزارعة.
    فالشراكة الآن بين العامل وبين رب الأرض، وهنا الشراكة بين الغاصب وبين رب الأرض، وفي بعض الأحيان يكون التأثير بحسب الزرع المزروع، فالمنطقة التي فيها الأرض المغصوبة أو المأخوذة إذا زرع فيها -مثلا- الشعير، جرى العرف عند أهلها أن تكون ثلاثة أرباع للمالك وربع للعامل.
    نقول: إذا: للغاصب الربع ولمالك الأرض ثلاثة أرباع.
    ولو زرعت ذرة وجرى العرف في ذلك الموضع أن يأخذ العامل ثلثين، والثلث لرب الأرض، نقول: الثلثان للغاصب والثلث لرب الأرض، فيقاس على هذا، فيحددون المزارعة وقدرها على حسب العرف، لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، فهم يرون كأنهما اشترطا ودخلا العقد على هذا على حسب العرف بذلك، فننصف الطرفين ونعطي هذا حقه بالعرف، ونعطي مالك الأرض أيضا قدره من المزارعة بالعرف، والله تعالى أعلم.



    حكم صلاة العيد في الأودية


    السؤال يقول السائل: نحن نسكن في قرية تحيط بها الجبال، ولا يوجد مصلى للعيد إلا في وادي السيل، وقيل لنا: أن الصلاة لا تصح في الوادي، فهل هذا صحيح؟ وهل نترك الوادي ونصلي في الجامع، مع العلم أننا نخشى مداهمة السيل أو نحوه؟
    الجواب أما في الحقيقة من حيث الأصل فالسنة الصلاة في البراري والصحراء، لكن لو صليتم في الوادي فالصلاة صحيحة، ولا أعرف أحدا من أهل العلم يقول: إن الصلاة داخل الوادي باطلة، والله يقول عن مكة: {بواد غير ذي زرع} [إبراهيم:37] يعني: مكة التي هي قبلة المسلمين كلها في وادي، ولا أحد يقول: إن الصلاة في الوادي باطلة.
    لكن هل نطلب السنة على وجه يعرض أرواح الناس للخطر، في الأزمنة التي يغلب على الظن فيها وجود المطر في المنطقة أو حول المنطقة التي هي مراوي الوادي، لأن مشكلة الوادي وهذا معروف بالاستقراء والتتبع وقول أهل الخبرة ربما تكون مراوي الوادي على بعد مائتين كيلو.
    فالذي يظهر أنه لا يجوز تعريض أرواح الناس لمثل هذا.
    وأما إذا كان في زمان يغلب على الظن عدم وجود السيل، ويغلب على الظن عدم وجود الضرر فالأمر فيه أخف إن شاء الله، أما الصلاة -إن شاء الله- صحيحة، والله تعالى أعلم.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم.



    حكم زراعة شخص في أرض شريكه دون إذن


    السؤال من زرع دون إذن شريكه، هل له أحكام الغاصب وذلك في الشق الذي لشريكه؟
    الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة أفتى فيها بعض أهل العلم رحمهم الله: أنه إذا زرع في نصيب شريكه مكن الشريك من الزراعة في نصيبه عوضا، فيقال له: ازرع لمدة ثلاثة أشهر، ويقال لشريكه: إذا فرغ تأخذ أنت أيضا أرضه وتزرع وتأخذ كما أخذ.
    وهذا إنما يتأتى في حال استواء الأرضين، كما لو كانت الأرض بينهما مناصفة، وكانت القسمة قسمة مهايأة بين الشريكين وكلا الأرضين بصفات واحدة حيث يكون هناك عدل بين الطرفين.
    وهناك وجه لبعض العلماء رحمهم الله أنه ينزل الشريك منزلة الغاصب ويعتبره في حكم الغاصب، فإذا زرع وحصد ضمن أجرة الأرض مدة زراعته.
    فعلى الوجه الأول يمكن المظلوم من أخذ حقه بالزراعة، وعلى الوجه الثاني يمكن من أخذ حقه عن طريق المعاوضة بالإجارة، والله تعالى أعلم.



    معنى النقص المستقر


    السؤال قال الشارح رحمه الله في مسألة أرش النقص: (وكذا كل عين مغصوبة على الغاصب ضمان نقصها إذا كان نقصا مستقرا) فما معنى قوله: مستقرا؟
    الجواب النقص ينقسم إلى صور، في بعض الأحيان يبقى ويؤثر في المالية ويؤثر في القيمة، وبعض الأحيان لا يبقى، فمثلا: لو أنه أخذ العبد فمرض العبد ونقصت قيمته، ثم لما رده رده وقد شفي.
    أخذ منه فرسا، والفرس صحيح سوي، فمكث عند الغاصب ثلاثة أشهر، في الشهر الأول مرض وهذا نقص، لكنه غير مستقر؛ لأنه لما دخل في الشهر الثاني شفي، فرجع إلى حالته، ففي هذه الحالة لا يكون مضمونا ولا يلزم بدفع النقص؛ لأنه عاد على حالته والنقص الذي حدث عارض، فالعوارض التي لا تستقر ولا تثبت وليست بمؤثرة لا بالضمان في الأعيان ولا بالضمان في المنافع، والله تعالى أعلم.



    قاعدة الغالب كالمحقق


    السؤال لو منع الغاصب المالك أن يزرع أرضه، فكيف يكون ضمان الغاصب، إذ لا ندري لو زرع المالك هل ستخرج ثمرته أم تفسد؟
    الجواب طبعا هذا ليس بوارد من وجوه: أولا: أنه إذا منعه من الزراعة فالقهر موجود، وصفة الغصب موجودة من جهة الاعتداء على أموال الناس، فيتحمل مسئولية هذا الاعتداء.
    ثانيا: قولك: نحن لا ندري هل يخرج الزرع أو لا، القاعدة في الشريعة أن الحكم للغالب، فالأرض أرض زراعية، والبذر موجود، والزمن زمن زراعة، فما هو الغالب؟! فالغالب أن يخرج الزرع.
    ولذلك تقول القاعدة -وهذه فائدة استخدام القواعد وتعملها-: إن الغالب كالمحقق، والحكم للغالب، والنادر لا حكم له، تقول: الغالب أن الأرض تخرج زرعها فيضمن له ذلك ولا عبرة بالنادر وكونه يحتمل أنها ما تخرج لا نعمل به، بل نعمل الغالب ونحكم بأنه ضامن لهذه الأرض هذه المدة، وعلى هذا يلزم بالضمان.
    الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله قرر في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام مسألة الظنون الضعيفة، وقال: إن الشريعة تبني على الظن الراجح، وأكثر مسائل الشريعة على الظنون الراجحة، يعني: على غلبة الظن، والظنون الضعيفة -من حيث الأصل- والاحتمالات الضعيفة لا يلتفت إليها ألبتة.
    يقول رحمه الله: إذ لو ذهبنا نعمل مثل هذه الظنون الفاسدة لما استقامت الشريعة؛ لأننا إذا عملنا بهذه الظنون الفاسدة نقول: يحتمل أنها ما تخرج يحتمل تخرج! ولو أننا أعملنا بالاحتمال الضعيف ما بقي شيء، فأنت في أعظم الأشياء: الصلاة، التي هي ركن الإسلام وعموده، ويقف المسلم بين يدي ربه بالظنون؛ لأنه يستقبل القبلة بغالب الظن، فهو إن توجه إلى جهة القبلة هل هو قاطع 100% أنه على جهة القبلة؟! بل بغالب الظن.
    وإذا جاء وتوضأ هل هو يقطع 100% أنه على وضوئه؟ ربما دخله الشك أنه خرج منه شيء ولم يخرج، فالظنون الفاسدة لا يلتفت إليها.
    في الصيام لو جاء ورأى آثار مغيب الشمس هل يقطع 100% أنها غابت؟ لا يمكن، ففي بعض الأحيان لا يستطيع أن يقطع.
    وحينما تأتي لعالم وتسأله عن مسألة اجتهادية ويفيتك، فالغالب صوابه، وغلبة الظن حينما تراه إنسانا يوثق بدينه وعلمه وقد شهد له أهل العلم بأنه أهل لهذا العلم الذي يفتي فيه في العقيدة أو في الحديث أو في الفقه وفي المسائل والأحكام، وجئت تسأله في شيء بينك وبين الله عز وجل وتتعبد لله عز وجل، فقد يكون الشيخ مخطئا، فيستحل الرجل وطء زوجته بغلبة الظن، ويقول له: لا، الطلاق ما وقع، فيحتمل أنه وقع، ويحتمل أن الشيخ أخطأ، لكن هذه الظنون كلها لا يلتفت إليها ولا يعتد بها، والحكم في الشرع لغالب الظن أنه مادام على علم وبصيرة والله وصف أمثال هؤلاء فقال: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون} [النساء:162] فوصفهم برسوخ العلم، وقال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43] ورد إليهم بغلبة الظن بصوابهم.
    ومن هنا كانت أحكام الشريعة والتعبد الله سبحانه وتعالى بغلبة الظن.
    فإذا جئنا للحقوق وفصل الحقوق ومقاطع الحقوق بين الخصمين نحكم فيها بغالب الظن إن لم نكن على يقين وقطع؛ لأن الله تعبدنا بهذا الغالب.
    وبهذا الغالب يمكننا أن نصل إلى حق كل ذي حق فنأمر من أخذ الحق برده، ونقول: إن هذه الأرض مادامت قد تهيأت للأسباب وهي صالحة للزرع فإنها تكون في حكم الأرض المزروعة، والله تعالى أعلم.

  13. #373
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب الغضب )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (373)

    صـــــ(1) إلى صــ(18)



    شرح زاد المستقنع - باب الغصب [4]
    المغصوب عند رده له ثلاث حالات: إما أن يرد وتكون فيه زيادة، أو يرد ويكون فيه نقص، أو يرد وتكون فيه زيادة من وجه ونقص من وجه آخر، وقد فصلت الشريعة كل هذه الحالات بأحكامها حتى لا يظلم أحد أحدا، وألزمت بإعطاء كل ذي حق حقه ولو كان ظالما.



    أحوال زيادة المغصوب ونقصانه


    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن ضرب المصوغ، ونسج الغزل، وقصر الثوب أو صبغه ونجر الخشب ونحوه، أو صار الحب زرعا، أو البيضة فرخا، والنوى غرسا رده، وأرش نقصه ولا شيء للغاصب، ويلزمه ضمان نقصه] .
    المغصوب له حالتان: الحالة الأولى: أن يرده الغاصب كما أخذه، دون زيادة أو نقصان، وفي هذه الحالة يكون صاحب الحق قد وصل إليه حقه كاملا، إلا أنه يجب على الغاصب أن يضمن أجرة المغصوب إن كانت هناك منفعة منعها من الشيء المغصوب، وبينا هذا فيما تقدم.
    وبناء على هذا: يبقى
    السؤال إذا تصرف الغاصب في الشيء المغصوب؟ أو أن هذا المغصوب زاد من نفسه، أو نقص، أو تلف بعضه بآفة سماوية أو نحو ذلك؟ فالعلماء رحمهم الله يجعلون هذه المسألة تحت عنوان: زيادة المغصوب ونقصانه.
    فإذا زاد المغصوب أو نقص فله حالتان: الحالة الأولى: أن تكون الزيادة والنقصان قد نشأ كل منهما من الشخص الغاصب، فيزيد الشيء المغصوب بفعل من الغاصب، أو ينقص الشيء المغصوب بفعل من الغاصب، وحينئذ تكون يد الغاصب يدا معتدية في حال النقص، ويدا متفضلة في حال الزيادة.
    الحالة الثانية: أن تكون الزيادة والنقصان من المغصوب نفسه، فالمغصوب بنفسه نقص أو تلف بعضه كما لو أن شخصا اغتصب طعاما وأخذه من صاحبه، فتلف بعض الطعام وبقي بعضه وكان التلف من نفس الطعام، أو اغتصب عصيرا فصار العصير خمرا -والعياذ بالله- بسبب المدة، وهذا من نفس العصير؛ لأنه إذا طالت عليه المدة تخمر، فحينئذ حصل النقص من الشيء المغصوب.
    وقد تكون الزيادة من الشيء المغصوب أيضا، مثل: ما لو أن هذا المغصوب أخذه الغاصب في حالة سيئة، ثم تحسنت حالته، كأن يكون مريضا ثم شفي من مرضه دون أن يكون الغاصب قد عالجه أو سعى في علاجه، أو يكون العبد مجنونا -كما في القديم- ثم أفاق من جنونه دون فعل من الغاصب، وحينئذ هذا الشيء الذي هو الزيادة والتحسن وقعت بفضل الله عز وجل وليس للغاصب فيها أثر.
    إذا: عندنا مسألة أحوال الزيادة والنقص، وعندنا أحوال التغير التي هي الزيادة في المغصوب أو النقص، وعندنا منشأ هذا التغير، وهو أن يكون ناشئا من العين المغصوبة، أو يكون ناشئا من الغاصب.
    فالمصنف رحمه الله ذكر هذه المسائل، وفي الحقيقة كل من الزيادة والنقص ينقسم إلى أقسام: تارة تكون الزيادة والنقص في الذات، وتارة في المنفعة، وتارة في الصفة.
    فتزيد الذات وتزيد المنفعة، أو تنقص الذات وتنقص المنفعة، أو تزيد الصفات أو تنقص، هذه كلها أحوال للزيادة والنقص، فإن حدثت في العين المغصوبة زيادة فإما أن تكون في ذاتها، مثل: ما لو ولدت الغنم وتكاثرت، فهذه زيادة في ذات الغنم.
    أو تكون الزيادة في منفعة العين المغصوبة مثل: ما لو كانت العين المغصوبة على صفة وتصرف الغاصب فيها، فأصبحت تصلح للاستغلال في أكثر من شيء، كأن تكون السيارة للركوب فقط، ثم يتصرف فيها بطريقة ما فتصبح للركوب وللحمل عليها، فحينئذ زادت منافعها.
    وتارة تكون الزيادة في الصفة، مثل: ما كان في القديم يغصب رقيقا، ويكون الرقيق جاهلا فيعلمه، فإذا علمه صنعة تكون حينئذ الزيادة في الصفة، أو يغتصب إبلا أو بقرا أو غنما وهي مريضة فيردها صحيحة، أو يأخذها صحيحة ويردها مريضة، إذا: النقص والزيادة في الصفات.
    وتكون الزيادة والنقص في القيمة، فيغتصبه سيارة وقيمتها أثناء الغصب عشرة آلاف ريال، ثم يرخص سعرها فتصبح بثمانية آلاف ريال، فهذا نقص في السوق والقيمة.
    أو يغتصبه أرضا أو عمارة قيمتها مليونا ثم تصبح قيمتها نصف المليون أو العكس، يأخذها وقيمتها مائة ألف ثم يردها وقيمتها مائتا ألف، فهذه زيادة القيمة ونقصها.
    فهذه أربعة أحوال في الزيادة والنقص؛ الذات، المنفعة، الصفات، القيمة.
    كل هذا تمهيد لما سيذكره المصنف رحمه الله من المسائل، فإما أن تكون العين المغصوبة زائدة أو ناقصة، وإذا زادت أو نقصت فإما من الغاصب وإما من غير الغاصب، ثم أحوال الزيادة والنقص إما في ذات العين المغصوبة أو منافعها أو قيمتها أو في صفاتها، هذه كلها أمثلة سيذكرها المصنف تدور حول هذه الضوابط التي ذكرناها.



    حكم زيادة شيء في المغصوب يمكن فصله


    وقوله: (ولا شيء للغاصب (.
    فلو قال الغاصب: إني تكلفت في ضرب المصوغ، وتكلفت في نسج الغزل، وتكلفت في زرع الحب والنوى، وتكلفت في نجر الخشب، نقول: يدك يد اعتداء فلا يضمن لك فعلك؛ لأنه واقع في غير موقعه وغير مأذون به شرعا، ولا تستحق عليه؛ لأنه لو قلنا باستحقاقه فمعناه أن غصبه صحيح؛ ولذلك يصف العلماء رحمهم الله يده بأنها يد عادية، ويسمونها اليد العادية، واليد العادية لا تستحق أن يضمن لها ما فعلت إلا إذا زادت أعيانا يمكن فصلها عن الشيء المغصوب، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له طالب العلم.
    إذا غصب شخص شيئا وأدخل على الشيء المغصوب أعيانا يمكن فصلها ففي هذه الحالة الأعيان ملك للغاصب، ونقول للغاصب: خذ حقك ورد للناس حقوقهم، وما يمكن أن نقول له مثل المغصوب: خذ مالك وخذ مال غيرك؛ لأن الله لم يجعل له سلطانا على مال أخيه.
    فنقول: الغاصب يرد ما اغتصبه، ثم بعد ذلك نقول للغاصب: خذ ما أحدثته من الزيادات التي يمكن فصلها عن العين المغصوبة، هذه المسألة خاصة خارجة عما نحن فيه، نحن نتكلم على الزيادات التي لا يمكن فصلها، فإن الحب إذا صار زرعا والنوى إذا صار غرسا لا يمكنك أن ترد الغرس إلى نوى، ولا يمكن أن ترد الزرع إلى حالته الأولى حبوبا.
    فحينئذ نقول: يضمن له عين المغصوب ويضمن له النقص المترتب على فعله.
    حكم البيض المغصوب إذا صار فرخا
    وقوله: (أو البيضة فرخا) .
    تفريخ البيض يحتاج إلى كلفة، ويحتاج إلى مؤونة وعمل، ولربما تكون الكلفة لها قيمة وهي إجارة من يقوم بتفريخ البيض، فلو اغتصب عددا من البيض ثم استأجر من يفرخه أو قام بتفريخه، فهذا التفريخ قد يستحق مائة ريال مثلا، على حسب عدد البيض.
    فنقول: ترده أفراخا؛ لأن صاحب البيض مالك للبيض وما نشأ منه وكونه أفراخا؛ لأن الفرع تابع لأصله، فلما ملك البيض ملك منفعته أو ما ينشأ عنه مما يتفرع عليه، فالفرع تابع لأصله والفرخ تابع لأصله البيض، فمالك البيض مالك للأفراخ.
    وثانيا: نقول له: تضمن النقص الذي ترتب على تفريخ هذا البيض.
    ولو قال: أريد مؤنتي وتعبي حينما نجرت الخشب ونسجت الغزل وفرخت البيض، نقول: ليس لك منه شيء؛ لأنك فعلت شيئا لم تؤمر به، فلم يأمرك أحد أن تفرخ البيض أو تنجر الخشب أو تقصر الثوب، بل تصرفت بها من عند نفسك في يد عادية.
    واليد العادية يعني: المعتدية؛ لأن يده على الشيء ليست بيد حق وإنما هي يد عادية، لكن لو كانت يد حق لأثبتنا له حقه وضمن له ذلك الحق في تصرفه في الأعيان.
    حكم من صير النوى المغصوب غرسا
    وقوله: (والنوى غرسا) .
    لو صار النوى غرسا، النوى من التمر والرطب ممكن أن تستفيد منه في أكثر من منفعة، وممكن أن يؤخذ النوى علفا للدواب، فتسمن وتنتفع، وممكن أن يزرع، فالنوى فيه أكثر من منفعة.
    فإذا صرفه إلى منفعة الزرع فقد خصه ببعض المنافع، فنقول: تكون العين المغصوبة ملكا لصاحبها، وما نشأ عنها تابع لها، فهذا الغرس تابع للنوى المغصوبة، فيكون ملكا لصاحبه، هذا الحكم الأول.
    وثانيا: يجب عليه ضمان النقص بعد تقدير ما حدث من نقص بسبب هذا التصرف.
    وقوله: [رده وأرش نقصه] .
    (رده) في هذه الحالة يرد جميع الأعيان المغصوبة، وما تفرع عنها، فيرد الدنانير المضروبة والدراهم، ويرد النسيج، ويرد المنجور من الخشب، ويرد الزرع، ويرد النوى الذي صار نخلا، والحب الذي صار زرعا؛ يرده لأنه فرع تابع لأصله المغصوب.
    وثانيا: يلزمه ضمان النقص على التفصيل الذي ذكرناه.



    حكم ضرب الذهب المغصوب


    فقوله: (وإن ضرب المصوغ) .
    أولا: المصوغ يكون من الذهب والفضة، والذهب والفضة إما أن يكونا سبائك، وإما أن يكونا حليا، وإما أن يكونا نقدا مضروبا؛ إن كان من الذهب فدنانير، وإن كان من الفضة فدراهم.
    فالذهب فيه منفعة الحلي، فيمكن أن يصاغ حليا كالأسورة والقلائد، وفيه منفعة النقد فيكون ثمنا للأشياء كالدنانير، وفي زماننا الجنيهات، وإما يكون سبائك موضوعة من أجل غلاء السوق أو نقصه أو يجعلها الإنسان عنده بحيث يتصرف بها عند الحاجة، والفضة كذلك تكون سبيكة وتكون خاما وتكون أيضا حليا، وتكون دراهم مضروبة.
    في حالة ما إذا غصب ذهبا أو فضة فإما أن يأخذها سبائك أو حليا ويردها مضروبة أو العكس.
    والعلماء رحمهم الله لما قالوا: وإن ضرب المصوغ، دائما نقول: ليس المهم المثال، المهم قاعدة المثال، فالذهب منه القلائد والأسورة والخواتيم، وفي الحقيقة فيه منفعة اللبس، وفيه زيادة الصنعة؛ لأن صنعته تكلف وجعله أسورة وقلائد وخواتم يكلف على الشخص، لأنه يحتاج إلى قيمة للصنعة، فإذا كان مصوغا يمكن للمرأة صاحبة الذهب أن تتحلى به، وهذه منفعة، وممكن أن تصوغه وتضربه دراهم إذا كان فضة أو تضربه دنانير إذا كان ذهبا.
    لكن بالعكس، لو كان دراهم وأرادت أن تحوله حليا فإن منفعة الدراهم قاصرة، لأنها في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ما يمكن للمرأة أن تتجمل بالدراهم، لكن بالنسبة للحلي تتجمل به ويمكن أن تضربه فيكون عملة سواء كان ذهبا أو فضة.
    ففي حالة ما إذا أخذه حليا ثم صاغه وضربه دراهم أو دنانير فحينئذ نقصت المنفعة الموجودة فيه؛ لأن المنفعة الموجودة فيه بالحلي أتم وأكمل مما لو كان دراهم أو دنانير، فإذا أخذه وهو حلي وعبث به فصيره دنانير أو دراهم فقد أنقص منه الصنعة وكلفتها، وأنقص منه المنفعة.
    وعلى هذا اختلف العلماء، بعض من أهل العلم يقول: إذا أخذ الذهب أو الفضة وتصرف فيهما بأي تصرف بنقص أو زيادة فإنه يرد عين المغصوب، زائدا أو ناقصا ولا نطالبه بالضمان.
    ومن أهل العلم من قال: إذا ضرب المصوغ دنانير أو دراهم فنطالبه برده إلى ما كان عليه، فيرد المغصوب على حالته التي كان عليها أو قريبا منها إذا تعذر عليه المثلية.
    ومنهم من قال: يرده ويضمن النقص الموجود، فمثلا: لو كان حليا وهذا الحلي كله أسورة، فأخذ كيلو غرام من الذهب كله حلي، وصاغه وصهره وصيره جنيهات، قالوا: نسأل الصاغة: لو أردنا أن نصير الكيلو الذهب مصاغا وأسورة مثل ما كانت كم يكلف؟ قالوا: يكلف كل سوار خمسة ريالات مثلا، وهي عشرة أسورة، فحينئذ استحق خمسين ريالا، فقالوا: يرد المصوغ ويرد النقص الذي حدث بسبب التغير، فيضمنونه مغصوب، ويضمنونه النقص للمنافع، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله.
    قالوا: لأنه ظلم صاحب المصوغ ففوت عليه منفعة المصوغ، ويجب عليه رد العين، فنطالبه بالأمرين: نطالبه أن يرد الذهب، إذا كان كيلو غرام فإنه يرده على حالته مهما بلغ من الدنانير المضروبة من الذهب، أو الدراهم المضروبة من الفضة، ونطالبه بدفع القيمة لكلفة الصنعة.
    وفي هذه الحالة يشكل على هذا القول مسألة الربا؛ لأنه حينما غصب ذهبا وجب عليه أن يرد المثل وزنا بوزن، ويدا بيد، فإذا طالبناه بالفضل، فضل الصنعة، كان هذا نوع من المبادلة مع الفضل والزيادة، ولذلك قال بعض العلماء رحمه الله: لا يستقيم أن يطالب بالزيادة من هذا الوجه.
    ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الفضل في التماثل بين الذهب بالذهب والفضة بالفضة في الصنعة والجودة، بدليل حديث التمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بتمر جيد قال عليه الصلاة والسلام: (أكل تمر خيبر مثل هذا؟ قالوا: لا، والله يا رسول الله! إنا نبيع الصاع من هذا -يعني: الجيد- بالصاعين من الرديء، فقال عليه الصلاة والسلام: أوه عين الربا رده، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا) الحديث.
    قالوا: فأسقط الجودة في لقاء الربوي بالربوي، وأوجب التماثل بغض النظر عن كون أحدهما جيدا والآخر رديئا، وقد قررنا هذا في باب الربا والصرف، وبينا أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب) يقتضي التماثل بغض النظر عن الجودة في الصنعة، وبغض النظر عن الجودة في نفس الذهب معيار (21) و (24) ، بينا هذا، وقلنا: إن مذهب السلف الصالح رحمهم الله على هذا بدليل قصة ابن عمر مع الصائغ، حينما قال: إني أبيع المصاغ وأستفضل -يعني: إذا بادلت بالذهب- قدر الصنعة والتعب، فنهاه ابن عمر واستدل بعموم الحديث.
    وهذا يدل على أن السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان كانوا يفهمون العموم على ظاهره.
    فإذا ثبت هذا فإنه إذا رد الذهب بالذهب على القول الأول: لا يرد إلا عين المغصوب سواء نقصت منافعه أو زادت، قالوا: لا نضمنه ذلك النقص.
    ما هو جواب المصنف رحمه الله؟ وما هو جواب الحنابلة رحمهم الله عن هذا الإشكال؟!! بينا أنهم يقولون: يجب ضمان الصنعة، وهذا الضمان للصنعة يوجب أن يتحقق التفاضل، والله فرض علينا في مبادلة الذهب بالذهب التماثل، فردوا رحمهم الله -ويوافقهم على ذلك بعض الشافعية- فقالوا: إن هذا ليس من باب المبادلة والبيع، وإنما هو من باب الضمانات، والضمانات خارجة عن قاعدة الربا وليس لها علاقة؛ لأنه هو ما بادل الذهب بذهب، بل هذا عين الذهب الذي اغتصب، وهذا ضمان للتصرف في المغصوب، فلا توجد مبادلة، ومن الذي قال: إنه يبادل الذهب بذهب؟ وهذا الجواب سديد وصواب إن شاء الله؛ لأنه لم يبادل ذهبا من غير الذهب الذي أخذه، وإنما رد عين المأخوذ وليس فيه مبادلة حتى يرد إشكال الربويات في المسألة التي ذكروها.
    ولا شك وأرى فيما ظهر والله أعلم أن هذا القول من القوة بمكان؛ لأن الله تعالى قال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل:126] ، وأوجب الله عز وجل ورسوله ضمان الحقوق لأهلها.
    فهذا الذي أخذ الذهب وتصرف فيه إذا رده وهو ناقص فإنه لم يرد الحق لصاحبه تاما كاملا، فنقول له: عليك أن ترد عين المغصوب ويلزمك أن ترد حق الزيادة التي انتقصتها بفعلك.
    ثم إن هذا الرجل الذي اغتصب الذهب تصرف، ونؤاخذه بتصرفه، فإيجاب الضمان عليه على ما فعله من ضرب المصوغ إنما هو إلزامه بما فعل وجنت يداه، ومؤاخذة الجاني بجنايته تدل عليه الأصول الشرعية وتقرره، ولذلك لا شك ولا إشكال -إن شاء الله- في رد المصوغ مع ضمان النقص الحاصل بسبب الضرب.



    حكم نسج الغاصب للغزل بعد غصبه


    وقوله: (ونسج الغزل) .
    المسألة الثانية: مسألة نسج الغزل.
    المسألة الأولى: ينبغي أن ننبه على قضية وهي: إذا كان المضروب نقص وألزمناه بضمان النقص يرد
    السؤال لو أنه زاد فأصبح المصوغ بعد ضربه أفضل وأتم وأكمل مما لو كان مصوغا؟ في الحقيقة بعض العلماء يذكر هذا وإن كان محل إشكال؛ لأن الحلي لا يشك أن منفعة الحلي مع وجود الصنعة أكبر، ولذلك اقتصرنا في الشرح على ما ذكرناه على أنه نقص وليس بزيادة.
    وقوله: (نسج الغزل) الشيء المغزول إذا أراد الإنسان أن يتصرف فيه فينسجه، وربما يأخذه ويتصرف فيه فيجعله رداء أو لحافا، فمن حيث الأصل: الشيء المغزول يمكن أن ينتفع به في أكثر من منفعة، ويمكن أن يصرف في أكثر من وجهة، فإذا أخذه وصرفه على وجهة معينة فقد عطل المنافع التي كانت فيه أولا.
    وهذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله: أن نسج الغزل يعتبر من إنقاص العين المغصوبة وليس من زيادتها، وبعض العلماء يقول: الزيادة، ويجعل نسجه -يعني: قيامه بالنسيج- كلفة وتعبا، وفي هذه الحالة يقول: استغل مادة الغزل واستفاد منها وجعل منها فائدة، وجعل لها قيمة، فمن هنا يكون المغصوب قد زاد، لم ينقص.
    والأول أظهر من جهة المنفعة، والثاني أظهر من جهة الصفة، فهناك فرق بين الصفة وبين المنفعة، إذا جئنا ننظر إلى أن الشيء وهو خام حينما تأخذ خام الصوف أو خام الوبر وتريد أن تصرفه لأكثر من جهة فأنت بالخيار بين أكثر من منفعة، فيمكن أن تصرفه إلى منفعة الملبوسات، ويمكن أن تصرفه إلى منفعة الفرش والبسط، فالمنافع فيه وهو خام أكثر وأتم إذا كان منسوجا أو كان قد صرفه الغاصب إلى جهة معينة من المنافع.
    ومن جهة الصفة كونه أصبح منسوجا لا شك أنه تكلفه الصنعة، وتحتاج منه إلى مال، خاصة إذا استأجر من يقوم بذلك، فهذه زيادة.
    فهي نقص من وجه، وزيادة من وجه آخر.
    وعلى هذا: إن شئت جعلت من زيادة المنفعة، وإن شئت جعلته من زيادة الذات ومن زيادة صفة الذات، وإن شئت جعلته من نقص المنافع.
    والثاني أظهر وهو: أنه من نقص المنافع لأن صاحب الصوف ربما أراده لشيء غير الشيء الذي فعله الغاصب، وعلى هذا يكون أضيق، ويكون في هذه الحالة ضامنا للنقص، فنقول له: يلزمك دفع هذا الشيء الذي نسجته، فيعطيه المغصوب منه بعينه.
    ثم ننظر ما الذي حدث من النقص؟ فلو كانت قيمته وهو غزل يساوي خمسين ألفا في السوق، وبعد أن نسجه أصبحت قيمته أربعين ألفا؛ لزمه ضمان النقص، ويرد الشيء المغصوب مع ضمان نقصه.
    وأيضا لو كان زائدا فإنه يرده ولا يطالب بأجرة الصنعة والعمل، فلو أن هذا الشيء الذي نسجه كانت قيمته قبل أن يتصرف فيه مائة، وبعد أن تصرف فيه فأحدث فيه الصنعة كلفته الصنعة خمسين ريالا فأصبح يباع بمائة وخمسين، فقال: أريد أن يضمن حقي؛ نقول: ليس لعرق ظالم حق.
    وعلى هذا: يسقط استحقاقه في هذه المنفعة ولا يضمن له كما سيأتي إن شاء الله في نص المصنف رحمه الله على هذه المسألة.



    حكم تقصير الغاصب للثوب المغصوب أو صبغه


    وقوله: [وقصر الثوب أو صبغه] .
    يكون مفصلا ويكون غير مفصل، والعرب تسمي غير المفصل ثوبا مثل: الإحرام، فالإحرام إذا ائتزرت به في أسفل البدن، وجعلت الثاني رداء على كتفيك قيل: ثوبان، ويقال: إن هذا ثوب وهذا ثوب، فالملبوس ثوب، إذا لم يكن مفصلا له اسمه الخاص كالقميص ونحوه.
    فالثوب إذا كان مفصلا فإن منفعته أكمل، لكن إذا أخذ منه وقصره وحوره فإن هذا ينقص منفعة الثوب ويضر بمصلحته، وحينئذ يكون النقص للذات، لاحظ أن الأمثلة الأولى فيها نقص للمنفعة ولكن تقصير الثوب في بعض الأحيان قد يقص من الثوب شيئا، كما لو كان للثوب كمان طويلان وقص هذين الكمين نقص، وهكذا لو كان الثوب كاملا سابغا إلى أنصاف الساقين فقصه فصار في حكم القميص فهذا نقص.
    ففي هذه الحالة تصرفه في الثوب في قصارته نقص في ذاته، فلما فرغ من نقص المنافع شرع في نقص الذوات، فقال في هذه الحالة: لو أخذ من الشخص ثوبا وتصرف فيه فقصره وحوره ونقصت قيمته بالنصف، فإننا نطالبه برد الثوب ونطالبه برد النقص الذي وقع في القيمة بسبب تصرفه.
    ولو سأل سائل: ما الدليل على ذلك؟ نقول: نطالبه برد المغصوب؛ لأنه ملك لصاحبه وهو عين الثوب.
    ونطالبه بضمان النقص؛ لأنه من جناية يده، وقد أخذ الشيء كاملا فرده ناقصا، والله أوجب المعاقبة بالمثل ولا مثلية إلا بضمان النقص.
    فنقول: عليه أن يرد الثوب مع ضمان أرش النقص.



    حكم نجر الغاصب للخشب المغصوب


    وقوله: (ونجر الخشب ونحوه) .
    في زماننا الآن الألواح الموجودة في الخشب، أو الأوصال التي تأتي شبه مادة خامة، ممكن أن يأخذ الألواح ويجعلها دواليب، أو يجعلها مكاتب، أو يجعلها في أسطحة المنازل، أو يجعلها في أكثر من منفعة، فهي كمادة خام تصلح لأكثر من منفعة.
    فلو أنه أخذها ونجرها ووضعها مثلا في نجارتها كطاولات أو أبواب أو نوافذ حتى تستغل في هذه المنفعة فقد أنقص المنافع الموجودة في العين.
    فإذا قد تقرأ قوله: (نجر الخشب) ما هو نجر الخشب؟ العلماء يريدون أصل المسألة وهي مسألة المنافع، أن الغاصب إذا اغتصب شيئا فأنقص منافعه وجب عليه ضمان ذلك النقص، فإذا نظرت إلى ألواح الخشب بمنافعها التامة بعد نجارتها قد انتقصت فيجب علينا أن نقدر ذلك النقص بالرجوع إلى أهل الخبرة ونلزمه ضمانه، وهذا من العدل الذي أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام وقامت عليه السموات والأرض، هذا فعله وهذه جنايته.
    فنقول: رد الخشب بحاله منجورا، ثم اضمن ذلك النقص الذي ترتب على فعلك، فيجب عليه أن يضمنه ويرده على صاحبه.
    حكم الحب المغصوب إذا صار زرعا
    وقوله: (أو صار الحب زرعا) .
    وهنا إذا نظرنا إلى الحب نجد فيه أكثر من منفعة، ممكن للحب أن يطحن ويصير دقيقا ثم بعد ذلك يكون فيه من المنافع الكثير، وممكن للحب أن يعطى للدواب فتغتذي به، وممكن للحب أن يغرس ويزرع.
    فلما يأتي ويضعه في الزرع يكون حينئذ حده في منفعة من تلك المنافع، وصيره إلى منفعة قد لا ترغب فيها ولا تحب هذه المنفعة، فنقول: إنه يصير ملكا لصاحبه الذي هو المغصوب منه ثم يجب عليه ضمان النقص على الأصل الذي قررناه.
    حكم خصي الغاصب للعبد المغصوب

    قال رحمه الله: [وإن خصى الرقيق رده مع قيمته] .
    في الأمثلة الأولى أكثرها يمكن أن نجعلها تابعة لنقص المنافع على التفصيل الذي ذكرناه.
    وفي قوله: (وإن خصى الرقيق) هذا نقص للذات ونقص للمنفعة، نقص لذات المغصوب ونقص لمنفعته، فالخصاء من حيث الأصل الشرعي يقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون للآدميين.
    الصورة الثانية: أن يكون للبهائم.
    أما للآدميين فجماهير أهل العلم على تحريمه، ولا يجوز خصاء الآدمي؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلقه من أجل النسل والتكاثر ويخلف بعضه بعضا، فجعله في الأرض خليفة أي: أن آدم وذريته يستخلف بعضهم بعضا، ويبقى هذا النسل لعمارة الكون بذكر الله عز وجل، وفي الخصاء تعطيل لهذا المقصود، وكذلك فيه إضرار بالآدمي؛ لأن الخصاء تعذيب وفيه تغيير للخلقة، ولذلك ذكره الله عز وجل من الأفعال المحرمة التي يسولها الشيطان للعصاة من بني آدم؛ فيأمرهم فيبتك آذان الأنعام ويأمرهم بتغيير خلق الله، ويأمرهم بالتصرف في هذه الذوات البشرية بإخراجها عن طبيعتها التي فطرها الله عز وجل عليها: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم:30] لا يجوز أن يبدل خلق الله.
    وفي الحديث: (لعن صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة، والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) ، فجعل العلة تغيير خلقة الله عز وجل، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، ومن لعن طرد من رحمة الله، والطرد مراتب، فهناك لعنة تطرد صاحبها طردا أبديا فيختم على قلبه والعياذ بالله، وهي لعنة الكفر، ولعنة الكافرين -نسأل الله السلامة والعافية- التي يختم بها على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم فهم صم بكم عمي.
    وهناك لعنات المعاصي في كبائر الذنوب وتتفاوت بحسب درجات الكبائر، فبعضها أشد من بعض على حسب ما حرم الله عز وجل مما يقع فيه الإنسان من كبائر.
    فالتغيير للخلقة له هذا الوعيد الشديد، واللعن من الله سبحانه وتعالى، فالأصل يقتضي عدم جواز التصرف في الآدمي بخصائه.
    ومن هنا يحرم إجراء العمليات الجراحية التي تؤدي إلى قطع النسل، وتؤدي إلى تعطيل منفعة الذرية والمنفعة التي يجدها الإنسان من التكاثر والنسل، ومنفعة الجماع والاستمتاع؛ إلا إذا وجدت الضرورة، مثل: الأورام الخبيثة التي يخشى بها ضرر البدن كله، فهذه تستثنى، أما من حيث الأصل فلا يجوز استئصال هذه الأعضاء.
    ومن هنا حرمت جراحة تغيير الجنس كلها؛ لأنها تغيير لخلقة الله عز وجل دون وجود دوافع توجب الإذن الشرعي لفعلها.
    فثبت أن الخصاء للآدمي لا يجوز، وحكى عليه غير واحد بالإجماع، وكانوا في القديم يفعلونه في الأرقاء ويعتبر من أسوأ العادات وأشنعها، ويعتبر من المظالم التي كان يظلم بها الأرقاء، كانوا يخصونهم خوفا على الأعراض، لكنه -والحمد لله- انقرض وذهب لما فيه من تغيير خلقة الله عز وجل، والاعتداء على حرمة الآدمي.
    أما خصاء البهائم ففيه منفعة من جهة تطييب اللحم، وللعلماء فيه خلاف مشهور، بعض العلماء يقول: يجوز خصاء البهائم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين مقرونين موجوئين، والموجوء هو: الخصي.
    وقالوا: إنه في الأضاحي يطيب اللحم، فهو نقص من وجه وكمال من وجه آخر.
    وقال بعض العلماء: لا يجوز الخصاء؛ لأن هناك فرقا بين الذي يحصل اتفاقا وبين الذي يحصل قسرا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أضحيته وجد الخصي أطيب لحما -والأضحية تراد للحمها- فاشتراه، ولا يدل هذا على الإذن، والحقيقة أن القول بالجواز فيه قوة، وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى به، ولكن الشبهة موجودة.
    فإذا ثبت هذا؛ فإنه إذا خصى الرقيق فإنه يعطل منافعه؛ لأنه يتكاثر، ومن مصلحة المالك وجود هذا التكاثر، فهو تعطيل للمنفعة.
    وهذه المسألة مهمة وهي: أن الاعتداء على الأعضاء وتعطيل منافعها بالكلية يوجب ضمانها، فمن اعتدى على إنسان عمدا فشل يده -والعياذ بالله-، فإنه يضمن نصف ديته، ولو أنه عطل ما كان متعددا كاليدين والرجلين تقسم الدية على حسب أعداده، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في كتاب الديات.
    فالأذنان في كل أذن نصف الدية، والعينان في كل عين نصف دية، ثم أجفان العين الأربعة يكون لكل جفن ربع دية، فبالاعتداء من الغاصب على الرقيق بخصائه عطل منفعة عضو كامل، ولذلك يفسد عليه جماعه ويفسد المنفعة المترتبة على الجماع.
    وعلى هذا: لو اعتدى شخص على آخر فضربه ضربة على خصيته وأضرت به وأماتت الخصيتين وجب أن يدفع الدية كاملة، ويلزمه ضمان الدية كاملة.
    في هذه الحالة نقول: اعتداؤه بالخصاء فوت منفعة هذا العضو وعطلها بالكلية فيجب ضمانها تامة كاملة، وهذا بالقيمة، فيضمن قيمته كاملة.
    وهناك خلاف في الاعتداء على الأرقاء، بعض العلماء يقولون: يضمنون بالديات نصف دية الحر، وبعضهم قال: يضمنون بالقيمة، وهذا مما يسمى بقياس الشبه، وقياس الشبه هو: أن يتردد الفرع المختلف فيه بين أصلين مختلفين في الحكم، كل منهما يوجد فيه شبه منه، فأنت إذا نظرت إلى الرقيق تجده آدميا، فهذا يوجب إلحاقه بالحر فيجب أن يدفع نصف ديته إذا قتله، وتضمن منافعه بنصف ما في الحر، فلو كانت الدية مائة ألف وأتلف خصيته يدفع خمسين ألفا، التي هي الدية الكاملة للرقيق.
    القول الثاني: يقول: لا، يضمن بالقيمة، ففي بعض الأحيان تكون قيمة الرقيق ضعفي دية الحر، لأن فيه منافع، ويباع -مثلا- بمائتي ألف، فلو أنه أضر به وعطل عضوه التناسلي يدفع قيمته كاملة.
    فإذا: يتردد بين الأصلين، هل نلحقه بالحر من جهة الآدمية فنوجب ضمانه كاملا بالنسبة للديات، ويكون على الوجه المعروف؟ أم نلحقه بالأموال ونوجب ضمانه بالقيمة؟ وجهان سيأتي -إن شاء الله- بيانهما في باب الجنايات.
    فالذي يهمنا هنا أننا نقول للغاصب: عطلت منفعة لعضو كامل، وعطلته من صار كأنه غير موجود، فيجب عليك ضمان قيمة الرقيق بالغة ما بلغت، ويجب عليك رد الرقيق بحالته الناقصة.

    حكم ضمان نقص سعر السوق

    قال رحمه الله: [وما نقص بسعر لم يضمن] .
    تقدم في الأمثلة الأولى النقص في المنافع وفي الذوات، وانظر إلى قوله: (وإن خصى الرقيق) فجاء بجملة منفصلة عن الجملة المتقدمة؛ لأنه بإخصاء الرقيق صار اعتداء على الذوات، وبعض العلماء يرى أنه اعتداء على المنافع، فإذا جئت تنظر إلى أن العضو تعطل فلا ينتشر ولا يجامع فيكون نقصا للذات، وإذا جئت تنظر إلى المنفعة المترتبة من الجماع يكون نقص منفعة، وأيا ما كان فقوله: (وإن خصى الرقيق) هذا للذات، ويبقى السؤال للنوع الثالث من النقص والزيادة وهو: السعر، فقضية نقص السعر ترجع إلى السوق، ويرجع فيها إلى أهل الخبرة، فقيمة الشيء المغصوب إذا نقصت أو زادت فيها الضمان، فإذا أخذ المغصوب وقيمته ناقصة ورده وقيمته كاملة فإنه يرده على حاله.
    مثلا: لو أخذ شيئا قيمته مائة ألف، ولما أراد أن يرده أصبح يساوي مائة وخمسين، فإنه يرده بحاله ولا يرد له المالك الخمسين، ولا يضمن له الخمسين.
    لكن لو أخذه وقيمته مائة، ورده وقيمته خمسون فإنه لا يضمن الغاصب؛ لأن هذا النقص ليس بيده وليس ناشئا من تصرفه وليس له به علاقة، بل هو راجع إلى تقدير الله عز وجل وأمره سبحانه وتعالى.
    وهنا تكاد تكون المسألة إجماعية، أنه ما يضمن نقص السوق، إلا أن فيها شذوذا وخلافا حكي عن أبي ثور الفقيه المشهور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي -وكان شافعيا ثم أصبح صاحب مذهب واجتهاد وهو الذي يقول فيه الإمام أحمد رحمه الله: (أعرفه بالسنة منذ ثلاثين عاما) فكان إماما رحمه الله في الفقه والعلم والعمل- فهنا الإمام يرى أنه إذا نقص في السوق فإنه يدفع ويلزمه الضمان، بناء على هذا القول الضعيف الشاذ: لو أخذ السيارة وقيمتها خمسون ألفا، ولما ردها بعد سنة أصبحت قيمتها خمسة وعشرين ألفا فيردها مع خمسة وعشرين ألفا، ويضمن النقص، ولكن الصحيح أنه لا يضمن نقص السوق.
    فإذا: أصبح عندنا نقص الذوات مضمون، ونقص المنافع مضمون، ونقص السوق والسعر غير مضمون، على أصح قولي العلماء رحمهم الله.

    حكم ضمان النقص بمرض

    قال رحمه الله: [ولا بمرض عاد ببرئه] .
    هذا نقص الصفات.
    صورة المسألة: أخذ دواب وهي مريضة، كأن يغتصب إبلا أو بقرا أو غنما وهي مريضة، ثم ردها وهي صحيحة قد عوفيت وشفاها الله عز وجل، فلا يضمن المغصوب منه الزيادة، وكذلك لو أنه أخذها وهي سليمة صحيحة -وهي صورة المسألة التي معنا- ومرضت عنده ثم شفيت، فردها وهي صحيحة فلا ضمان عليه، فلو اغتصب خمسين رأسا من الإبل، وهي سليمة وبعد شهر ظهر فيها الجرب -والعياذ بالله- فأصبحت مريضة وردها مجروبة فحينئذ تقدر قيمتها وهي صحيحة، وتقدر قيمتها وهي جرباء ويدفع ويلزمه ضمان النقص، فلو أخذها وهي سليمة وردها ونصفها مريض، نقول: هذا المريض يرجع إلى أهل الخبرة فينظرون في النقص الحادث في هذا النصف، فنسألهم: كم قيمته؟ قالوا: خمسون ألف ريال.
    نقول له: رد الإبل المريضة بحالها وهي مريضة وادفع ضمان النقص.
    إذا: لو أخذ الصحيحة وردها مريضة ضمن نقص المرض منها، ولو كان المرض من غير يده، لأن بعض الأمراض تأتي بسببه هو، وبعض الأمراض لا يتدخل فيها، فسواء تعاطى السببية فاعتدى أو لم يتعاط السببية فإنه يضمن، لو سألك سائل وقال لك: أنا أسلم لك أنه لو تسبب في مرضها مثل: أن يسقيها ماء ملوثا فمرضت بهذا الماء، فهذه سببية فإن قصد فهو عدوان، وإن لم يقصد فهو خطأ موجب للضمان؛ لأن السببية نوعان: سببية اعتداء، وسببية خطأ، فسببية الاعتداء أن يقصد أنها تمرض، فحينئذ لا إشكال أنه يضمن، يقول لك: أنا أقبل منك أنه لو وضع لها ما يتسبب في مرضها أنه يضمن، لكن لو أنها مرضت من الله سبحانه وتعالى، وجاءها المرض قضاء وقدرا، وماؤها طيب، ومرعاها طيب، ومرضت؛ فحينئذ لماذا نضمنه؟! تقول: من باب اليد العادية؛ لأن الضمان يكون بالتعدي ويكون باليد ويكون بالإفضاء، هذه كلها وجوه للضمان، فتضمنه من جهة اليد، إذا كان ما له دخل في الشيء، تقول: لأنه لما اغتصب صارت يده يد عدوان، ويد العدوان تضمن تسببت أو لم تتسبب.
    يقول لك: كيف وجه ذلك؟ تقول: لأنه لما اعتدت يده وأخذها وهي سليمة صحيحة فإن الله ألزمه في ذمته أن يردها صحيحة سليمة، فإذا نقصت وأصابها الضرر -ولو كان قضاء وقدرا- فإنه لم يرد الكامل كاملا، وإنما رده ناقصا فلم يرد المثل، فيجب عليه الضمان بيده التي اعتدت والتي يسميها العلماء: اليد العادية؛ لأنه بالغصب صار متحملا للمسئولية.
    وعلى هذا: يجب عليه ضمان النقص في الصفات ولو لم يكن له تسبب.
    لاحظ في الأول -وهو النقص إذا كان في المنافع- الغالب أنه يفعل شيئا ويتدخل، فيجعل المصوغ مضروبا، ويجعل النوى غرسا، والحب زرعا، فهذا يتعاطى الفعل، لكن هنا في الصفات كثير منها قد يكون له تدخل منه، لكن كثيرا ما تكون الصفات من غير فعل منه.

    ضمان النقص في العبد بعد تعليمه

    قال رحمه الله: [وإن عاد بتعليم صنعة ضمن النقص] .
    وهذه المسألة صورتها: أن ينقص الشيء المغصوب من وجه ويزيد من وجه آخر، فمثلا: غصب رقيقا، وعندما غصبه كان سليما، فمرض عنده، نقول: يضمن النقص العارض بالمرض، فلو كان هذا النقص يوجب عليه ضمانا يقدر بخمسين ريالا، حيث أخذه وقيمته مائة وهو صحيح، ورده مريضا بنقص خمسين، تقول: يرده ومعه خمسون ريالا.
    فلو أنه علم الرقيق صنعة، وهذه الصنعة زادت في قيمته خمسين ريالا، فهو نقص من وجه وزيادة من وجه آخر، نقول: نجعلها بالمكافأة، فنجعل الخمسين بالنقص مقابل الخمسين بالزيادة؟
    الجواب فيه تفصيل، إن كانت الزيادة من جنس النقص كافأت، وإن كانت الزيادة من غير جنس النقص لم تكافئ؛ لأنه ثبت استحقاق صاحب المغصوب لضمان نقصه بالمرض، والتعليم خارج عن المرض، فالتعليم شيء والمرض شيء آخر.
    وعلى هذا: يكون عليه ضمان النقص، وأما الزيادة فلم يأمره أحد بتعليمه، وعلى هذا: الزيادة التي أدخلها من عند نفسه لا يكون له فيها استحقاق؛ لأنه لم يأمره أحد بهذا التعليم، فليست هناك مقابلة ومكافأة.
    لكن لو كانت الزيادة من جنس التعليم كما لو أخذه وهو متعلم لصنعة، ثم نسي هذه الصنعة، فأخذه وشغله في أعمال أخرى مجانسة لهذه الصنعة، فتعلم فيها جانبا من جنس الجانب الذي كان يتقنه أولا ونسيه، فحينئذ نقول: إن هذا التعليم لما كان مقاربا لجنس الأول لم يكن النقص من كل وجه، فيمكنه أن يعارض ويكافئ، لكن في المرض لا، فالمرض مع التعليم جنسان مختلفان فلا يتكافئان ولا يتقابلان.

    حكم الزيادة في العبد المغصوب ثم النقصان

    قال رحمه الله: [وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة] .
    في الأول كانت الأمثلة كلها من جهة تصرفات الغاصب، وهنا الضمان يكون باليد العادية، فنضمن الغاصب من جهة اعتدائه، فلو أخذ المغصوب مريضا ثم شفي عنده، ثم عاد مريضا مرة ثانية، فرده مريضا، نقول: لما شفي ويده يد عدوان ثبت عليه المغصوب كاملا؛ لأن كل دقيقة وكل لحظة يقوم فيها الغصب فالخطاب متوجه عليه أن يرده، فلما سلم وعوفي وشفي توجه عليه خطاب الله عز وجل برد الحقوق إلى أصحابها فامتنع فأصبحت يده متحملة للمسئولية لو نقص، كما لو أخذه صحيحا ثم مرض عنده، فإذا أخذه مريضا ثم شفي عنده ثم عاوده المرض يجب عليه ضمان النقص العارض بالمرض.
    كذلك أيضا: لو أخذه هزيلا ثم أطعمه وحسن حاله وأصبحت صفاته كاملة بالسمن ونحوه، فعاد مرة ثانية وقصر فيه حتى أصبح هزيلا، فرده هزيلا نقول: اضمن النقص العارض بالهزال، وعلى هذا: يكون التضمين من جهة اليد العادية مركبا من أن الغاصب مطالب شرعا برد المغصوب، فكل تأخير يوجب عليه الضمان.
    ومن أمثلة هذه المسألة في الودائع وما تقدم معنا في الوكيل، إذا أمر برد الشيء وقصر فيه وتأخر فهذا إهمال يوجب أن تنتقل يد الأمانة إلى يد الضمان والاعتداء، فإذا قصد ذلك صار معتديا، وإذا قصر وأهمل صار مهملا فيلزم بالضمان، وهذا هو الذي يؤثر في اليد، فاليد يد معتدية، والغاصب يده معتدية.
    ففقه المسألة: أنه إذا تحسنت حال المغصوب فإنها حال كمال، فيجب عليه أن يرده، فلما قصر وتأخر في الرد ضمن ذلك النقص الذي وقع عنده وتحت يده وتكون يده يد ضمان من هذا الوجه.
    قال رحمه الله: [ضمن الزيادة كما لو عادت من غير جنس الأول] .
    كما لو أنه أخذه وهو صحيح ثم مرض عنده وعلمه صنعة تكافئ المرض، فقد رده بزيادة من غير جنس الأول؛ لأن جنس الأول: الصحة، والزيادة: علم الصنعة، وعلم الصنعة ليس من جنس الصحة، فالصحة باب خاص والعلم باب خاص.
    فإذا: نقول: يجب عليه ضمان النقص الذي حدث في حال اغتصابه للعين.
    قال رحمه الله: [ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما] .
    صورة المسألة في هذا: لو أنه أخذ المغصوب وهذا المغصوب يتقن صنعة، ثم علمه صنعة ثانية من جنس الصنعة نفسها في النجارة أو الحدادة أو الكهرباء أو السباكة، فلما علمه إياها نسي الصنعة الأولى، فبالصنعة الأولى تكون قيمة الرقيق مائة ألف، وبالصنعة الثانية التي علمه إياها تبقى قيمة الرقيق كما هي، ويباع بمائة ألف.
    فليس هناك من نقص، فالصفة -وهي العلم- كاملة، بمعنى: الجنس واحد وليس هناك تأثير في العين المغصوبة، لكن لو أنه اغتصبه وهو يتقن صنعة ثم علمه صنعة ثانية وجعله يعمل فيها فنسي الصنعة الأولى التي هي من جنسها، وكانت الصنعة الثانية أقل، فصارت قيمته ثمانين ألفا، وبالصنعة الأولى تكون قيمته مائة، فيضمن العشرين وهي النقص.
    فإذا: إذا جئنا نقابل ونكافئ النقص الموجود بالزيادة الحادثة فإنه ينظر إلى اتحاد الجنس، فإن اختلف الجنس لم تؤثر الزيادة في النقص، ويجب ضمان النقص ورد العين زائدة دون دفع شيء للغاصب.
    أما إذا كانت الزيادة من جنس الشيء الناقص فإنه في هذه الحالة ينظر: فإما أن تساوي أو تكون أكثر أو تكون أقل، فإذا كانت مساوية فلا إشكال، وإن كانت أقل ضمن النقص، وإن كانت أكثر رده بالزيادة، هذا بالنسبة لقوله: (إلا أكثرهما) .

    الأسئلة

    حكم تنازل المغصوب منه عن حقه

    السؤال إذا صرف الغاصب الشيء المغصوب في منفعة أرادها المالك فما الحكم في ذلك؟
    الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إذا تصرف الغاصب ورضي المغصوب منه عن تصرفه وأقره فهذه المسألة تأتي على صور عديدة، ومن أشهرها: أن تنتقل إلى مسألة الصلح، ويرضى المغصوب منه بما فعله الغاصب على سبيل الصلح والمعاوضة، خاصة إذا كانت هناك زيادات توجب المقابلة، بحيث يجعل حقه مقابل ما أحدثه الغاصب.
    أما من حيث الأصل الشرعي إذا رضي المغصوب منه تصرف الغاصب فقد سقط استحقاقه، أي: في هذه الحالة إذا قال: رضيت وما فعله أقبله، ولا أريد أن يدفع لي زيادة، فقد سقط استحقاقه.
    أخذ دوابا قيمتها -مثلا- خمسون ألف ريال، وردها ناقصة مريضة قد أصبحت قيمتها ثلاثين ألفا، فقيل له: ما حقك؟ قال: ما أريد شيئا وأنا راض بهذا التصرف، وتنازل عن حقه وأبرأه، فلا إشكال.
    فنحن نتكلم عن الأصل، أن الأصل يوجب الضمان لكن إذا رضي المغصوب منه وأقر فعل الغاصب، أو -مثلا- ضرب المصوغ فرضي المغصوب منه وقال: أريد مضروبا، فحينئذ لا إشكال، فهو لا يريد أن يطالب بحق في ذلك، والتصرف الذي في ماله مقبول عنده، فيسقط استحقاقه بالرضا، والله تعالى أعلم.

    أسباب ضعف الهمة في طلب العلم

    السؤال ما نصيحتك لمن يفتر عن طلب العلم ولا يصبر على مكابدة مسائله، وكيف تقوى الهمة في طلب العلم؟
    الجواب ضعف الهمة في طلب العلم له أسباب، أعظمها وأخطرها وأشدها: سوء النية وتغير الطوية، فالله تعالى يقول في كتابه: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد:11] فالعلم فيه حجة، فلربما دخل طالب العلم وقلبه لله، فإذا وجد حلاوة العلم ولذته؛ لأن للعلم حلاوة وله لذة وكرامة وأنس، ومن ذاق لذة العلم نسي كل لذة سواها، ومن خاض بحور العلم وخاض في هذه العلوم المستفادة والمستقاة من نور الكتاب والسنة ألهته عن كل شيء، وكان العلماء رحمهم الله يتحدثون بما وهبهم الله من فضله.
    ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جنتي في صدري) ، فالعلم جنة لا يعرف حلاوتها ولا لذتها ولا بركتها ولا خيرها إلا من وفقه الله عز وجل، فأتم عليه النعمة وكملها، أسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
    فإذا وجد لذة العلم وأحس أن الله علمه وأنه قد ارتقى عن مستوى الجهل ربما اغتر، وظن أن له من الحول والقوة والذكاء والحفظ ما مكنه من ذلك، فإذا غير ما بنفسه غير الله ما به، فسلبه الله حوله وسلبه قوته، وأصابه بالخذلان والفتور.
    النية هي التي تؤثر في همة طالب العلم، والنية هي الوقود الصالح الذي تتقد به القلوب وتشتعل بنور الإيمان حتى تتعلق بالله سبحانه وتعالى في كل كلمة وفي كل حرف، فلا تشتكي سآمة ولا مللا.
    ولذلك نجد السلف الصالح رحمهم الله لما كانت نيتهم خالصة لله عز وجل -نحسبهم ولا نزكيهم على الله عز وجل- تغربوا عن الأوطان، وفارقوا الأهل والولدان، وحصل لهم من المشاق والمتاعب ما الله به عليم، وكان الرجل ينتظر الحديث الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نجده اليوم من أسهل ما يكون مدونا في الكتب، كان الرجل يجلس على طعامه ولم يفطر يوما وهو في شدة الجوع فإذا جلس يهيئ طعامه بنفسه، قيل له: إن الشيخ الفلاني له مجلس في مسجد كذا يريد أن يحدث، فيترك طعامه وينطلق إلى الشيخ، وهو جائع ولكن الله يطعمه، وهو في شدة الإعياء ولكن الله يمده بحوله وقوته، جنة في الصدور تنسي الإنسان السآمة والملل والتعب والنصب.
    منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا، فتجد طالب العلم له الهمة الصادقة والإخلاص، ومن صدق مع الله صدق الله معه.
    أما الأمر الثاني الذي يؤثر في طالب العلم: الجهل بحقيقة هذا العلم، ومن عرف هذا العلم ومكانته عند الله سبحانه وتعالى وعاقبته المحمودة في الدنيا والآخرة؛ هان عليه كل شيء، وبذل كل ما يستطيع لبلوغ هذه المنزلة الكريمة، والدرجة الشريفة المنيفة، وهو يسأل الله صباح مساء أن يكون من أهلها، إذا عرف حق العلم وقدره لن يسأم ولن ينصب ولن يشتكي التعب ولا السآمة ولا الملل؛ ولذلك قال الله عز وجل: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11] ما رضي الله سبحانه بشيء يقرنه بأحب الأشياء إليه وأعظمها زلفى لديه وهو الإيمان به سبحانه وتوحيده الذي أنزل من أجله كتبه وأرسل من أجله رسله إلا العلم فقال: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11] فقرنه بالإيمان.
    ثم قرنه بالإيمان في الثواب والعاقبة، وهذا من أفضل ما يكون وأجل ما يكون، لأنه لو قرن العلم بالإيمان من الجهة العامة على سبيل الإطلاق والعموم فليس كقرنه من جهة الثواب؛ لأن المقصود الأعظم من الأعمال والأقوال والطاعات: ثوابها وعاقبتها وجزاؤها؛ لأن العبد ينتظر من الله حسن الجزاء، فإذا قرن الله أعظم الأشياء عنده وأجلها وأكرمها عليه بالعلم دل على أن العلم في منزلة عظيمة، ومرتبة شريفة كريمة.
    ولذلك وقف الهدهد بين يدي سليمان عليه السلام الذي ما على وجه الأرض يومها أحد أكرم على الله منه، فوقف أمامه وهو طائر، ولكن بسبب العلم تشرف أن يقول له: {أحطت بما لم تحط به} [النمل:22] فللعلم مكانة ومنزلة، تبوأ بها صاحبه المنزلة الكريمة في الدنيا والآخرة.
    إذا أردت شرف العلم وعرفت ماذا يريد الله بهذا العلم جعلك الله عز وجل في همة كاملة، لا تسأم ولا تحس بالسآمة ولا الملل متى ما عرفت شرف ما تطلب.
    إن الذي تطلبه أحبه الله عز وجل وشرفه وكرمه، وأحب أهله وجعلهم من خيرة خلقه، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أحب الله العلم وشرفه وكرمه، فاختار أهله في أشرف المواطن وأحبها وأعزها عنده سبحانه وتعالى بعد التوحيد وهي الصلاة، فلا يتقدم لإمامة الناس إلا عالم، فقال صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) انظر كيف النبي صلى الله عليه وسلم يشرف أهل العلم، فجعلهم بين الناس وبين ربهم في الإمامة التي هي المقام الشريف والمنصب المنيف، فيكون بين العباد وبين ربهم مؤتمنا على أركان الصلاة وشرائطها وواجباتها, فهو شرف عظيم فيتحمل حتى سهو المأموم، كذلك أيضا شرف الله العلم ورفع قدر أهله إذا تكلموا به, ففي يوم الجمعة من تكلم وقال لأخيه: أنصت فقد لغى.
    ومن شرفه: أنه إذا تكلم بعلم أمر الله غيره أن ينصتوا, فلذلك تأتي الملائكة يوم الجمعة على أبواب المساجد ويكتبون من بكر وابتكر, حتى إذا قام الخطيب يخطب طووا الصحف وأنصتوا, أنصتوا للعالم الرباني الذي يتكلم عن علم وبصيرة.
    ومن شرف العلم: أن الناس تنتظر من يدلها على الله ويهديها إلى صراطه, الناس أموات لا يمكن أن يحيوا إلا بالعلم, والناس في ظلام لا يمكن أن يهتدوا إلا بالله عز وجل ثم بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء, والناس في شقاء لا سعادة لهم إلا إذا تعلموا وعلموا, والناس في عذاب لا يمكن أن يرحموا إلا بالعلم, ولذلك قال الله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204] هذا فقط وأنت تستمع إلى القرآن, فكيف إذا استمعت ووعيت؟ فالرحمة تامة كاملة, فالأمة لا تزال في عناء وتعب وشقاء حتى تعرف قيمة هذا العلم وتعرف شرفه, ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله أعرف الناس بالعلم, وأولهم الصحابة رضوان الله عليهم, الذين عرفوا حق هذا العلم حينما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبوه صغارا وكبارا, ورجالا ونساء, فالنساء يقفن ويقلن: (يا رسول الله! غلب الرجال على حديثك فاجعل لنا يوما) .
    وهذا من محبتهن للعلم وشعورهن بفضله.
    وقال سهيل لما رجع إلى أهل مكة قال: (والذي يحلف به سهيل! ما رأيت أشد حبا من أصحاب محمد لمحمد صلى الله عليه وسلم, والله ما كلمهم إلا أطرقوا وكأن على رءوسهم الطير, وما رمقوه بأبصارهم) .
    رضي الله عنهم وأرضاهم.
    وعرف السلف الصالح فضل هذا العلم حينما تتلمذوا على العلماء، فتجدهم حريصين على مجالستهم وعلى حبهم حريصين على نقل فتاويهم ونشر الخير عنهم؛ حتى أصبحت الأمة في عز مجدها وعلو شأنها لما عرفت حق العلم.
    والله لا يمكن لهذه الأمة أن تنال الخير في الدين والدنيا والآخرة إلا بهذا العلم, ولا يمكن أن تناله إلا بفضل الله ثم بفضل العلماء وطلاب العلم, ولا يمكن لطلاب العلم أن ينالوا هذا العلم بهمة صادقة لا تعب فيها ولا نصب ولا سآمة ولا ملل إلا إذا عرفوا حق هذا العلم.
    فالمقصود: أن الهمة تستقر بمعرفة منزلة العلم، وانظر إلى التاجر في موسمه يسهر ليله ويبلي جسمه وتصيبه الأمراض في بعض الأحيان، فيكون مريضا، فإذا رأى الدنانير والدراهم ألهته عن مرضه وسقمه, فكيف بمن يرى رحمة الله عز وجل؟ فطالب العلم في كل كلمة يسمعها ترفع له درجة ومنزلة, وحالك اليوم ليس كحالك بالأمس.
    ومن شرف مجالس العلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يغفر للعبد الشقي الذي يمر ويجلس اللحظة من ذكر الله عز وجل في مجلس العلم, وجاء في الحديث: (تقول الملائكة: إن فيهم فلانا -أي: أنه عبد خطاء كثير الذنوب, مر فجلس معهم- فيقول الله تعالى: وله قد غفرت, هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) الله أكبر! حتى مجالس العلم فيها السعادة والرحمة، تقوم منها وأنت منشرح الصدر مطمئن القلب, إذا عرف طالب العلم قيمة العلم تعب من أجله.
    كذلك مما يعين على الهمة الصادقة الشكر: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7] طالب العلم الذي يريد أن يقوم من المجلس يشتاق إلى الذي بعده وبمجرد ما أن ينتهي من المجلس وقلبه معلق بالله عارف بحق الله وحق عباده, فيشكر لله عز وجل ويقول: اللهم لك الحمد علمتني ما لم أكن أعلم.
    وكم من أمم تنتظر من يعلمها؟! كل سطر تقرؤه وتسمعه ترفع به الدرجات والحسنات، وهو رفعة لك في الدنيا ومرضاة لربك.
    فإذا: إذا نظرت أنك أصبت رحمة وأصبت خيرا وبرا فقل: الحمد لله, يرضى الله عنك وفي الحديث: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها) ، فكيف بمن أصاب لذة العلم التي هي أشرف من الطعام والشراب؟! فلا تقم من مجلس علم إلا وأنت تحمد الله وتشكره وتثني على الله بما هو أهله, فإن الله يقول لنبيه: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] .
    طالب العلم إذا شكر نعمة الله وهبه الله الفتح, وزاده من الهمة الصادقة، وكذلك عليه أن يشكر نعمة العلماء, فيذكر فضل السلف الصالح, سل نفسك: كم من مجلس علم جلسته ولما قمت من المجلس ترحمت على صاحب الكتاب, وسألت الله أن يرحم سلف هذه الأمة الذين حفظوا العلم ووعوه وتعبوا من أجلك حتى أصبح العلم اليوم سهلا بين يديك, تنثر أمامك دواوين العلم من أئمة السلف الصالح, وتعيش الساعات واللحظات وأنت في أنس عظيم، بين يديك الأئمة وفحول العلم؟ فهل شكرت فضلهم بعد شكر الله عز وجل؟ ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
    فطالب العلم الميت القلب ا


  14. #374
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب الغضب )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (374)

    صـــــ(1) إلى صــ(17)




    شرح زاد المستقنع - باب الغصب [5]

    قد يتصرف الغاصب في المغصوب بخلطه مع غيره، فلا يؤدي هذا إلى سقوط حق المغصوب منه، بل يحفظ حقه ويؤدى على تفصيل عند العلماء.
    وكذلك قد يتصرف الغاصب في المغصوب بإعطائه للغير أو حتى لصاحب الحق لكن دون علمه، فكذلك لا يسقط حق المالك الأصلي بل يؤدى له على تفاصيل عند العلماء رحمهم الله.

    أحكام اختلاط المغصوبات بغيرها

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وإن خلط بما لا يتميز كزيت أو خلطه بمثلهما] .
    شرع المصنف -رحمه الله- في هذا الفصل في بيان جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالتصرف في الشيء المغصوب، بخلطه مع غيره، سواء كان ذلك الغير ينفصل عن المغصوب أو كان يمتزج معه حتى يصيرا كالشيء الواحد، ومن عادة العلماء -رحمهم الله- أنهم إذا بينوا أحكام الغصوبات أن يبينوا حكم هذه المسألة؛ لأن هناك مغصوبا يترك على حاله، ومغصوبا يتصرف فيه الغاصب، وهذا الفرض العقلي لا بد من بيان حكمه، وإذا تصرف فيه، فإما أن يتصرف في منافع المغصوب -وقد تقدم بيانها- وإما أن يتصرف في ذات المغصوب دون إضافة شيء عليه أو نقص شيء منه، وقد تقدم بيانه.
    أما اليوم فالحديث عن الخلط، بمعنى: إضافة شيء إلى المغصوب، وإذا خلط بالمغصوب غيره فهناك صورتان:
    خلط المغصوب بشيء يمكن فصله وتمييزه

    الصورة الأولى: أن يكون ذلك الغير مما ينفصل عن المغصوب ولا يتصل به، بحيث يمكن أن يفصل كل واحد منهما عن الآخر.
    الصورة الثانية: أن يكون العكس، بحيث يمتزجان ويختلطان حتى يصيرا كالشيء الواحد، ويصعب حينئذ تمييز الشيء المغصوب عما خلط به.
    فأما الصورة الأولى، وهي: أن يقوم الغاصب بخلط المغصوب بغيره بحيث يمكن التمييز، فمن أمثلتها: أن يغصب تمرا، ثم يخلط التمر بالبر، فالبر شيء والتمر شيء، وحينئذ لا إشكال في تمكن الغاصب من فصل حق المغصوب منه عن حقه هو، فنقول له: يلزمك حينئذ أن تفصل المغصوب عما خلطته به وترده إلى صاحبه، في هذه الحالة -إذا خلط المغصوب بشيء يمكن تمييزه- عندنا حكمان: الحكم الأول: أنه مطالب بالتمييز.
    والحكم الثاني: وهو متعلق بالحالات الخاصة، وهي التي لا يمكننا فيها التمييز إلا بمشقة وكلفة وأجرة وعمل، فإن أمكن التمييز بأن يقول الغاصب: أنا أميزه، كرجل اغتصب أرزا وخلطه ببر، وكان الأرز نصف صاع والبر نصف صاع، فشيء يسير يمكن فصله وفصل بعضه عن بعض، لكن لو اغتصب -مثلا- عشرة آصع من البر وخلطها بعشرة آصع من الأرز، فهذا يحتاج إلى مشقة وعناء، وإلى وقت وإلى زمان، نقول: تستأجر من يقوم بذلك، ويلزم الغاصب بدفع القيمة؛ لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه، ولما كنا مأمورين برد هذا المغصوب إلى صاحبه وتوقف هذا الرد وإبراء ذمة الغاصب على استئجار من يقوم به، لزمه أن يستأجر وأن يرد الحق إلى صاحبه، ولو كلفه ذلك قيمة المغصوب أو أكثر، فلو فرضنا أن تمييز المغصوب عما خلط به يكلف مائة وقيمة المغصوب ثمانون، يقال: أنت ملزم بالفصل حتى ولو كانت التكلفة أكثر من القيمة؛ لأنها جناية يد يلزمه ضمانها كما تقدم معنا في أجرة رد الشيء المغصوب إلى المغصوب منه، هذا بالنسبة للصورة الأولى التي يخلط فيها الشيء المغصوب بما يمكن تمييزه، والحكم فيها واضح، والسبب في عدم ذكر المصنف -رحمه الله- لهذه الصورة: ظهور الحكم فيها ووضوحه.

    خلط المغصوب بشيء لا يمكن تمييزه عنه

    أما إذا خلط المغصوب بشيء لا يمكن تمييزه عنه، فهذا يأتي على أحوال: ففي ببعض الأحوال تكون عين المغصوب موجودة، ولكنها تمتزج مع الشيء الذي اختلطت به من جنسها كزيت بزيت، وأرز بأرز، وبر ببر، وتمر بتمر -من نوع واحد- فحينئذ عين المغصوب موجودة، ولكن لا نتمكن من فصل حق الغاصب من حق المغصوب منه.
    الصورة الثانية: أن يكون الخلط بشيء ليس من جنس المغصوب، كأن يخلط -كما ذكر المصنف- الدهن بالسويق، فحينئذ الدهن شيء والسويق شيء، لكن حينما خلطا مع بعضهما صارا كالشيء الواحد، وكمن اغتصب سمنا فصنع به طعاما، وكمن اغتصب دهنا من زيت ونحوه فقلى به طعاما أو نحو ذلك، ففي هذه الحالة يكون الحكم مخالفا للمسألة الأولى.
    إذا خلط المغصوب بشيء من جنسه: كأن يجعل الزيت مع الزيت والأرز مع الأرز والتمر مع التمر، فحينئذ إما أن يكون الشيء الذي أدخله على المغصوب أغلى ثمنا وأجود، وإما أن يكون مثله في الجودة والثمن، وإما أن يكون أردأ منه، كرجل أخذ منك لترا من زيت الزيتون ووضعه مع لتر آخر من زيت الزيتون، فإما أن يكون مثله في القيمة والجودة والرداءة ومن نوع واحد وقيمتهما واحدة، وإما أن يكون أغلى منه وأجود منه -الذي يكون حق الغاصب - أو يكون حق المغصوب أغلى وحق الغاصب أرذل.
    فإذا خلطه بمثله وكانا بصفة واحدة وثمن واحد، فحينئذ قال طائفة من العلماء: يجب على الغاصب أن يرد قدر المغصوب، فلو اغتصب صاعا من تمر وخلطه مع صاع آخر، نقول له: خذ من هذا المخلوط صاعا واحدا، وفقه المسألة يقوم على أن الغاصب له حق، والمغصوب منه له حق، وكلا الحقين مشتركان في الصاعين، فلو أننا قلنا لصاحب المغصوب: خذ الصاعين.
    ظلمنا الغاصب، ولو أننا قلنا للغاصب: خذ الصاعين.
    بقي الأصل كما هو والظلم كما هو، فالعدل أن يقال: رد إلى صاحب العين المغصوبة قدر ما اغتصبت صاعا أو لترا -إذا كان زيتا أو نحوه- فإذا رده ربما يعترض معترض ويقول: إننا لم نرد عين المغصوب؛ لأن الذي رد هو المغصوب، ومعه حق الغاصب، ف
    الجواب رددنا عين المغصوب ورددنا مثله، والضمان في الغصب إما أن ترد الشيء المغصوب أو ترد ما هو مثل له، فلو أنه اغتصب صاعا وخلطه بصاع آخر وامتزجا مع بعضهما فإنه حينئذ لو أنك أخذت صاعا من هذا المخلوط، وقدر نسبة المغصوب النصف، فالنصف الثاني يعتبر بمثابة المثلي للمغصوب؛ لأنه مثله في الجودة، ومثله في القيمة والسعر، فليس هناك ضرر، فإذا قال لك قائل: لماذا عدلت إلى المثلي؟ تقول: لأنه تعذر العين، وتعذر أن نضمن العين، فنلزمه بضمان المثل، والشريعة تلزم بالعين متى أمكن ردها، وتلزم بالمثلي إذا تعذر رد العين، وهذا هو المذهب الصحيح؛ أنه إذا خلط الصاع بصاع مثله؛ وجب ضمان الصاع من المخلوط، إذا اتفقا جودة ورداءة واتفقا قيمة، فحينئذ يضمن لصاحب الحق بقدر حقه قل أو كثر.
    وهناك من العلماء من يقول: يخير الغاصب، ونقول له: أنت بالخيار إن شئت أخذت صاعا من هذا الذي اختلط، وإن شئت طالبت بالمثلي من خارج المخلوط، ولكن الصحيح ما ذكرناه، أنه يضمن له حقه؛ لأنه إما أن يأخذ العين أو يأخذ المثل، وعندنا قاعدة وهي: (أنه لا يصار إلى البدل متى ما أمكن الرجوع إلى العين) .
    أي: ما دام أنه يمكننا أن نرجع إلى العين ونستوفي منها الحقوق، فلا يمكن أن ننتقل إلى البدل والمثل، وهنا لو قلنا له: أعطه صاعا مثل الصاع الذي أخذته، فإنه يضمن البدل ولا يضمن الذات، ولا شك أنك لو ضمنت بعض الذات أفضل من أن يكون الضمان خارجا عن الذات كلها، ولهذه القاعدة دليل سنبينه -إن شاء الله- في قصة حكومة سليمان مع داود عليهما السلام في قضية الغنم، حيث إن الله تعالى صوب حكم سليمان بمراعاته لهذه القاعدة.
    الحالة الثانية: أن يكون الشيء الذي أدخله على المغصوب أجود من الذي اغتصبه، مثال ذلك: لو أخذ أرزا وخلطه بأرز أجود وأفضل من الأرز الذي أخذه، كأن يكون -مثلا- الأرز الذي أخذه الكيلو منه بخمسة ريالات، والأرز الذي خلطه به من نفس النوع ولكن قيمة عشرة ريالات، فحينئذ يكون الخلط بما هو أجود وبما هو أغلى ثمنا، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: إذا خلط الأرز أو الدقيق أو التمر ونحو ذلك بما هو أجود منه، ننتقل إلى المثل؛ لأنه لا يمكن فصله، فحينئذ نقول له: انتقل إلى مثله.
    ونترك الاثنين للغاصب، أي: العين المغصوبة -الذي هو الصاع المغصوب- مع ما هو أجود منه، يترك للغاصب، ونقول للغاصب: ابحث عن مثل ما اغتصبته، وهو صاع يعادل الصاع الذي أخذته في الصفة والقيمة.
    وقال بعض العلماء: يلزم الغاصب بدفع صاع من المخلوط الذي فيه الجيد الذي له، فإن أبى فرض عليه ذلك -هذا إذا رضي المغصوب منه- ونلزمه بأخذ صاع من هذا المخلوط حتى ولو كان أجود.
    وحينئذ يرد
    السؤال كيف نلزم الغاصب بدفع شيء من حقه، مع أنه أجود؟ قالوا: ألزمناه بدفع الصاع من هذا المخلوط؛ لأن عين المغصوب موجودة فيه، فإذا ألزمناه بدفع صاع كان بعض العين مضمونا، فيبقى الزائد بقدر الصاع مما يؤخذ من المخلوط وهو ملك لصاحبه؛ لأنه هو الذي تسبب في الخلط، فتصبح زيادة يستحقها صاحب المال؛ لأنها من تصرفات الغاصب التي فيها العمد والعدوان، بمعنى: كأن الغاصب هو الذي جنى على نفسه، وهو الذي يتحمل مسئولية جنايته، فلم يأمره أحد بالخلط، ويده يد عادية؛ لأنها دخلت على مال الغير، ورضي بإتلاف ماله بإدخاله مع مال الغير، فيتحمل مسئولية الضرر في النقص الحاصل على مالك، ونقول حينئذ: يلزمك أن تدفع الصاع، ويلزم المغصوب منه.
    قالوا: لو قال المغصوب منه: لا أريد، وأريد صاعا مثل صاعي من غير المخلوط، فهل يطاع ويلزم بضمان المثلي؟ قولان للعلماء، والصحيح: أنه لا يطاع بل يلزم بأخذ الصاع مما اغتصب منه، أي: من المخلوط.
    السؤال الذي يرد: لماذا ألزمناه؟ لأنه تبقى العين، وتبقى اليد في القدر الذي سيكون في داخل الصاع، هذا وجه.
    والوجه الثاني: وجود الجيد والأفضل إنما هو حقه وزيادة، وكونه يقول: لا آخذ.
    ليس له موجب شرعي، وإذا قال: لا آخذ، فهذا نوع من التفريط، فلو قال: أريد مثلا من خارج، صار فيه ضرر على المالك؛ لأنه في هذه الحالة يذهب ويتكلف شراء الصاع من خارج، وحقه مضمون والجيد فيه المثل وزيادة، فليس هناك من مظلمة حتى يقول: أريد الغير.
    فيجب حينئذ إعطاؤه صاعا من المخلوط الذي هو أجود.
    إذا: في حالة الاستواء وفي حالة الأجود يطالب الغاصب بدفع قدر مال المغصوب، سواء رضي المغصوب منه أو لم يرض، لكن لو خلطه بما هو أردأ.
    فقال بعض العلماء: يضمن له مثل ما أخذ، ولا يعطي من الخلط؛ لأنه في هذه الحالة كأنه أتلف، وكأنه استهلك العين.
    وقال بعض العلماء: يطالب بأخذ الموجود، ويضمن له قدر النقص من المال نفسه أو من مثله، وهذا هو الأقوى والصحيح.
    ففي الثلاث صور حكمنا بالضمان من نفس المال، وهذا راجع للقاعدة التي ذكرناها، فالأصل بقاء اليد حتى يدل الدليل على رفعها وتحويلها إلى المثل أو القيمة.
    والدليل على أننا نلزم المغصوب منه بالأخذ من عين ماله سواء كان في حالة الجودة أو الرداءة أو حال المثلية: قضية داود وسليمان وهي: رجل كان عنده غنم.
    وجاءت الغنم في الليل ورعت فأفسدت زرع رجل آخر، فاختصما إلى داود عليه السلام، فنظر داود عليه السلام فوجد أن قيمة الزرع تعادل قيمة الغنم، يعني: لو فرض أن الزرع قيمته مائة فالغنم قيمتها مائة، فحكم عليه السلام بأن صاحب الأرض يملك الغنم، وأثبت هذا الحكم من جهة أن صاحب الغنم مالك لها، متحمل لمسئوليتها ولكل ما ينشأ من الضرر منها، فألزمه بضمان حق صاحبه، فحكم بالغنم لصاحب الزرع، فلما خرج من عند داوود، قال سليمان: لو كان الأمر إلي لقضيت في هذا بغيره، قيل: وما تقضي؟ قال: أقضي بأن صاحب الغنم يأخذ الأرض فيعيد زراعتها ويردها كما كانت، وأحكم لصاحب الزرع أن يأخذ الغنم، فيحتلبها وينتفع من صوفها حتى يرد له صاحب الغنم أرضه كما كانت، فيرجع صاحب الزرع إلى زرعه وترجع الغنم إلى صاحبها.
    فأثنى الله على حكم سليمان، والسبب في هذا: أن داود عليه السلام حكم بأن الغنم تصبح مستحقة لصاحب الأرض، فأخرج ملكية الغنم، ونزع يد صاحب الغنم عن الغنم، مع أن الغنم ملك له في الأصل.
    فصوب الله حكم سليمان وجعله أصوب، وقال: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء:79] ، وهذا يدل على أن العلماء إذا اختلفوا وكل منهم اجتهد بدليل شرعي، فإن الكل مفهم من الله وكل لا يلام، وكل لا يثرب عليه، ولا يقبح الخلاف ولا يشنع ولا ينتقص من مكانتهم، بل يزيدهم فضلا إلى فضلهم ونبلا إلى نبلهم؛ لأنهم بذلوا ما في وسعهم.
    فحينئذ لما حكم الله سبحانه وتعالى بأن الغنم تبقى لصاحبها، والأرض تبقى لصاحبها أبقى اليد كما هي، وهذا هو الذي نريده: إبقاء الأصل على ما هو عليه، فأنت إذا نظرت إلى مسألة الغصوبات، فالأصل أن هذه العين المغصوبة تبقى ملكا لصاحبها، ولا يحكم بانتقالها إلى الغاصب إلا بدليل، وحينئذ نقول: متى ما أمكن رد الزيت، أو الحبوب، أو الثمار التي خلطت بغيرها -مع أنه أجود أو أردأ- فإننا نقول بالرد، ونوجب على من فعل ذلك ضمان النقص إن وجد، ونلزمه بالدفع إن امتنع في الأجود والأحسن؛ لأنه هو الذي فرط وهو الذي ضيع ماله.
    هذا إذا كان الخلط للمغصوب من جنسه، وهو الذي يمكن أن تخرج قدر المغصوب منه، فمن غصب صاعا أخرجت منه صاعا، ومن غصب صاعا وخلطه بصاع من بر، فيمكن أن تخرج من الاثنين صاعا واحدا، ولكن الإشكال إذا حصل الخلط لطعام لا يمكن الفصل فيه، فمن أخذ السمن واستهلكه في الطعام أو أخذ الدهن وخلطه في السويق فلا يمكن أن ترد السمن إلى حاله، ولا يمكن أن ترد السويق إلى حاله، فحينئذ يحكم بإلزامه ضمان مثل العين التي أتلفها.
    الخلاصة: أنه إما أن يخلط على وجه يمكن التمييز والحكم فحينئذ يطالب الغاصب بالتمييز، وعليه مؤونة التمييز إن كان في ذلك كلفة ومشقة.
    الحالة الثانية: أن يخلطه فلا يمكن تمييزه، فإما أن يخلطه بشيء من جنسه كزيت بزيت، وبر بر، وتمر بتمر.
    فنقول له حينئذ: إن كان أجود أو كان مثليا لزمك أن تدفع مثله.
    ويكون النقص على الغاص

    حكم صبغ الغاصب لثوب غصبه

    قال رحمه الله: [أو صبغ الثوب] .
    مسألة صبغ الثوب تعتبر من إدخال العين التي لا يمكن فصلها غالبا إلا مع الحرج أو مع الإضاعة للمغصوب، ففي القديم كانت أحوال الناس ضيقة، ولم يكن القماش بالسهولة التي تتيسر للناس الآن، فإذا أخذ ثوبا ربما يلبس الثوب هذا أربع سنوات ويبقى معه.
    ففي السنة الأولى يلبسه أبيض مثلا، وفي السنة الثانية يصبغه أزرق وفي السنة الثالثة يصبغه بصبغ ثالث، وهذا لا يضره، بل هذا يدل على البركة التي كانت في أموالهم، كان الشيء يبقى.
    وهذا دليل على كثرة البركة في الأشياء.
    ولذلك أخبر عليه الصلاة والسلام أنه في آخر الزمان تنزع البركة كما في صحيح مسلم: (أنه إذا نزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان أنه توضع البركة في الأرزاق والأقوات، حتى إن الشاة الواحدة يطعمها أربعون رجلا) وهذا من البركة، فكانوا في القديم يصبغون الثياب، وصبغ الثوب للحاجة؛ لأنه لا يستطيع أن يبقى به على لون واحد، فيصبغه للحاجة، فإذا صبغ الثوب فمادة الصبغ ستدخل داخل الثوب، ولا يمكن فصل مادة الصبغ عن الثوب، إلا إذا رد الثوب إلى اللون الذي كان عليه بصبغ ثاني فهذا شيء آخر.
    فلا يمكن فصل الثوب، إلا بعض العلماء قالوا: يمكن في بعض الأحوال بمشقة وعناء وفيه كلفة على الغاصب.
    فمن أهل العلم من قال: إذا غصب ثوبا فيلزم الغاصب بقلع الغصب.
    ومنهم من قال: لا يلزم بذلك، ويأخذ المغصوب منه ثوبه، فإذا أخذ الثوب مصبوغا، فإما أن تنقص قيمته بسبب الصبغ، وإما أن تزيد قيمته بسبب الصبغ، وإما أن يبقى بقيمته التي كان عليها، فإذا نقصت القيمة نقول للغاصب: ادفع النقص، فمثلا: لو كان الثوب بخمسين ريالا بدون صبغ، ومع وجود الصبغ يباع بخمسة وعشرين، فنقصت النصف، فعند ذلك يلزم بضمان نصف قيمته، وإذا كان الصبغ يزيد في القيمة، فأصبحت قيمته مائة أو أكثر، فإنه يملكه المغصوب منه ولا شيء للغاصب، وأما إذا بقي على قيمته فلا إشكال.
    قال رحمه الله: [أو لت سويقا بدهن أو عكسه] .
    (أو لت سويقا بدهن) غصبه، أو غصب السويق ولته بدهن من ملكه، فالحكم مثل ما ذكرنا، إما أن يزيده أو ينقصه أو يساويه.

    الانتقال من الغصب إلى الشراكة

    قال رحمه الله: [ولم تنقص القيمة ولم تزد، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه] .
    بقدر قيمة المالين، فعلى ما اختاره المصنف -رحمه الله- يدخلان شريكان في المالين بقدره، فصاحب الصبغ إذا كان صبغه يعادل سبع قيمة الثوب فله السبع، وإن زاد إلى الثلث فله الثلث، والعكس أيضا، ويفصل في المسألة على نفس التفصيل الذي ذكرناه في الحقوق.
    قال رحمه الله: [وإن نقصت القيمة ضمنها] .
    إذا كان بسبب الغصب، بمعنى: أن نقص القيمة تارة يكون بسبب السوق وهذا لا نتكلم فيه؛ لأننا بينا أن غلاء سعر المغصوب أو نقصه ليس من دخل الغاصب ولا يتحمل الغاصب المسئولية؛ لأن هذا من قدر الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى لحكمته يتأذن برفع الأسعار وغلائها ويتأذن برخصها، على ما يشاء سبحانه وتعالى، وليس للناس في هذا دخل، ولا يلام الناس في هذا، فالغاصب إذا زادت القيمة فليس بملام، وإذا نقصت القيمة ليس بملام؛ لأن هذا ليس من يده ولا من صنعه، وقد بينا أن هذه المسألة إجماعية وأن الذي خالف فيها هو الإمام أبو ثور إبراهيم بن يزيد الكلبي رحمة الله عليه، وكان يقول: يلزمه ضمان النقص الحاصل بالأسواق، وبينا أن هذا القول ضعيف ولا يفتى به ولا العمل عليه.
    قال رحمه الله: [وإن زادت قيمة أحدهما فلصاحبه] .
    فإذا دخل شريكان في الثوب أو في السويق وغلت القيمة لأحدهما، فأصبح -مثلا- الصبغ الذي صبغ به الثوب غاليا وارتفعت قيمته، فإنه يكون الغلاء من حظ الغاصب، ويدخل الغاصب في الشراكة بحسب القيمة التي زادت لصبغه، وكذلك أيضا لو لت السويق مع الدهن، لو غلا سعر الدهن كان للغاصب، ولو غلا سعر السويق كان الغلاء لصاحب العين المغصوبة، يفصل فيه على حسب.
    لأن فقه المسألة: أن الغاصب له حق والمغصوب منه له حق، فإن كان الغلاء في العين المغصوبة فهو حق لصاحب العين المغصوبة، ويحسب من قيمة العين، وإن كان الغلاء للشيء الذي أدخله الغاصب فهذا حقه ويضمن له حقه، فترد للمغصوب حقه بتقدير قيمة العين المغصوبة، وترد للغاصب حقه بتقدير قيمة الشيء الذي أدخله وخلطه مع المغصوب، حتى ولو كانت القيمة غالية، ويستحق قدر ماله إذا كانا شريكين، وحكم بالشراكة على ما اختاره المصنف رحمه الله.
    قال رحمه الله: [ولا يجبر من أبى قلع الصبغ] .
    هذه مسألة خلافية، بعض العلماء يجبره، فمثلا: شخص له ثوب فأخذه غاصب وصبغه بلونه، فبعض العلماء يقول: لما جئنا للمغصوب منه وقلنا له: هذا ثوبك.
    قال: ثوبي أبيض.
    قلنا: الغاصب تصرف فيه وصبغه.
    قال: لا بد أن يرد لي ثوبي كما كان.
    في هذه الحالة صاحب الحق يطالب برجوع العين كما كانت، فبعض العلماء يقول: يتعذر في مثل هذا، وقد يكون فيه إتلاف للثوب، فلا يطاع ولا يجبر الغاصب على قلع الصبغ، واختلفوا في التعليل، فمنهم من يقول: لأننا إذا أجبرناه أتلفنا الصبغ وإتلاف المال منهي عنه شرعا وهو إفساد؛ فما دام أن الثوب صبغ وصلح حال الثوب، وصار إلى تمام وأفضل، فحينئذ نقول له: خذ الثوب، وإن كان الصبغ أثر في الثوب وأنقص قيمته، قلنا له: اضمن له حقه، أما أن يطالب بقلع الصبغ ويصبح الأمر أشبه بالإضرار بالغاصب، وهو يقول: لا بد أن يقلع الصبغ عن ثوبي؛ لأنه إذا قلع الصبغ عن الثوب ربما أضر بالثوب، وتصبح عليه كلفة القلع وكلفة النقص الذي يحدث في الثوب بعد القلع، وحينئذ يكون الضرر أكثر مع إتلاف الصبغ، فهناك أكثر من مفسدة، فقالوا: لا نأمر بهذا.
    ولهذه المسألة نظائر، منها: لو أن رجلا عنده أرض زراعية اغتصبها شخص ثم حفر فيها بئرا، فمن مصلحة المزرعة وجود البئر، فلو قال صاحب الأرض: ما أريد! ظاهر الحال يدل على أن مصلحة المزرعة في البئر، فأصبحت المسألة مسألة إضرار بالغاصب، وأصبح هناك شيء من التعنت والأذية.
    فبعض العلماء يقول: لا يطاع، ولا يلزم الغاصب بردمها، وإن كان بعض العلماء يقول: يلزم بردمها.
    لكن مسألة الصبغ أقوى من مسألة البئر؛ لأن مسألة الصبغ فيها إتلاف للثوب وضرر به، وإتلاف للصبغ نفسه، فأصبح إتلافا للعين، وإتلافا أيضا للمنفعة الموجودة في العين دون وجود مصلحة، وعلى هذا قالوا: لا بجبر على قلع الصبغ.
    حكم من اشترى أرضا تبين غصبها بعد الشراء
    قال رحمه الله: [ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة] .
    هذه مسألة تعم بها البلوى، وهي: أن يشتري شخص من آخر أرضا زراعية، وتبقى هذه الأرض مدة من الزمان، ويتبين أن الأرض ليست ملكا للبائع، وأنها ملك لشخص آخر.
    فالأرض أخذها ميتة فأصبحت حية بالزرع، وأخذها بوارا فبنى واستحدث فيها، فحينئذ الأرض ليست ملكا للبائع، وإذا لم تثبت يد البائع فمعناه: أن المشتري لا تثبت يده، فتنتقل الأرض للمالك الحقيقي، فقال المالك الحقيقي: أريد أرضي، فسنقلع غرس المشتري، وسنهدم أبنيته التي بناها.
    ف
    السؤال من الذي يتحمل مسئولية الضرر المترتب على هذا الخطأ؟ طبعا المسألة لها صور: تارة يكون البائع الأول غاصبا للأرض ويبيعها لشخص ثم يتبين أنه غاصب، فيطالب صاحب الحق ويثبت له القضاء الحق فلا إشكال، وقد تقدمت مسألة بناء الغاصب خاصة إذا اشترى منه الشخص وهو يعلم أنه غاصب.
    لكن إذا كان الشخص لا يعلم، وجاء إلى أرض وأحياها، وبعدما أحياها وزرعها باعها على شخص استخرج لها صكا، وباعها على شخص -مثلا- بمائة ألف، فأخذها الشخص الثاني فأحدث فيها بناء أو غرسا جديدا، حتى أصبحت مثلا بخمسمائة ألف، ثم تبين أن للأرض صكا أقدم من هذا الصك الذي بيعت الأرض به.
    فالسؤال: من الذي يتحمل مسئولية الضرر الذي سيقع على هذا الاستحقاق؟
    الجواب يطالب المشتري بقلع غرسه، ويطالب بهدم بنيانه وإعادة الأرض كما كانت، ثم نقول له: تأخذ قيمة ما دفعت -الذي هو قيمة الأرض- وتطالب الذي باعك بدفع قيمة الكلفة التي تحملتها في نقل الغرس وكذلك هدم البناء.
    فيكون المتحمل للمسئولية البائع الأول؛ لأن البائع الأول كما أن له ربح الأرض كذلك عليه غرمها وخسارتها، والمشتري اشترى على أن يده يد مالكة، وإذا تبين بأن يده ليست بيد مالكة، فحينئذ يضمن هذا التفريط في معرفة حقوق الناس، ويضمن هذا التفريط في الاعتداء على أموال الناس إن كان معتديا، هذا بالنسبة إذا كان البيع من بائع واحد إلى مشتر واحد.
    لكن لو فرض أن خمسة أشخاص تناقلوا هذه الأرض، فالأول باع بمائة ألف، ثم اشترى شخص ثان بعده ثم ثالث ثم رابع ثم خامس، فالخامس إذا طولب بهدم بنائه وقلع غرسه، ننظر في الضرر الذي ترتب على هذا القلع وعلى هذا الهدم وعلى هذا القلع، لو كان يساوي مائتي ألف، نقول له: ارجع بها على من باعك وهو البائع الرابع.
    فالبائع الرابع يدفع المبلغ للمشتري منه، ويرجع الرابع إلى البائع الثالث، ويقول له: تدفع لي المبلغ الذي دفعته لفلان، ثم يقيم الثالث دعوى على الثاني، والثاني يقيم دعوى على الأول حتى تصل للأساس الذي غرر بالجميع، فكل منهم يطالب من غره، ولا ينتقل المشتري الأخير إلى البائع الأول مباشرة.
    لا؛ لأنه ليس بينه وبين البائع الأول أي استحقاق، إنما الاستحقاق الذي وقع والبيع والمسئولية تترتب على البائع الذي ابتاع منه واشترى منه، وحينئذ يقول: اضمن لي حقي في تلف هذه الأعيان التي تلفت بالهدم أو النقص الذي حصل بنقل الغرس، فلو أنه نقل الغرس ومات -لأن الغرس إذا نقل شيء منه يموت وشيء منه يحيا- فيكون الضمان على الصورة التالية: أولا: يتحمل مسئولية القلع للغرس، فلو كلفه القلع عشرة آلاف ريال يلزمه دفعها وتحسب، ثم لو فرضنا أن أعيان المغروسات نقصت بمقدار عشرة آلاف، بعضها مات بسبب النقل وبعضها تلف، وبعضها ضعف حاله، وتردى إنتاجه، فكل هذه الأضرار يتحملها البائع الأخير للمشتري الأخير، ثم يطالب الأخير من باعه بضمان هذه الحقوق حتى يتوصل إلى البائع الأول.
    حكم من أكل طعاما يعلم أنه مغصوب
    قال رحمه الله: [وإن أطعمه لعالم بغصبه فالضمان عليه] .
    شخص اغتصب طعاما من شخص، ثم أخذ هذا الطعام المغصوب وأطعمه مسكينا أو شخصا آخر لا يعلم أنه اغتصبه، فلا يضمن المسكين، ولكن لو علم المسكين أنه اغتصبه ثم أكله؛ لزم الضمان الآكل، أما الغاصب فلا ضمان عليه، بمعنى: أن الآكل أو المسكين أكل مالا علم أنه ليس للغاصب عليه يد، فمعنى ذلك: كأنه متعمد أن يأكل مال الأول، والغاصب ما أكل، فيضمن المسكين للغاصب، والغاصب يضمن لصاحب الحق، أما إذا كان لا يعلم فلا شيء عليه وإنما يضمن الغاصب، وعلى هذا تؤخذ مسألة الأطعمة، ومسألة الاستهلاك في الحقوق، وكلها مرتبة على هذا، ونفس الشيء في المنافع فيضمن له، ويكون الضمان على العالم إذا علم.
    لو أن شخصا جاء واغتصب عمارة، ثم قال لشخص: اسكن في هذه العمارة سنة، فجاء واستأجرها بعشرة آلاف لمدة سنة، وهو لا يعلم بأنها مغصوبة، فهنا لا يضمن المستأجر، ولو تبين أنها مغصوبة أثناء مدة الإجارة انفسخت الإجارة، فصحت فيما مضى وبطلت فيما بقي، إلا إذا شاء صاحب العمارة أن يستمر مع المستأجر فلا إشكال، وهكذا بالنسبة للمركوبات ونحوها، فيكون الضمان على المستهلك، لكن لو علم أن العمارة أو السيارة مغصوبة وانتفع بها لزمه دفع الأجرة ويكون الضمان على العالم، وكما يكون في الأعيان يكون أيضا في المنافع.
    قال رحمه الله: [وعكسه بعكسه] .
    إذا أكل الطعام من لا يعلم أنه مغصوب لا يضمن، وإذا أكل الطعام من يعلم أنه مغصوب ضمن، فأصبحت المسألة في حال العلم وعدمه مختلفة الحكم، إن كان الآكل يعلم أنه مغصوب ضمن، والذي يضمن هو الذي أطعم وأعطى الغير ذلك الطعام.

    متى تبرأ ذمة الغاصب

    قال رحمه الله: [وإن أطعمه لمالكه أو رهنه، أو أودعه، أو آجره إياه، لم يبرأ إلا أن يعلم، ويبرأ بإعارته] .
    إذا اغتصب شخص من آخر حقا أو عينا فإنه تبقى ذمته مشغولة بهذا الحق وتبرأ الذمة بأحد أمرين: الأمر الأول: أن يرد عين الشيء الذي أخذه إلى صاحبه، فيأتيه ويقول له: هذه عمارتك أو هذه سيارتك التي أخذتها خذها، وضمن له نقصها، فحينئذ لا إشكال على التفصيل الذي ذكرناه.
    الأمر الثاني: أن يسامحه صاحب الحق، فيقول له: قد أبرأتك وعفوت عنك، فحينئذ يبرأ.
    ولكن هنا مسألة: لو أن صاحب الحق مات قبل أن يستسمحه الغاصب، كرجل اغتصب أرضا من جاره ثم توفي الجار قبل أن يسامحه، فجاء إلى ورثته وسألهم أن يسامحوه فقالوا له: قد عفونا عن المال الذي أخذته من أبينا وسامحوه، فهل يبقى حق الميت؟
    الجواب اختار طائفة من العلماء أن الميت يكون خصما لهذا الغاصب في المدة التي احتبس فيها حقه عنه إلى أن توفاه الله عز وجل، فلو أنه ظلمه في هذه الأرض عشر سنوات، فإنه يكون غاصبا عشر سنوات ويلقى الله بمظلمة أخيه ولو سامح الورثة، فهم سامحوا في حقهم وليس لهم حق في أن يسامحوا في حق غيرهم، وكل نفس لها حقها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله) ، فجعل التحلل راجعا إلى صاحب الحق الأصلي، لكن بالنسبة للغاصب لا شك أنه إذا سامحه الورثة، فالأمر أفضل وأحسن من كونه يتمادى في الغصب، لكن لا يسقط الاستحقاق الأصلي للمورث -وهو الوالد أو الميت- لأنه يبقى بمظلمته حتى يلقى الله عز وجل بتلك المظلمة، ولذلك يستحب بعض العلماء أن يتصدق عن هذا الميت بعدل حقه، أن يتصدق وينويها صدقه عن هذا الميت بعدل حقه، فإذا فعل ذلك، فإنه يرجى له الخير، وإن كان سيلقى الله عز وجل بمظلمة أخيه.

    حكم انتفاع المغصوب منه بالمغصوب دون علمه

    وقوله: [وإن أطعمه لمالكه أو رهنه] .
    يبقى
    السؤال لو أن هذه العين المغصوبة أطعمها لمالكها، فالذي أكل الطعام هو الشخص الذي يملك الطعام؟ شخص اغتصب صاعا من الأرز، ثم دعا صاحب الصاع عنده إلى وليمة وأطعمه إياه مرة أو مرتين أو ثلاثا، ثم قال له: يا أخي! قد ظلمتني في الأرز، قال: الأرز قد أكلته.
    فما الحكم؟
    الجواب أنه إذا كان لا يعلم، فلا يزال الصاع في ضمان الغاصب ولو أكله المغصوب منه، والسبب في هذا: أن يد الغاصب -وهي يد الضمان- لم تسقط؛ لأنه لم يعلم المغصوب منه أن هذا الذي يطعمه من ماله، وإنما دخل في ضيافة، ويظن أن هذا استحقاق، فهو يأكل بحق منفصل عن حقه الذي هو واجب على الغاصب، ولذلك كونه أكل فهذا لا يؤثر، ويبقى استحقاقه للعين المغصوبة، ويجب على الغاصب أن يضمن له المثل إذا أطعمه للمغصوب منه.
    وقوله: (أو رهنه) .
    إذا رهنه لمالكه ولم يعلم المالك أن هذا المال الذي رهنه هو نفس ماله فإنه لا يبرأ؛ لأن الرهن ينتقل إلى عند المرتهن وبينا في أحكام الرهن، أنه يكون الانتقال بالقبض، ويصبح الرهن لازما بالقبض وفصلنا في هذه المسألة، وبناء على ذلك: إذا أقبض المالك رهنه، فمثلا: لو أن شخصا اغتصب من شخص سيارة، ثم استدان منه عشرة آلاف ريال وجعل السيارة عنده رهنا، فإن هذا لا يوجب أن تزول يد الغصب وتبقى السيارة مضمونة عند الغاصب إذا لم يعلم المغصوب منه، أما إذا علم فهذا شيء آخر.
    وقوله: (أو أودعه) .
    جعله وديعة عنده.
    وقوله: (أو آجره إياه) .
    أخذ منه السيارة واستأجرها للركوب، فركبها وسافر بها.
    وقوله: (لم يبرأ إلا أن يعلم) .
    لم يبرأ الغاصب إلا أن يعلم المالك أن هذه السيارة هي سيارته، ويعلم المالك أن هذا الطعام هو طعامه، فإذا علم المالك أن هذا الطعام الذي يأكله هو طعامه، فحينئذ يكون قد أخذ حقه، وإذا علم أن هذه السيارة هي سيارته، فحينئذ تبرأ ذمة الغاصب في ضمان إجارتها المدة التي كانت عند المالك، وتكون يده حينئذ على العين المغصوبة، فإذا ردها للغاصب يكون هو المفرط وعلى هذا تبقى يد الغاصب على العين المغصوبة.
    وقوله: (ويبرأ بإعارته) .
    لأن الإعارة تستلزم الضمان، فتنتقل يد الغاصب، وتنتقل العين المعارة من ضمان الغاصب إلى ضمان المغصوب منه، وإذا انتقلت العين المغصوبة إلى ضمان المالك، حينئذ فاتت يد الغصب وأصبحت في ملك صاحبها، ولا يضمن الغاصب في هذه الحالة؛ لأنه لا يمكن أن نجمع بين يدين متضادتين في الغصب، فنقول: تكون العين المغصوبة المعارة في ضمان الغاصب، وفي ضمان المالك.
    لا يمكن هذا؛ لأنها بالعارية تكون في ضمان المستعير، فالمغصوب منه -مالك السيارة- حينما يأخذها عارية سواء علم أو لم يعلم يكون ذلك موجبا انتقال الضمان إليه.

    نصائح لطلاب العلم

    أحب أن أنبه إلى أمر يقع في الدروس، وكثير من الناس حصل عنده لبس فإن البعض يخطئ بعض طلاب العلم، والحقيقة ليس هناك مجال للتخطئة، فالبعض يلاحظ على طلاب العلم أنهم عقب التسليم من الصلاة يقومون مباشرة إلى حلق العلم، وهذا ليس فيه أي غرابة، بل هذا يزكي طالب العلم ويرفع قدره ويشرفه، ويعظم الله عز وجل به أجره؛ لأن مسألة الحرص على القرب للاستماع ومن أجل أن يفهم ويعي أكثر ويتمكن من السؤال إذا أشكل عليه أمر، بعد الصلاة، فهذه كلها لا يقصد بها طالب العلم أنه يتقدم لأجل مصلحة دنيوية، إنما يتقدم من أجل (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام) وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله أن الصحابة رضوان الله عليهم كان أعظمهم خيرا وبركة في حديث رسول صلى الله عليه وسلم أقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
    أما مسألة الاقتتال والازدحام فالنصوص في هذا واضحة: أولا: القيام بعد الصلاة مباشرة، ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمجرد أن صلى صلاة الفجر قام فزعا إلى بيته، فلما قام عقب الصلاة مباشرة لم يقل أذكار الصلاة ولم يعقب عليها من أجل مصلحة معينة موجودة في بيته، والحديث في الصحيح، وقال العلماء: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الذكر المعتاد لوجود العذر.
    فطالب العلم عندما يقوم من مقامه مباشرة من أجل العلم لا نثرب عليه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق الحلاق في صلح الحديبية كاد الصحابة رضوان الله عليهم يقتتلون وهم يحلقون رءوسهم، فكيف إذا ازدحم طلاب العلم من أجل أن يسمعوا (قال الله وقال رسوله) .
    فيجعل ذلك منكرا وخطأ! من يستطيع أن يجعل إنسانا يشتري رحمة الله ويتخوض فيها، لكن لا يسيء إلى غيره؟ لا نقول: إنهم يزدحمون ويقتتلون، لا.
    نقول: إن زحامهم من أجل العلم ومن أجل أن يعي ويسمع لا تثريب عليهم فيه.
    وقد كنا مع مشايخنا -رحمة الله عليهم- ربما يسبقنا الشخص والشخصان فلا نسمع الفتوى ولا نسمع السؤال ولا الجواب.
    والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يليه أولو الأحلام، وكان يحب أن يليه من يعقل عنه عليه الصلاة والسلام.
    فهناك أشياء مخصوصة في مسألة الازدحام ومسألة التقدم حتى في صفوف الصلاة، بمعنى: الصف الأول معروف مكانه ومعروف من الذي فيه، فإذا تقدم الشخص والشخصان لضرورة الازدحام، فهذا لا تثريب عليه.
    فطلاب العلم الذين تفرغوا للعلم فرض عليهم أن يتعلموه، وأن يكونوا على إيمان تام به، وقد تفوت المسألة الواحدة بسبب التأخر، ولا يزال الرجل يتأخر حتى يؤخره الله، حتى كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يكره من الشخص أن يجلس في طرف المسجد ويستند إلى الجدار والحلقة في مقدمة المسجد إلا إذا كان عنده عذر، والبعض يقول: لا أحب أن يكون بجانبي يشوش علي.
    وهو يقصد بذلك الخير، ولكن الأفضل والأكمل أن تتخوض رحمة الله، ولذلك تجد طالب العلم في اليوم الأول في الصف السادس، واليوم الثاني في الصف الرابع ثم الخامس ثم الثالث حتى يصل إلى أقرب الناس.
    يقول أنس رضي الله عنه وهو يفتخر بهذه المنزلة: (لقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ناقته يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك حجة وعمرة) فالذي يشكل عندي: كيف نجعل المعروف منكرا؟! فالحمد لله الذي ما أماتنا حتى رأينا بأم أعيننا من يحرص على هذا العلم، وهذا -والله- نعمة وفخر! الإمام مالك رحمة الله عليه سقطت عمامته أكثر من ثلاث مرات وهو على باب مشايخه، يزدحمون من أجل رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد يلومه، ويل للإنسان الذي يتتبع عورات طلاب العلم، فيأتي عامي جلف جاف لا يعرف من العلم شيئا ويقول: ما هذا الإزعاج؟ لأنه لا يعرف ما الذي يخوض العباد من أجله في رحمة الله عز وجل، فنحن في زمان أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا، فلا يلام طالب العلم في الحال ولا يمكن أن ينتقص، ولا يمكن أن يقال: إن هذا باطل؛ لأن هذه مسائل خاصة.
    في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا توضأ يقتتل الصحابة على وضوئه) ما معنى (يقتتل) ؟ يقتتلون على وضوئه وهم يريدون فضلة وضوئه؛ لأن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لمكان المعجزة ولا يشاركه أحد.
    لكن نحن نقول: إذا كان الصحابة يقتتلون على قطرات الماء من وضوئه عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن يبحث عن قطرات العلم التي يحيي بها ويثري بها الأمة؟! كيف بالذي يتخوض رحمة الله عز وجل وهو يبحث عن هذا العلم، وهو يريد أن يسمع كلمة تقربه إلى الله سبحانه وتعالى؟! لقد رأينا هذا من مجالس مشايخنا -ولا أجعله افتخارا أو رياء أو سمعة- والله لقد كنا نجلس في شدة الحر وكان يوافق رمضان، وكان الوالد -رحمة الله عليه- له أربعة دروس متواصلة بعد صلاة العصر، فكان عقب الفجر وعقب الظهر وعقب العصر، لكن أشدها الدرس الذي بعد العصر، آخر النهار، في شدة الصيف.
    وتجد الدرس درس صحيح مسلم ثم يعقبه درس الترغيب والترهيب ثم يعقبه درس السيرة، وكل درس من هذه الدروس تكون من بعد العصر، وهذا في الصيف طويل قد يصل إلى أكثر من ساعتين، فكنا نزدحم وإن الشخص يكاد بعض الأحيان يجد رائحة النتن مع حر الصيف.
    حتى إن الإنسان تجد أحيانا مثل الزبد على فمه من المشقة، فلا ينقص طالب العلم هذا، كنا نزدحم، وأقسم بالله إنه كان الرجل يضع رجله حتى في بعض الأحيان تتعب الركبة فما أستطيع أن أقف، فهذا لا ينقص طالب العلم شيئا أبدا، ولا أحد يلوم أحدا، فكانت بينهم من المحبة والمودة ما يسامح فيه الأخ أخاه، ويتجاوز عنه ويحس أنه إذا نافس فإنه ينافس في جنة عرضها كعرض السماء والأرض، ينافس في رحمة الله عز وجل ويتمنى الأخ الخير لأخيه، والذي يهمني: ألا نجعل المعروف منكرا.
    أما مسألة السنة الراتبة بعد صلاة المغرب، فهناك من العلماء من يرى أنه لا بأس بتأخيرها إلى بعد العشاء، وأن المغرب والعشاء كالصلاة الواحدة، ويرى أنها سنة بعدية ولو وقعت بعد العشاء فهي بحكم السنة البعدية، وهذا مذهب بعض العلماء وأنا لا أفتي بهذا، وأرى السنة هي الأصل، لكن لو أن طالب العلم تأول القرب للعلم، فالسنة ليست بواجبة العلم فرض عليه، وليس القضية وجود السماعات والميكروفونات، فوجود السماعات والميكروفونات لا يساوي بين الناس، وإلا لاستوى من بخارج المسجد ومن بداخله، والذي بداخل المسجد الأقرب أعظم أجرا من الأبعد؛ لأن الأقرب هو الذي يبكر، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم الناس أجرا في الجمعة من بكر إليها؛ لأنه بكر للعلم، وجعلت فضيلة الجمعة من أجل الخطبة، والخطبة لا تقوم إلا على العلم، وعلى الوحي؛ على قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام.
    فالمقصود: كم من مرة أجد بعض الإخوان يكتبون الملاحظات وأسكت، ولكني وجدت الأمر يتجاوز الحد إلى درجة اتهام طالب العلم بأنه غير منضبط، وبعض طلاب العلم يظن أن هذا نقص في العلم وأهله، لا والله أبدا، بل هذا مما يرفع قدر طالب العلم ما اتقى الله عز وجل وفعل ذلك لوجه الله وابتغاء مرضاته لا رياء ولا سمعة، ولم يضر بإخوانه.
    وإن حصل من إخوانك لك ضرر فأحسن الظن بهم وليتسع صدرك لأخطاء إخوانك.
    هذا الذي أحببت أن أنبه عليه بحيث لا يكون هناك فهم خاطيء، فمسألة حرص طلاب العلم على التذكير ومحبتهم للخير أمر طيب، ولنحمد الله ونشكره، فكم ترى أعيننا أناسا يقتتلون وهم يشترون الخبز والطعام، ويقفون الساعات الطويلة، وتجد الرجل يدخل مسجدا وينتقد طلاب العلم وهو يرى بأم عينيه من يزدحم على كسرة خبز ولا ينتقده ولا يلومه بل يذهب ويقف معه، نحن في زمان غربة، غربة الحق وأهله، فأقول: الله الله في أعراض طلاب العلم، وينبغي علينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى، وما دام طالب العلم عنده تأويل وعنده حجة، فإنه لا يلام على ذلك، وأسأل الله العظيم أن يبارك لنا ولكم فيما تعلمناه وعلمناه، ونسأله السداد والرشاد.

    الأسئلة

    استفادة الشريك من أرض مشتركة دون علم شريكه

    السؤال: شريك باع أرضا زراعية دون علم شريكه، وكان قد استفاد من محصولها قبل بيعها، فماذا للشريك الثاني؟ هل له نصف المبلغ المباع فقط، أم له المطالبة بفوائد المحاصيل؟
    الجواب إذا اشترك الاثنان في عين فتكون هذه العين بينهما بقدر الشراكة، فإذا كانت مناصفة فإنه يستحق نصف القيمة، ويستحق أيضا نصف المحاصيل التي نشأت وترتبت ربحا ونتاجا للعين المشترك فيها، فهو -بلا شك- يستحق بقدر حصته للشركة قلت أو كثرت.
    وأما بالنسبة إذا باع دون إذن شريكه فهذا يختلف، ففي بعض الأحيان يوجد التفويض فيصح بيعه، وهناك أحوال تكون الشراكة فيها في الاستحقاقات، فيجب أن يرجع إلى شريكه ويستأذنه فيصح البيع في ماله، ولا يصح في مال شريكه، وبناء على ذلك يفصل في مسألة البيع وعدمه بين الشراكة التي يقصد بها المنافع وبين الشراكة التي تقتضي التفويض من كل وجه.
    والله تعالى أعلم.

    حكم زوال عيب المغصوب بعد رده وقبض الأرش

    السؤال إن رد المغصوب معيبا، ثم زال عيبه في يد مالكه، وكان قد أخذ الأرش، فهل يلزمه رد الأرش للغاصب؟
    الجواب لا يلزمه؛ لأن العبرة بحال الأداء لا بما يطرأ بعد ذلك.
    والله تعالى أعلم.

    الحث على غض البصر عن محارم الله

    السؤال إن نعمة النظر من أجل نعم الله، وإن الله يثيب من غض عينه عن محارم الله، فكيف يمكننا أن نفوز بهذا الأجر، وخصوصا من ابتلي بالنظر إلى ما حرم الله؟
    الجواب لا يوفق الإنسان لحفظ جوارحه مع حدود الله عز وجل إلا إذا عصمه الله بعصمته، وحفظه الله سبحانه وتعالى فصانه عما يغضبه جل شأنه وتقدست أسماؤه، ولذلك ينبغي للمسلم دائما أن يسأل الله الحفظ.
    ومن أعظم ما يكون به الحفظ: أن يستعيذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) فأول ما ينبغي على الإنسان أن يسأل الله العافية في سمعه وبصره وجوارحه.
    ثانيا: أن ينظر إلى نعم الله الذي نور بصره، وأطفأ بصر غيره، ولو أطبقت أطباء الدنيا على أن يعيدوا هذه النعمة لمن فقدها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؛ ولذلك يحمد الله سبحانه وتعالى الذي أنعم عليه بهذه النعمة، وأن يعلم أنه مغبون فيها، وأن من شكر الله عز وجل أن يحفظ هذا البصر عن عورات وأعراض المسلمين، فإذا وفقه الله لهذا الشعور، وعرف قيمة نعمة الله واستحيا انكسر، وهذا من صلاح القلب؛ لأن القلب إذا صلح أثر على الجوارح، ولا يصلح القلب بشيء مثل: الإيمان بالله، والنظر في نعم الله عز وجل.
    كذلك مما يعين على غض البصر وحفظه عن حدود الله عز وجل: الأخذ بالأسباب، ومنها: البعد عن الأماكن التي فيها الفتن، والأماكن التي يتعرض الإنسان فيها للنظر إلى ما حرم الله، فيحفظ نفسه عن حضورها وشهودها والنزول فيها، حتى يحفظ الله له دينه، فإنه ما من نظرة إلى حرام إلا ولها أثر في القلب كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنها تنكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يصبح القلب أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه.
    ولله عقوبات في النظر إلى محارمه؛ فإنه ربما ابتلى الإنسان بالعمى على صراط جهنم والعياذ بالله، فعلى الإنسان أن يحفظ بصره.
    كذلك من العواقب الوخيمة للنظر إلى ما حرم الله: أن الله سبحانه وتعالى يفقد صاحبه نور البصيرة التي هي: الفراسة، فتصبح الأشياء عنده مستوية، والمؤمن عنده فراسة لا تخطئ غالبا؛ لأنه إذا حفظ جوارحه حفظه الله عز وجل وصانه وبارك له فيها.
    كذلك أيضا: عليه أن ينظر إلى حسن العاقبة، فإنه إذا غض بصره عن حرمات الله عز وجل؛ أعظم الله له مثوبته، فما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه الله خيرا منه، ومن الإيمان بالله: ترك الشيء لله إذا كان تركه يرضي الله، فهذا من صريح الإيمان وصدقه، وهو من اليقين بالله سبحانه وتعالى أنه يأجره، ومن تصديقه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
    ومن أعظم ما تكون الطاعة إذا كانت الفتنة أشد، فالنظر في الخلوة والنظر في الجمال الفاتن، والنظر في العورة الفاتنة أبلغ وأعظم، والغض عنه أعظم ثوابا وأجل، وخاصة إذا كان في حال الغيب، فإن الذي يخشى ربه بالغيب له مغفرة من الله وأجر عظيم وثواب كبير، وهذه المغفرة والأجر لا يعلم أجرها إلا الله وحده، فربما أعظم الله من وليه المؤمن الشاب الذي يتيسر له أن ينظر للحرام وهو في صحته وعافيته، أو ربما يفتن في نظرته للمرأة، ومع ذلك يستحي من الله جل جلاله، ويؤثر الله سبحانه على ما سواه، ويؤثر ما عند الله من حسن العاقبة وحسن الثواب، فيغض بصره لله وفي الله؛ فيعوض إيمانا بالله، وحلاوة يجدها في قلبه من الإيمان بالله سبحانه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح (كل العيون باكية أو دامعة يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله) .
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

    حكم أخذ المغصوب منه عن الصاع من المغصوب صاعين

    السؤال إذا خلط مالا ربويا كالبر بما هو أردأ أو العكس، وتصالحا على الصاع بصاعين من المخلوط، فما الحكم؟
    الجواب باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا وقع الصلح، جرت عليه أحكام البيع، فيجب التماثل ويجب التقابض، ولا يصح أن يكون أحدهما أزيد من الآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك كما في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت في حديث الأصناف، وفي الصحيحين من حديث عمر وأبي سعيد الخدري وغيره من الأحاديث التي دلت على وجوب التماثل في المطعومات، إذا كانت منها أصناف ربوية، فيجب التماثل ويجب التقابض، والله تعالى أعلم.

    مسألة تضمين الغاصب عند تلف المغصوب بآفة سماوية

    السؤال أشكل علي تضمين الغاصب إذا تلفت العين ولو بآفة سماوية، وعدم تضمينه عند نقص قيمة العين في السوق؟
    الجواب بالنسبة للتضمين، الأصل في يد الغاصب أنها يد معتدية وحينئذ هناك فرق بين التلف الذي يقع على اليد المعتدية متعلقا بالعين، والتلف الذي يقع متعلقا بالأحوال، فغلاء الأسعار ورخصها متعلق بالأحوال، والعين هي العين، موجودة كما هي، فالذي رده الغاصب هو عين المال، لكن إذا حصلت الآفة السماوية فإنه لا يرد عين المال؛ لأن التلف وقع على العين ووقع على الذات، وفرق بين النقص التابع للأحوال والنقص المتعلق بالأحوال؛ لأنه إذا نزلت الآفة السماوية على العين المغصوبة تضررت العين ونقصت، فنقول: إخراج المغصوب يوجب ضمانه، وحينئذ تلزم بالضمانة.
    بناء على ذلك: يوجد فرق بين غلاء الأسعار ورخصها؛ لأنه أحوال، وبين الآفة السماوية لأنها ضرر بالذات، والحقيقة عندما تحكم الشريعة بكون يد الغاصب يد ضمان هذا أصل شرعي وصحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) وإذا كانت العارية التي هي أخف من الغصب مضمونة، فكيف بإنسان يعتدي ويغصب؟ لكن على طالب العلم أن ينتبه أنه قد توجد بعض الأحوال الغريبة التي هي من الأحوال النادرة، لكنها لا تقدح في الأصل العام؛ لأنك لا تأتي وتلغي يد الغاصب المعتدية من أجل الآفة السماوية؛ لأنه ربما يخرجها فيتلفها غيره، من الذي أخرجها؟ ومن الذي يتحمل مسئولية الإخراج؟ فيد الغاصب يد معتدية وتتحمل مسئولية النقص المتعلق بالذات كما ذكرنا، دون النقص المتعلق بالأحوال مما هو من قدر الله عز وجل كالغلاء والرخص.
    والله تعالى أعلم.

  15. #375
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب الغضب )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (375)

    صـــــ(1) إلى صــ(15)


    شرح زاد المستقنع - باب الغصب [6]
    من عدل الشريعة أنها تلزم الغاصب بمثل ما غصب ولا تلزمه بما فوق ذلك، فإن لم يجد المثل انتقل إلى قيمته، وفي الأصل أن تصرفاته في المغصوب باطلة، ولكن لا يعني هذا أنه لا يقبل قوله أبدا في أي شيء يتعلق بالمغصوب، ولكن هذا له تفصيل عند العلماء رحمهم الله.
    حكم تلف أو تغيب المغصوب
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذا، وإلا قيمته يوم تعذره] .
    شرع المصنف -رحمه الله- في هذه المسألة في بيان ضمان المغصوب إذا تلف أو تغيب وكان له مثلي، والمغصوب الذي له مثلي يكون من المكيلات ويكون من الموزونات، فلو أن شخصا أخذ طعاما كالأرز -مثلا- أخذه غصبا من شخص وأتلف هذا الأرز فإنه يجب عليه أن يغرم له مثله، وهكذا لو اغتصب شيئا فتغيب الشيء كما هو الحال في الدواب، فلو اغتصب ناقة ففرت الناقة وغابت ولم يدر أين ذهبت، فإنه باغتصابه لهذه الناقة والدابة تكون يده يد ضمان، فيجب عليه أن يضمن مثلها.
    ضمان المثلي بمثله
    إذا: مراد المصنف: أن الضمان للمثليات يكون بالمثل، والمثليات كالمكيلات والموزونات، وقد تكون المثليات من العدد كما هو موجود في زماننا كالسيارات ونحوها فيضمن مثلها، وللعلماء في هذه المسألة قولان: بعض العلماء يقول: أي شيء يغصب ويتلف يجب على غاصبه أن يدفع القيمة، ولا يرى أنه يدفع المثلي.
    وذهب طائفة من العلماء إلى أنه إذا كان الشيء المغصوب له مثل فإنه يجب عليه أن يضمن المثل، وهذا هو الذي درج عليه المصنف وهو مذهب الحنابلة -رحمة الله عليهم- في المشهور.
    فمن اغتصب شيئا وهذا الشيء تلف وله مثلي، فإنه يجب عليه أن يرد لصاحبه المثل، ولا ننتقل إلى القيمة متى أمكن رد مثل الشيء الذي أتلفه، والدليل على ذلك: ما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتي بطعام من صفية رضي الله عنها وأرضاها، وكانت عنده أم المؤمنين عائشة وكانت صفية رضي الله عنها تحسن الطعام.
    ومن الجبلة والفطرة أن الإنسان ربما يغار، وخاصة إذا كان مع أهل الفضل، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهن الغيرة، وهذا قد يكون -في بعض الأحوال- من أصالة المرأة؛ لأنها إذا كملت محبتها لزوجها تفانت في هذه المحبة إلى درجة أنها تغار.
    فلما أتي بالطعام غارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فضربت القصعة فكسرتها وسقط الطعام، حتى ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقول: (غارت أمكم، غارت أمكم، غارت أمكم) رضي الله عنها وأرضها، ومن الذي لا يغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فلما كسر الإناء وذهب الطعام ندمت عائشة رضي الله عنها، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع سعي العبد إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما صنعت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضمان، وقال: (إناء كإناء، وطعام كطعام) أي: اضمني إناء مثل الإناء الذي كسرتيه، واضمني طعاما مثل الطعام الذي أتلفتيه فدل هذا الحديث على أن الإتلاف والغصب يبتدأ في ضمانه بالمثل، وأن من أتلف شيئا نأمره أن ينظر إلى مثل ذلك الشيء إن وجد، وأننا لا ننتقل إلى القيمة متى أمكن وجود المثل، وهذا الأصل دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ودل عليه صريح القرآن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] ، وقال سبحانه وتعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40] ، فقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} سمى ضمان الشيء ورد الشيء بمثله سيئة، وهذا ليس المراد منه أنها سيئة حقيقة؛ لأنه لو أساء إليك شخص فرددت إساءته بمثلها فلست بمسيء، فاستشكل العلماء -رحمهم الله- المثلية هنا، فقالوا: لأن الإنسان إذا أراد أن يرد سيئة ربما أخذته الحمية غالبا فزاد وجار، ولذلك قال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40] ، والغالب أن الإنسان لا يحتمل نفسه ولا يستطيع أن يأخذ القصاص مثلا بمثل؛ لأن الحمق والغيظ يدفعه إلى الزيادة، الشاهد في قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل} [النحل:126] ، فوجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعاقب بالمثل، ومن أتلف شيئا فإنه يجب علينا أن نعاقبه على ذلك الإتلاف فنأمره بمثله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل} ، فإذا كسر إناء عاقبناه بالمثل وقلنا له: أحضر إناء مثل الإناء الذي كسرته، ولو أخذ سيارة غصبا فأتلفها قلنا له: ائت بسيارة مثل تلك السيارة وأعطها لصاحبها، فتلك عقوبة بالمثل وامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى في كتابه.
    وفي هذه الجملة دليل على أننا نضمن بالمثل، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء؛ لظاهر القرآن وظاهر السنة، وهو مذهب الجمهور -رحمة الله عليهم- خلافا للشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد.
    والسبب الذي جعل القائلين بأنه يضمن بالقيمة: أنهم استدلوا بحديث في الصحيحين في عتق الشرك: (أن من أعتق شركا -يعني: نصيبا له في عبد- قوم له قيمة عدل) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان نصيب الآخر، بتقويم نصيب ذلك الآخر وإعطائه القيمة، ومثال ذلك: لو كان هناك عبد قيمته خمسة آلاف، وكان فيه شريكان، فأعتق أحد الشريكين نصيبه سرى العتاق، وحينئذ يضمن للشريك الآخر نصيبه بالقيمة على ظاهر الحديث.
    الشاهد: أنه أمر بالضمان بالقيمة، ولم يأمر بالضمان بالمثل، يعني: أمر أن يضمن نصيب صاحبه بالقيمة، وهذا كالإتلاف؛ لأنه فوت نصيب صاحبه بالعتق؛ ولا يمكننا هنا أن نأتي بالمثل؛ لأن هناك شراكة فلا نستطيع أن نذهب ونأخذ عبدا ونأتي بشخص ونقول له: شارك هذا الشخص حتى تتحقق المثلية، فحينئذ نقول: هذا الحديث نجيب عليه من وجوه: الوجه الأول: أن نقول: لا تعارض بين عام وخاص، فالأصل في الضمانات المثلية إلا في مسألة عتق العبد فيضمن بالقيمة، فيصبح الحديث خاصا في مسألة العتق، والضمان الأصل فيه عام، وهو: أنه يضمن بالمثل، هذا الوجه الأول، حيث تجعل الأصل عاما وتجعل الحديث خاصا، ولا تعارض بين عام وخاص.
    ثانيا: أن تقول: إن الأصل الذي يقتضي الضمان بالمثلية هو فيما يمكن فيه المثلية وأن يأتي بمثل ما أتلف، والحديث الذي معنا متعلق بالعتق ولا يمكن فيه الضمان بالمثل فانتقل للقيمة، وهذا من أقوى الوجوه وهو الوجه الثاني الذي يجاب به عن هذا الحديث.
    ضمان قيمة المغصوب عند تعذر وجود مثله
    وقوله: [وإلا فقيمته يوم تعذره] .
    (وإلا) يعني: وإن لم يتمكن من وجود المثل لزمه أن يضمن حق أخيه المسلم بالقيمة، إذا: القاعدة في الضمان: المثلية إن كان له مثل، فإذا لم يكن له مثل أو كان له مثل ولكن تعذر وجوده فحينئذ نقول له: اضمن قيمته، فالضمان يكون -أولا- بالمثلية، فإن تعذرت المثلية انتقلنا إلى القيمة، والقيمة: أن نقوم هذا الشيء الذي أتلفه الغاصب، كشخص -مثلا- أتلف سيارة غيره، سواء كان متعمدا أو مخطئا، فجئنا نطالبه بضمان ما جنته يداه من الإتلاف فقلنا له: ائت بسيارة مثل هذه السيارة، فبحثنا ولم نجد، فحينئذ نقول: تقوم هذه السيارة التي أتلفت ويطالب بدفع القيمة للمالك لها، فلو أتلف سيارة وتعذر وجود مثلها أو لم يكن لها مثل فحينئذ نسأل أهل الخبرة: كم قيمة هذه السيارة؟ قالوا: قيمتها يوم تعذر وجود مثلها عشرة آلاف، نقول: يجب عليك الضمان بالقيمة لتعذر المثلي، فيرفع عشرة آلاف ريال لمالكها.
    وقوله: [وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذا، وإلا فقيمته يوم تعذره] .
    فقوله: (غرم مثله إذا) : التنوين هنا تنوين عوض، وهو عوض عن حرف وعوض عن جملة (فقيمته إذا) أي: فقيمته في الحين الذي تعذر؛ لأن التنوين هنا عوض عن جملة كما قال تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ} [الزلزلة:1 - 4] فالتقدير يوم تزلزل الأرض زلزالها وتخرج أثقالها ويقول الإنسان: ما لها {تحدث أخبارها} [الزلزلة:4] ، فهنا التنوين تنوين عوض عن جملة، فقوله: (قيمته إذا) أي: في الحين إذا تعذر، وهذه مسألة خلافية.
    فائدة التنبيه على أن القيمة تكون حين التعذر: أنه ربما أتلف سيارة في شهر محرم، وكانت قيمة السيارة في شهر محرم عشرة آلاف ريال، ثم بحثنا وكان للسيارة مثل، فجعلنا نبحث عن مثل هذه السيارة مدة أسبوع فنزلت قيمتها -مثلا- إلى سبعة آلاف ريال، وتعذر وجودها، فالقيمة يوم التعذر سبعة آلاف والقيمة يوم التلف عشرة آلاف، ولربما تكون القيمة يوم الشراء عشرين ألفا، فحينئذ العبرة بوقت التلف، وبعض الشراح يفهم من جملة (قيمته إذا) أنه يجب حينئذ أن يضمن القيمة، وليس المراد يوم التعذر، فعلى هذا القول: يكون الضمان يوم التلف وليس يوم التعذر، (فقيمته إذا) إشارة إلى الاستحقاق، أي: تلزمه القيمة بسبب عدم وجود المثل، والحقيقة كلا القولين له وجه وإن كان الثاني أظهر.
    قال رحمه الله: [ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه] .
    كانوا في القديم يصنعون أشياء لا يمكن أن يصنع مثلها من كل وجه، مثلا: الأواني في زماننا يمكن إيجاد المثلي؛ لكن في القديم لا يمكن؛ لأنه إذا صنع الحداد إناء ربما وسع فيه وربما ضيق، ولم يكن هناك -مثل زماننا الآن- صب الآنية بطريقة نظامية تعرف فيها أطوالها وتعرف فيها مقاساتها بشكل دقيق يمكن أن يوجد فيه المثل، فكانوا في القديم يمثلون بالأواني؛ لأن الغالب عدم انضباطها، فما كان من المغصوبات لا مثلي له، فحينئذ يجب ضمانه بالقيمة.
    لكن لو أن شخصا أتلف مغصوبا لا مثلي له، وقلنا له: يجب عليك أن تدفع القيمة، فرضي صاحب المغصوب، وقال: أنا أرضى بالقيمة ما دام أنه ليس له مثل ثم قال: أنا اشتريته بعشرة آلاف، ونظرنا في الشيء المغصوب وجدنا أن صاحبه استخدمه سنتين كسيارة -مثلا- فأصبحت قيمتها ثمانية آلاف، فهل العبرة بقيمتها يوم اشتراها، أم العبرة بقيمتها يوم أتلفها أم العبرة بقيمتها يوم اغتصبها؟ وفائدة ذلك: قد تكون قيمتها يوم الشراء غالية، وقيمتها يوم الاغتصاب دونها في الغلاء، وقيمتها يوم التلف أقل قيمة، فتكون القيمة بالشراء -مثلا- عشرين ألفا، فاغتصبها منه في شهر محرم وقيمتها عشرة آلاف، ثم بقيت مغصوبة نصف سنة مثلا، فأصبحت قيمتها خمسة آلاف عندما أتلفها، فهل يدفع عشرين ألفا أو عشرة آلاف أو خمسة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، والأقوى في هذه المسألة قولان: القول الأول يقول: قيمتها يوم اغتصبها، والقول الثاني يقول: قيمتها يوم أتلفها، وهناك قول ثالث يقول: ننظر أغلى القيمتين؛ لأنه ربما كانت يوم التلف أغلى منها يوم الغصب وهذا قد يقع، ربما قد تكون قديمة فلما أتلفت أصحبت قيمتها أكثر أو ارتفع سوقها مثل: المجوهرات ونحوها، فاليوم الذي أتلفها فيه شاء الله أن قيمتها غالية، أو اغتصب بيتا وهدمه، وقيمته يوم اغتصبه يعادل مائة ألف، ويوم أتلفه غلت قيمة المواد البنائية، فأصبحت قيمة بنائه خمسمائة ألف، فبعض العلماء يقول: نعتبر القيمة باليوم الذي اغتصب فيه الشيء، فإنه قد أصبح في ذمته ذلك الشيء، فنحن نوجب عليه ضمان القيمة بيوم الغصب.
    ومنهم من قال: لا.
    هو أخذ البيت الذي هو العقار، أو أخذ السيارة أو أخذ الدابة، ولكنه كان ملزما بردها؛ لأنها موجودة، ولم يخاطب شرعا بالضمان إلا بالتلف؛ لأن التلف هو الذي أوجب علينا أن نخاطبه بالضمان، وإلا لو كانت غير تالفة لردها، فأصبحت ذمته مشغولة بالقيمة يوم التلف.
    وهذا القول من أقوى الأقوال: أن ضمانها يكون بقيمتها يوم تلفت، وإن كان الاحتياط بالنظر إلى أغلى القيم لا شك أنه أقوى، خاصة وأن فيه نوعا من التعزير، وهذا مقصود شرعا للغاصب فيغرم أعلى القيمتين، وهذا على خلاف الشرع من حيث الأصل ولكن براءة لذمته، وبالاعتداء والغصب صار الأمر مختلفا.
    الخلاصة: أننا نطالبه بالضمان بقيمة العين التالفة المغصوبة يوم تلفت ولا ينظر إلى قيمتها يوم اشتريت، ولا ينظر إلى قيمتها يوم اغتصبت، فيلزم بضمانها يوم تلفت؛ لأنه كان مغتصبا للعين مخاطبا بردها ولم يخاطب بالقيمة إلا لما أتلف، فأصبحت ذمته مشغولة بالقيمة في يوم التلف وليس قبله؛ فلذلك نقول: يجب عليك دفع قيمتها يوم تلفت.
    كيفية ضمان القيمة في حال تعذر المثلي
    وقوله: [وإن تخمر عصير فالمثل، فإن انقلب خلا دفعه ومعه نقص قيمته عصيرا] .
    فقوله: (وإن تخمر عصير فالمثل) .
    إن اغتصب عصيرا فبقي العصير عنده حتى صار خمرا، فحينئذ يتعذر رد المثل، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله، فهم أعطوك القاعدة وهي: أنه يجب عليك أن تحكم بضمان المغصوب بمثله، وإن تعذر المثل تنتقل إلى القيمة.
    يرد
    السؤال هل هناك صور يمكن أن توجد فيها العين المغصوبة ولا يطالب بردها، ويجب عليه ضمان مثلها، قالوا: نعم، إن أخذ العصير واغتصبه عصيرا وتحول هذا العصير إلى خمر، كعصير تفاح؛ لأن العصير إذا مكث مدة يتخمر، فأخذ عصير تفاح أو عنب فبقي عنده مدة يوم أو يومين فتخمر، فحينئذ لا يمكن رده؛ لأنه يجب إتلافه كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أبا طلحة رضي الله عنه أن يهريق الخمر وأن يكسر الإناء -وهو وعاء الخمر- فدل هذا على أنه يجب إتلاف الخمر.
    وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المزادتين: (أن الرجل لما أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم المزادتين وحرم عليه بيعهما فتح المزادتين وسكبهما على الأرض) ، وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أنه لما نزل تحريم الخمر جرت بها سكك المدينة عندما أهريقت وأتلفت، فالأصل أن الخمر تتلف، فلو أنه اغتصب عصيرا ثم تحول هذا العصير إلى خمر نقول: يد الغاصب يد ضمان، فيجب عليه أن يتلف هذا الخمر، وأن يرد لصاحب العصير مثله، وذلك لأن العصير يكون مثليا فيجب عليه الضمان بالمثل، وقد يتحول الخمر إلى خل بطريقتين: الطريقة الأولى: أن يتحول بنفسه، وجمهرة أهل العلم: أن الخل إذا تحول بنفسه صار حلالا طاهرا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح: (نعم الإدام الخل) ، والخل لا يمكن أن يصير خلا إلا بعد أن يكون خمرا، وهذا المراد به: إذا تخلل بنفسه، والدليل على أنه يحل إذا تخلل بنفسه حديث أبي طلحة رضي الله عنه حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن خمر الأيتام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يريق الخمر، فلو كان يجوز تخليل الخمر لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها، فدل على أنه لا يجوز لمالك الخمر أن يخللها بنفسه، ولكن إن تخللت بنفسها فإنه يجوز وتكون طاهرة حينئذ، فلو أنه اغتصب عصيرا فبقي العصير عنده مدة من الزمان، فتحول فيها هذا العصير إلى خمر ثم صار خلا، فإذا صار خلا فالعين يمكن ردها إلى صاحبها، فنقول له: رد هذا الخل إلى صاحبه؛ لأن الخل فرع عن العصير، والفرع تابع لأصله، فالمال مال المغصوب منه، فيجب عليك رد الخل، ثم ننظر: هل اختلفت قيمة الخل والعصير، فلا تخلو من ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تتفق القيمتان، كأن تكون قيمة العصير مائة ريال، فعندما غصبه كمية من العصير تخمرت ثم تخللت، فصارت قيمته خلا بمائة ريال، فحينئذ يرده خلا ولا إشكال.
    الحالة الثانية: أن تكون القيمة ناقصة بعد أن صار خلا.
    الحالة الثالثة: أن تكون القيمة أغلى إذا صار خلا.
    فإذا تخلل وصارت قيمته أقل، قلنا له: رد الخل وادفع الفرق، وقد بينا دليل هذه المسألة وأقوال العلماء فيها، وقررنا أن من اغتصب شيئا وأمسك ذلك الشيء حتى نقصت قيمته فإنه يجب عليه الضمان، واستثنينا مسألة غلاء السوق ويكاد يكون إجماع أهل العلم عليها إلا قول أبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي رحمه الله الذي قال: تضمن قيمة غلاء السوق.
    أما إذا كان الأمر بالعكس فتكون قيمة الخل أغلى، كأن يغتصب عصيرا قيمته مائة فأصبحت قيمته خلا مائتين، فحينئذ يرد الخل ولا ضمان عليه.
    بطلان تصرفات الغاصب الحكمية
    قال رحمه الله: [فصل: وتصرفات الغاصب الحكمية باطلة] .
    (تصرفات الغاصب): هذا الموضع والمسائل التي ذكرها المصنف رحمه الله في بداية هذا الفصل تتعلق بالتصرفات في العقود من بيع وهبة ووقف وغير ذلك، فبعد أن بين لنا تصرفات الغاصب الفعلية شرع في تصرفاته الحكمية ببيع المغصوب، و (الحكمية) : أي: الحكم على الشيء من حيث الصحة والفساد، تصرفات الغاصب الحكمية المعنوية باطلة، هذا أصل، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس لعرق ظالم حق) ، وقد حرم الله عز وجل أموال المسلمين، وجعل حرمة المال كحرمة الدم، وإذا كان المال محرما على الإنسان فتصرف فيه بدون ملكية وبدون إذن وبدون ولاية فتصرفه باطل؛ لأن المال ليس ملكا له، فلو أن شخصا جاء واغتصب سيارتك ثم باعها، فنحكم على البيع الثاني بالبطلان، ولو أخذ سيارتك ووهبها إلى شخص فإننا نحكم على هذه الهبة بأنها باطلة ويجب رد السيارة إلى مالكها.
    فقوله: (باطلة) : الباطل لا تترتب عليه الأحكام الشرعية بحيث لا يحكم بصحة البيع ولا بصحة الهبة، ولا يحكم بالآثار المترتبة عليه، فمثلا: لو أنه اغتصب جارية ثم وطئها، فإن هذا الوطء يعتبر وطء زنا بالنسبة له، وبالنسبة للجارية: إذا أكرهت على جماعه وعلى استمتاعه كان حكمها حكم الإكراه على الزنا وسيأتي -إن شاء الله- في باب الحدود، فإذا وطئها وهو غاصب لها، فإنه لا يجوز لها أن تمكنه من نفسها، فهذا التصرف بالوطء نعتبره زنا، فإذا كان متزوجا فإنه يرجم وحينئذ نعتبره متعديا لحد الله عز وجل مرتكبا للزنا؛ لأنه يعلم أن هذه الجارية لا تحل له، وعلى هذا: فإذا وطئها يكون حكمه حكم الزنا ولا إشكال في ذلك.
    لكن لو تصرف بالبيع أو تصرف بالهبة فيكون الضمان للعين ويجب عليه رد العين، وأما بالنسبة لما يترتب على الآثار المترتبة على هذا البيع وعلى الهبة؛ فإنه لا تترتب آثار شرعية، فكل ما بني على هذا البيع فهو باطل.
    فلو باع سيارة لإنسان بعشرة آلاف، والسيارة مغصوبة ثم قام الثاني ببيعها لشخص آخر ثم بيعت إلى ثالث أو رابع فجميع البيوع باطلة؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، والقاعدة: أن الفرع آخذ حكم أصله، فالبيع الثاني فرع عن البيع الأول؛ لأن البائع في البيع الثاني باع بملكية يدعيها من البيع الأول وبناها عليه، فإذا أسقطت البيع الأول أسقطت ما بعده من البيوعات، ثم لو أن الأخير الذي اشترى وهب السيارة أو تصدق بها حكمنا ببطلان البيع والهبة والصدقة؛ لأن جميع ما بني على باطل يحكم ببطلانه ويجب رد هذه السيارة إلى صاحبها وضمانها.

    اعتبار قول الغاصب في قيمة التالف وقدره وصفته
    قال رحمه الله: [والقول في قيمة التالف أو قدره أو صفته قوله] .
    إذا كان الغاصب يجب عليه أن يدفع القيمة، فيبقى
    السؤال إذا اختلف الغاصب والمالك، نحن علمنا: أنه إذا أتلف الغاصب شيئا ألزمناه بالقيمة، وأن هذه القيمة تقدر بيوم التلف، وبينا أن سبب ذلك: أن ذمته تشغل بضمان القيمة يوم التلف، فإذا ثبت هذا: فما الحكم إذا اختلف الغاصب مع صاحب العين، فقال صاحب العين: قيمتها مائة ألف ريال، وقال الغاصب: بل قيمتها تسعون ألفا، فهل نصدق المالك ونقول للغاصب: ادفع مائة ألف، أو نصدق الغاصب ونقول له: ادفع تسعين ألفا؟
    الجواب أن القول قول الغاصب إلا إذا قامت البينة على صدق المغصوب منه والمالك، وهذا مبني على أنه: إذا اختلف الاثنان في القيمة، فقال الغاصب: قيمتها تسعون ألفا، وقال المالك: بل مائة ألف، فتجزم بأن التسعين ألفا هي القيمة أي اليقين: أن التسعين ألفا هي القيمة؛ لأنه لما قال الغاصب تسعين، وقال المالك: مائة، اتفقوا على أنها بلغت تسعين واختلفوا في العشرة آلاف الزائدة التي ما بين المائة والتسعين فهل نصدق المالك أو الغاصب؟ فتقول: التسعين لا إشكال أنها ثابتة، فيبقى السؤال في العشرة آلاف التي يدعيها المالك على الغاصب، وكل من ادعى شيئا، فالقول بخلافه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأموالهم ولكن اليمين على من أنكر) ، فبين عليه الصلاة والسلام: أن المدعي للزائد يطالب بالبينة، وعلى هذا نقول: يجب على مالك السيارة أن يثبت بشهادة الشهود أو شهادة أهل الخبرة أن السيارة يوم التلف تستحق مائة ألف وإلا أخذ التسعين، وإذا أنكر الغاصب فإنه يحلف اليمين، وهذا هو معنى قولهم: (فالقول قوله مع يمينه) وعلى هذا: إذا ذهب الاثنان إلى القاضي، فسيقول القاضي للغاصب: كم قيمتها؟ يقول: قيمتها تسعون.
    ويقول للمالك: كم قيمتها؟ يقول: مائة.
    فيسأل المالك صاحب العين المغصوبة: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة.
    يقول له: ليس لك إلا يمينه.
    فيحلف الغاصب ويقول: والله إن قيمتها يوم التلف تسعون ألفا، فإذا حلف برئ، وإلا ردت اليمين كما هو معلوم في القضاء.
    وقوله: (أو قدره) .
    القدر يرجع إلى العدد، فإذا ادعى الغاصب أن له ثلاث سيارات، ثم قال المالك: بل أربع سيارات، واختلف في قدر المغصوب، هل هو ثلاث سيارات أو أربع سيارات؟ فنقول: القول قول الغاصب؛ لأن الغاصب يقول: ثلاث سيارات، والمالك يقول: أربع سيارات، فكلهم متفقون على ثلاث، والشك في الرابعة، والقاعدة: أن الغارم مدعى عليه، وهذا عند بعض العلماء: أن كل من عليه الغرم يعتبر مدعى عليه، فيكون القول قوله، فالغاصب الآن غارم، فإذا قلنا: إنه يقول له: بل أربع سيارات.
    فحينئذ القول قول الغاصب حتى يقيم المالك بينة وشهودا على العدد الذي ادعاه فيكون القول قوله.
    وقوله: (أو صفته قوله) .
    قال المالك للغاصب: إن السيارة التي أتلفتها من النوع الممتاز.
    قال الغاصب: لا.
    بل من النوع الرديء.
    كأن يكون هناك نوع من أغلى الأنواع الذي هو أجود أنواعها وفيها -مثلا- أربعة أنواع، فقال له: إن الذي اغتصبته النوع الممتاز، وطبعا سيقول المالك هذا؛ لأن هذا أحظ له وأكثر قيمة، قال الغاصب: أبدا، بل كانت السيارة من النوع الرديء، قال له: اغتصبت سيارة مكيفة، قال: لا.
    بل اغتصبت سيارة غير مكيفة، قال: اغتصبت إذا سيارة أتوماتيكية، قال: لا.
    بل سيارة عادية، فهذه الأوصاف الموجودة التي تختلف من زمان إلى زمان ينظر فيها إلى القدر المشترك بين الطرفين، ونقول: اليقين أنها سيارة من نوع عادي، وأن أوصافها عادية حتى يثبت أنها من الأوصاف الممتازة، أو قال: أتلفت ساعة من النوع الممتاز، وهو نوع كذا وكذا.
    قال: لا.
    بل أتلفت ساعة من نوع كذا وكذا، وهو نوع أردأ أو أقل، فنقول حينئذ: القول قول الغاصب حتى يثبت المالك أنها من النوع الممتاز أو الجيد، وهكذا في بقية الأمثلة، فالقول قوله، القاعدة هي هي، والمسألة هي هي، فنقول: القول قول الغاصب؛ لأنه غارم، وهذا وجه عند بعض العلماء، والغارم مدعى عليه، ولأنهما اتفقا على الرديء، وليس عندنا يقين على الجيد؛ ولأن الأصل هو براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها، فلما أثبت أن المغصوب على هذه الصفة التي ذكرها من الرداءة، وقد أثبت للمغصوب المستحق صفة يكون على مثلها، وادعى المالك ما هو زائد، فسيكون حينئذ مطالبا بالبينة والدليل، وكل هذه وجوه نخرج عليها هذا القول الذي اختاره المصنف وجماعة من أهل العلم رحمهم الله.
    اعتبار قول المغصوب منه في رد المغصوب وعيبه

    قال رحمه الله: [وفي رده وعدم عيبه قول ربه] .
    هنا المسألة على العكس، إذا اختلفوا في القيمة والقدر والصفة فالقول قول الغاصب؛ لأنه سيتحمل المسئولية، لكن لو اختلف الغاصب والمالك في الرد، والمراد بالرد: رد المغصوب، كشخص اغتصب من شخص سيارة، وذهب واشتكاه إلى القاضي، وقال: إن فلانا اعتدى على سيارتي واغتصبها، وأطالب القاضي بمطالبته بإحضار سيارتي.
    فجاء الغاصب وقال: نعم، اغتصبت منه السيارة ولكن رددتها له.
    فحينئذ: الغاصب معترف بأنه اغتصب السيارة، فاعترف باليقين أنه اغتصب، ونشك هل رد أو لم يرد، والأصل أنه ما ردها؛ لأن نحن متأكدون ومستيقنون أنه حصل الغصب، وشككنا هل الغصب انتهى أم لا، فلا بد أن تكون هناك بينة ودليل على أن الغصب قد انتهى، فإما أن يقر المالك ويقول: رد علي حقي، أو يقيم المغتصب الشهود على أنه أحضر له سيارته التي ادعى أنها غصبت، ومثل هذا: الإقرار كأن يقول: ما رد السيارة، ثم يتذكر ويقول: نعم ردها، فهذا إقرار وتنقطع به الخصومة، مثال البينة والشهود: قال: اغتصب سيارتي في شهر محرم، ولم يردها إلى اليوم، فقال الغاصب: بل رددتها وعندي شاهدان يشهدان على أني رددتها يوم الخميس الماضي، والخصومة يوم السبت، فجاء الشاهدان وشهدا أن زيدا الغاصب جاء بالسيارة إلى عمرو المغصوب منه وسلمه السيارة وأعطاه مفاتيحها، وقد رأيا ذلك واطلعا عليه وشهدا عند القاضي، فنتحقق أن الغصب قد رد، ونقول للمغصوب منه: إنك قد أثبت غصبا، وثبت بالبينة انتقاله وارتفاعه ورد المغصوب إليك، فانقطع ما تدعيه ويكون القول قول الغاصب، وفي هذه الحالة: القول يكون قول المغصوب منه -وهو المالك- حتى يحدث الغاصب البينة.
    إذا: حال الرد خلاف الأصل، فنحن مستيقنون والأصل عندنا أنه مغتصب، فمعنى ذلك: أننا لا ننتقل من هذا اليقين إلا بيقين مثله ونقول له: أنت تعترف أنك غصبت، وليس هناك دليل يدل على نقيض هذا الذي اعترفت به -وهو الغصب- من ردك للعين، فيجب عليك الضمان، ولا يصدق الغاصب أنه رد العين.
    وقوله: (وعدم عيبه) .
    إذا اتفق الغاصب والمالك على أن الغاصب قد اغتصب سيارة، فقال المالك: السيارة كانت نظيفة وليس فيها أي عيب.
    فقال الغاصب: بل اغتصبت منه سيارة مصدومة، أو سيارة بها تلف في أجهزتها أو في أي شيء منها.
    إذا: الخلاف هل فيها عيب أو ليس فيها عيب، فالكل متفق على وجود الغصب، فلا إشكال أن السيارة مغصوبة، ولكن الإشكال هل هي كاملة لا عيب فيها أو هي ناقصة؟ فالقول هنا قول المالك؛ لأن الأصل في العين ألا تكون معيبة، والأصل في الأشياء أن تكون كاملة حتى يدل الدليل على نقصها، فنقول للغاصب: أنت اعترفت أنك اغتصبت سيارة، فنحن نقول: الأصل أنها سيارة نظيفة، والأصل أنها سيارة لا عيب فيها حتى تثبت بالشهود أنها كانت معيبة، أو يقر ويعترف صاحبها.
    وأيضا لو اغتصب منه عمارة ولما جاء يردها إذا بالعمارة فيها شيء تالف مثل: الكهرباء أو في تسليك الماء أو في بنائها حدث فيه عطل أو انهدم بعض الدار، فقال الغاصب: أخذتها على هذه الصفة المعيبة الناقصة، وقال المالك: بل كانت عمارتي تامة كاملة، فحينئذ نصدق المالك؛ لأن الأصل في العمارة: أنها كاملة ونظيفة وسالمة من العيب حتى يدل الدليل على أن فيها غيبا.
    والفرق واضح بين الأمرين: هناك في القيمة والصفة وقدر المغصوب يكون الغاصب مدعى عليه، ولكن هنا لما أخذ عينا فعندنا أصول في الأعيان، ومنها: أن العين من حيث الأصل تكون كاملة، فالبيوت تكون كاملة لا عيب فيها، وكذلك السيارات، فإذا أخذت سيارة أو دابة فالأصل أنها غير معيبة حتى يدل الدليل على نقصها وتعيبها فنقول له: أقم البينة على صدق ما ذكرت وأنها كانت معيبة وإلا ألزمت بدفع قيمتها كاملة أو ضمان ذلك النقص.

    حكم المغصوب عند عدم معرفة صاحبه

    قال رحمه الله: [وإن جهل ربه تصدق به عنه مضمونا] .
    (وإن جهل) أي: الغاصب جهل صاحب العين المغصوبة، مثال ذلك: شخص اغتصب سيارة ثم لم يدر من هو صاحبها الذي اغتصبها منه، مثل: شخص جاء بالقوة ووجد رجلا راكبا في سيارته فهدده بالسلاح وأخذ سيارته منه، ثم لا يعرف من هو حتى يرد سيارته إليه، هذا كمثال، وفي القديم يقع في الدواب ويقع في الدور والأراضي، وهذه المسألة رتبها المصنف -رحمه الله- بعد المسائل المتقدمة، والترتيب منطقي وصحيح؛ لأن أول ما تتحدث عنه رد العين المغصوبة كاملة إذا كانت موجودة، وإذا كانت غير موجودة ولها مثل رد مثلها، وإذا كانت غير موجودة ولا مثل لها رد قيمتها، فبعد أن انتهى المصنف من ذكر هذا كله، يرد في القيمة مسألة: هل هي كاملة أو هي ناقصة؛ لأن القيمة تتأثر بالكمال والنقص، فأدخل مسألة الخلاف في تعين المغصوب ونقصه وقيمته.
    إلى آخره، وبعدما فرغ من هذا: شرع -رحمه الله- في مسألة إذا جهل المالك، فكل المسائل المتقدمة إذا وجد المالك للمغصوب فحينئذ يتفاهم معه وكل يأخذ حقه، لكن لو لم يعلم صاحب الشيء المغصوب، فما الحكم؟ هل هذه الأحكام المتقدمة تسقط؟ ضمان العين وضمان المثل وضمان القيمة؟ فإذا كان مالك السيارة لا يعرفه أو كان يعرفه ثم غاب عنه ولم يدر أين ذهب، ولا يعرف هل هو حي أو ميت، فحينئذ يرد
    السؤال ماذا يفعل؟
    و الجواب في هذه الحالة قال بعض العلماء: يضمن إذا وجد مالكها، ويكون كاللقطة، يستحقها ويأخذها له حتى يجد صاحبها، وقال بعض العلماء: بل يتصدق بها على نية صاحبها، والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى يقتص للعباد بعضهم من بعض، ويكون القصاص في المظالم -إذا كانت حقوقا مالية ونحو ذلك- يكون القصاص بالحسنات كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون من المفلس؟ قالو: يا رسول الله! المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما المفلس الذي يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمته) ، لاحظ في قوله: (وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمته) ، المظلمة عامة: فشملت مظالم الغصوبات وغيرها، فيؤخذ من حسنات الغاصب على قدر مظلمته، فإذا تصدق بالمغصوب فإذا وافى الله يوم القيامة أخذت حسنات المغصوب وأعطيت لصاحبه فبرئت ذمته، فهذا المذهب هو أعدل المذاهب وأولاها -إن شاء الله- بالصواب، أن يتصدق به على نية صاحبه إبراء لذمته.
    أما لو أنه تصدق وبعد زمن ظهر صاحبه؛ فحينئذ تكون الصدقة مبينة على ظن الموت وجهالة الحال، يعني: من حيث تعذر وصول الحق إلى صاحبه، فلما ظن تعذر ذلك وبان خطأ الظن سقط ذلك ووجب عليه الضمان؛ لأن القاعدة تقول: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) فهو ظن أنه لن يستطيع أن يجد صاحبه، فلما ظن ذلك وتبين خطأ هذا الظن وجد عليه ضمان العين المغصوبة وحينئذ تكون له الحسنات ولا تكون للمالك الحقيقي، كأن التصدق فقط لدفع المظلمة، فإذا أمكن أن يأخذ حقه في الدنيا فإنه لا يصار إلى مظلمة الآخرة.
    إذا سرق مالا لإنسان وتعذر عليه أن يعرف صاحب المال، فإنه يتصدق به على نية صاحبه، فمثلا: شخص سرق -مثلا- عشرة آلاف من بقالة ثم مات صاحب هذه (البقالة) التي سرق منها، وهو يعلم ورثته، فحينئذ لا يصح أن يتصدق؛ لأن المال انتقل إلى الورثة، وحينئذ يجب عليه أن يدفع إلى ورثة المسروق منه، فالغصب والسرقة يتصدق فيهما بالشيء مغصوب وبالشيء مسروق إذا تعذر وجود صاحبه، فإذا وجده بعد ذلك أو وجد ورثته ضمن لهم على الأصل الذي قررناه في الضمان.

    الأسئلة

    الفرق بين الغصب والسرقة

    السؤال ما الفرق بين الغصب والسرقة؟
    الجواب هناك فروق بين الغصب والسرقة منها: أولا: أن الغصب يكون بالقوة والقهر، والسرقة تكون بالخفية والخفاء، فالمغصوب يؤخذ بالقوة والغلبة، والمسروق يؤخذ بالخلسة، إلى درجة أن صاحبه لا يشعر أنه أخذ منه ذلك الشيء، فأثناء الأخذ إذا نظرت إلى الغصب ففيه علم، وإذا نظرت إلى السرقة ففيها جهل.
    ثانيا: أن الغصب لا يجب فيه من حيث حكم الشرع عقوبة محددة مقدرة، والسرقة فيها العقوبة المحددة المقدرة إذا وجدت الشروط واستوفيت.
    ثالثا: أن وصف الشيء بكونه مسروقا أو كونه مغصوبا يختلف؛ ففي الغصب يقع الوصف على كل قليل وكثير جليل وحقير وبإمكانك تقول: اغتصب مسواكا وهو دون نصاب السرقة، لكن في السرقة لا يمكن أن نقول: سرق إلا إذا بلغ نصاب السرقة، فالسرقة لها حد، ولها قدر لا يمكن أن نصف الشخص بكونه سارقا إلا إذا بلغ المسروق هذا الحد.
    رابعا: أن السرقة لا يوصف المال فيها بكونه مسروقا إلا إذا أخذ من حرز، فإذا كان المال في صناديق مغلقة، نقول: حينئذ: سرق المال وكسر أو عالج مفاتيحها، لكن الغصب سواء كان المال موضوعا في حرز أو في غير حرز ما دام أنه أخذ بالقوة فإنه يوصف بكونه مغصوبا، وهناك فروق أخرى، لكن هذه من أهم الفروق بين الغصب وبين السرقة، وهناك طبعا مسألة ضمان المسروق، فقد اتفق العلماء: على ضمان المغصوب، لكنهم اختلفوا في ضمان المال المسروق، فبعض العلماء يقول: إنها تقطع يد السارق ولا يضمن المال، وبعضهم يقول: تقطع يده ويجب أن يرد المال إلى صاحبه، والله تعالى أعلم.

    استغلال الأوقات في طاعة الله

    السؤال الفراغ والشباب من نعم الله عز وجل التي يحاسب عليها يوم القيامة، فما توجيهكم تجاه هاتين النعمتين حتى يمكن استغلالها فيما يرضي الله عز وجل؟
    الجواب إن الله تعالى إذا أحب عبدا من عباده وأراده للخير والطاعة والبر بارك له في عمره وبارك له في ساعات ليله ونهاره، وهيأ له الخير في صبحه ومسائه، فلا تفتر له عزيمة، ولا يكل ولا يسأم من طاعة الله سبحانه وتعالى، فيجد ويجتهد، وكلما قضى طاعة شمر عن ساعد الجد لطاعة غيرها، شاكرا لله، حامدا لنعمه، قائما بحقوقه وفرائضه، مجتنبا لحدوده ومحارمه، يتلمس مرضاة الله في كل دقيقة وثانية وساعة وبرهة، لا يعرف إضاعة الأوقات، ولا انتهاك المحرمات، ولا لهو الساعات، يستشعر أن كل دقيقة وثانية ربما قدمته إلى نار أو إلى جنة، فالبركة في الساعات والبركة في الأوقات رحمة من الله سبحانه وتعالى يرحم بها من يشاء.
    وكم من ساعة أقام العبد فيها طاعة الله فحجبته عن عقابه وغضبه! وكم من ساعة انتهك فيها العبد حدود الله فزلت قدمه وساءت خاتمته! نسأل الله السلامة والعافية! فعلى الإنسان أن يعرف نعمة الله سبحانه وتعالى عليه بالعمر، ومما يعين الإنسان على التفكر والتدبر واغتنام ساعات العمر: أن ينظر إلى من حرم هذه النعمة، فينظر إلى الذين سلفوا وأقبلوا على ما قدموا، فيتذكر أهل القبور وما هم فيه من الحسرات، يتمنى الواحد منهم الساعات واللحظات لو أنها قضيت في الطاعات والمضاة، وتصور الإنسان أنه في هذه الساعة رهين الأكفان والبلاء بين يدي الله جل وعلا محتبسا مرهونا في قبره يتمنى أن يزاد في صحيفة عمله تسبيحة أو استغفار أو تحميد لله سبحانه وتعالى.
    إن هذه العطلة وهذا الفراغ نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى، ولا بد لكل مسلم أن يهيئ الأسباب لكي يبارك الله له في هذه العطلة، ومن أعظم الأسباب: أن يكثر من الدعاء، فلا يصبح ولا يمسي إلا وقد ذكر ربه واطرح بين يدي الله بدعوة صادقة، فإنه لا معين على الخير إلا الله سبحانه وتعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! الأمر الثاني: الأخذ بالأسباب التي يبارك بها في العمر، فإن الله تعالى إذا أراد أن يبارك للعبد في عمره هيأ له أسباب الخير، وليس هناك سبب بعد توحيد الله والإيمان بالله عز وجل يبارك بسببه في عمر الإنسان مثل بر الوالدين، فإن برهما والقيام عليهما ورعاية مصالحهما يبسط الله للعبد بذلك في رزقه وينسئ له في أثره، ويزيد له الخير والبركة في عمره، فلن تجد بارا إلا وجدته موفقا، ما طرق بابا من الخير إلا فتحه الله في وجهه، ولا سلك سبيلا من البر إلا يسره الله عز وجل من حيث لا يحتسب، البر بر الوالدين، فتمضي هذه العطلة وقد فاز العبد الموفق السعيد برضا والديه، وإياك ثم إياك وتوهين الشيطان، فإن بر الوالدين قد يكون بالجلوس عندهما، وقد يكون بالقيام على مصالحهما، وقد يكون برعايتهما وعلاجهما ومساعدتهما في التداوي حتى يتم شفاؤهما بإذن الله من الأمراض، فأي مصلحة وأي خير وأي نعمة تسديها إلى الوالدين فإنها من برهما.
    فاحرص كل الحرص على اغتنام العمر واغتنام هذه العطلة في رضا الوالدين فهذا من أفضل ما أنفقت فيه الأعمار وقضيت فيه ساعات الليل والنهار، فإن الله تعالى إذا علم من العبد حبه لوالديه وحرصه على برهما بلغه أعلى المراتب، فكل يوم تحرص على أنك تفوز بضاهما تحصل رضا أكثر من الرضا الذي كنت فيه من بر الوالدين، إن كانا في مدينة غير مدينتك سافرت إليهما، ولزمت أقدامهما وأدخلت السرور عليهما ومتعتهما بالنظر إليك والجلوس معك والأنس بك، وأدخلت السرور عليهما في قضاء الحوائج والمصالح والملاطفة، ذاكرا وصية الله من فوق سبع سماوات: {وبالوالدين إحسانا} [النساء:36] .
    كذلك مما يبارك بسببه في عمر الإنسان: صلة الرحم، فتمر عليك هذه العطلة فتأخذ أبناءك وبناتك وأهلك وزوجك إلى زيارة الأعمام والعمات والأخوال والخالات، فينظر الله سبحانه وتعالى إليك وقد غبرت قدميك خائفا منه، راجيا رحمته، تلتمس عفوه في صلة الرحم، خرجت من بيتك مشفقا، خائفا وجلا من هذه الرحم التي يقطع الله من قطعها، راجيا لرحمة الله في هذه الرحم التي يصل الله من وصلها.
    الناس اليوم من أحوج ما يكونون إلى الصلة الاجتماعية، وأكثر ما وقع من الدمار والتردي الذي يعيشه الناس في النفسيات والهموم والكربات كان من أعظم أسبابه: قطيعة الرحم.
    كان الرجل قبل خمسين عاما وفي أيام الشدة التي لا يعلمها إلا الله يسافر مئات الكيلو مترات من أجل أن يسلم على أخته أو يزور عمته أو خالته ملتمسا مرضاة الله، والله أعلم ما الذي يرجع به إلى أهله إذا رجع من هذه الصلة.
    صلة الرحم من أعظم الأسباب التي يبارك بسببها في الأعمار والأوقات، ومن أعظم الأسباب التي تنشرح بها الصدور،: خديجة رضي الله عنها، لما دخل عليها رسول الله عليه وسلم ذعرا مرعوبا مرهوبا، قالت له: (كلا والله، لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم) ، فالذي يصل الرحم لا يخزيه الله، ولن ترى عينك واصلا للرحم وهو في خزي أبدا، بل إنه في رحمة وفي توفيق من الله سبحانه وتعالى، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (إني أنا الله خلقت الرحم واشتققت لها اسما من اسمي، فأنا الرحمن وهي الرحم، من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته) .
    الأخت حينما تدخل عليها خاصة بعد موت الوالد والوالدة من أحوج ما تكون إلى زيارة أخ يصلها، ويمسح على رءوس أبنائها ويلاطفها ويشعرها أمام زوجها أن لها مكانة، فلا أحد يعلم مقدار هذه الأحاسيس والمشاعر ومقدار هذه الملاطفة وهذا الإحسان إلا الله وحده الذي وصى بصلة الرحم من فوق سبع سماوات، ورتب عليها الخير ورتب على عكسها وضدها ضد ذلك، فالحرص كل الحرص على صلة الرحم؛ لأن الإنسان أيام الدراسة وأيام العمل مشغول ولكن الآن لا يعذر، وإذا وصلت فينبغي أن تكون أكرم من وصلت وتسعى إلى درجات الكمال، فإن وجدت الأخت بحاجة قضيت حاجتها، وإن وجدتها في كربة وأنت قادر -بإذن الله- فرجت كربتها، وإن وجدتها في هم وغم ذكرتها الله جل جلاله الذي يبدد الهموم والغموم ويزيل الكربات، فلا يمر عليك أسبوع حتى ولو كنت في شغل ولك رحم تصلها إلا بارك الله لك في عمرك: (من أحب منكم أن ينسأ له في أثره، وأن يبسط له في رزقه، وأن يزاد له في عمره؛ فليصل رحمه) ، وقالوا: إنها من الطاعات التي تعجل فيها المثوبة والعقوبة، فصلة الرحم عقوبتها عاجلة، وأيضا نعمتها وخيرها وبرها وأثرها وبركتها عاجله، مع ما أعد الله من الآجل للعبد.
    كذلك مما تنفق فيه الأعمار وتقضى فيه ساعات الليل والنهار وهو من أحب ما يرضي الله عز وجل: قيام الليل، فإن الإنسان إذا كان في أثناء عمله وشغله قد لا يستطيع أن يقيم الليل ويتعذر بالمشاغل، ولكن اجعل لك ساعات ولحظات تخلو فيها بربك إذا هدأت العيون وسكنت الجفون، قال أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه: (صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، وصوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور) ، فمن أراد أن ينور الله ظلمة قبره، بل من أراد أن يسدد الله لسانه، وأن يقوم بنانه وأن يصلح شأنه وحاله فليحرص على قيام الليل، فإن الله لما أوحى إلى نبيه بالرسالة -عجبت والله- قال تعالى: {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا} [المزمل:1 - 2] ، فأول ما أمر الله به بعد توحيده قيام الليل، قالوا: لأن هذا يعين على الرسالة، فإذا أعان على أفضل الأشياء وأعظمها وأجلها فمن باب أولى أن يعين على غير ذلك، وذكر الله وبين سبحانه أن قيام الليل فيه خير كثير حتى على كلام الإنسان: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا} [المزمل:6] ، قال بعض العلماء: لا يحافظ على قيام الليل أحد إلا سدد في لسانه وعصم من فتنة قوله وبيانه، فيحرص الإنسان على هذا الخير العظيم.
    كذلك من الطاعات: صيام الإثنين والخميس، وصيام يوم وإفطار يوم وهو أفضل الصيام وأحبه إلى الله عز وجل، وكذلك صيام الأيام البيض، وكذلك أيضا من الطاعات والقربات التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها: طلب العلم، فإن الله عز وجل أحبه وأحب أهله، فيحرص على زيارة العلماء وغشيان حلق الذكر، ويجلس في رياض الخير يخلو فيها بطاعة الله عز وجل ومرضاته، لعل الله أن يحمله علما نافعا، وأن يبارك فيما تعلمه وعلمه، ويحرص إذا جلس في مجالس العلم على أن يكون في مراتب الكمال خشوعا وتخشعا، وتذللا وتضرعا لله سبحانه وتعالى، وإخلاصا وصدقا وإنابة، فيكون أفضل من يجلس في مجلس العلم، فلا يخرج من بيته وفي قلبه غير الله، ولا يجلس في مجالس العلم وفي قلبه غير الله، ولا يذاكر العلم ولا يسمع العلم إلا وهو يريد ما عند الله سبحانه وتعالى حتى يجعل الله له علما نافعا ويبارك له في هذا العلم، ويبارك له في السنة، ويبارك له في هذا النور والوحي الذي يأخذه.
    كذلك أيضا: يحرص على زيارة إخوانه من طلاب العلم ومذاكرتهم وحبهم في الله، ويغيب في سرية قلبه لهم الخير، فهذا كله من الأمور التي يحرص عليها طالب العلم فيبارك له في وقته ويبارك له في عمره.
    والوصية الأخيرة التي هي جماع الخير كله: تقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله وفقه وسدده، وجعل له فرقانا يفرق به بين الحق والباطل حتى ينتهي بذلك إلى جنة الله ورضوان الله.
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في أعمالنا، اللهم اجعل لنا خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

    حكم الإفطار في صيام القضاء

    السؤال هل يجوز الإفطار في يوم صيام القضاء، وإن لم يكن، فماذا يترتب عليه؟
    الجواب للعلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة قولان مشهوران: من أهل العلم من قال: لا يجوز للمسلم أن يفطر في قضاء رمضان، وذلك لأنه فرض عليه، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، أي: فأفطر، فيجب عليه أن يصوم عدة من أيام أخر، فهي فرع عن أصل واجب، والقاعدة: (أن الفرع يأخذ حكم أصله) فلا يجوز له أن يفطر على هذا الوجه، وإذا أفطر متعمدا كان كمن تعمد الفطر في رمضان، فيفصل فيه بين وجود العذر وعدم وجود العذر، حتى قال بعض الفقهاء من المالكية: من أفطر في القضاء متعمدا كان كمن أفطر في رمضان متعمدا، فيلزمه القضاء والكفارة؛ ولذلك جعلوا هذا القضاء منزلا منزلة الأداء، حتى قالوا: لو جامع في القضاء وجبت عليه الكفارة؛ لأن الله تعالى قال: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، ولأن القاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء) ، و (البدل يأخذ حكم مبدله) فيجب عليه الضمان من هذا الوجه.
    وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز له أن يفطر، وهذا مذهب مرجوح ضعيف، والصحيح: أنه لا يجوز له في القضاء أن يفطر إلا من عذر؛ وذلك لقوة الأدلة التي ذكروها من الكتاب في قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، أي: فأفطر فعليه عدة من أيام أخر، أي: يلزمه أن يصومها، فإذا ثبت أنها منزلة منزلة رمضان فحينئذ يكون حكمها حكم رمضان لعدم وجود دليل على الفطر فيها.
    أما الدليل الثاني: فدليل المفهوم، فهنا دليل منطوق وهناك دليل مفهوم، ودليل المفهوم مستنبط من قوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) ، مفهوم الصفة في قوله: المتطوع، يدل على أن غير المتطوع ليس بأمير نفسه، فلما قال: (المتطوع أمير نفسه) ، يعني: من حقك أنك إذا كنت في صيام تطوع أن تفطر إذا شئت ولو لم يوجد عذر، وهذا بظاهر المنطوق، ومفهومه أن غير المتطوع ليس بأمير نفسه؛ لأن المفهوم عكس المنطوق كما هو معلوم، وبناء على ذلك: اجتمعت دلالة المنطوق والمفهوم على عدم جواز فطره في قضاء رمضان إلا إذا وجد العذر، والله تعالى أعلم.

    حكم الجماع في صيام القضاء

    السؤال هل يأخذ في يوم القضاء حكم اليوم في رمضان من حيث كفارة الجماع؟
    الجواب هذه مسألة راجعة إلى السبر والتقسيم في مسلك أصولي معروف، فالحديث في المجامع أنه قال: (جاء رجل يضرب صدره، وينتف شعره يقول: يا رسول الله! هلكت وأهلكت؛ جامعت أهلي في نهار رمضان وأنا صائم) ، هذه ثمانية أوصاف، وهذه طبعا أوصاف الموجود، (جاء رجل) ما له تأثير؛ لأن الرجل والمرأة في الحكم سواء، فيسقط هذا الوجه وتقول: غير مؤثر، (يضرب صدره وينتف شعره) يعني: متفجع، هل الذي يتفجع يناسب أن يعاقب أو يخفف عنه؟ إذا: ليس هناك مناسبة بين العقوبة وبين قوله: (يضرب صدره وينتف شعره) فيسقط قوله: يضرب صدره وينتف شعره.
    يقول: (هلكت وأهلكت) هذا تفجع بالقول، وهناك تفجع بالفعل، فكما سقط تفجع الفعل فإنه يسقط تفجع القول، وقوله: (جامعت) هذا الجماع، فإذا قلت: جامعت، وصف مؤثر في وجوب الكفارة، فلو استمنى لن تجب عليه الكفارة؛ لأن الاستمناء ليس بجماع، ولو فاخذ المرأة فأنزل لم يجب عليه؛ لأنه قال: (جامعت) فلا بد من وجود الجماع، فيجب عليه الكفارة إذا حصل الجماع والمالكية والحنفية، قالوا: لا.
    (جامعت) هذا من جهة الشهوة، وكونه أفطر بالجماع فقد أفطر بالشهوة، فكل مفطر بالشهوة كما لو استمنى أو داعب المرأة فأنزل وأنزلت وجب عليهما أن يكفرا، فنظروا إلى المعنى وقالوا: إن العلة حرمة رمضان، فإذا انتهك الحرمة بالفطر في موضع أمر بالصيام فيه لزمته الكفارة، فكأن الشرع جعل الحرمة للشهر، فيقولون: (جامعت) لا ننظر إليها بلفظها، وإنما ننظر إليها بمعناها، أنه إذا جامع أفطر، وإذا أفطر انتهك حرمة الشهر، فكل من أفطر منتهكا للحرمة حتى ولو أكل أو شرب عليه الكفارة، هذا وجه من يقول: إن من أكل متعمدا في نهار رمضان عليه الكفارة؛ لأنه يرى أن الوصف هنا ليس بذاته يعني: الجماع فقط، إنما الجماع في حكمه، طبعا الجمهور يقولون: إذا جامع أهله، فالإجماع على أن الكفارة تجب عليه، لكن لو زنى -والعياذ بالله- فجامع غير أهله، فالظاهرية يقولون: ليس عليه كفارة؛ لأنه قال: جامعت أهلي، والجمهور يقولون: إذا كان من جامع الأهل عليه كفارة! فمن باب أولى: إذا زنى فهو أولى أن يكفر، ولذلك هنا تدرك أن الشريعة تريد المعنى فقال: (جامعت أهلي في نهار رمضان) فإذا قيل: في نهار رمضان، نقول: هذا حكم خاص برمضان لا ينتقل إلى غيره، فالقضاء لا يأخذ حكم الأداء، وإذا قلنا: إن نهار رمضان سببه فرضية الصوم فيه، والله يقول: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، يكون الجماع في عدة من أيام أخر كالجماع في نهار رمضان، ومن هنا يقوى قول من قال: من جامع في القضاء عليه الكفارة، والله تعالى أعلم.

    الفرق بين ضمان القيمة وضمان أرش النقص

    السؤال أشكل علي ضمان القيمة يوم كذا ولم نقل مع ضمان أرش النقص؟
    الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد فضمان أرش النقص متعلق بمسألة رد عين المغصوب مع النقص، وضمان القيمة متعلق بمسألة تعذر رد العين، فهناك فرق بين المسألتين، ويضمن الغاصب أرش النقص إذا رد العين وقيمتها ناقصة بغير سعر السوق، أي: بسبب التغير أو بسبب جناية من الغاصب؛ لكن المسألة التي معنا هي: ضمان القيمة إذا أتلف المغصوب كلية، فهناك فرق بين المسألتين، والله تعالى أعلم.

  16. #376
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب الغضب )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (376)

    صـــــ(1) إلى صــ(13)


    شرح زاد المستقنع - باب الغصب [7]
    مما تعم به البلوى: إتلاف أموال الناس عمدا أو خطأ، وهذه المسألة ليست من مسائل الغصب، ولكنها تشترك مع الغصب في لزوم الضمان، ولهذا تحدث العلماء عنها وبينوا أحكامها مفرقين بين إتلاف المال المحترم وغير المحترم، ومفرقين بين العمد والخطأ في هذا كله.

    أحكام إتلاف أموال الناس

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن أتلف محترما، أو فتح قفصا، أو بابا، أو حل وكاء، أو قيدا، أو رباطا، فذهب ما فيه، أو أتلف شيئا ونحوه؛ ضمنه] هذه الجملة ليست في الحقيقة تابعة لباب الغصب، وإنما هي متعلقة بمسألة مهمة تعم بها البلوى، ولا يخلو زمان ولا مكان من السؤال عنها، وهي: مسألة إتلاف مال الناس، ومسائل الإتلاف متعلقة بالغصب؛ لأنها توجب الضمان، والغصب يوجب الضمان، ولذلك ذكر المصنف رحمه الله مسائل الإتلاف والتعدي على أموال الناس وممتلكاتهم، فالأصل الشرعي يقتضي أن المسلم لا يجوز له أن يفسد في الأرض، وإتلاف الأشياء المحترمة محرم بإجماع العلماء ما لم يدل الدليل على جواز الإتلاف، سواء كان الإتلاف كليا أو كان الإتلاف جزئيا، وسواء كان الإتلاف للأعيان والذوات ككسر زجاج أو قتل حيوان أو إهلاك نبات أو كان إتلافا للجزء والبعض، والأصل في تحريم هذه الإتلافات قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف:56] ، فقد فسر هذه الآية الكريمة أئمة السلف ودواوين العلم بأن المراد بها إتلاف الزروع وقتل الحيوانات ونحو ذلك، ومنهم الإمام مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما، هذا الإمام عرض القرآن على ابن عباس مرتين يستوقفه عند كل آية يسأله عن حلالها وحرامها وما تضمنته من أحكامها، وهذا الإمام الجليل الذي قال فيه بعض السلف: (ما أظن مجاهدا أراد بالعلم إلا وجه الله تعالى) ، يقول مجاهد: إن المراد بقوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف:56] : إتلاف الأشياء المحترمة من إهلاك الزرع وقتل الحيوان ونحو ذلك، وقد أكدت هذا المعنى آيات أخر كقوله تعالى: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} [يونس:81] ، ونفيه سبحانه لمحبة المفسدين: {والله لا يحب المفسدين} [المائدة:64] ، كل هذا يدل على تحريم الإفساد وإتلاف الأشياء، والتسبب في ذهاب المنافع، وأنه لا يجوز للمسلم أن يقتل حيوانا ولا أن يتلف منافع ذلك الحيوان، ولا أن يفسد في الأرض بإهلاك الزروع والنباتات، ولا أن يفسد في الأرض بهدم العمران والبيوت، وهكذا ما يكون من تعطيل المنافع الموجودة كالمرافق العامة التي يرتفق فيها الناس.
    وأشد ما يكون هذا الإفساد إذا كان في الأماكن التي لها حرمة مما يتعلق بالمساجد ودور العلم؛ لأنها أوقاف مسبلة محبسة، ومما يعد لسقي الناس وشربهم أو ما يعد لركوبهم صدقة عليهم، فلا يجوز للمسلم أن يتسبب في إتلافها، ولا أن يترك من يتولى أمره كأبنائه يفسدون فيها، فإنه متحمل للمسئولية كما سنبين أحكام ذلك كله، والناس يتساهلون في مثل هذا إلا من رحم الله، فيظنون أن الصبي إذا أتلف مثل هذا الشيء أو إذا ترك الصبي يفعل ما شاء فأتلف هذه الأشياء أنه لا شيء عليهم، والواقع أنهم مسئولون أمام الله عز وجل عن تعاطي الأسباب، ومسئولون كذلك عن ضمان كل ما أتلفه أبناؤهم وصغارهم؛ لأن الله جعلهم قائمين عليهم، وأمرهم أن يقوهم من ناره وعذابه، فالإجماع منعقد على أنه لا يجوز للمسلم أن يتلف شيئا مما فيه مصلحة ومنفعة إلا إذا أذن الشرع بذلك الإتلاف أو أمر به كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    أركان الإتلاف

    وقوله: (ومن أتلف محترما) الإتلاف له ثلاثة أركان يقوم عليها، ومسائله عند أهل العلم مبنية على هذه الأركان الثلاثة، فعندنا متلف وشيء يتلف أي: يقع عليه الإتلاف، والإتلاف نفسه، هذه ثلاثة أركان تقع بها جريمة الإتلاف إذا كانت عمدا، وحينئذ يرد السؤال عن أحكام هذه الأركان الثلاثة، وقد جمعها المصنف رحمه الله بقوله: (ومن أتلف محترما) (من) هذا الشخص الذي يقوم بالإتلاف (أتلف) الفعل، (محترما) : المكان الذي وقع عليه الإتلاف، فالأحكام تتعلق بهذه الثلاثة الجوانب.
    فقوله: (ومن) : من صيغ العموم وتشمل الذكور والإناث، والصغار والكبار من حيث الأصل إلا إذا دل الدليل على استثناء في الخطاب، لكن من حيث العموم هي عامة شاملة للذكر والأنثى والصغير والكبير حتى أن الصبي لو أتلف شيئا محترما ولو كان عمره سنة فدفع برجله شيئا فكسره وذلك الشيء ملك للغير يجب ضمانه.
    الشيء المتلف: أي: شيء فيه مصلحة، لكن بشرط أن يكون محترما شرعا، فإذا كان الشيء له احترام وله أصل يدل على جوازه وإباحته، فإنه حينئذ يضمن إذا تلف كما سنبين إن شاء الله تعالى، ويشمل هذا إذا أتلف آدميا من حيث الأصل، أو أتلف حيوانا أو بهيمة فقتلها وأتلفها، أو أتلف نباتا كزرع أحرقه أو قلعه من الأرض فمات، أو أتلف الثمر قبل نضجه فقصه من النخلة، هذا بالنسبة للشيء المتلف سواء كان حيوانا من الحيوانات آدميا وغيره، أو من غير الحيوانات، كالزجاج والخشب، ونحو ذلك.
    نبدأ بقوله: (ومن) قلنا: يشمل الصغير والكبير، فنبدأ بالكبير، فالكبير البالغ العاقل، إذا أتلف شيئا على حالتين: إما أن يتلفه متعمدا قاصدا إتلافه، وإما أن يتلفه مخطئا.
    مثال ذلك: لو أن رجلا أخذ (منجلا) وقلع نباتا لجاره وقصد إتلاف النبات على صاحبه، فحينئذ هذا إتلاف موجب للضرر على سبيل العمد، فإذا وقع هذا النوع من الإتلاف من الكبير البالغ العاقل، سواء وقع إتلافه على حي كحيوان أو غير الحيوانات، فيترتب عليه أمران: الأمر الأول: عقوبة شرعية.
    الأمر الثاني: الضمان من حيث الأصل.
    فلو جاء وأتلف زرع جاره واشتكى جاره إلى القاضي، وقال القاضي: لم أتلفت زرع جارك؟ قال: أنا متعمد قاصد أريد أن أفسد ماله.
    فالقاضي يعزره ويؤدبه -وسنبين أحكام التعزير في باب التعزير، لا نتكلم هنا على عقوبته إذا كان متعمدا فلها باب خاص، إما أن تكون عقوبة مقدرة كما في الجنايات على الأرواح والأنفس وهذه لها باب خاص وهو باب القصاص ومسائل الاعتداء على النفس والأطراف- وتفصل فيه مسائل الاعتداء على النفس والأطراف، وفي هذه الحالة: إذا كان الكبير البالغ قد جنى جناية عمدا نعاقبه بما يليق به، ويطالب بضمان المال الذي أتلفه على أخيه المسلم بشرط أن يكون هذا المال محترما شرعا.

    حكم إتلاف مال الغير خطأ

    الحالة الثانية: أن يقدم على إتلاف مال أخيه مخطئا، كرجل أخذ سيارة شخص فحصل حادث أتلف بسببه السيارة، فهو لم يقصد ولم يتعمد إتلافها، فنقول: يترتب شيء واحد، وتسقط العقوبة والتعزير؛ لأنه لا يقصد، ويجب ضمان حق أخيه المسلم.
    إذا: ضمان الحق يستوي فيه أن يكون متعمدا أو مخطئا، فالشريعة توجب ضمان حق المسلم سواء كان متعمدا أو مخطئا، ثم الضمان يختلف: فتارة تجعل الشريعة النفس بالنفس كالقاتل يقتل، وتارة توجب الضمان بالأموال، إذا كانت أموالا كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله، إذا: يتبين من خلال هذا: أن الكبير البالغ العاقل: إما أن يتعمد أو يخطئ، فإذا تعمد ترتب أمران: أولهما: عقوبته بالتعزير بما يليق به وبجنايته، والثانية: ضمان الحق لصاحبه.
    ومسألة إيجاب الضمان عليه إذا كان مخطئا، هذه تحدث إشكالا، فالله تعالى يقول: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286] ، ويقول تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب:5] .
    فخذها قاعدة: أن الخطأ يجب فيه الضمان من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، وتوضيح ذلك: أن الأحكام الشرعية التي يخاطب بها المكلف كإيجاب الصلاة والزكاة والصوم، هذه يكلف بها الإنسان ويخاطب بها، وإذا أخطأ سقط عنه الإثم، لكن ضمان هذه الحقوق لا يسقط بالخطأ، ونبدأ بحق الله، مثلا: لو أن شخصا قلت له: قم فصل الظهر، قال: صليت، وظن أنه صلى وهو مخطئ لم يصل، ثم لما مضت ساعة تذكر أنه كان مخطئا حينما قال لك: صليت، فيجب عليه أن يصلي.
    إذا: خطؤه أوجب سقوط الإثم عنه طيلة الفترة التي كان فيها مخطئا، فلما تبين له أن ذمته مشغولة سقطت عنه المؤاخذة، وتوجه الخطاب عليه أنه لم يصل، فبناء على هذا: إذا كان الشخص مخطئا نسقط عنه الإثم، لكن نوجب عليه الضمان، ولذلك ترى نص القرآن حينما أمر الله عز وجل بالدية فيمن قتل أخاه المسلم مخطئا: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} [النساء:92] ، فالقتل إذا وقع بالخطأ وجب ضمانه بالدية، مع أنه مخطئ، والله يقول: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286] ، ففهمنا أن المؤاخذة من جهة التكليف وهي: وجوب ترتب الإثم على الفعل.
    إذا: مسألة ضمان المتلفات يستوي فيها المخطئ والمتعمد، الكل يضمن، إذا ثبت هذا يرد
    السؤال لماذا تطالب الشريعة المخطئ بالضمان، قد يرد إشكال ويقول لك: هذا رجل أخطأ فصدم سيارة أو قتل إنسانا بسيارته دهسا وهو لا يريد قتله، أو دهس بهيمة أو كسر محلا أو نحو ذلك لماذا توجب عليه الضمان مع أنه مخطئ؟
    و الجواب أن هذا يدل على سمو منهج الشريعة الإسلامية وكمالها؛ لأن الأموال لا تتلف إلا بشيء من التفريط، لا يمكن أن يقع إتلاف إلا بشيء من التفريط، فالدهس والقتل لا يقع إلا بسبب تفريط السرعة وعدم ضبط الإنسان لقيادته مثلا، والدابة لا تتلف الأشياء وهي في ملكك إلا بسبب التساهل بتركها ترعى في أموال الناس وتتلفها.
    فلو فتح باب: أنه لا يجوز الضمان في الخطأ لضاعت حقوق الناس؛ ولذلك تجد الناس الآن إذا علم أنه لو حصل بينه وبين أخيه حادث أتلف به سيارته أنه يضمن، احتاط وأخذ بجميع الأسباب التي بإذن الله عز وجل تمنعه وتحول بينه وبين الوقوع في أذية أخيه المسلم.
    إذا فمنهج الشريعة من أكمل ما يكون وأتم ما يكون في ضمان حقوق الناس، وهذا يحفظ للناس دماءهم وأموالهم وأعراضهم.

    حكم إتلاف غير المكلف مال غيره

    الحالة الثانية: أن يكون الجاني صغيرا، فإذا كان الجاني صغيرا فإنه يسقط عنه جانب التكليف فلا نقول: إنه آثم، إذا وقع منه شيء متعمدا؛ لأن الصغير إما أن يتعمد كالكبير أو يخطئ، وهنا قاعدة ذكرها العلماء تقول: (عمد الصبي والمجنون خطأ) ، هذه قاعدة تجعلها معك في المسائل الشرعية، أن كل شيء تعمده الصغير الذي هو دون البلوغ أو المجنون الذي لا يعقل تجري عليه أحكام الخطأ، ولا تجري عليه أحكام العمد.
    فلو أن صبيا -لا قدر الله- أخذ سلاحا فقتل شخصا دون أن يدفعه أحد ودون أن يكرهه أحد، فقتله متعمدا فإنه لا يقتص منه، بل ينزل منزلة الخطأ، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وخاصة إذا كان دون التمييز، وفيه خلاف ضعيف سنبينه -إن شاء الله- في باب الجنايات وهذا الخلاف إذا كان مميزا عند بعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه.
    إذا: عمد الصبي والمجنون خطأ، فالمجنون لو جاء متعمدا وأخذ حديدة فكسر زجاجا أو كسر محلا لشخص فأتلف ماله، لو فعل هذا الفعل عاقل لعاقبناه وأوجبنا عليه الضمان، لكن إذا فعله المجنون قلنا: عمده خطأ وينزل منزلة الخطأ، فيجب الضمان ولا تترتب عليه العقوبة.
    أما الدليل على إسقاط المؤاخذة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق) ، إذا: دلت السنة على أنه لا يؤاخذ الصبي ولا المجنون وإذا سقطت عنه المؤاخذة فإنه لا يعاقب على ذلك ولا تترتب على فعله العقوبة، هذا إذا تعمد الصبي، أما إذا أخطأ فالحكم واحد.
    إذا: الصبي إذا أتلف شيئا وجب ضمانه، فلو أنه أتلف مالا للغير، وقال ولي الصبي: هذا صبي، نقول: إنه صبي ولكن يجب الضمان، فالصبي لا نؤاخذه ولا نعاقبه ولكن يجب الضمان عليه.
    وإذا أوجبنا الضمان على الصبي، فالصبي والمجنون لهما حالتان: الحالة الأولى: أن يكون عند الصبي مال، مثل: اليتيم، يتوفى والده ويترك له إرثا فيرث -مثلا- مائة ألف، ثم أقدم هذا الصبي على شيء -مثلا- قيمته عشرة آلاف ريال فأتلفه، فحينئذ تأخذ من ماله وتضمن لصاحب الحق، هذا إذا ترك له أو عنده مال ورثه من قريب؛ فإننا نأخذ هذا المال ونسد به ما وجب ضمانه، لكن بشرط، فيشترط إذا ضمنا المتلف من مال الصبي: ألا يكون هناك إفضاء وسببية من الولي، فلو أن الولي أمر الصبي بشيء فيه إتلاف وأتلفه فإنه يجب الضمان على الولي لا على الصبي، وذلك؛ لأن الصبي كالآلة مسلوب الإرادة والاختيار؛ لأنه لا يعقل، وهكذا المجنون: إذا أمره وليه أن يتلف شيئا أو أمره أن يفسد شيئا فإنه يجب الضمان على الولي، ومن أمثلة هذه المسألة: لو أن صبيا أمره بالغ وقهره على أن يقتل شخصا سقط القصاص عن الصبي ووجب القصاص على الآمر، وسيأتي -إن شاء الله- في مسألة القتل بالأمر والقتل بالإكراه، الشاهد هنا: أن الصبي يضمن في ماله بشرط: ألا يكون للولي سبب في التعدي.
    وهكذا إذا كانت للولي سببية.
    ومن أمثلتها: ما يقع في حقوق الله عز وجل، فالحاج والمعتمر مأمور باجتناب ما أمر الله باجتنابه من محظورات الإحرام، فإذا كان الصبي دون التمييز وأحرم عليه وليه فحججه وليه أو أعمره، فإنه إذا وقع في الإخلال فإنه يكون في مال الولي لا في مال الصبي، وبناء على ذلك: يفصل في هذه المسألة في الضمان في حق الله عز وجل وحق المخلوق، فالصبي في جميع الأموال قلنا: يضمن إذا كان له مال، وإذا لم يكن له مال ضمن عنه وليه، ولو أن والد الصبي جاء به فأدخله إلى مكان فقام الصبي فأتلف شيئا فإن والده يضمن ذلك الشيء إذا لم يكن للصبي مال، هذا بالنسبة للمتلف إذا كان آدميا.
    أما إذا كان المتلف حيوانا فله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون ملكا لشخص، والحالة الثانية: أن يكون غير مملوك كالدواب المنفلتة والسائبة.
    فإذا كانت الدواب ملكا لشخص فتارة يضمن صاحبها وتارة لا يضمن، وأما إذا كانت مسيبة فهذه فيها تفصيل عند العلماء في مسائل تارة يكون فيها الضمان على بيت مال المسلمين عند بعض أهل العلم، وبعضهم يرى أن السائبة لا ضمان عليها مطلقا.
    قال: (ومن أتلف) عرفنا من الذي يقوم بالإتلاف، (ومن أتلف) : وأتلف الشيء: إذا أفسده وعطل منافعه وأذهبها، فإن كان الشيء من الحيوانات فقد يكون إتلافه كلية بقتله وإزهاق روحه، وقد يكون الإتلاف جزئيا كما لو كسر يد البهيمة أو أتلف عضوا من أعضائها، ويكون الإتلاف لغير الحيوان مثل: الآلات والمصنوعات، فإذا أتلف بعضها وبقي بعضها: يكون إتلافا جزئيا، وإذا أتلفها كلها يكون إتلافا كليا.
    فالإتلاف يكون بالقتل، ويكون بالتحريق، ويكون بالكسر، فكل شيء فيه تعطيل للمنافع وإذهاب للعين ومصالحها فإنه إتلاف، وتارة يكون كاملا وتارة يكون ناقصا.

    حكم إتلاف الأشياء المحترمة

    فقوله: (ومن أتلف شيئا محترما) ، (شيئا) : نكرة، والقاعدة: أن النكرة تفيد العموم، (شيئا) أيا كان هذا الشيء، سواء كان حيا أو كان غير حي جامدا أو مائعا، لكن بشرط أن يكون محترما.
    قوله: (محترما) قيد يخرج غير المحترم، وغير المحترم هو: الشيء الذي حرمه الشرع، ومن أمثلة ذلك: الميتة والكلب والخنزير، وكذلك السباع العادية، والفواسق، فهذه كلها غير محترمة، قال صلى الله عليه وسلم: (خمس يقتلن في الحل والحرم) ، فلما ذكر الخمس الفواسق اللاتي يقتلن في الحل والحرم ووصفهن بالفسق أسقط حرمتهن، وأجاز إتلافها وعد ذلك قربة لله سبحانه وتعالى، وبناء على ذلك: لا بد وأن يكون الشيء المتلف له حرمة.
    وكما يكون من الحيوانات غير محترم يكون من غير الحيوانات، مثل: الخمر من الشراب، والصليب، وآلات اللهو، فكل هذه لا حرمة لها شرعا ولو أتلفت فإنه لا يجب ضمانها، وآنية الذهب وآنية الفضة كذلك؛ لأن الله عز وجل حرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح- من حديث حذيفة رضي الله عنه: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحائفهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) فلو هشم شخص إناء ذهب أو إناء فضة وكسره، فإنه لا يجب عليه ضمانه، وإذا ثبت هذا فإن كل شيء محترم يجب ضمانه إذا طالب صاحبه بحقه.
    فقوله: (ومن أتلف شيئا محترما) هذه الجملة صدر بها المصنف؛ لأنه سيذكر ما تفرع عليها من المسائل المبنية على قاعدة الإتلاف.

    الإتلاف المباشر

    قال رحمه الله: (ومن أتلف محترما، أو فتح قفصا، أو بابا) .
    الإتلاف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الإتلاف المباشر.
    القسم الثاني: الإتلاف السببي أو الإتلاف بالسببية.
    الإتلاف المباشر: أن يقوم الشخص بنفسه بفعل الإتلاف، كأن يحرق الدار بنفسه، أو يكسر الزجاج بيده فهذا إتلاف مباشر.
    أما الإتلاف السببي: يكون من الشخص إذا فعل الشيء الذي يقع به الإهلاك؛ لكن يباشر الإهلاك غيره، كشخص بنى جدارا فجاء شخص وجلس تحته، فجاء آخر ودفع الجدار عليه؛ فالذي قتله الجدار، والذي أحدث الجدار هو صاحب الأرض، لكن الذي دفع وباشر الإتلاف بنفسه شخص آخر.
    ومن أمثلته: من حفر بئرا في مزرعته، أو حفر أرضا لعمارته، فهذه الحفرة جاء شخص ودفع غيره فيها فقتله ومات، فالحفرة حفرها سبب في القتل، لكن الدفع فيها سبب مباشر للقتل، فهذا إتلاف مباشر، وهناك إتلاف بواسطة، فالإتلاف المباشر لا إشكال فيه، وعند العلماء عدة قواعد في مسألة الإتلاف بجميع صوره من القتل المباشر والقتل بالسببية، والجناية المباشرة والجناية السببية، والضرر المباشر والضرر بالسببية، فالإتلاف إذا كان مباشرا -أيا كان سواء كان إتلافا لحيوان أو غيره- يكون موجبا للضمان من حيث الأصل سواء تعدى الشخص أو لم يتعد.
    فتصبح القاعدة: المباشرة تقتضي الضمان مطلقا، أما السببية فلا تقتضي الضمان إلا بالتعدي والتفريط، وعلى هذا سيكون -إن شاء الله- تفصيل العلماء رحمهم الله للمسائل.
    ابتدأ رحمه الله بقوله: (ومن أتلف شيئا محترما) تلاحظ أن العبارة المراد بها: المباشرة، بمعنى: أن الإتلاف للشيء وقع بمباشرة الإنسان وليس بواسطة، ومن أتلف شيئا محترما، سواء أتلفه بيده أو برجله أو بسيارته، فكل هذا يعتبر إتلافا مباشرا.
    الإتلاف بالسببية

    وقوله: (أو فتح قفصا) هنا الإتلاف بالسببية، وفيه كلام طويل للعلماء رحمهم الله، فالقفص قد يكون فتحه رحمة، وقد يكون فتحه عذابا وبلاء، فمثلا: إذا كان هناك عصفور أو طائر فتحه الشخص شفقة عليه ورحمة به؛ لكن إذا كان بداخله أسد أو كان بداخله سبع مفترس، فهذا لا شك أنه سيفضي إلى هلاك كثير من الناس والحيوانات، فلذلك يختلف فتح القفص من جهة الشخص الفاتح، لكن في صورة الأمر وحقيقته تلاحظ مسألة مهمة وهي: هل فتح القفص يكون مباشرة أو سببية، فيه وجهان للعلماء؟ الوجه الأول: بعض العلماء يرى أن كل من فتح قفصا على حيوان ضار وخرج الحيوان منه وأضر فهذا كالمباشرة؛ لأن الحيوان لا عقل عنده ولا إدراك، ومثل هذا الفعل لا شك أنه مفض للخروج، والخروج مفض للهلاك والإتلاف والإفساد، فيقولون: مثل الذي أمسك حية بيده وقتل بها شخصا، فحينئذ صحيح أن الحية هي التي قتلت، لكن من الذي حركها وقربها؟ فهنا ولو أن في الصورة شيئا من السببية لكنها للمباشرة ألصق وأقرب والحكم بها أقوى، وهذا القول لا يفصل فيه، بل نقول: من فتح قفصا مطلقا سواء خرج الحيوان بعد الفتح مباشرة أو تأخر فعليه الضمان؛ لأن الحيوانات لا تناط بها الأحكام؛ ولذلك تسند الأحكام إلى ما يناط إليه، فهذا الشخص هو الذي فتح وأتلف وحصل بفعله وفتحه ما حصل من الضرر.
    وبناء على هذا القول: لا تفصيل، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله.
    الوجه الثاني: هناك من أهل العلم من فصل، فقال: من فتح قفصا نظرنا: إما أن يقع خروج الحيوان بعد الفتح مباشرة كما لو كان على الباب فبمجرد فتحه خرج، فحينئذ نعتبره في حكم المباشرة، ونرى أن فتحه مؤثر وموجب للضمان، أما لو أنه فتح وتأخر وما خرج الحيوان أو الطير إلا بعد فترة أو برهة، فالخروج وقع من الحيوان بفعله، وصحيح أن الفتح موجود؛ لكن الخروج أصبح مؤثرا وأصبح مباشرة من الحيوان، فصار سببية ومباشرة، فلا يوجبون عليه الضمان إلا إذا حركه ودفعه إلى الخروج وحرشه عليه.
    والفرق بين القولين: أن أصحاب القول الأول يضمنونه ويحملونه تبعة هذا الفتح وهذا التصرف سواء خرج الحيوان مباشرة أو تأخر، فهو ضامن متحمل المسئولية.
    أما القول الثاني فلا يضمن إلا إذا تعدى، وهذا الذي ذكرناه في القاعدة: أن السببية لا ضمان فيها إلا بالتعدي، فقالوا: فتح القفص سببية، فإن حرك الحيوان وحرشه أو دفعه للخروج وجب الضمان، وأما إذا سكن ولم يخرج الحيوان فإنه لا ضمان عليه.
    ويكون في حكم التحريش إذا كان الحيوان على الباب مباشرة، فبمجرد فتحه نهش وقتل ولدغ، فحينئذ يضمن، والحقيقة قول المصنف أقوى.
    والنظائر والأشباه توجب أن فتح القفص وفتح الباب على الشيء المحبوس يوجب الضمان، والبهيمة لا شك أنها تندفع إلى الخروج وتريد الخروج، وهذا شيء موجود في البهائم لفطرتها؛ لأن البهيمة -وإن كانت لا تعقل- فإن فيها تمييزا للأمور، كما قال تعالى: {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه:50] ، فقوله: (ثم هدى) أي: هداه لمصالحه، ودفع المضار عنه، فالبهيمة تدرك أن المصلحة في الخروج فتسعى لذلك وتطلبه، فمسألة أنه لا عقل لها ليس على كل حال يوجب إسقاط الضمان، فإذا فتح القفص وهو يعلم ما فيه وتساهل في ذلك فحصل الضرر؛ فإنه يتحمل المسئولية المترتبة على ذلك، وهكذا لو كان الذي بداخل الغرفة رجلا شريرا معروفا بالفساد والأذية والإضرار، فإذا جاء شخص وهو يعلم ففتح له وأخرجه فإنه يتحمل المسئولية، فيكون المباشر الشخص نفسه، ولكنه يكون حينئذ في حكم السببية فتخف المسألة عن المسألة السابقة من جهة أنها سببية إذا كان حيا يعقل، وتكون قريبة من المباشرة آخذة لحكمها إذا كانت في الحيوان ونحوه.
    وقوله: (أو بابا) .
    أو فتح بابا كما ذكرنا، إذا كان داخل الغرفة شيء ضار كالسبع المفترس أو مجنون منه ضرر، قد يؤذي ويضر ويقتل وهو يعلم بذلك ثم فتح له الباب، فيكون قد مكنه بذلك من الإفساد، وتعدى بتعاطي السبب الموجب للضمان.
    وقوله: (أو حل وكاء) .
    كانوا في القديم يحملون اللبن والعسل ونحوه من الأطعمة والأشربة في القرب، وتكون الأوعية مربوطة محكمة، فيأتي شخص ويفك هذا الرباط فتسقط القربة ويندفع ما فيها، فمن أهل العلم من فصل في حل الوكاء: فإن كان الشيء الذي عليه الوكاء لا يثبت ولا يستقر، بحيث إذا انحل الوكاء اندفع ما فيه، مثل: القرب إذا كانت على الأرض وحل الوكاء فإنه يندفع ما فيها من اللبن أو العسل فحينئذ يجب الضمان؛ لأنه لا إشكال أن حل الوكاء سيفضي إلى خروج ما في القربة؛ أما إذا كان الوعاء مستندا إلى حائط وكان ثابتا مستقرا ثم حل الوكاء فلا يجب الضمان إلا بالتعدي، كأن يدفعه فيسقط أو يتعاطى سببا لسقوطه، فإذا لم يفعل شيئا من ذلك ثم سقط الوعاء من نفسه بعد برهة -وكان الغالب استقراره- فلا ضمان عليه.
    وقوله: (أو رباطا، أو قيدا، فذهب ما فيه) .
    (أو رباطا) كالسبع إذا كان مربوطا فحل رباطه، (أو قيدا) : كالكلب -أكرمكم الله- إذا كان مقيدا فحل قيده فخرج وعض أو قتل أحدا، فهذه كلها تفضي إلى الضرر وفيها تعد، فأصحاب هذا القول يرون أن الحل والفك والفتح للباب ونحو ذلك يعتبر تعديا من الفاعل، والسببية يجب فيها الضمان بالتعدي، فإذا ذهب ما في القفص -وهو إما أن يكون له قيمة أو لا قيمة له- فإذا ذهب ما فيه مما له قيمة كالعصفور أو النغر أو نحو ذلك وجب ضمانه، لأنه في قول طائفة من العلماء: يجوز حبس العصافير والطيور التي لها أصوات طيبة ويستدلون بحديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، قالوا: بشرط أن يطعمها وأن يحسن إليها وألا يعذبها.
    فعلى هذا القول: يكون حبسه سائغا شرعا، فإذا فتح القفص وطار هذا الطائر نقول له: اضمنه أو رده.
    فإذا لم يستطع رده وجب عليه ضمانه.
    وقوله: (فذهب ما فيه) يعني: مما فيه من الطير، أو ذهب ما فيه من الطعام، فقد يكون بداخل القربة لبن أو عسل، فسكب على الأرض حتى فسد، فحينئذ يجب عليه ضمانه.
    وقوله: (أو أتلف شيئا) (أو) للتنويع، فهذا الشيء إذا تسبب الإنسان أو باشر في إتلافه فإما أن يذهب فحينئذ يضمن إذا كانت له قيمة كالعصفور والحمام ونحوه، وإما أن يكون الشيء مضرا؛ ولذلك قال رحمه الله: (أو أتلف شيئا) يعني: هذا الذي في داخل القفص كالأسد أو النمر لما فتح له خرج وقتل شخصا أو خرج وكسر شيئا، فحينئذ يجب عليه ضمان ذلك الشيء المتلف.
    إذا: هذا الشيء الذي يخرج إما أن يكون مما له قيمة فيكون الضرر على صاحبه بخروجه وفراره وشروده، فنقول له: رده أو اضمن، وإما أن يكون خروجه موجبا للفساد والضرر كالحية تلدغ فتقتل، وكذلك العقرب، فالحية ليس لها قيمة، لكن ننظر إلى الضرر المترتب عليها: فمن دقة المصنف رحمه الله أن قال: (فذهب ما فيه أو أتلف شيئا) ، فذهب ما فيه مما له قيمة، أما إذا كان الشيء الذي ذهب لا قيمة له، كأن يكون كلبا عقورا -أكرمكم الله-، فلا نقول: يجب عليه ضمان ما في داخل الشيء المفتوح.
    فإذا: (ذهب ما فيه) إما أن يوجب الضمان لعين الشيء الذي ذهب إن كانت له قيمة، وإما أن يكون الضمان مترتبا على ضرر ناشئ عن الذهاب، ومن أمثلة ذلك ما ذكرنا من خروج البهيمة فتكسر شيئا أو تعض شيئا أو تقتل شيئا فحينئذ يجب عليه الضمان على التفصيل الذي ذكرناه.
    وقوله: (أو أتلف شيئا ونحوه ضمنه) .
    (ونحوه) أي: الضرر، يكون بعض الأحيان بالإتلاف المباشر أو الإتلاف بالسببية، فيفصل في جميع ما يترتب عليه من الضرر.

    الأسئلة

    حكم حبس الصيد في مكة

    السؤال ما حكم حبس الصيد في مكة المكرمة، والحال أن الصيد في مكة محرم؟
    الجواب من حيث الأصل بعض العلماء يرى أن الوصف العارض بالحرمة يكون في الشخص، ويكون في الزمان، ويكون في المكان، فيكون في الأزمنة مثل: أزمنة الأشهر الحرم وتحريم القتال فيها، كما جاء بنص الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه الله عز وجل عن قتال المشركين فيها، وكذلك أيضا: يكون بالمكان: كمكة والمدينة على أنها حرم، ويكون بالأشخاص: مثل المحرم، فبعض العلماء يجعلها بمرتبة واحدة فيقول: إذا طرأت هذه الحرمة زمانا ومكانا وحالا، أي: على الشخص وجب عليه أن ينظر إلى الحال ولا ينظر إلى ما سبق، بمعنى: إذا صاد خارج مكة وأدخلها بمكة نظر إلى حرمة المكان، وحينئذ لا يستصحبه، وتزول يده عن الصيد، ولا يبقى ممسكا صيدا في مكة؛ لأنه صيد من حيث الأصل، ومن أهل العلم من قال: لا.
    إذا صاده خارج الحرم ودخل به إلى الحرم فليس من صيد الحرم، وإذا لم يكن من صيد الحرم، حل له أن يعامله معاملة المستأنس المملوك، مثل: الدابة التي يملكها من الدواجن والطيور ونحوها إذا أراد يذبحها ويأكلها فلا شيء عليه.
    والأولون يستدلون بدليل الحاج، فإن من أحرم للحج والعمرة، يجب عليه تخلية الصيد، فلو صاد قبل أن يحرم وأمسك صيدا ثم لبى لم يجز له أن يستصحبه، بل يجب عليه أن يفكه، يقولون: وتستوي الاستدامة سواء كان المحرم مستديما أو مبتدئا، فيحرم الصيد بمكة ابتداء استدامة، والواقع القول بأنه إذا صيد خارج الحرم ثم أدخل الحرم فإنه لا يأخذ حكم الصيد فيه قوة، ومذهب طائفة من العلماء رحمهم الله: أنه لا يأخذ حكم الحرم؛ لأنه لم يصد داخل الحرم، والله عز وجل خصص المكان بالتحريم، والتخصيص يقتضي أن يقيد الحكم بما خصص به، وإلا ما فائدة التخصيص؟ وبناء على ذلك: يقوى هذا القول.
    وأما مسألة محظورات الإحرام فإن فيها استدامة، فمثلا: من محظورات الإحرام: النكاح، فلو أن الرجل أحرم بالحج والعمرة وهو متزوج من قبل، فهل ينفسخ عقده؟ الجواب: لا.
    فنقول: دل على أن نفس الإحرام فيه تفصيل، فما دل الشرع فيه على الاستدامة حكمنا بالاستدامة فيه، وما دل الشرع فيه على أن المحرم هو الابتداء قلنا بتحريم الابتداء، ولا شك أن الإنسان إذا تورع فهذا أفضل وأكمل وأبعد عن الشبهة، والله تعالى أعلم.

    خطر الغرور وعلاجه

    السؤال من الأمور التي تطرأ على طالب العلم في أثناء الطلب داء الغرور فما هو العلاج لذلك؟
    الجواب إن العلم إذا أريد به وجه الله وابتغى به العبد ما عند الله عصمه الله من الزلل وسدده في القول والعمل، وحقق له كل ما يصبو إليه من مرجو وأمل، فالله هو المطلع على السرائر الذي لا يخفى عليه شيء مما غيبته الضمائر؛ فلذلك يجب على طالب العلم أن يحاسب نفسه دائما بالإخلاص لله عز وجل وإرادة ما عند الله، وهذه المحاسبة إذا صحبها شيء من الانكسار والاعتراف بعظيم نعمة الله جل جلاله الذي علم الإنسان ما لم يعلم وفتح عليه أبواب العلم، ويسر له سبيله ولولا الله ما فهم، ولولا الله ما علم، ولولا الله ما استطاع أن يصل إلى شيء من هذا العلم.
    قال تعالى مخاطبا نبيه وأشرف خلقه صلوات الله وسلامه عليه: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] ، فالفضل فضل الله والنعمة والرحمة من الله وحده؛ ولذلك جعل لعباده السمع والبصر والفؤاد، وهي أسباب ووسائل يتوصل بها إلى العلم، فالواجب على الإنسان أن يحاسب نفسه دائما في الإخلاص لله عز وجل مستصحبا أثناء محاسبته عظيم نعمة الله عليه وجميل وجليل منته لديه، فإذا عرف نعمة الله انكسر لله.
    والقلب المخلص كالوعاء النقي بل هو أشرف وأزكى من تلك الأوعية، ولكن الله ضرب المثل، فالقلب المخلص مليء بنور الله عز وجل القلب المخلص امتلأ بالله وحده، وما من قلب يمتلئ بالله إلا وقد انشغل وانصرف عن كل شيء سواه، ففي الله وحده سلوة للإنسان عن كل شيء سواه، فإذا عرف الله بأسمائه وصفاته، وأخلص لله بقوله وعمله وأدرك نعمة ربه، وصاحب الإخلاص بالمعرفة التامة بنعمة الله عليه ذل لله وحده، وأصبحت تلك القلوب المخلصة النقية التقية الخلية من الشرك بريئة، ومن الرياء ومحبة المدح والثناء والغرور بالنفس معصومة بإذن الله عز وجل، وهذه كلها أسباب تحول بين الإنسان وبين الغرور، ولن تجد إنسانا يبتلى بالغرور إلا وجدت في إخلاصه نقصا وفي عبوديته لله خللا، فلا يدخل الغرور إلا بالانصراف عن الله جل جلاله، ومن جعل الله والدار الآخرة نصب عينيه زكاه ربه، وزكى عمله وجعل هذا العلم مقربا له سبحانه، فلا يتعلم كلمة إلا وقربته من الله جل وعلا، ولا يسمع جملة إلا وحببته إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن القلب ما فيه إلا الله، فإذا انصرفت القلوب إلى الله طهرها ربها وتولى أمرها مقلب القلوب والأبصار، وتولى أمرها من يحول بين المرء وقلبه، والله يقول عن الذين انصرفوا عنه {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5] ، نسأل الله بأسمائه وصفاته ألا يزيغ قلوبنا! ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة! كل من يجد الغرور ففيه نقص من الإخلاص وفي إخلاصه دخن، فعليه أن يبحث عن الأسباب والوسائل التي تزيد من إخلاصه لله جل جلاله ومن أعظمها وأجلها: الدعاء، وسؤال الله سبحانه وتعالى، وأن يستشعر أن هذا العلم أمانة ومسئولية وتبعات، إما أن يفضي بالعبد إلى الدرجات، أو يهوي به في الدركات، فإذا خاف من هذا العلم أشفق على نفسه حتى إنك لتراه من أخلص الناس وهو يشك في إخلاصه ويقول: لا.
    ما أنا بمخلص، عملي ليس بمخلص وليس بخالص، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم، وقد قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: (أدركت سبعين كلهم يخاف النفاق على نفسه) .
    أثر هذا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يخافون النفاق على أنفسهم، فكانوا يحركون القلوب بالإخلاص لله جل جلاله، والمغرور إذا انصرف قلبه عن الله أصابه الغرور، ولقد عتب الله على أقوام اغتروا بأنفسهم وفرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
    ليعلم كل طالب علم وليعلم كل متعلم أن الغرور يمحق البركة ويذهب الخير، ولربما صرف الإنسان من الرحمة إلى العذاب فيشقى من بعد السعادة ويهلك من بعد النجاة والعصمة، والله يقول: {فتزل قدم بعد ثبوتها} [النحل:94] ، فمن دخله الغرور فإنه على مهلكة؛ لأن الله اختار القلب للنظر، فقال سبحانه: {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا} [الأنفال:70] ، ليعلم الله في قلوبكم الإخلاص، فلا خير يراد إلا بالإخلاص لوجه الله جل جلاله، فالغرور يمحق البركة، والغرور يذهب الخير ويصرف العبد عن الله جل جلاله، ولا يزال العبد يغتر حتى يهلكه الله بغروره، وانظر إلى مكان الغرور وشؤمه وشره، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا ممن كان قبلنا يمشي إذ أعجبه برد عطفيه -يعني: نظر إلى ثوبه وهو جميل- فاختال في مشيته فأصابه الغرور فخسف الله به الأرض فهو يتزلزل فيها إلى يوم القيامة) ، هذا في ثوب!! فكيف بمن يغتر بالعلم؟ من الغرور بالعلم: أن يتعاظم الإنسان على الناس وأن يحس أنه بعلمه قد أصبح حاكما على الناس، فيحتقر من هو أعلم منه، وينتقص من هو مثله، ويترفع على من دونه.
    ومن الغرور: أن ينصب نفسه حاكما على أئمة العلم ودواوين السلف الصالح الذين لهم القدم الراسخة، فوالله لو كانوا أحياء لخرست أفواه هؤلاء، ولو كانوا أحياء لعموا حتى يقادوا بعلم هؤلاء إلى الجادة والسبيل؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحفظ حرمة السلف الصالح، ويحفظ حرمة العلماء وخاصة أئمة الكتاب والسنة وهم على درجات، فالعلماء الذين شهد لهم أنهم أئمة السلف وأجمعت الأمة على جلالتهم ورفعة قدرهم وحبهم وعلو شأنهم وزكاهم الله بالقبول، فوضع الله لهم القبول في الأرض، لا يأتي الإنسان بعد عشرة قرون يشكك في عقائد هؤلاء، أو يشكك في تبيينهم ومنهجهم مغترا بنفسه، وهو بالأمس كان ضالا شقيا بعيدا عن رحمة الله فما إن وقف في طلبه للعلم حتى يقف مجرحا ثالبا منتقصا مزدريا للعلماء، فإياك ثم إياك أن تقرأ كتابا أو تجلس في مجلس علم فتقوم وأنت محتقر للسلف، والله ما نصحنا لعلماء الأمة والدين إذا كانت كتبنا تقود إلى ازدرائهم وانتقاصهم والحط من أقدارهم، وتجد الإنسان إذا كان الإنسان فقيها، يشعر من معه من معه أنه لا فقه إلا فقهه، وإذا كان محدثا يشعر أنه لا حديث إلا منه أو لا تصحيح ولا تضعيف إلا منه، فلا يبالي بعدها بالعلماء، ويقول: لا تغتر بفلان ولا تعبأ بفلان، هذا لا ينبغي، فإن أول ما يأتي الغرور يبدأ باحتقار أئمة ودواوين العلم الذين شهد لهم بذلك، فينبغي عليك أن تتقي الله في سلف الأمة، وأن تتصور هذا العالم الإمام حافظا للكتاب والسنة، فما كان أحد يتصدر للعلم إلا إذا كان على قدم راسخة، الإمام مالك ما جلس يحدث الناس حتى شهد له سبعون من أئمة الفتوى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهل للعلم، فما كان يتقدم كل زاعق وناعق، فاتق الله ولا تغتر بنفسك إذا كنت مع علماء السلف وأئمة السلف، فينبغي أن نغرس في قلوب طلابنا وقلوب من يتلقى العلم عنا حب السلف وإجلالهم، والترحم عليهم، وذكرهم بالجميل، والإشادة بفضلهم وعلو شأنهم، وهذا من النصيحة لعلماء الدين، ولأئمة المسلمين.
    وكذلك النصحية للعلماء الأحياء بألا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، فبعض طلاب العلم إذا جلس بمجلس عالم جعل ينتقد ويزدري غيره، وإن سمع علم شيخه أصم أذنه عن علم غيره، بل ينبغي على الإنسان أن يعلم أن هذا سنة، وأننا تحت رحمة الله منا المصيب ومنا المخطئ، وأننا لا نستطيع أن نزكي أنفسنا بأن نقول: نحن أصحاب الحق ونحن الذين على النجاة وعلى الصراط المستقيم، بل نبني على غالب ظنوننا ونجتهد بالدليل والحجة حتى نلقى الله سبحانه وتعالى، فإذا بذل الإنسان السبب فإن كان مصيبا فله أجران، وإن كان مخطئا فله أجر واحد، لكن لا يقتضي هذا ذم العلماء وسبهم وانتقاص غير شيخك، لا.
    بل تكون كفيف اللسان عفيف القلب إلا إذا كان هناك أمر فيه اعتداء لحدود الله، فتقول: هذا الأمر خطأ، وفلان أخطأ في هذا الأمر، إذا كان يخالف فيه نصا صريحا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالهوى، أو يأتي بعلم من عنده واجتهاد من عنده لا يعرف له أصل عن أئمة السلف، فهذا شيء آخر، ونحن نتكلم على مسائل شرعية يسع فيها الخلاف من الفرعيات وليس من الأصول، فعلى هذا ينبغي لطالب العلم ألا يغتر بشيخه، بل عليه أن يستعصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا نسيان فضل أهل الفضل، ولا يعني هذا أن يترك طالب العلم شيخه! لا، بل يتبع شيخه بالدليل، وإذا رأى شيخه يتحرى الكتاب والسنة أحبه لحب الكتاب والسنة، وغار على الحق الذي أجراه الله على يديه وأحب سماع هذا الحق ما دام أنه يرى أنوار التنزيل عليه، وعلى هذا يسير طالب العلم.
    ولا يغتر أيضا طالب العلم بانتقاص غيره، فلربما يكون شابا اهتدى فرأى غيره من العوام فينتقصهم ويضحك منهم إذا أخطئوا، أو يستخف بهم إذا سألوا، لا ينبغي هذا، فإن الله قد يمقت العبد بذنب واحد، فيغضب عليه غضبا لا يرضى بعده أبدا: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) ، وقد يسخط الله على إنسان يغتر بعلمه فينتقص الناس، فإذا جلست بين عوام يريدون الفائدة فأظهر خشوعك ووقارك، لا من أجل أن يمدحك الناس ولا من أجل السمعة بل لله وابتغاء مرضاته، وقل: هذا العلم الذي شرفني وكرمني ينبغي أن أصونه وأن أحفظه كما أن الله جعله صونا لي وحرزا، فيكون الإنسان سهل الكلام مع الناس، سهل الكلام مع العامي إذا سأل أو إذا استشكل، فهذه من الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يراعيها.
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد في القول والعمل، وأن يعصمنا من الشرور والزلل إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأل الله العظيم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    الضابط في معرفة المال المحترم

    السؤال أشكل علي الضابط في معرفة المال المحترم؟
    الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد المال: هو كل شيء له قيمة، وسمي المال مالا؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه، ولذلك قال الشاعر: رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال فالمال كل شيء له قيمة، وبناء على ذلك: إذا قال العلماء: المال، فلا يختص بالذهب ولا بالفضة، وقد دل على ذلك دليل السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف غير الذهب والفضة بالمال، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته -ثم ذكر الإبل، فقال- إلا فتح لها بقاع قرقر يجدها أوفر ما تكون لا يفقد منها فصيلا، تطؤه بأخفافها وتعضه بأنيابها) الحديث، فذكر الإبل والبقر والغنم، ووصفها بأنها مال، وفي حديث الثلاثة النفر: الأقرع والأعمى والأبرص، فإن الأعمى لما جاءه الملك فقال له: (ابن سبيل منقطع، فقال له الأعمى: كنت فقيرا فأغناني الله، كنت كذا وكذا -وذكر نعمة الله عليه- ثم قال له: والله لا أردك اليوم من مالي شيئا، دونك الوادي خذ منه ما شئت -وكان ماله الغنم- فقال الملك -وهذا موضع الشاهد- أمسك عليك مالك) ، فسمى الغنم مالا، فإذا: قول العلماء: مالا محترما، المال: هو كل شيء له قيمة سواء من النقدين أو غيرهما، والعرف الدارج عند الناس أنهم لا يطلقون المال إلا على النقدين من الذهب والفضة، وهذا في الاصطلاح خاص، لكن المعروف: أن المال عام، وبناء على ذلك يشمل الأشياء كلها، لكن قولهم: (محترم) المحترم: هو الذي له حرمة، وهو المأذون باتخاذه، فإذن الشرع باتخاذ المال يعطيه الحرمة؛ لأن الله جعل لك -إذا ملكت هذا المال- حق التصرف فيه، فيصبح المال له حرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم وحسابهم على الله) ، فقال: (عصموا) ، صار في عصمة وحرمة.
    فإذا: قولهم: (مال محترم) أي: مال مسلم، ويدخل في ذلك: مال الذمي، لكن لو أنه أتلف مال كافر حربي فإنه لا يجب عليه ضمانه؛ لأن مال الكافر الحربي ملك لنا: ولا يكون له حرمة؛ لأن الشرع أسقط عنه الحرمة بدليل الغنيمة، وعلى هذا لا بد أن يكون المال محترما، فيكون محترما من جهة الشخص كما ذكرنا في المسلم والكافر، ويكون محترما من جهة الوصف، فيكون نفس المال مأذونا به شرعا مثل: الأطعمة والأكسية ونحوها، ويكون ضدها الأطعمة المحرمة، مثلا: لو جاء شخص إلى طعام خنزير، فإذا كان لذمي فإنه محترم؛ لأن شرط العهد الذي بيننا وبينهم: أن نقرهم على دينهم وهذا مباح لهم في دينهم، لكن نحن نتكلم على الأصل العام: أن الخنزير ما له حرمة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) ، فلو أخذ الصنم وكسره فليس عليه ضمان، وهكذا لو كان هناك شيء من الأطعمة الفاسدة المحرمة فأتلفت، فإنها إذا أتلفت ليس لها حرمة ومن هنا ساغ للمحتسب -كما ذكر العلماء في أحكام المحتسب-: أنه إذا دخل السوق ووجد طعاما فاسدا أتلفه؛ لأن الطعام الفاسد ما له حرمة، وإذا بقي عند الشخص ربما باعه على مسلم فقتله وأضر به، فمثل هذا يوجب سقوط الضمان، فإذا وقع الإتلاف على مثل هذه الأموال سقط ضمانها، والله تعالى أعلم.

    مناسبة إدخال أحكام الإتلافات في باب الغصب

    السؤال ما وجه مناسبة هذه الأحكام في باب الغصب مع أن أحكامها متعلقة بباب الضمان؟
    الجواب تختلف مناهج العلماء رحمهم الله، فبعضهم يذكرها في باب الضمان، لكن المشكلة أن الضمان إذا كان بمعنى: الكفالة المتقدم معنا في باب الكفالة -فمن العلماء من يجعل الضمان والكفالة بمعنى واحد- فحينئذ لا يسوغ أن تجعل أحكام الضمان للإتلافات تحت باب الضمان؛ لأنك إذا جعلت الضمان والكفالة بمعنى واحد، فهذه متعلقة بالديون، فالضمان: كأن يأتي شخص ويريد أن يستلف سيارة مثلا، فتقول: أنا أضمنه أن يسدد، فهذه ما لها علاقة بالإتلافات، لكن إذا كان الضمان بمعنى: ضمان الحقوق والإتلافات فهذا باب مستقل، فحينئذ يسوغ أن تفرده بمادته، والسائد والذائع عند العلماء رحمهم الله أنه قل أن تجد من وضع باب الضمان بمعنى ضمان المتلفات، والمؤلفات المعاصرة تعبر بالضمان وتدخل مسائل الإتلافات، وهذا مصطلح صحيح وسائغ؛ لأن اسم الضمان يسوغ أن تندرج تحته هذه المسائل؛ لكن المصنف رحمه الله منهجه هو الصحيح؛ فإن الغصب اعتداء على الأموال والإتلاف اعتداء على الأموال، والمناسبة بينهما لا إشكال في وضوحها وتمامها.
    فإذا كانت عندك مادتان: مادة فيها نصوص ولها أصل، ولها باب مثل الغصب ولها نصوص خاصة وتفصيلات وتفريعات، ومادة ملحقة بهذا الباب مندرجة تحت أصله، فالأفضل أن تبدأ بالمادة الأولى وهي الغصب، ثم ترفقها بأحكام الضمان للمتلفات وأحكام الاعتداء، فالمصنف رحمه الله هنا سلك هذا المسلك، وإلا فبعض العلماء يجعل الضمان بابا مستقلا، إلا أنه لم يجعل ضمان الاتلافات بابا مستقلا؛ لأنا لو قلنا بهذا لوجب إدخال الديات والقصاص فيه؛ لأن هذه كلها ضمان للحقوق، وبناء على ذلك: نجد كثيرا من العلماء لا يدخلون الإتلافات تحت باب الغصب، والشافعية عندهم هذا المنهج، والإمام الشافعي رحمه الله عليه من أئمة السلف ومع ذلك ذكر أحكام الإتلافات بعد الغصب، فجعل مسائل الإتلاف -كما في مختصر المزني في مسائله على الإمام الشافعي رحمه الله- بعد الغصب، والمصنف رحمه الله وأئمة الحنابلة رحمهم الله يذكرون هذه المسائل عقب الغصب وهذا وجيه، والمسألة كلها في الأولى والأحسن، والأمر واسع -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم.

  17. #377
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب الغضب )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (377)

    صـــــ(1) إلى صــ(17)


    شرح زاد المستقنع - باب الغصب [8]
    لم تضمن الشريعة الحق لصاحبه إذا أتلف ماله آدمي فقط، بل حتى لو أتلفت البيهمة شيئا فإن الشريعة ألزمت صاحبها بضمان ما أتلفته حتى لا تضيع حقوق الناس، وهذا كله مبين ومفصل في كتب العلماء رحمهم الله.



    موجبات الضمان

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان] .
    تقدم معنا أن مسائل الضمان تعتبر من أهم المسائل؛ نظرا لعموم البلوى بها، وكثرة السؤال عن أحكامها، وقد بينا أن العلماء رحمهم الله منهم من يذكر مسائل الإتلاف بعد مسائل الضمان، فلما كان الغصب يوجب الضمان ناسب أن تذكر مسائل الإتلاف؛ لأنها تشترك مع الغصب في كونها توجب الضمان.
    وذكرنا أن الإتلاف يكون على صورة السببية وصورة المباشرة، وبينا إتلاف الشخص للأشياء بنفسه، كأن يحرق الشيء أو يتلف المنافع الموجودة فيه، سواء وقع الإتلاف لكل الشيء أو بعضه، وبينا أن الشريعة أوجبت على من اعتدى على أموال الناس أن يضمن ما جنت يداه، وأنه يطالب بدفع قيمة الأضرار المترتبة على اعتدائه.
    وسيشرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان حصول الضرر بالسببية، وحصول الضرر بالسببية ذكر من أمثلته: فتح القفص كما ذكرنا، وفتح الباب، وحل الوكاء، هذا على القول بأن التضمين هنا من سببية مؤثرة في المباشرة، وقد بينا خلاف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة.
    والآن عندنا مسألة ربط الدابة في الطريق الضيق، وقبل بيان هذه المسألة وما يتبعها من مسائل ينبغي أن يعلم أن هناك ثلاثة أمور لا بد من توفرها في الضمان، وهذه الثلاثة الأمور كالآتي: أولا: وجود الاعتداء.
    وثانيا: أن يترتب على الاعتداء ضرر.
    وثالثا: أن توجد سببية تربط بين الاعتداء وبين الضرر.
    فعندنا اعتداء، وعندنا ضرر الذي هو أثر الاعتداء، وسببية رابطة بين الاعتداء وبين الضرر.
    أما الاعتداء فيشمل ستة صور: الصورة الأولى: الإهمال.
    الصورة الثانية: التقصير.
    الصورة الثالثة: مجاوزة الحد.
    الصورة الرابعة: عدم التحرز.
    الصورة الخامسة: العمد.
    الصورة السادسة: الخطأ.
    هذه ست جهات يوصف فيها الشخص بكونه معتديا.

    العمد والخطأ يوجبان الضمان

    أما النوع الخامس: وهو العمد، والنوع السادس: الخطأ، فهما يقعان في نفس الأشياء التي تقدمت، فمن قصد الضرر بهذه الأشياء المتقدمة فهو متعمد، ومن وقعت منه هذه الأشياء عفويا دون قصد ودون تعمد فإنه مخطئ، وحينئذ يجب الضمان، كشخص أحرق كتاب غيره، فنقول له: اضمنه.
    وهكذا لو أخطأ فسقطت النار من يده فأحرقت فراشا أو أرضا فإننا نقول: أنت ضامن سواء قصدت فكنت متعمدا أو لم تقصد، والفرق بين العمد والخطأ: أن العمد يوجب الضمان مع العقوبة، وأما الخطأ فإنه يوجب الضمان وحده، وقد تقدم بيان ذلك، وكل هذه الصور في الحقيقة هي أسباب للضمان، والمصنف رحمه الله أشار بصورة ربط الدابة للصورة الأولى وهي صورة الإهمال، وكما أنها تقع في الحيوانات فإنها تقع في غير الحيوانات.
    وقوله: (وإن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان ضمن) قال: (عثر به إنسان) لا يشترط أن يعثر الإنسان، بل كل ما يترتب على وجود هذا الإخلال وهذا الإهمال من ضرر فإنه يتحمله؛ لكن ذكر (عثر به إنسان) لأن الإنسان غالبا يعقل ويتحفظ، فإذا كان يضمن ممن يعقل ويتحفظ فمن باب أولى أن يضمن إذا تسبب بضرر لغير الإنسان بوجود هذا الدابة والبهيمة.

    الإهمال يوجب الضمان

    فأما قولنا: (الإهمال) إذا حصل الضرر مترتبا على الإهمال؛ فالمهمل يتحمل مسئولية ذلك الضرر، وكذلك بالنسبة لبقية الصور، لكن نريد أمثلة على الإهمال الموجب للضمان، بمعنى: الإهمال إما أن يقع في الأشخاص، وإما أن يقع في الأموال، فمثال الإهمال في الأشخاص: لو أن امرأة مرضعة -مثلا- كانت ترضع صبيا فأهملته ولم تسقه ولم تقم على إرضاعه حتى مات، فهذا إهمال في القيام بواجبها ومسئوليتها التي تحملتها، فلو أن هذه المرضعة حملت هذا الصبي أو الخادمة أو الخادم أخذ الصبي ووضعه بجوار نار، وهو طفل رضيع فوضع جوار تنور النار أو وضع بجوار بركة ماء ولا حاجز لها فدب وسقط، فهذا إهمال بالسببية وصحيح أنه سقط بفعله، أي: باشر الصبي الذهاب للحفرة واحترق بالنار، أو باشر الذهاب إلى الحرب وسقط منه فمات، أو باشر الذهاب إلى فتحة الخزان وسقط فيها ومات، لكن كون هذه الفتحة موجودة في هذا الموضع وكون التنور موجودا في هذا يستلزم ممن يحمل الصبي ألا يتركه دون أن يكون بجواره ودون أن يغلق عليه هذه المنافذ الموجبة للضرر، فإذا: هذا الإهمال سبب في الضمان؛ لأنه نشأ الضرر، عنه، والصبي لا يعقل، فأصبحت مباشرته ساقطة، وأصبح من وضعه في هذا الموضع متحملا المسئولية، ولذلك قالوا: لو أن امرأة نامت بجوار صبيها وانقلبت عليه في الليل وقتلته، فهذا قتل خطأ لكن فيه نوع إهمال ويكون المنشأ فيه من جهة الإهمال، هذا بالنسبة لضمان الأشخاص، فالإهمال يوجب الضمان في الأشخاص، وقد يوجب الإهمال الضمان في الأموال، فمثلا: حينما تكون هناك مواد سامة أو ضارة ويحملها شخص، وحملها له طريقة معينة أو ينبغي أن تقفل الأوعية التي فيها هذه المواد فلم يقفلها كما ينبغي ولم يقم بحفظها في الأوعية التي يحفظ فيها مثلها فإن هذا الإهمال يوجب المسئولية عن جميع الأضرار المترتبة عليه.
    كذلك الإهمال في البناء أو النجارة أو الحدادة، أو الطب، فكل هذه الأمور إذا وقع فيها إهمال، فإن المهمل يتحمل مسئولية إهماله، فمن ربط دابته في الطريق هذا إهمال؛ لأن الطريق الضيق ليس موضعا لربط الدابة، ولذلك قيده المصنف رحمه الله بالضيق بخلاف الطريق الفسيح، فلو أن شخصا كانت معه ناقة أو بهيمة فربطها في طريق ضيق، فجاء شخص يمشي فعثر بحبلها وسقط فانكسرت يده أو حصل الضرر عليه أو كان يحمل شيئا فسقط وانكسر فإن صاحب هذه الدابة يتحمل المسئولية عن هذا الضرر كله؛ لأن هذا الموضع ليس بموضع لربط الدواب، وثانيا: لأن صورة الربط توجب الضرر غالبا وتفضي إليه، فمثل هذه البهائم إذا ربطت في مثل هذا الموضع فإنها توجب الضرر حتى ولو كان برباطها الذي تربط به، فلو ربطه في منتصف الطريق فأضر بإنسان أو بسيارة أو بغيره فإنه يتحمل المسئولية عن هذا الضرر، لكن لو أنه أخذ بهيمته وربطها في صحراء، فجاء شخص ومر على حبلها وسقط، فيكون التقصير من الشخص وليس ممن ربطها، وليس هذا الموضع متعينا لأن يسلكه الشخص، فلما أراد أن يسلكه تعين عليه أن يتحفظ، وحينئذ لا تكون كالصورة الأولى التي ضيق فيها على الناس وكان الضرر فيها بسبب وجود هذا الإهمال من صاحب الدابة.
    قال بعض العلماء: لا يضمن إن كان في طريق فسيح؛ لأن هناك قاعدة عند العلماء: أن مفاهيم الصفات في المتون معتبرة عند أهل العلم، فهنا لما قال: (طريق ضيق) نفهم منه: أنه إذا كان الطريق واسعا فإنه لا يضمن، وتتفرع على هذه المسألة: لو جاء وأقفل بها طريقا ضيقا يسلكه الناس، فترتب بسببه ضرر على الناس في أرواحهم أو ترتب عليه ضرر في ممتلكاتهم أو أغراضهم وحوائجهم فإنه يتحمل المسئولية عن هذا الضرر؛ لأن هذا الموضع ليس بموضع إيقاف كما أن الطريق الضيق ليس بموضع ربط للدابة.
    فقوله: (ومن ربط دابته في طريق ضيق فعثر به إنسان) هنا اجتماع السببية والمباشرة، فصحيح أن العثر وقع بمشي الشخص وهو الذي باشر المشي في هذا الموضع فسقط، لكن وجود هذه الدابة وهذا الحبل في هذا الموضع على هذا الوجه موجب للضمان.

    التقصير يوجب الضمان

    السبب الثاني والصورة الثانية من موجبات الضمان: التقصير، فتضاف إلى هذه الصورة صورة التقصير، والتقصير هو نوع من الإهمال، لكن يفرق بين التقصير والإهمال: أن التقصير غالبا يكون في الأشياء التي لها حدود معينة، ويقوم الشخص بالتقصير بعدم فعل الشيء على أتم الوجوه فينتقص منه، فإذا قصر ألزم بعاقبة تقصيره، ومن أمثلة ذلك: إذا كان الشيء مما يربط فلم يربطه، أو كان الشيء مما يقفل فلم يقفله، فمثلا: شخص وضع شيئا في موضع مؤتمن فيه على أمانات الناس، فالذي جرى في العرف أنه يقفل هذا الموضع، فقصر في قفله أو تركه مفتوحا فهذا إهمال من وجه وتقصير من وجه، فالتقصير نوع من الإهمال لكنه يختص بالأشياء التي لها ضوابط معينة، فمثلا: لو أنه أخذ سيارة الأجرة من شخص أمانة لا يضمن، لكن إذا جرى العرف على أنه في كل مسافة معينة يقوم بفعل شيء فيها، إما من جهة غيار زيتها أو تفقدها فلم يتفقدها ولم يكشف على شيء من ذلك حتى تعرضت السيارة للتلف، فنقول: تضمن؛ لأن هذا إهمال من وجه وتقصير من وجه.
    السبب الثالث: مجاوزة الحد، وهو مثل التقصير يكون في الأشياء المحددة وهو عكسه، فالتقصير أقل والمجاوزة أكثر، فالمجاوزة تقع في الأموال وتقع في الأشخاص، فقد ذكر العلماء رحمهم الله في القديم -كما سبقت الإشارة إليه في باب الإجارة- الطبيب إذا جاوز الحدود المعتبرة عند أهل الصنعة، فمثلا: لو عمل عملية جراحية لها حدود معينة فجاوز الحد المعتبر عند أهل الخبرة في قطع عضو أو دواء أو جرعة الدواء، وقد تكون جرعة الدواء تفضي إلى الإدمان، فإذا وصل إلى حد معين ولم يحتط وجاوز هذا الحد؛ فذلك يوجب الضمان في الأشخاص.
    كذلك أيضا تقع مجاوزة الحد في الممتلكات والأموال، فمثلا: مصعد له عدد معين من الحمولة، فركب فيه أشخاص أكثر عددا فسقط هذا المصعد وقتلوا، فهذه الزيادة مجاوزة للحد ويتحملون مسئولية أنفسهم، فلا يكون مالك المصعد مسئولا.
    كذلك لو أن شخصا أعطى سيارته لآخر يعمل بها أو يسوقها ويؤجرها فأركب فيها حمولة زائدة حتى تلفت السيارة أو تسبب ذلك في حادث، فعند ذلك يضمن، وكذلك مجاوزة الحد في المواضع المخصصة للممتلكات فيضع فيها فوق الطاقة المحدودة، فكل شيء له ضابط عند أهل العرف أو عند أهل الصنعة أو أهل المهنة -إن كان من الصنائع والمهن- إذا جاوز فيه الشخص ذلك الحد فإنه يضمن ويتحمل المسئولية المترتبة على تلك المجاوزة.

    عدم الاحتراز يوجب الضمان

    الصورة الرابعة الموجبة للضمان: عدم الاحتراز، بمعنى: ألا يتعاطى الشخص أسباب التحفظ من الضرر، وهذا يقع في الأشياء الخطرة، فإذا كان الشخص أمامه حفرة وعليها تعليمات معينة عند مروره بها ثم تجاوز الحد واقترب من المكان الخطر؛ فعند ذلك يتحمل مسئولية نفسه ولا يضمن لو هلك أو تلف شيء من أعضائه؛ لأنه بمجاوزته وعدم احترازه وعدم توقيه تحمل مسئولية نفسه، كذلك المواضع المحمية التي منع من الاقتراب منها ومن دخولها فاقترب منها فإنه يتحمل مسئولية نفسه.
    حكم من كان له كلب عقور أحدث ضررا
    قال رحمه الله: [كالكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه] الكلب -أكرمكم الله- هو الحيوان المعروف، والعقور: هو الذي يحبس الناس ويهجم عليهم ويؤذيهم ويضرهم وربما قتل، فالكلب العقور هو المعتدي على الناس، وأصل العقر في لغة العرب: الحبس، يقال: عقر الشيء؛ إذا منعه وحبسه، فالكلب العقور هو الذي يحبس الناس؛ لأنه يهجم ويعتدي عليهم، فوصف بهذا الوصف.
    هذا النوع من الكلاب -أكرمكم الله- مأمور بقتله، فالكلب إذا أصبح يتعرض للناس ويؤذيهم ويعضهم أو يقتلهم أو يمنعهم من سلوك الطريق ولم يكن الموضع مملوكا لشخص فإنه يقتل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، ويجوز قتله في الحل والحرم، وهو من ضمن ما أذن بقتله دفعا للمفسدة الأعظم، والكلب العقور في الأصل لا يجوز للشخص أن يقتنيه؛ لأنه عندما يقتنيه يخالف النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر بقتله، فالنبي صلى الله عليه وسلم يريد قتله وهذا يريد استبقاءه، فإذا أدخل كلبا عقورا بيته فقد أذن للكلب بالإضرار والإفساد، وحينئذ يتحمل كل ما يترتب على هذا الكلب العقور من ضرر، فإذا أذن لشخص بالدخول للبيت فقام الكلب وعضه فإنه يتحمل مسئولية هذه العضة، فلو أن هذه العضة أتلفت رجل المعضوض أو يده ضمن نصف الدية على التفصيل في باب الضمان.
    لكنه يضمن إذا أذن للشخص بالدخول في بيته، فإذا كان الشخص سارقا أو هجم على البيت بدون إذن وابتلاه الله بكلب عقور فهذا لا يضمن، بل هو هدر؛ لأنه بدخوله هذا الموضع سقطت حرمته وحينئذ لا يتحمل صاحب الكلب المسئولية، فإذا أذن لأحد بالدخول إلى مزرعته والمزرعة فيها كلب عقور أو أذن لأحد بالدخول في بيته والبيت فيه كلب عقور فإنه يضمن، وأما إذا لم يأذن له وهجم الشخص كالصائل، فإذا صال عليه شخص جاز له أن يدفع الضرر.
    فالكلب العقور يضر بأرواح الناس ويضر بأعضائهم، ولهذا أمر بقتله دفعا لهذا الضرر، فإذا حفظه الشخص وخالف الشرع بحفظه وبإدخاله إلى داره أو مزرعته وأذن لشخص بالدخول إلى ذلك المكان فعضه أو قتله فإنه يجب عليه ضمانه.
    وقوله: (أو عقره خارج منزله) جاء بالكلب العقور وحفظه وأطعمه وجعله بجوار بيته، فمر مار فعقره فإنه يضمن؛ لأن ما قارب الشيء أخذ حكمه؛ ولأن هذه المحافظة أو القيام على الكلب العقور توجب الضمان، وحينئذ يتحمل المسئولية عن كل ما ينتج عن هذا الكلب العقور من أذية وضرر.

    ضمان مالك البهائم لما أتلفته من أموال الناس

    قال رحمه الله: [وما أتلفت البهيمة من الزرع ليلا ضمنه صاحبها وعكسه النهار] بعد أن فرغ رحمه الله من التسبب في الإضرار بالشخص نفسه بفتحه للعصفور أو للمحبوس من الدواب المهلكة، أو فتحه للباب أو حله للوكاء، شرع في السببية عن طريق البهائم، فذكر صورة الكلب العقور، وبعد أن انتهى من الكلب الذي يهجم ويضر بأرواح الناس شرع في السببية عن طريق البهائم إذا أضرت بالأموال، فأصبح الشخص إما أن يضر بنفسه أو يضر بواسطة حيوان، وإذا أضر بالحيوان فإما أن يضر بأرواح الناس مثل: الكلب العقور، أو يضر بممتلكاتهم ومثل لها بالبهائم إذا أتلفت أموال الناس، فمن كان عنده بهائم كالإبل أو البقر أو الغنم ودخلت هذه البهائم إلى بستان شخص فأكلت زرعه وأفسدته فلا يخلو هذا الإفساد من حالتين: الحالة الأولى: أن يقع بالليل، والحالة الثانية: أن يقع بالنهار.

    إسقاط جناية البهيمة إذا كانت بغير ما تقدم

    قال رحمه الله: [وباقي جنايتها هدر، كقتل الصائل عليه، وكسر مزمار وصليب، وآنية ذهب وفضة، وآنية خمر غير محترمة] قوله: [وباقي جنايتها هدر] باقي جناية البهيمة هدر، والهدر: الذي لا ضمان فيه.
    وعلى هذا تستثنى الصور التي ذكرناها لوجود السببية المؤثرة ويبقى ما عداها تحت عموم النص الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) ومن أهل العلم رحمهم الله من خالف الجمهور وقال: لا يسقط من البهيمة إلا جرحها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في رواية: (والعجماء جرحها جبار) فرأوا أن الذي يسقط هو أذيتها وإضرارها بالأنفس والأشخاص دون الأموال فإنه يجب الضمان مطلقا، والصحيح ما ذكرناه من التفصيل لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعموم، ونخصص ما ورد الكتاب بتخصيصه أو دل الشرع على تخصيصه بوجود السببية المؤثرة.
    حكم إرسال الدابة قرب ما تتلفه عادة

    قال رحمه الله [إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة] لو جاء بناقته ودخل بها إلى السوق أو دخل بها إلى موضع فيه أطفال صغار وترك الناقة ثم دخل يشتري أو يتبضع فقتلت الناقة صبيا أو عضت صبيا أو أتلفت مالا، في العادة لو ترك مثل هذه الدابة بجوار هؤلاء الأطفال غالبا أن يحصل الضرر والحكم للغالب، فقالوا: فكأنه لما قصر في ربطها وحفظها حيث قال: (إلا أن ترسل) والإرسال ضد أن يعقلها، فخرج ما لو عقلها فلو عقلها وجاء صبي وقرب يده منها فعضته، أو جاء شخص اقترب منها فعضته؛ فحينئذ المقترب هو الذي يتحمل المسئولية لكن إذا عقلت وحفظت فإنه لا إهمال من صاحبها ولا ضمان عليه فيما يترتب عن ذلك، لكن لو أرسلت وتركت بجوار طعام داخل السوق والسوق مليء بالأطعمة وتركها ثم ذهب ليتبضع، أو ذهب يقضي له حاجة فذهبت إلى الأطعمة فأفسدت، ففي هذه الحالة لا يمكن إسقاط الضمان فهذه يسمونها: السببية المفضية إلى الضرر؛ لأننا لا نشك أن تركها مرسلة سيفضي بالضرر، فحينئذ يوجب عليه ضمان ما يترتب على هذا الإرسال من ضرر.

    ضمان راكب الدابة ما تتلفه بمقدمها لا بمؤخرها

    قال رحمه الله: [وإن كانت بيد راكب أو قائد أو سائق ضمن جنايتها بمقدمها لا بمؤخرها] هنا مسائل تختلف عن المسائل المتقدمة، فالمسائل المتقدمة تضمن فيها البهيمة بالملكية؛ لأن يدك يد ملكية فأنت ضامن لأنك مالك، لكن المسائل الآتية مبنية على قيادة البهيمة وهذا يقع في الدواب التي تركب، فلو ركب بعيرا، فإن أتلف البعير بمقدمه فإنه يجب الضمان على القائد، وإن أتلف بمؤخره لا ضمان عليه إلا إذا كان هو الذي رده إلى الخلف.
    مثال: لو قاد البعير حتى دخل إلى موضع فأفسد بدخوله، فإن الذي قاد البعير ودفعه للدخول والراكب أو القائد متحكم بزمام البعير، فلما أطلق له العنان وأدخله في هذا الموضع لا شك أنه متسبب في هذا الضرر، فحينئذ البعير مباشر والقائد متسبب فيلزمه الضمان؛ لأنه بهذه القيادة انتهى إلى الضرر وأفضى إليه، لكن لو أنه يسير ثم وقف أو استوقف البعير، ثم قام البعير ورفس رجلا من ورائه وقتله أو أضر به، فحينئذ: (العجماء جبار) فيسقط الضمان، لكن لما كان هناك قائد يقود فإنه بهذه القيادة يتحمل، من أمثلتها: السيارة، فلو كان يقودها وحدث الضرر بمقدم السيارة فدهس -لا قدر الله- أو أتلف سيارة أخرى أو أتلف حائطا أو فعل أي ضرر تسبب عن هذه القيادة، يتحمل المسئولية بمقدمها، ولو جاءه شخص من ورائه وضربه وصدم فيه يكون متحمل المسئولية الذي في الخلف، لكن لو أنه أرجع السيارة إلى الخلف -كما لو رد البعير إلى الخلف- إذا ردها إلى الخلف يضمن، وإذا وقع الإتلاف بالمقدم فإنه يضمن، ولا يضمن إذا جاءه شخص من ورائه وأضر به.
    لكن لو أنه أوقف السيارة في موضع لا توقف فيه وجاء شخص من الخلف وأتلفه هل يضمن؟ مثلا: طريق ضيق وأوقف السيارة في هذا الطريق وهو يعلم أن طريق ضيق، فلا شك أنها سببية للضرر مثل ما ذكرنا في ربط البهيمة في داخل الطريق الضيق، فهذه المسائل كلها مفرعة على المسائل المتقدمة، فإن وقع الإتلاف بمقدم الدابة فإنه يضمن، وإن وقع الإتلاف بمؤخرها ففيه تفصيل إن كان حملها على الرجوع، وكان الإتلاف بالمؤخرة بتحريك منه وإثارة ضمن، وإن لم يحركها ورفست برجلها فإنه لا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) وإنما ألزمناه الضمان حينما أتلفت بمقدمتها؛ لأنه كان متسببا في قيادتها ودفعها إلى ذلك الشيء الذي هو أمامه.
    لكن لو أنها أتلفت في منتصفها -أي: لا بالمقدمة ولا بالمؤخرة- فهذه من أمثلتها عند العلماء رحمهم الله: لو برك البعير على شيء فكسره، وطبعا إذا برك حدث القتل بالوسط؛ لأنه يسقط على الشيء فيقتله، ونحن ذكرنا أن الذي يضمن إذا كان على البعير إذا كان بالمقدمة، فلو برك البعير يضمن أم لا ما يضمن؟
    الجواب إذا بركه كان ضامنا له، أما لو برك من نفسه قال بعض العلماء: لا ضمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) وهو أمره أن يسير فبرك، فلما برك قتل شيئا أو أفسد شيئا، فحينئذ وقع البروك بفعل البعير لا من فعل الشخص نفسه.
    لو كان على البعير شخصان راكبان وأتلف البعير بمقدمه من الذي يضمن هل يضمن الذي في المقدمة أو يضمن الذي وراءه أو الاثنان؟ الواقع أن الذي يضمن هو الذي في المقدمة، لكن لو برك فيضمن الاثنان؛ لأنهما لما حصل البروك قال بعض العلماء: لو أنه وقع إنسان على آخر فقتله أو على بهيمة فماتت فإنه يضمن؛ لأنه وقع القتل بالثقل، وهنا لم يقع القتل بقضية البروك وحدها، فالكل مشتركون في الثقل فيضمن الذي في المقدمة والذي في المؤخرة ويكون الضمان على الجميع، وهذا الذي جعل بعض العلماء يجعل الضمان في حال البروك من المنتصف على الراكب بدون تفصيل؛ لأنه يرى أن الفساد وقع بالثقل، وقضية كونه تسبب في البروك أو عدمه لا تأثير له؛ لأن الذي حدث به الكسر وحدث به القتل وحدث به الإزهاق ثقل البعير مع الشخص الراكب عليه، ولذلك فصل في أحكام أن يتلف المقدمة أو بالمؤخرة أو بوسطه على هذا التفصيل.

    الضمان إذا كان إتلاف البهائم للمال في الليل

    فإذا وقع الإفساد في النهار فإن صاحب البهيمة لا يتحمل المسئولية، وإن وقع الإفساد بالليل فإن صاحب البهائم يتحمل المسئولية عما أفسدت بهائمه من الزرع.
    والأصل في هذا التفريق: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل ذكر عن نبيه داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في قضية نفش الغنم في الليل، فأوجب كل من داود وسليمان الضمان، لكن داود عليه السلام أوجب ملكية صاحب الزرع للغنم، وسليمان أبقى الملكية كما هي وأوجب ضمان الزرع الذي فسد، فكل من داود وسليمان متفق مع الآخر على وجوب الضمان لكن اختلفوا في كيفية التضمين، تفصيل الحادثة: رجل كان له غنم، فخرجت بالليل وأكلت زرع رجل آخر، فلما فسدت اختصموا إلى داود عليه السلام، فنظر داود عليه السلام فوجد أن قيمة الزرع الذي تلف تعادل قيمة الغنم؛ فقضى عليه السلام بأن صاحب الزرع يملك الغنم، فحكمه صحيح وما ظلم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بل حكم بالعدل، لكن يقولون: هناك حكم يكون فيه الاجتهاد وهناك ما هو أصوب منه، فداود عليه السلام حكم من حيث الأصل بحكم له وجه من حيث العدل، فصاحب الزرع لما فسد زرعه وقيمته -مثلا- ألف ريال، والغنم قيمتها ألف ريال؛ فلما حكم بأن الغنم لصاحب الزرع ما ظلم صاحب الغنم ولا ظلم صاحب الزرع، هذا من حيث حكم داود، لكن سليمان قال: لو كنت قاضيا في ذلك لأمرت صاحب الغنم أن يأخذ الزرع وينميه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الأرض الغنم ينتفع بحليبها وصوفها حتى ينمي ذلك له زرعه ويرجع كل إلى ماله، فأثنى الله على حكم سليمان؛ لأن حكم سليمان أبقى اليد كما هي؛ فأبقى لصاحب الزرع زرعه وأبقى لصاحب الغنم غنمه، فأثنى الله على هذا الحكم وقال: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء:79] فأثنى على الاثنين، حتى كان إبراهيم النخعي رحمه الله يقول: لولا هذه الآية لأشفقت على المجتهدين.
    أي: لأشفقت على العلماء والمجتهدين الذين يجتهدون في الأحكام الفقهية؛ لأن الله أثنى على الاثنين وقال: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء:79] فدل على أن الاجتهاد فيه سعة، فما دام أن الإنسان يتحرى الحق ويريد الصواب فلا تثريب عليه ولو خالف غيره، ما دام أن عنده دليل وحجة.
    فظاهر القرآن أن الغنم إذا نفشت في الليل فإنه يجب ضمانها، ولذلك داود حكم بضمان الزرع وسليمان حكم بضمان الزرع.
    فالكل متفق على أن الغنم إذا رعت في الليل فإنه يتحمل صاحبها المسئولية، لكن النهار جاء فيه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه حيث كانت له ناقة ضارية واعتدت على مال لأنصاري، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بضمانها، وقضى أن حفظ الحدائق نهارا على أصحابها، وحفظ الدواب ليلا على أهلها؛ فدل على أن الدواب في الليل يحفظها أهلها، وأما في النهار فالحدائق والبساتين يحفظها أهلها، وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: هذا صحيح؛ لأن صاحب الزرع في النهار موجود داخل زرعه فلذلك يتحمل مسئولية المحافظة على الزرع، لكنه في الليل يأوي إلى فراشه ويرتاح والغنم في الليل عادة تسكن، فكونها تترك فهذا نوع من الإهمال والتفريط ولذلك لزم الضمان من هذا الوجه، وعلى هذا يفرق في الدواب بين كونها تفسد في الليل أو تفسد في النهار وهذا مذهب الجمهور.
    هناك من العلماء من قال: البهيمة لا ضمان فيما أتلفت وخاصة الجرح، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (العجماء جبار) وقوله: (جبار) بمعنى: هدر، وإذا كانت العجماء هدر، فمعنى ذلك أن ما تتسببه من الأضرار فإنه هدر لا يجب ضمانه، والواقع أن هذا الحديث لا يعارض ما ذكرناه؛ لأن القاعدة تقول: (لا تعارض بين عام وخاص) ، فالبهائم تسمى عجماء؛ لأنك لا تفهم كلامها، ويقال لها: بهيمة؛ لأنها أبهمت، والإبهام من الشيء المبهم المجهول، فلا تستطيع أن تفهم لغتها ولا كلامها، فالمراد بقوله: (جبار) ما يكون منها من إتلاف هدر، وظاهر الحديث أن كل ما يكون من جناية البهائم هدر، لكن لما جاء حديث البراء وأيده ظاهر الكتاب خصصنا عموم الحديث في السنة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة كما هو معلوم تقول: (لا تعارض بين عام وخاص) فنقول: إن العجماء هي جبار ما لم يكن الإفساد في الزروع، فإنها مستثناة من النص إذا وقع الإفساد بالليل دون النهار.

    الأسئلة

    حكم أم تركت ابنتها عند شيء أكلته فماتت

    السؤال كنت في يوم من الأيام أعد الطعام، وكانت لي طفلة صغيرة تبكي، فوضعت عندها سفرة طعام لتلعب بها وتنشغل بها، حتى أكمل إعداد الطعام، فتأخرت عنها، فعدت وقد حاولت الطفلة بلع السفرة فاختنقت وماتت، فماذا علي؟
    الجواب لا شك أن هذا فيه تقصير، فبعض المواد قد تقتل كأكياس النايلون، فربما يختنق بها الصبي لو تركت عنده؛ لأنه لا عقل عنده فيدخل فيها رأسه، وكذلك الحقائب المفتوحة ربما أدخل أخاه وأغلق عليه، فهذا يحدث، ولذلك أي شيء فيه تقصير وإهمال لاشك أنه يوجب الضمان، فيجب على المرأة أن تصوم شهرين متتابعين إذا لم يمكنها العتق؛ لأن هذا قتل بالخطأ، والعلماء يقولون: إذا تعاطت الأم أسباب هلاك ابنتها وتركت عندها ما يوجب الضرر والهلاك؛ فإنها تضمن، حتى ترك الطفل عند الطعام خطأ، وأعظم من ذلك أن تقول: من أجل أن تعبث بالطعام!! فالطعام ليس محلا للعبث وليس بشيء يعبث به، والذي يترك ابنه أو طفلته عند طعام من أجل أن يعبث به فلو داسه بقدمه ولو أتلفه فإنه يتحمل ذنبه وإثمه -والعياذ بالله- لأنه راض بهذا الفعل، مهيئ لأسبابه؛ ولذلك لا يجوز هذا ممن تتقي الله عز وجل، والذي يظهر في ترك الأشياء القاتلة مثل: الأكياس التي يختنق بها الصبيان، ومثل: ترك الأطفال بجوار الحفر أو تركهم بجوار الآبار أو تركهم بجوار برك السباحة أو نحو ذلك من الأمور التي لا حاجة لها دون مراقبة ومتابعة، فالذي يظهر أنه يوجب الضمان، والله تعالى أعلم.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    تحمل الوالدين مسئولية إتلاف أطفالهم

    السؤال إذا قام الأطفال بإتلاف السيارة كلها أو بعض أجزائها فما الحكم؟
    الجواب تقدمت معنا القاعدة التي تقول: (إن عمد الصبي والمجنون خطأ) وبناء على ذلك: فإن الأطفال إذا أتلفوا شيئا وجب ضمانه وتسقط عنهم المؤاخذة بالعقوبة لكونها دون سن المؤاخذة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم النبي عليه الصلاة والسلام: الصبي حتى يحتلم) فهذا يدل على أنهم لا يؤاخذون، ولكن لا يعني هذا أن أموال الناس تذهب هدرا، بل إنه يجب ضمانها من أموال الصبيان، وبتقصير الآباء يتحملون مسئولية أبنائهم وما حصل من ضرر بهذا الإتلاف.
    وينبغي على الوالد أن يستشعر بالمسئولية أمام الله عز وجل، وكذلك الوالدة عليها أن تتقي الله عز وجل في أبنائها، بالمحافظة عليهم، وكون بعض الآباء يقول: هذا صبي، هذا جاهل، فهذا لن ينجيه أمام الله عز وجل، وإذا لم يحفظ ابنه فليعلم أن الله سينتقم منه، وأنه لا يأمن أن تأتي دعوة سوء على ابنه فتشقيه في الدنيا والآخرة، فإن أموال الناس لا شك أنها مضمونة وحقوقهم غير ضائعة، والله جل جلاله من فوق سبع سماوات يقول عن المال الذي فتنت القلوب به: {يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} [محمد:37] يعني: لو أن الله سبحانه وتعالى فرض على الناس أن يخرجوا زكاتهم على شكل فيه إجحاف لهم لحصل منهم -والعياذ بالله- البخل وحصل منهم من الابتلاء ما قد يكون سببا في غضب الله عز وجل.
    (ويخرج أضغانكم) فإذا كان هذا لله الذي هو مالك الخلق وما ملكوا، فكيف إذا كان من مخلوق يعتدي على الأموال بالتساهل في ترك الأولاد يؤذون الناس في ممتلكاتهم وفي سياراتهم وفي بيوتهم، أو يفسدون المرافق العامة التي ينتفع بها الناس وخاصة الأوقاف، مثل: الثلاجات التي يشرب منها الماء، وأماكن الاستراحة في السفر؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال: (لعن الله من غير منار الأرض) وفي رواية (منارات الأرض) قال العلماء: هي العلامات التي يستدل بها المسافر أثناء مسيره، فكيف بمن أتلف على الناس سقاءهم وشرابهم وأماكن راحتهم؟! فالضرر في هذا عظيم ولذلك تصيبه اللعنة.
    فينبغي على الآباء أن يحفظوا أبناءهم وألا يتساهلوا في مثل هذه الأمور، والوالد الذي يحفظ أبناءه ويحافظ عليهم يبارك الله له في ذريته، والذي يتساهل في حفظ أولاده وذريته لا بد وأن يأتي اليوم الذي يريه الله عز وجل في ولده ما يكون سببا في ندمه وألمه حين لا ينفع الندم والألم؛ ولذلك فالآباء الذين يفرطون في أبنائهم صغارا يجنون ثمن هذا التفريط وهم كبار، فينشأ الابن مستهترا بحقوق أبيه، مضيعا لبره، مفرطا في الأمانات والواجبات الملقاة عليه تجاه والده، لا يحترمه ولا يقدره ولا يرحم كبره، ولكن إذا نشأه على طاعة الله وعوده من الصغر بأن يأمره بالصلاة ويأخذ بيده إلى الصلاة فيصبح الابن دائما تحت طوع أبيه، فمنذ نعومة أظفاره وهو تحت أمر أبيه، فإذا فعل ذلك ووفى لله عز وجل بحق أبنائه لم يمت ولم يخرج من الدنيا حتى يقر الله عينه به حيا أو ميتا، فيقر الله به عينه حيا حينما يراه بالمشيب والكبر ساعده الأيمن، يقضي له الحاجات ويفرج الله به الكربات، إذا قال له: يا بني! اتق الله، ارتعدت فرائصه من خشية الله عز وجل، فيجده سامعا مطيعا محبا للخير له، وأما ما تقر به العين وهو في قبره وفي آخرته فالدعوات الصالحات؛ لأنه ينشأ الابن وفيا بارا بأبيه.
    أما التساهل في الأبناء والبنات وتضييع حقوق الذريات، وترك الحبل على الغارب باسم عدم تعقيد الابن، وباسم عدم التضييق عليه، فوالله إن الضيق كل الضيق في هذا الاستهتار، والضيق كل الضيق أن يرسل هذا الابن كالفرس الجموح الذي لا عماد له من أجل أن يفسد أموال الناس ويتلفها، فاليوم يفسد أموال الناس خارج البيت وغدا يفسد مالك داخل بيتك، وكما أضر بالناس فإنه يضر بأبيه وبأمه وبإخوانه وأخواته؛ ولذلك يقولون: إن السيئة تدعو إلى أختها، فالابن الذي ينشأ على أذية الناس في أموالهم يأتي اليوم الذي يؤذي ماله ويؤذي والديه، فعلى الوالد أن يتقي الله عز وجل وأن يحفظ أبناءه، وإذا جاءت الشكوى من الجار أو جاءت الشكوى من أخيه المسلم أن ابنه فعل؛ تتبع ذلك وتحرى فيه، وعاقب ابنه وزجره وأوقفه عند الحدود التي ينبغي أن يقف عندها، وإذا فعل ذلك ففيه خير له ولولده وللناس جميعا، وإذا تساهل الناس في مثل ذلك تكون فتنة ويكون الشر العظيم، والبلاء الوخيم، أسأل الله العظيم أن يهدي أبناء المسلمين وذرياتهم، والله تعالى أعلم.

    مسألة اجتماع السببية والمباشرة في الإتلاف

    السؤال أشرتم إلى مسألة السببية والمباشرة فلو اجتمعا فما الحكم؟ ثم هل يؤثر الاجتماع بين السببية والمباشرة مع الدليل؟
    الجواب باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد ذكرنا أن السببية والمباشرة تجتمعان، من أمثلتها: قلنا: أن يحفر شخص بئرا ويأتي شخص ويرمي غيره فيها، فالحفر سببية ورمي الشخص في البئر مباشرة فهذا الشخص مات بسقوطه في البئر، والبئر حفرها مالكها والذي باشر القتل هو الشخص الثاني لا الأول فيجب الضمان على الثاني لا الأول؛ ولذلك قالوا: إذا اجتمعت السببية والمباشرة سقطت السببية وأعطي الحكم للمباشرة، وبعضهم يقول: إذا اجتمعت السببية والمباشرة قدمت المباشرة على السببية، ومن أمثلة هذا: لو أن شخصا وضع سكينا في موضع، فجاء شخص وأخذه -والعياذ بالله- وقتل نفسه بها، فالقتل وقع بمباشرة الشخص، لكن وجود السكين في هذا الموضع سبب؛ لأنه يسر القتل، لكنه لم يفض إلى القتل مباشرة، بخلاف ما إذا فتح الباب فخرجت منه الدابة أو خرج منه شيء فأتلف، فإن هذا يفضي إلى الضرر غالبا، ولذلك السببية تسقط بشرط أن تكون المباشرة تقبل أن تسند إليها، وهناك سببية ساقطة من أصل الشرع كما في قوله عليه الصلاة والسلام (البئر جبار) دل هذا الحديث على أن من حفر فإنه لا يضمن، فلو أن شخصا حفر بئرا وجاء شخص آخر وسقط فيها فلا يضمن صاحب البئر، لكن لو جرى العرف على أن هذه الحفر يوضع عليها حاجز ويوضع عليها ستار فأهمل؛ فيكون الضمان من جهة الإهمال؛ لأن الناس اعتادت أن هذه الحفر ينبهون عليها بمنبهات، واعتادوا ذلك وألفوه، فأسندت المحافظة إلى من يقوم بالحفر فقصر في ذلك فحينئذ يجب عليه الضمان.
    فإذا: عند اجتماع السببية والمباشرة فإن المباشرة تقدم على السببية، وفي بعض الأحيان يشرك بين السببية والمباشرة، مثال ذلك: لو أن أشخاصا اجتمعوا على قتل شخص فقام شخص وربطه، وجاء الثاني وسكب البنزين عليه، وجاء الثالث وأوقد النار، فالذي أوقد النار باشر القتل، لكن من الذي سكب المادة التي تعين على الاشتعال؟ فهنا سببية مفضية للهلاك، ومن الذي ربط؟ لو لم يربط لربما فر الرجل ولتعاطى أسبابا لنجاته، فتصبح السببية مع المباشرة مشتركة، ويكون الجميع بمثابة القاتل الواحد، فهنا اجتمعت السببية مع المباشرة.
    وكذلك أيضا ربما تكون -الذي هو الطرف الثاني من السؤال- السببية منفردة كالصور التي ذكرناها، وتكون السببية مجتمعة، والمباشرة مجتمعة، فلو أن أشخاصا أحرقوا مزرعة، فالذين أحرقوا هذه المزرعة أربعة منهم قاموا بإحضار مواد الوقود، وأربعة أشعلوا النار، وأربعة نقلوا النار من أجزاء إلى أجزاء، فهؤلاء كلهم مجتمعون سببية ومباشرة، فليس المباشرة مسندة إلى شخص واحد وليست السببية مسندة إلى شخص واحد، إنما تسند إلى أشخاص والدليل على ذلك: أن عمر رضي الله عنه لما قتل الجماعة الذين قتلوا الشخص في البئر، قال رضي الله عنه وأرضاه قولته المشهورة: (والله لو تمالئوا عليه أهل صنعاء لقتلتهم به) فدل على أن التشريك فيما يفضي إلى الإزهاق والقتل يوجب الضمان، وعلى هذا: إذا اجتمع جماعة سببية جماعة مباشرة فإنهم يضمنون، لكن هناك تفصيل في قوة السببية وقوة المباشرة في بعض الأحيان، فمثلا: ربما يكون المتسبب لا يعلم بالقتل، فقالوا له: اذهب وأحضر فلانا، وهم يريدون قتله، فأحضره، أو قيل له: اذهب وأحضر العصير، فذهب وأحضر العصير، فقام شخص ووضع السم في العصير، فالعصير سبب للقتل، وإحضار العصير سبب في القتل، فلو أن هذا الساقي الذي يحمل العصير لا يعلم أن العصير مسموم وجاء وقدمه للشخص فقام الشخص وأخذ العصير وشربه، فالقتل وقع بمباشرة الشخص نفسه؛ لأن الكأس ما تحرك بنفسه، والذي أدخل هذا السم إلى جوفه هو نفس الشخص المقتول، لكن هذه المباشرة لا تؤثر، بمعنى: أنها لا توجب إسقاط السببية؛ لوجود قصد بالقتل وتهيؤ لأسباب القتل، فحينئذ حامل الشراب لما كان لا يعلم سقطت سببيته وبقيت سببية واضع السم فتسقط المباشرة وتسقط السببية التي بجوارها، وتعمل السببية السابقة وهي وضع السم في العصير والإغرار بالفعل أو بالسبب المفضي إلى الزهوق.
    هذه كلها مسائل قد نفصل فيها -إن شاء الله- في كتاب الجنايات، وقد تقع السببية والمباشرة في الأموال، ففي بعض الأحيان بناء العمائر والمهن كالحدادة والنجارة والسباكة قد تكون هناك سببية وتكون فيها مباشرة، وكلها يفصل فيها على حسب الضرر المترتب على الفعل، ولذلك يقولون: المباشر هو: الفاعل الذي يفضي إلى الضرر بفعله، بحيث إن فعله هو الذي أفضى إلى الضرر مباشرة، كالإحراق والإغراق، فلو أخذ شخصا فأغرقه فمات فإن هذا التغريق مباشرة، ومثل: إيقاد النار للإحراق، فهذا الحرق نفسه هو الذي قتل، والتغريق هو الذي قتل فهذا كله يعتبر مباشرة.
    وأما السببية فهي: وسيلة تفضي إلى الضرر بمعنى: لا تعتبر هي كالمباشرة، وإنما هي واسطة بين الفاعل وبين الضرر المترتب على فعله، والله تعالى أعلم.

    حكم قتل الحيوان الأليف إذا توحش

    السؤال جاء في الحديث: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش) فلو أتلف البهيمة وهي في هذه الصورة متوحشة مالا بالليل، فهل يضمن صاحبه أم أنها تلحق بالعقور؟
    الجواب البعير من عظيم آيات الله عز وجل، يقوده الطفل الصغير، لكن لو هاج ربما يقتل أشخاصا ويتلف كثيرا من الممتلكات، فإذا ند كما قال صلى الله عليه وسلم (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) هذا الحديث في الصحيح وهو حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه، وسببه: أنهم كانوا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فهاج بعير وفر، فقام رجل وأخذ سهما ورمى البعير بهذا السهم فعقره، فقال صلى الله عليه وسلم (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها -يعني: فر- فاصنعوا به هكذا) فالمسألة التي في الحديث ليست هي مسألتنا؛ لأن المسألة التي في الحديث إذا كانت عندك بهيمة داجنة، أي: من الحيوانات الأليفة، فالحيوانات الأليفة التي تؤكل كالإبل والبقر والغنم والدجاج والحمام والعصافير يجب عليك أن تذكيها بالذبح والنحر -الذبح فيما يذبح والنحر فيما ينحر- لكن لو عجزت عنها فشرد البعير وغلب على ظنك أنك لن تدركه فرميت السهم فضربت بطنه فسقط ومات، فحينئذ يعامل معاملة الصيد، وينتقل من كونه مستأنسا إلى كونه متوحشا، وإذا صار متوحشا حل أن يعامل معاملة المتوحش، وبناء على هذا: قال بعض العلماء: البهيمة في هذه الحالة تكون هدرا، فلو قتلها الإنسان لا شيء عليه، أي: لو أنا رأينا جملا هائجا في حديقة فيها أطفال أو فيها ممتلكات وغلب على الظن أنه إذا لم يقتل فإنه سوف يتلف هذه الممتلكات ويقتل الأطفال، فحينئذ نقول: يجوز قتله.
    لكن لو أمكن عقر هذا الجمل بضربه بفخذه أو ضربه في رجله أو يده فإنه يعقر ولا يقتل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ليبين هذا الأصل، وفي هذا الحديث ما لا يقل عن خمس وثلاثين مسألة: (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) وهو الحديث الذي قال فيه الإمام أحمد رحمه الله: (لعل الإمام مالكا لم يبلغه حديث أبي رافع) .
    كانوا رحمهم الله يعتذر بعضهم لبعض ولا يشهر بعضهم بأخطاء بعض ولا يتتبع بعضهم عورات بعض، يقول الإمام أحمد: (لعل مالكا لم يبلغه حديث أبي رافع) ، فيحفظ كل منهم حق أخيه، رحمهم الله برحمته الواسعة وألحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين، والله تعالى أعلم.



  18. #378
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (باب الغضب )
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (378)

    صـــــ(1) إلى صــ(16)



    شرح زاد المستقنع - باب الغصب [9]
    ليس كل ما يتلف فإنه يلزم الضمان بإتلافه، فهناك أشياء يجوز إتلافها ولا تضمن، ومن هذا دم الصائل، وكذلك المال الغير محترم شرعا، وهذا كله من العدل ووضع الأمور في نصابها.

    ملخص مسائل جناية البهيمة

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فقد تقدم بيان المسائل المتعلقة بجناية البهيمة، وقد ذكرنا أن البهيمة إما أن يكون معها صاحبها، وإما أن تكون مرسلة، فإن كان معها صاحبها فلا يخلو إتلافها للشيء من أمور: إما أن يكون بمقدمة البهيمة كأن تتلف شيئا بيديها، أو يكون الإتلاف برجليها والمؤخرة، أو يكون الإتلاف بوسطها، فإن كان الإتلاف بمقدمة البهيمة فإن الضمان يكون على القائد والسائق للبهيمة سواء كان صاحبها أو كان غيره، فإنه يجب عليه ضمان ما أتلف؛ والسبب في ذلك: أن قائدها وسائقها يتحكم فيها إذا كان راكبا عليها، ويكون إقدامها على إتلاف الأشياء بسبب تعاطي القيادة والإرسال.
    وأما بالنسبة لإتلافها للشيء بظهرها، فإن ذلك لا يخلو من حالتين: إما أن يكون الشخص الذي معها هو الذي ردها إلى الخلف فحينئذ يكون الضمان على الشخص؛ لأن الإتلاف وقع بسبب الرد إلى الخلف وهو ناشئ من سببية تعاطاها القائد فيجب عليه الضمان، وإما أن يكون إتلافها بخلفها ناشئا منها هي بدون أن يتحكم فيها القائد، فحينئذ لا إشكال أنه لا ضمان على قائدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الضمان في إتلاف البهيمة، وأما إذا لم يكن معها أحد فإن كان صاحبها قد تعاطى أسباب التفريط والإهمال، كأن يرسلها بجوار شيء يتلف عادة أو تقدم البهيمة على إتلافه أو حصول الضرر فيه، مثل: الأطفال وصغار السن إذا أرسل البهيمة بينهم، وليس المراد بالإرسال التحريش، كأن يغريها أن تذهب كما يظن البعض، لا.
    لأنه إذا حرشها أن تذهب فلا إشكال أنه يضمن، لكن المراد بالإرسال أن يطلق عنانها، بمعنى: أن يتركها دون أن يقيدها ودون أن يربطها فتذهب البهيمة بنفسها وتتلف، صحيح أن الإتلاف وقع من البهيمة؛ ولكن كونه يرسلها بجوار شيء غالبا ما تتلفه، كأن يأتي إلى موضع فيه زجاج أو موضع فيه شيء خطير أو شيء فيه ضرر، والبهيمة عادة يربطها صاحبها حتى تستقر في مكانها، فجاء وتركها دون أن يربطها فهذا معنى إرسالها، فإذا أرسلها بجوار ما تتلفه عادة، أي: بجوار شيء لو أرسلت بدون قيد لأتلفته فإنه يجب عليه الضمان.
    إذا: البهيمة من حيث الأصل عندنا فيها حديث: (العجماء جبار) ، بمعنى: أن كل ما تتلفه هدر، واستثنينا عدة صور، وهي: إذا كان معها صاحبها؛ لأن الإتلاف لم ينشأ من البهيمة أصلا وإنما نشأ ممن معها، فلا يمكن لأحد أن يعترض بالحديث: (العجماء جبار) على حالة ما إذا كان معها صاحبها؛ لأنه إذا كان معها صاحبها ففي الواقع أنه إنما حصل الإتلاف بسبب الإهمال والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) ، فإذا تمحضت في الإتلاف، بمعنى: أن ينشأ الإتلاف دون وجود إهمال من صاحبها، فحينئذ يمكنك أن تنسب الإتلاف إلى البهيمة؛ لكن إذا كان معها صاحبها أو تعاطى صاحبها أسباب الإهمال، فإنه يجب عليه الضمان، وهذا حاصل ما ذكرناه في جناية البهيمة.
    وأحببنا أن ننبه على هذا الملخص؛ لأن بعض طلاب العلم تلتبس عليه المسائل ويتداخل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) مع حديث تضمين البهيمة إذا أتلفت بالليل؛ لأن حديث تضمين البهيمة إذا أتلفت زرع الناس بالليل يدل على ذلك؛ لأن الأصل أن البهيمة تحفظ في الليل، فلما أهمل صاحبها في حفظها وجب عليه الضمان، فذهبت السنة على أنه يضمن رب البهيمة إذا أهمل فيها أو تعاطى أسباب الإتلاف الذي حصل منها، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السموات والأرض وعليه شرع الله عز وجل.
    وليس من العدل أن نقول للناس: كل ما أتلفته بهائمكم هدر.
    ثم يأتي الرجل ببهيمته فيتركها بجوار الأشياء الخطيرة أو بجوار أمتعة الناس ويقول: العجماء جبار، أو يأتي ببهيمته ويدخل بها في سوق فيه أطعمة وفيه مصالح الناس -والبهيمة إذا أرسلت رتعت في هذه المصالح- فيقول: العجماء جبار؛ لكن الله عز وجل نبهنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبهديه الكريم على أن البهيمة إذا أتلفت شيئا وكان الإتلاف متمحضا منها فلا ضمان؛ لأنها بهيمة، فإذا أتلفت من فعلها دون أن يفرط صاحبها فمثلها لا يحاكم ولا يترتب عليه المؤاخذة من حيث الأصل، ثم إذا حصل الإهمال من ربها وصاحبها وجب الضمان حينئذ.

    حكم دفع الصائل

    قال المصنف رحمه الله: [كقتل الصائل عليه وباقي جنايتها هدر] أي: باقي جناية البهيمة هدر، أي: لا ضمان فيه لثبوت السنة به.
    بعد أن فرغ من جناية البهائم أدخل مسألة الصائل، والصائل هو: الشخص -والعياذ بالله- الذي يهجم على الإنسان إما من أجل أن يضره في نفسه كأن يريد قتله أو يضره في عرضه أو يصول على ماله، ولكن أكثر المسائل يذكرها العلماء في الصائل إذا اعتدى على الأنفس، فلو -والعياذ بالله- تعرض شخص لآخر فحمل عليه السلاح يريد قتله أو بدون أن يحمل السلاح جاءه وهجم عليه يريد قتله، فالصائل تارة يكون في الطريق، وتارة يكون في البيت والمنزل؛ ولذلك تخلتف الأحكام الشرعية، إلا أن هناك ضوابط ينبغي أن ننبه عليها: أولا: أن الأصل العام يقتضي أن دم المسلم حرام ولا يجوز للمسلم أن يقتل غيره أو يتلف شيئا من جسده إلا إذا أذن الشرع بذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) هذه الأصول الشرعية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يقتل المسلم إلا إذا دل الشرع على جواز ذلك القتل وحله، فلو أن شخصا مسالما هجم عليه شخص في البيت ومعه سلاح ويريد قتله أو يريد أن يعتدي على عرضه، ففي هذه الحالة ينبغي علينا أن نبقي على الأصل ونقول: لا يجوز أن تتعرض لهذا الذي هجم فتقتله إذا كنت تستطيع دفع ضرره بالأخف، فلو أمكن الشخص أن يستغيث بعد الله بأشخاص يأتون من أجل أن ينقذوه دون أن يحصل قتل لم يجز له أن يقتله، ولو أمكن أن يستخدم وسيلة تحول بينه وبين هجوم الشخص عليه كقفل الباب، فحينئذ يجب عليه قفل بابه أو ركوب سيارته والهروب إذا أمكن أن يهرب، فإذا تلافى هذا الضرر دون أن يحدث ضرر عليه فعل، أما إذا أصبح أمام الموت بحيث هجم عليه هجوما لا يمكن معه أن يدفع ضرره إلا بالقتل؛ فحينئذ ينظر: فإذا هجم عليه هجوما لا يمكن أن يدفع الضرر إلا بضرر في نفس هذا الصائل أو في جسده فيفصل فيه: فلو هجم على الإنسان وهو يحمل السلاح بيده وأمكنك أن تضرب أنه حتى ولو تتلفها فحينئذ لا يجوز أن تقتله، أما إذا غلب على ظنك أنك لا تحسن ضرب يده، أو ستخطئ في ضرب يده وأنك إذا أخطأت هذه الطلقة نفسه فإنه سيقتلك؛ فحينئذ يحل لك شرعا أن تقتله، قال: (يا رسول الله! أرأيت إذا جاء يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله.
    قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة) وقال صلى الله عليه وسلم (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد) .
    فالصائل الذي يصول على الإنسان يدفع بالأخف، فإذا لم يمكن دفع ضرره إلا بالأثقل جاز له أن يدفعه بالأثقل، والسبب في هذا: أن الصائل لما صال على المسلم سقطت حرمته وأصبح بهجومه على بيوت الناس وبهجومه على أرواح الناس يريد إزهاقها أو بهجومه على أعراض الناس يريد -والعياذ بالله- انتهاكها ساقط الحرمة، وحينئذ يصبح دمه هدرا، فإذا لم يمكنك دفع هذا الإخلال الشرعي منه إلا بقتله فإنه يحل قتله ودمه هدر، لكن كل هذا بشرط أنه لا يمكن دفع ضرره إلا بالقتل، والنصوص في هذا واضحة.
    أجمع العلماء رحمهم الله على أن من صال على المسلم فقتله فإن دمه هدر، وأنه لو قتل الشخص الذي هجم عليه فإنه شهيد؛ ولذلك يعتبر من الشهادة موت الإنسان وهو مدافع عن نفسه وموت الإنسان وهو مدافع عن عرضه وموت الإنسان وهو مدافع عن ماله، فهذه كلها شهادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت إن جاء يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه.
    قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال قاتله) وعلى هذا قال العلماء: إن الصائل تسقط حرمته وإذا سقطت حرمته ولم يمكن دفع ضرره إلا بالقتل قتل، لكن لو أن هذا الصائل هجم على الإنسان وأمكن للإنسان أن يتصل أو يستغيث بعد الله عز وجل بأشخاص ينقذونه أو أمكنه أن يقفل بابا، ولم يفعل هذه الأشياء وأقسم على قتله، فالضمان يجب عليه؛ لأن نفسه لا تحل له، ولا يحل له قتله، ومثل هذا له حكم معروف إن كان سارقا فله حده، وإن كان صائلا فله تعزيره، والمرجع في التعزير ليس للناس، فلو هجم شخص على شخص وأمكنه أن يتصل أو يستغيث أو يقفل بابه ولكنه قام بقتله فإنه يضمن، ويعتبر قتل شبهة إذا تأول كونه هجم عليه، فلا يوجب القصاص لكنه يعتبر قتل شبهة وينظر فيه ولي الأمر، والسبب في هذا: أنه لا يجوز للناس أن يتولوا القصاص من بعضهم، ولا أن يتولوا مثل هذه الأمور ما دام أن هناك من يقوم به ويتولى هذه الأمور، فهو الذي يتحمل مسئوليتها وما على الإنسان إلا أن يضع الأمر بين أيديهم وهم الذين يتحملون المسئولية، أما أن يقدم هو على قتل أخيه المسلم مع إمكانية دفع ضرره بالأخف فإنه في هذه الحالة ليس له مبرر شرعي في قتله، وعلى هذا لا يباح للشخص إذا صال عليه الغير أن يقدم على القتل هكذا ما لم يتقيد بهذه الضوابط.
    ومن هذه الشروط والضوابط التي ينبغي توفرها: أولا: أن يكون صائلا بظلم لا صائلا بشبهة، بمعنى: لو أن اثنين اختلفا في أرض فجاء أحدهما ودخلها بحكم أنه يعتقد أن الأرض أرضه، فلا نقول: إن هذا صائل لأن الأرض ما ثبت أن فلان يملكها، فإذا: يشترط أولا: أن يكون الصائل ظالما، فإذا كان مظلوما وهجم على ظالم يريد أخذ ماله فلا تقل: إنه صائل، كشخص سرق من آخر كيلو من الذهب مثلا، فجاء المسروق وهجم على السارق يريد أن يأخذ هذا الذي أخذ منه فقتله، فحينئذ لا نقول: إنه صائل؛ لأنه لم يتوفر الموجب لإثبات كونه صائلا عليه وهو كونه ظالما، فهذا ليس بظالم بل هذا مظلوم وهو صاحب الحق.
    ثالثا: أن يكون الشخص الذي صال يخشى منه الضرر على النفس أو على المال أو على العرض، ويكون ضررا مؤثرا، فإذا كان المال شيئا تافها، كما لو جاء يريد أن يأخذ مسواكا أو قلما أو كتابا، فلا نقول: إنه يباح قتله؛ لأن هذا شيء ما يأتي عند حرمة دمه، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن زوال الدنيا أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم، فليست دماء المسلمين رخيصة بهذا الشكل فتستباح بشيء تافه حقير.
    رابعا: أن يذكره بالله عز وجل، وينصحه إذا أمكن ذلك، فيعذر إليه ويحذره ويمنعه إذا أمكنه ذلك، فيقول له: إذا هجمت أو دخلت دون إذني سأقتلك، أو إذا اعتديت علي سأقتلك، فيعذر إليه وينبهه لاحتمال أن يكون مخطئا، ودخل الدار خطأ ويظن صاحب المنزل أنه صائل وهو ليس بصائل، فقد يدخل الإنسان دارا خطأ ويظنها داره ويحدث مثل هذا الشيء، فلابد أن يحذر الإنسان حتى يخرج من التبعة والمسئولية.
    خامسا: ألا يتمكن من دفع ضرره إلا بالقتل، فإذا لم يمكنه دفع ضرره إلا بالقتل وكان الضرر على النفس أو على العرض أو على المال، فإنه يجوز له أن يدفع ذلك الضرر ولو بإزهاق روحه؛ لثبوت النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسقوط حرمته.
    هذا بالنسبة للاعتداء من الصائل على الإنسان، ولا شك أن الشريعة حينما جعلت الاعتداء على الناس موجبا لسقوط الحرمة فإن هذا يدل على عظم منهجها وكماله، وتعجز القوانين الوضعية أن تعالج مثل هذه الأمور بمعالجة الشريعة الإسلامية، والشريعة الإسلامية وضعت هذه القواعد والثوابت والضوابط وعدلت وأنصفت بين الطرفين، فحفظت دماء الناس وأرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم؛ ولذلك عندما ننظر إلى أن اليد لو سرقت قطعت، ولو اعتدى عليها شخص ضمنها بنصف الدية، نجد أنها لما كانت كريمة صارت عزيزة ولها قيمتها، ولما صارت لئيمة تعتدي على أموال الناس سقطت حرمتها، وهذا عين العدل أن تجعل لكل ذي حق حقه، فجعلت الشريعة الحزم في موضعه وجعلت اللين والرق في موضعه فالمسلم له حرمة وكرامة لكن بشرط ألا يعتدي على حرمات الناس وألا يعتدي على كرامتهم، ولتتصور لو أن الشريعة لم تبح دفع الصائل لسالت دماء الناس وانتهكت أعراضهم وأكلت أموالهم وحصل من الضرر ما الله به عليم.
    (كقتل الصائل): هذا تشبيه: أي: لا ضمان في جنايات البهيمة بالشروط التي ذكرناها، كما أنه لا ضمان على من قتل شخصا صال عليه، وبينا حكم الصائل وهو: الشخص الذي يعتدي على الإنسان، وحاصل ذلك: أن الاعتداء إما على النفس أو على العرض أو على المال، فإذا اعتدى على نفسه سواء اعتدى عليه بالقتل يريد أن يقتله ظلما وبدون حق، أو اعتدى على عضو من أعضائه، والجناية على العضو كالمرأة يريد أن يزني بها والعياذ بالله! أو يعتدي على عرضه، كأن يريد الصائل أن يعتدي على أحد محارم الرجل بالزنا -والعياذ بالله- أو بأي أذية تمس هذا العرض، أو يعتدي على ماله كأن يأخذ نقوده أو يتلف شيئا من أمواله، فكل هذا يندرج تحت مسألة الصائل.
    نحب أن ننبه إتماما لما تقدم من مسائل الصائل إلى أن جميع المسائل التي تقدمت معنا في حكم الصائل هي مبنية على قاعدة شرعية مدارها على مسألة مشهورة عند العلماء وهي: مسألة مشروعية الدفاع عن حق الإنسان، أي: أن الشرع جعل لك الحق أن تدافع عما ملكه لك، سواء كان ذلك من الأمور المادية كالمال أو كان من الأموال المعنوية كعرض الإنسان ونحو ذلك، فالأصل الشرعي يقتضي: أن من حقك أن تدافع عن نفسك وعرضك ومالك، وشرع الله لك أن تبذل الأسباب لدفع الظلم الذي يقع عليك في نفسك أو في عضو من أعضائك، وكذلك شرع لك أن تدفع عن نفسك كل ظلم يقع على عرضك، وشرع للإنسان أن يدفع الظلم عن ماله.

    الدليل على مشروعية دفع الصائل

    أما الدليل على مشروعية الدفاع: قول الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194] ، شرع الله عز وجل للمظلوم أن يدفع الظلم عنه، والآية عامة شاملة للاعتداء على النفس والمال والعرض.
    الدليل الثاني: قول الله سبحانه وتعالى: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:9] ، فالله عز وجل شرع مقاتلة الباغي وجعل بغي الطائفة الثانية على الطائفة الأولى موجبا لنصرة الطائفة الأولى فقال: {فإن بغت إحداهما على الأخرى} بغت: اعتدت، والبغي: الاعتداء ومجاوزة الحد، قال الله عز وجل: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات:9] ، فإذا شرع الله لنا أن ندفع الظالم عمن ظلم، فمن باب أولى أن يكون مشروعا للشخص نفسه أن يدفع ذلك الظلم عن نفسه.
    كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة التي تدل على مشروعية الدفاع عن النفس وعن العرض وعن المال، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد) ، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء الرجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه.
    قال: أريت إن قاتلني؟ قال: قاتله.
    قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار.
    قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة) ، فهذا الحديث يدل على مشروعية دفاع الإنسان عن ماله، فقوله: (لا تعطه) أي: من حقك أن تمتنع؛ لأنه جاء بغيا وعدوانا فقال: لا تعطه، قال: (أرأيت إن قاتلني؟) بمعنى: أخبرني يا رسول الله عن الحكم لو أنه أصر إلا أن يأخذ مالي بالقوة، قال: قاتله، فأحل له أن يدافع، قال: (أرأيت إن قتلني؟! قال: أنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) .
    فدل على سقوط حق الصائل الذي يصول على مال الإنسان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أسقط حرمة الصائل الظالم على المال فمن باب أولى أن تسقط حرمته إذا اعتدى على العرض وعلى النفس؛ لأن العرض أعظم من المال، والنفس أعظم من العرض والمال.
    كذلك ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما وفيه: قاتل يعلى بن أمية رجلا، فعض أحدهما الآخر، فانتزع يده من فمه، فسقطت ثنيته، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل؟ لا دية له) ؛ لأنه حينما عضه اعتدى على يده، وهذا العض ليس له مسوغ شرعي، وليس هناك إذن شرعي أن يعض، فلما عض سقطت حرمة أسنانه فلما انتزع المعضوض يده -المعضوض من حقه أن يدافع عن نفسه- فلما انتزع يده حصل بهذا الانتزاع المشروع سقوط ثنية العاض، فلم يوجب عليه الضمان ولم يوجب عليه الدية.
    فدل هذا الحديث دلالة واضحة على سقوط حرمة الصائل والظالم إذا ترتب على دفعه ضرر، وقال: (لا دية لك) أي: لا شيء لك كما في الرواية الأخرى في الصحيح فدل هذا على أنه لا حرمة للمعتدي.
    كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه كان جالسا مع أهله فجاء رجل وأصبح ينظر من خلل الباب -الفتحات التي في الباب- فأخذ عليه الصلاة والسلام في يده المرود (المكحلة) فأخذ كأنه يستهدف العين التي تنظر، كأنه يريد أن يرميه بالمرود حتى يفقأ عينه فذهب الرجل وانصرف، كان بعض العلماء يقول: لعله من المنافقين.
    وهذا أشبه أن يكون من أهل النفاق؛ لأنهم -عليهم لعائن الله تترى إلى يوم الدين- ما فتروا عن أذية النبي صلى الله عليه وسلم حتى في عرضه؛ ولذلك كانوا يؤذونه حتى في عرضه كما في الحديث الصحيح في السير: أن كعب بن الأشرف كان يؤذي نساء النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجن إلى قضاء الحاجة في المناصع وكانت قريبة من بقيع الغرقد.
    فالشاهد: أن هذا الحديث لا يشكل على بعض طلاب العلم فيظن أن الصحابة يجرءون على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فهم -إن شاء الله- أبعد من ذلك، والأشبه أن يكون هذا من المنافقين؛ لأن المدينة كان فيها المنافقون وكان فيها اليهود، فالغالب أن يكون من غير الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فكونه عليه الصلاة والسلام يريد أن يفقأ عينه أسقط حرمة العين، فلو قال قائل: إذا كان منافقا سقطت حرمته في الأصل، قلنا: لكن الظاهر يوجب معاملته معاملة المسلم؛ لأنه قال: (أمرت أن آخذ بظواهر الناس) .
    والسنة الفعلية جاءت بإسقاط حرمة العين الناظرة، وكذلك جاءت السنة القولية عنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح في مسند الإمام أحمد وغيره: (لو أن رجلا اطلع على عورة قوم ففقئوا عينه لم يكن عليهم شيء) ؛ لأن هذه العين -والعياذ بالله- لما خانت هانت، فحرمة المسلم تقتضي أن لا تطلع هذه العين على العورة، فلما اطلعت وتحرت وقصدت ووجد منها القصد والترصد لفعل الجريمة سقطت حرمتها وكانت هدرا، فلو أن شخصا نظر إلى عورة شخص واسترسل بنظره ففقأ عينه سقطت حرمة هذه العين إذا ثبت بالبينة عند القاضي أنها عين جائرة مسترسلة في النظر في عورته.
    وهذا الحديث يؤكد حرمة العرض؛ وأن النظر إلى العورات خيانة، والعين الخائنة أسقط النبي صلى الله عليه وسلم حرمتها، فدل على مسألتين: الأصل وهو: أن العين عند اعتدائها تسقط حرمتها وتكون هدرا، فلو أن شخصا فقأها في حال اعتدائها لم يضمن، والأصل العام أن هذا الحديث يدل على أن الصائل والمعتدي على أنفس الناس وأرواحهم وأعراضهم وأموالهم تسقط حرمته بهذا الاعتداء، هذا بالنسبة لدليل الكتاب ودليل السنة، وأجمع العلماء من حيث الجملة كما حكى الإجماع الإمام ابن قدامة رحمه الله وكذلك غيره من الأئمة، كالحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وله كلام نفيس في مسائل دفع الصائل في مجموع الفتاوى فيحبذ لطلاب العلم أن يرجعوا إليه، وغيره من الأئمة رحمهم الله بينوا أن الصائل تسقط حرمته إذا صال على المسلم ظلما وعدوانا، قلنا: بشرط أن يكون ظالما، فإذا كان قد اعتدى على الشخص بحق وعدل فلا يعتبر صائلا، ولا يأتي بحكم الصائل، وبينا أنه ينبغي على الشخص المهجوم عليه أن يحاول دفع الصائل بالأخف، فإذا لم يمكن إلا قتله جاز له قتله، وكذلك ينبغي عليه تحذيره وإنذاره كما يشترطه بعض فقهاء الشافعية -رحمهم الله- فيقول له: يا فلان اتق الله، يا فلان خف الله عز وجل، يا فلان! أناشدك الله أن تبتعد عني وأن تكفيني شرك، أن تترك عرضي، أن تترك مالي، فيناشده بالله عز وجل إن أمكنت مناشدته وينصحه ويعظه إن أمكنه ذلك، هذا بالنسبة لمسائل الصائل التي ذكرناها فيما تقدم وكلها تتعلق بالإنسان، فبقي السؤال عن الصائل إذا كان من الحيوان؟

    حكم الاستسلام للصائل

    مسألة الصائل إذا هجم على الإنسان يريد قتله أو يريد إتلاف عضو من أعضائه أو يريد تعذيبه أو يريد الاعتداء على عرضه أو ماله: هل يجوز للإنسان أن يستسلم للصائل أم يجب عليه أن يدفعه؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل الواجب على الإنسان إذا صال عليه أحد أن يصبر وأن يحتسب الأجر عند الله عز وجل وخاصة إذا كان الصائل مسلما، أم أنه يجب عليه ويتعين عليه أن يدفعه؟ هذه المسألة فيها تفصيل: أولا: بالنسبة للاعتداء على العرض، فإذا أراد أن يزني بامرأة، فجمهرة أهل العلم على أنه إذا لم يمكنها أن تدفع ضرره إلا بالقتل فإنه يجب عليها قتله، فلا يرخص لها، إلا إذا أكرهت على وجه لا يمكن معه أن تدفع عن نفسها الضرر هذا شيء آخر، أما أن يأتي بقصد أن يزني بها ولا يمكنها أن تدفعه عن الزنا إلا بقتله فيجب عليها أن تقتله؛ لأن اعتداءه على عرضها ليس بالأمر الذي يمكن تعويضه، ولا بالشر الذي يمكن دفعه أو المفسدة التي يسع الصبر عليها؛ ولذلك تقتله ويلقى الله عز وجل بمظلمتها ودمه هدر.
    وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله -وحكى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمه الله- فلما قتله وكان الرجل محصنا رفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي بعض الروايات أنه جاء إلى عمر وهو يأكل فجلس مع عمر وصار يأكل، فجاء أولياء المقتول يطلبونه بدم صاحبه، فقال يا أمير المؤمنين: (إني ضربت بالسيف بين فخذي امرأتي) رفعت سيفي وضربت فإن كان الذي بين فخذيها شيء وقتل لا أتحمل هذا، فخذ امرأتي ضربت بينه بالسيف، ففهم عمر ماذا يقصد، أي: أنني وجدت زانيا، ولم يقذف الرجل، وهذا من فطنته؛ لأنه لو قال: إني وجدته زانيا صار قاذفا وقاتلا؛ ولذلك قال: إني وجدت بين فخذي امرأتي رجلا وضربت بالسيف بين فخذي امرأتي، أي: أنه كان من حقي أن أضرب في شيء ليس أمام الناس، فقال عمر: (أكما قال؟ قالوا: نعم.
    قال: لا شيء لكم) أي: ما دام أنه قتله، لكن هذه المسألة ليست على إطلاقها؛ ولذلك الشريعة لم تفتح هذا الباب، فلو أن شخصا قتل شخصا وجده مع امرأته ولم يقم البينة على أنه كان يزني لقتل به، كما في الصحيحين من حديث سعد رضي الله عنه أنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! الرجل يجد لكعا قد تفخذها رجل، أيحضر الشهود فيبرأ الرجل من حاجته أو يقتله فتقتلوه؟) لاحظوا
    السؤال في الرواية الأخرى في الصحيح: (إن قتل قتلتموه -أي: ليس هناك بينة تشهد- وإن ذهب يحضر الشهود يفرغ الرجل من حاجته ويمضي) ، فنزلت آيات اللعان المشهورة وخص الزوج.
    قال العلماء: من حكمة الله عز وجل أنه لم يفتح هذا الباب للناس؛ لأنه بإمكان أي شخص إذا كره امرأته وكره عدوا قتل الاثنين، فجاء برجل وأدخله بيته وقتله وقتل زوجته ثم ادعى أنهما كانا زانيين؛ ولذلك يفتح على الناس باب شر، فالشريعة وضعت الأمور كلها في نصابها، فلو ادعى أنه كان يزني بامرأته وقتل امرأته والرجل لا تقبل منه هذه الدعوى ما لم يقم دليلا بأربعة شهود على أنه كان يزني بها، فلو جاء ثلاثة شهود لم يكف ذلك، ولذلك لا بد وأن يثبت عند القاضي أنه زان وأنه محصن، الأمر الثاني: حتى ولو جاء بشهود ووجده يزني بامرأته فما يقتله، وليس من حقه أن يقتله؛ لأن القتل ليس إليه وإنما هو لولي الأمر.
    ولذلك إذا قتله في هذه الحالة: وأحضر أربعة شهود على أنه كان زانيا أسقط القاضي عنه حد القصاص وأوجب عليه التعزير؛ لأنه تعدى؛ لأن الله عز وجل جعل القضاة وجعل ولاة الأمر ونصبهم لكف الناس عن بعضهم البعض، فإذا قام بنفسه وقتل فإنه يعزر، وهذا حاصل ما قيل بالنسبة للاعتداء على العرض.
    وبقي الاعتداء على النفس والمال، هل يجوز للإنسان لو جاء رجل يريد قتله، هل يجوز له أن يستسلم أو يجب عليه الدفع ولا يجوز له أن يستسلم؟ للعلماء قولان: قال بعض العلماء: يجوز له أن يستسلم، وذلك لقصة قابيل وهابيل، حيث كان خير ابني آدم من سلم أمره لله عز وجل وفوض أمره إليه سبحانه وتعالى.
    وقال بعض العلماء: لا يجوز له أن يستسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الرجل: (أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله) .
    قالوا: ولأنه إذا استسلم أعانه على قتل غيره؛ ولأنه إذا استسلم أعانه على الزيادة والإسراف والإنعاف والظلم والبغي والاعتداء على أعراض الناس وعلى أموالهم، وعلى أرواحهم؛ فلذلك لا يجوز له أن يستسلم بل عليه أن يدفع هذا الظلم، فإن قتل فإن هذا يحدث عند الصائل رهبة من الاعتداء على الناس ويخاف المعتدون الاعتداء على أرواح الناس؛ لأنه إذا جاء وقتل شخصا وأخذ ماله، والشخص دافع فإنه يعلم أن أخذ الأموال لا يكون بسهولة، فلا يجرؤ مرة ثانية على فعل ذلك إلا وعنده شيء من الخوف والرهبة، ففي ذلك تحقيق لمصلحة كف الظالم، قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قال: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: حجزك له ومنعك إياه نصرة له) ، أي: أنك إذا حجرته عن الظلم فقد نصرته، أي: نصرته على شيطانه وعلى نفسه الأمارة بالسوء؛ فلذلك قالوا: يجب الدفع، والحقيقة القول بأنه يجب على الإنسان أن يدافع يحتاج إلى شيء من التفصيل، ففي بعض الأحوال إذا كان الصائل شخصا معروفا وغلب على ظن الإنسان أنه لو قتله فسيدفع عن الناس شره؛ لأنه شخص معروف الاعتداء على أرواح الناس وأموالهم وأسرف وأمعن وغلب على ظنه أنه إذا استسلم سيفعل بغيره مثل ما فعل به، فلا شك أن تعين مواجهته وكفه وحجزه لا شك أنه أقرب إلى الصواب، والقول بالوجوب في مثل هذه الحالة أشبه.
    وعكسه إذا كان شخصا يمكن استصلاحه ويمكن التخلية بينه وبين المال حتى يستطيع بعد ذلك أن ينصحه أو يذكره أو يستدرجه فهذا أمر يكون فيه سعة، وقصة قابيل وهابيل شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، أي: أن النصوص واضحة الدلالة؛ لذلك يقول بعض العلماء: إن الصائل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: إذا كان كافرا، فالقول بوجوب مقاتلته ودفعه أنا لا أشك في رجحانه؛ لأن استسلام المسلم ذلة ومهانة، ولا يجوز للمسلم أن يستسلم لمثل هذا، بل عليه أن يدفعه ويقاتله ويجاهده لما في ذلك من إعزاز لدين الله وإعلاء لكلمة الله وفي ذلك بالغ الرضا من الله سبحانه وتعالى للعبد؛ لأن الله يحب إغاظة الكافر ويحب إهانته؛ ولذلك جعل الله ثواب المجاهدين أنهم ما وطئوا موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم، فكتب لهم الأجر في ذلك، ففي هذه الحالة وأشباهها لا شك أن القول بالوجوب يتعين، وأما إذا كان مسلما فالأمر بالتفصيل فيه أشبه.

    حكم الصائل من الحيوان

    والصائل من الحيوان تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في الكلب العقور، والمراد بالصائل من الحيوان: هو الحيوان الذي يخرج عن طوره ويكون مملوكا للغير، وهذا يقع في بهيمة الأنعام كالبعير إذا هاج والناقة إذا هاجت، ولربما يهج الثور فيؤذي الناس وتتعرض أرواحهم وممتلكاتهم للضرر فحينئذ يرد السؤال عن حكم هذا النوع الصائل.
    أما من حيث الإجماع فقد أجمعوا على أن الصائل من البهائم كالصائل من الآدميين؛ لأن حرمة الآدمي فوق حرمة الحيوان، فإذا صال الحيوان وهاج وغلب على ظننا أنه سيقتل حل قتله، أو غلب على الظن أنه سيتلف أعضاء الناس، كأن يكون بعيرا يعض وغلب على الظن أنه سيعض صبيا وسيهجم على صغير، أو غلب على ظنك أنه سيعضك وهاج عليك ورأيت الأمارات كلها على أنه اعتداء ولا يمكن الفكاك من هذا الضرر وهذه الأذية إلا بقتله حل قتله، وبقي
    السؤال هل يضمن أو لا يضمن؟ فجمهرة العلماء: أنه لا ضمان على قاتله، وقال بعض العلماء: إذا هاج فإنه يضمن بالنسبة للحيوان، وأما الآدمي فإنه لا يضمن.
    ففرقوا بين الآدمي وبين الحيوان، قالوا: لأن الحيوان لا يعقل والآدمي يعقل، وقتل الحيوان يجب فيه الضمان؛ لأنه من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي، وهذا مذهب بعض أهل الرأي.
    والصحيح: أنه إذا هاج الحيوان وهجم على مكان أو على مدينة أو على قرية وغلب على الظن أنه يقتل أو أنه يتلف الأشياء ويكسرها فحينئذ يجوز قتله كما يجوز قتل الآدميين.
    أما لو قتل في هذه الحالة وذكر اسم الله عند قتله، كأن يرمي عليه سهما أو يرميه برصاصة ويسمي الله أثناء قتله، فمذهب بعض العلماء أن القتل بهذه الطريقة يبيح أكل لحمه، فحينئذ يكون هذا عوضا لصاحبه إذا فاتته نفسه أن ينتفع بلحمه، ويكون هذا دفعا للضرر بسبب وجود الضرورة والحاجة.
    وكل هذه مسائل التي ذكرناها مبينة على قاعدة: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) ، فالمسائل التي يباح فيها دفع الصائل تقول: بشرط: أن يتقيد الشخص بقدر الحاجة.

    حكم كسر آلات اللهو

    قال رحمه الله: [وكسر مزمار] .
    المزمار هو: آلة الزمر، فأحل الله لعباده الدف، وثبت ذلك في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة التي نذرت: إن سلمه الله ورجع من غزوته أنها تضرب على رأسه بالدف، فلو كان ضرب الدف حراما لما حل الوفاء بالنذر، وقول عمر: (أمزمار الشيطان؟) وإنكاره لذلك لا يدل على التحريم؛ لأنه لا يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسكت على محرم حتى يأتي عمر ويتكلم بإنكار الحرام، إنما المراد أنه خلاف الأولى، وأما من حيث الدليل فلا يشك في استثناء هذا النوع؛ لأن الله لا يحل لعباده الحرام وضرب الدف النص فيه صريح.
    وننبه على مسألة يخطئ فيها بعض المنتسبين إلى العلم وبعض الإخوان من باب الحرص على الخير، ولكن ينبغي للمسلم أن يتريث وألا يحرم ما أحل الله؛ لأن تحريم الحلال كتحليل الحرام، وهذا أمر ليس من السهولة بمكان، لأنه قول على الله بدون علم، ففي بعض الأعراس إذا ضربت النساء بالدفوف وسمع ضرب الدف من النساء أنكر بعض طلاب العلم ذلك، والواقع أن الشريعة قصدت أن يرتفع صوت الدف حتى يسمع في البلد والقرية ويعلم الناس أن فلانا تزوج فلانة: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، بمعنى: أن سماع هذا الدف مقصود، والمراد به: أن يشتهر النكاح، وهذا هو الفرق بين النكاح والسفاح؛ لأن الزنا يكون بالسر، ولكن الله شرع النكاح الذي استحل به المؤمن عصمة المؤمنة ودخلت في عصمته بكلمة الله عز وجل واستحل فرجها بذلك، فيعلن ويشهر ويسمع الناس هذا الدف فيتساءلون ما هذا؟ فيقال: زواج فلان من فلانة.
    فإذا جاء الولد وجاءت الذرية علموا أن فلانا قد تزوج فلانة فيثبت نسبه؛ ولذلك النكاح على الإشهار، والزنا على الاستتار.
    أما أصوات النساء بالغناء فلا ترفع حتى يسمع الرجال ذلك؛ لأن صوت المرأة فتنة، ولا يجوز أن ترفع المرأة صوتها إلا من حاجة، والدليل على ذلك: أن الله عز وجل شرع للمرأة إذا أخطأ الإمام أن تصفق ولم يحل لها أن تتكلم كما قال: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) ، فإذا كان هذا في وقت الحاجة بأن تفتح المرأة على الإمام وهي في الصلاة موطن الخشوع وموطن الخضوع فكيف بغيره؟! ولذلك قل أن تسمع المرأة ولو كانت مستفتية إلا وجدت فيها لحن القول، ووجدت الرجل إذا سمع صوتها افتتن؛ لأن هذه فطرة لا يستطيع أحد أن يكابر فيها ولا يستطيع أحد أن يدفعها ويمنعها، فالمرأة من حيث هي صوتها فتنة للرجل وهذا أمر جبل الله عز وجل عليه الذكر والأنثى، فضرب الدف ينبغي ألا يسحب غناء النساء المسموع، أما ضرب الدف فلا إشكال في جوازه وحله؛ لأن الله تعالى لا يحل لعباده الحرام، ولا يجعل شرعية هذا النكاح ويطلب إعلانه بهذه الوسيلة إلا وهو مما أذن الله عز وجل به.
    قال بعض العلماء: إن هناك فرقا بين الدف وبين آلات المعازف، فإن إغراء آلات المعازف بالفساد أبلغ وأقوى من الدف، والدف أقل أن تجد فيه ذلك؛ ولذلك يكون الدف حال الرقص بالسلاح فيكون مع القوة والحمية، ولكن لا تكون معه آلات العزف، وإذا جاءت آلات العزف مع الرقص بالسلاح فإنها لا تتفق معه في خشونته وفيما يكون فيه من إيثار الحمية والحماس؛ ولذلك استثني عن غيره، والدف يكون من جلد الغنم وهو المعروف إلى زماننا وهو موجود، وهذا هو المستثنى.
    وأما ما عدا الدف من آلات الزمر والغناء فإنها محرمة، وقد تقدم معنا بيان النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع العلماء، وكلام الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة، وللإمام ابن القيم رحمه الله بحث نفيس في إغاثة اللهفان فقد أجاد فيه وأفاد، وبين فيه النصوص النقلية والعقلية والمفاسد المترتبة على سماعه، وكذلك حكى أقوال أئمة السلف كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاويهم في ذلك، فهذه الآلات إذا ثبت تحريمها؛ فإنها لا حرمة لها، فإذا أتلفت فإنه لا ضمان على متلفها إذا أتلف ما يكون به الغناء، وأما المادة فلا تتلف، فلو كانت مصنوعة من خشب، فإنه إذا كسره فلا ضمان عليه، ثم لو أحرق الخشب ضمن قيمة الخشب؛ لأن نفس المادة يمكن تصنيعها بخير وشر، فإن صنعت بشر فإنه يقتصر على إتلاف الفاسد منها، وهكذا الأشرطة، فلو كان الشريط مشتملا على الغناء فإنه لا يكسر وإنما تمسح مادة الغناء؛ لأنه يمكن أن يوضع عليه ما هو مفيد، فإذا كسره ضمن قيمته بدون الغناء، وهذا هو الذي عليه جمهرة العلماء رحمهم الله من التفصيل، فالمواد التي تصنع ويتخذ منها ما هو حرام إن أمكن استصلاحها واستبقاؤها وجب ضمان أصلها الذي هو قيمة العين مجردة من المحرم، ويبقى المحرم لا ضمان فيه، وليس على متلفه شيء.
    حكم كسر الصليب
    قال رحمه الله: وقوله: [وصليب] .
    وكذلك كسر الصليب، فالصليب يشرع كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح عنه في حديث الفتن والملاحم أن عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير) ، هذا الحديث في الصحيحين، وهو يدل على أنه لا حرمة للصليب، وعلى هذا: فلو كسر صليبا فلا ضمان على كاسره.
    حكم كسر آنية الذهب والفضة

    قال رحمه الله: [وآنية ذهب وفضة] .
    فلو كسر آنية الذهب والفضة؛ فإنه لا ضمان عليه؛ لأن الله عز وجل حرم على المسلم اتخاذ آنية الذهب والفضة، ففي الصحيح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحائفهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ، فهذا الحديث الصحيح أجمع العلماء على العمل به وأنه لا يجوز للمسلم أن يصنع آنية من ذهب أو فضة، ولا يجوز له أن يأكل في آنية الذهب والفضة.
    وقال جمهرة العلماء: يستوي أن تكون الأواني من الذهب الخالص أو تكون فيها نسبة من الذهب، سواء كانت أكثر أو كانت مساوية أو كانت أقل، فالأكثر مثل: أن يصنع إناء ثلاثة أرباعه من الذهب والربع من الحديد أو من الزجاج، والأقل العكس، يكون الإناء زجاجا ثم يطلى بالذهب أو يجعل حرف الإناء من الذهب، فكل ذلك محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمم في الحكم فقليله وكثيره حرام حتى يدل الدليل على الاستثناء، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام إلا المضبب، والمضبب بالفضة ثبت فيه حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (انكسر قدحه فسلسله بفضة) ، وبينا شروط ذلك في باب الآنية، فإذا ثبت أن أواني الذهب والفضة لا يجوز اتخاذها، فلو أنه رأى إناء ذهب فكسره فلا ضمان عليه؛ لكن الذهب يبقى ملكا لصاحبه؛ لأن الذهب يمكن تصنيعه فلو كسر هذا الإناء فلا شيء عليه؛ لأنه أتلف أمرا محرما، وكذلك إذا كان مصنوعا من الفضة فإنه إذا أتلفه لا ضمان عليه.

    حكم كسر آنية الخمر غير المحترمة
    قال رحمه الله: [وآنية خمر غير محترمة] .
    وكذلك كسر آنية خمر يشرب فيها الخمر، فإذا كسرها فإنه لا ضمان عليه، وقوله: (غير محترمة) استثناء: أخرج -رحمه الله برحمته الواسعة- الأواني إذا كانت أواني خمر أذن الشرع بها، فعندنا نوعان من الأواني: آنية خمر لم يأذن الشرع بها، وهي آنية الخمر التي يشرب فيها المسلم، فهذه لا حرمة لها، فلو كسرها لا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن يريق الخمر وأن يكسر الدنان -وهي: أوعية الخمر والآنية التي تخمر فيها- وكانت للأيتام فأمر بكسرها مع أنها ملك للأيتام، ومال اليتيم من أشد الأموال التي ينبغي الحفاظ عليها، ومع ذلك أمر بكسره، فدل على أن آنية الخمر لا حرمة لها، النوع الثاني: إذا كانت محترمة، وذلك إذا كانت من أواني الذمي، فالذمي إذا كان في بلاد المسلمين وعنده في البيت آنية خمر يشرب بها مستترا ولا يظهرها ولا يشرب أمام الناس كانت محترمة، فإذا شرب بها أمام الناس سقطت حرمتها، فحينئذ يجوز إتلافها، وإذا أتلفت فلا ضمان عليها؛ لأنها آنية خمر غير محترمة.

    الأسئلة


    توجيهات للآباء في تربية الأبناء
    السؤال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) فرب الأسرة مسئول عن أسرته، فما هو توجيهكم لكل رب أسرة في هذه الإجازة الصيفية؟
    الجواب إن الله تبارك وتعالى إذا أنعم على الإنسان بنعمة الأهل والولد وأراد أن يبارك له في تلك النعمة وأن يتممها ويكملها، رزقه خوفه وتقواه سبحانه وتعالى، فاستشعر المسئولية وأحس بالأمانة، فجد واجتهد أن يأخذ بحجزهم عن النار، وأن يقيمهم على سبيل الأخيار حتى يكون سعيدا بأداء أمانته ورعايتها على الوجه المطلوب، فالأولاد أمانة، والأهل والزوجة أمانة في عنق الإنسان ومسئول عنها أمام الله جل جلاله، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: (والرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) ، هذه الأمانة والمسئولية فيها جانبان: الجانب الأول: يتعلق بالدين وحقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق العباد.
    والجانب الثاني: يتعلق بالدنيا، أما الذي يتعلق بالدين: فهناك فرائض وواجبات ينبغي أن يعلمها الأبناء والبنات، وأن ينشئ كل واحد من الوالدين أولاده على معرفة هذه الحقوق والواجبات، وأن ينشئ الأبناء على القيام بها على الوجه المطلوب، سواء كانت هذه الحقوق لله جل جلاله أو كانت الحقوق للناس، فيبدأ كل من الأب الصالح والأم الصالحة بحق الله جل جلاله، فيعلم الابن الصلاة، ولا يقف الأمر عند التعليم بل ينبغي أن يحببها إلى قلبه، وأن يهيء كل الأسباب حتى تصبح الصلاة قرة عين الولد، ليأنس إليها ويرتاح إليها ويحبها ويحب أداءها والقيام بها، ويكون الأب وتكون الأم قدوة للأبناء والبنات في ذلك.
    من حق الله جل جلاله على الوالدين أن ينشأ الأولاد على المعرفة بالله سبحانه وتعالى من توحيده والإخلاص لوجهه والرهبة والخوف منه سبحانه، فالبيت المسلم هو البيت الذي نشئ أولاده على ألا يكون في القلب أخوف للابن من الله جل جلاله، ولا أحب إليه من الله سبحانه وتعالى، وهذا كله يكون بالكلمة الطيبة والنصيحة والقصص المؤثرة، فالأم قد تقص على بناتها قصة فيها عبرة تزيد من الإيمان، والأب قد يقص على ابنه قصة تزيد من يقينه بالله سبحانه وتعالى.
    كان أبناء المسلمين يتربون على الكتاب والسنة ويتربون على أيدي الآباء الأمناء الأتقياء المخلصين الأوفياء الذين يربون على مكارم الأخلاق ومحاسنها من الشيم والوفاء والكرم، وكان الطفل من صغره يعود كيف يجلس في المجلس، وكيف يستقبل الضيف وكيف يكرمه وكيف يخاطبه، فكان يعود على مكارم الأخلاق وينشأ نشأة حميدة زاكية في حضن أب وأم يخاف كل منهما ربه، ويستشعر كل منهما بمسئوليته، فأصبحت الأمة كالحلقة المتصلة، كلما ذهب جيل جاء جيل مثله، وكلما ذهب رعيل جاء رعيل مثله أو يقاربه فكانت الأمة بخير، فلما تخلى الآباء والأبناء والأمهات عن واجب التذكير بحق الله جل جلاله وحقوق العباد ورعاية أمر الدين وغرسه في نفوس الأبناء ضاعت الأمة.
    الابن يحتاج إلى أن يعلم حقوق الناس، فتبدأ أول شيء بتعليمهم حقوق الوالدين، فالأب يحرص على أن الابن يكون أبر الناس بأمه، ويغرس في قلبه حب الأم وإكرامها وإجلالها، والأم أيضا تغرس في قلب البنت والابن حب الوالد وإكرامه، وهذا يحتاج إلى فعل وتطبيق وقدوة، فلا يمكن أبدا أن يتعلم الابن البر وهو يسمع الأب يسب الأم، ولا يمكن يتعلم إكرام الأم وهو يرى أول من يهين الزوجة زوجها، وكيف يتعلم الإحسان إلى والدته وهو يراها تذل وتضرب أو يصرخ في وجهها أو تسب أو تشتم أو تعير بأهلها وقرابتها، فتتدمر معاني الكمال في نفسية الأبناء والأطفال خاصة في الصغر.
    كذلك الابن كيف ينشأ بارا بأمه وهي تعوده على إهانة أبيه، ودائما تشتكي من أبيه أمامه، وتربي في نفس أبنائها وبناتها من الصغر الحقد على والدهم في الكبر؟ كل هذا دمر الأمة وشتت شملها ودمر المجتمعات، فالمجتمعات تقوم على طفل صغير، ما من عقلاء ولا حكماء في قديم الزمان ولا حاضرهم يريدون أن يبنوا مجدا إلا وابتدءوا من الصفر، فلم يستهينوا بالطفل حتى ولو كان في مهد الطفولة فلا يستهينون به؛ لأن نظرات الطفل محسوبة، سمعه محسوب، كلامه محسوب، كل شيء يراه ويسمعه يؤثر على التربية والسلوك.
    كذلك يعود الأبناء والبنات على إكرام الجار، وعلى إكرام الضيف، ويعودون على صلة الأرحام، ويعودون الوفاء، وعلى محاسن العادات والأخلاق، وأول من يجني هذه الثمرة هما الوالدان، يجنيانها في الدين والدنيا والآخرة، أما في دينه: فعظم أجره عند الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف:30] ، والله إن من أعظم الإحسان ومن أعظم الخير -ليس لك أنت في بيتك بل للأمة جمعاء، وليس في مجتمعك فقط بل للأمة جمعاء- أن تخرج لهم ابنا كاملا في بنوته، ورجلا كاملا في رجولته، وأن تخرج بنتا صالحة تكون أما صابرة مربية، فربما ينشأ على يديها رجل يقود أمة بالخير والسداد.
    إذا: تربية الأبناء والبنات لا تكون بالتشهي ولا بالتمني، بل المسئولية عظيمة، ولكن تحتاج إلى شيء من الخوف من الله جل وعلا ومراقبته، وحسن التدبير وحسن الفعل وحسن القول، فإذا وفق الله عز وجل إلى القدوة الحسنة والكلمة الهادفة والنصيحة الموجهة، وجمع مع ذلك كله الرفق واللين والأخذ بمجامع تلك القلوب البريئة من الصغر إلى الخير وإلى الطاعة وإلى البر سمت هذه الأمة، وارتقت إلى معالي الكمال، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الخير في صلاح الصغار؛ ولذلك كان يقول الحكماء: (إذا رأيت الدين والخير في صغار أمة فأمل لها الخير) ؛ لأنه إذا كان في الصغار فإنهم في الغد هم الذين يوجهون وهم الذين يكونون قدوة للناس، (وإذا رأيته في كبارها فإن الخير يزول عنها عندما يذهب الكبار) نسأل الله السلامة والعافية.
    فالواجب تربية النشء الصغير على طاعة الله، وتحبيبه في مرضاة الله عز وجل وتعويده على الخير وعلى الطاعة والبر، وأول ما يبدأ بحق الله ثم حقوق العباد، ثم يبقى الأمر الدنيوي، فدائما يحرص الوالدان على أن يكون الابن في أحسن وأفضل الأحوال، فيعلم الشجاعة ولا يعلم الجبن والخوف، ويعلم الكرم ولا يعلم البخل، ويعلم الأشياء الحميدة في دنياه التي يسموا بها إلى مراتب الكمالات، ودائما يشجع ولكن لا يشجع بالقول دون العمل، ولا يجعل الخير بالقول دون القدوة، فالابن يصلي في المسجد متى ما رأى أباه يصلي في المسجد، والابن يخاف من الله جل جلاله عندما يأتي ويجد أباه قد هيئت له الدنيا في فتنة أو شهوة فيقول له: يا أبت! لم لا تفعل هذا؟ يقول: أخاف الله رب العالمين، فإذا بقلب الابن يخاف؛ ولذلك أنس رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فذهب -وكان أنس صبيا في العاشرة- ومر على صبيان فجلس يعلب معهم، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقد تأخر عليه، فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (والله يا غلام! لولا أني أخاف الله لضربتك بهذا المسواك) ، فيصبح الصبي يحب الله؛ لأنه دفع عنه الضر، وأيضا يخاف الله في هذا الأمر؛ لأنه إذا رأى من بداية طفولته من هو أكبر منه يخاف من الله أحس أن لله عز وجل حقا عليه أن يخافه، وإذا وجد الأم متورعة بعيدة عن المحارم بمجرد ما يأتي ويتكلم في غيبة أو أحد يتكلم في غيبة تقول له: يا ابني! اسكت لا يجوز أن تغتاب الناس.
    وبمجرد أن يؤذي الابن الجار تقول له: اذهب واطلب السماح من جارك وإلا أدبك الله وفعل الله بك، فتنشأ الأسرة على طاعة الله ومحبة الله.
    النقطة الأخيرة: في هذه إجازة لا شك أنه ينبغي علينا أن نحافظ على هذا الأمر، وهذه قاعدة عامة لا تختص بإجازة ولا بغيرها، ونحن نحب دائما أن نعتني بالقضايا الكلية، فمسألة الإجازة مسألة عارضة لكن المهم التربية الصالحة.
    وينبغي أن ينبه على أمر مهم وهو: أن لا نيأس، البعض يقول: كثر الشر والأبناء أصبح يؤثر عليهم كل شيء، وأصبحوا ضائعين، هذا خطأ، فمن كان لله كان الله معه، والخير لا يبلى ولا يذهب ولا يزول: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [الأنبياء:18] ؛ ولذلك ينبغي ألا نيأس، لكن هناك أمور ينبغي التنبيه عليها باختصار، حتى لا يطول الوقت: أولا: إذا عجزت عن أبنائك الكبار فالتفت إلى أبنائك الصغار، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتني به الخطباء والأئمة عند توجيه الناس، فمن المسائل التي تذكر في تربية الأبناء، أنهم إذا عجزوا عن الكبار فليبدءوا بالصغار، ويعود الناس على صحبة أبنائهم الصغار إلى المساجد، ومحبة طاعة الله عز وجل، ومحبة الخير.
    وعود ابنك من الصغر على أخذه إلى العم والعمة والخال والخالة، وعود ابنك من الصغر أن يراك وأنت تحترم أخاك الذي هو أكبر منك، وتحترم عمه الذي هو أكبر منك، وتقدر خاله الذي هو أسن منك، وعوده على أنك تكون له القدوة الصالحة في صلة الرحم، عوده على أن تكون له القدوة الصالحة في الإحسان إلى الأيتام وإلى الأرامل، خذه ولو يوما من الأيام في يدك إلى بيت أرملة أو مسكين أو مكروب أو منكوب وأعطهم مالا وقل له: يا فلان! أعط لفلان حتى يدعو لك، فينشأ من الصغر وهو يحب هذه الأمور، فالأبناء يتأثرون بآبائهم والبنات يتأثرن بأمهاتهن.
    فعلينا أن نتقي الله عز وجل في القدوة، وعلينا ألا نيأس مهما كان، فإن الله قد يبارك لك في ولد واحد من ذريتك فيصلح به البيت كله، وقد يجعله الله عز وجل مشعل خير ليس للبيت بل للجماعة بل للقبيلة بل للأمة جمعاء حينما يخرج صالحا هاديا مهديا، فالله أعلم كم من أم صالحة من أمهات السلف الصالح ربت عالما إلى الآن نعيش على فضل الله ثم فضل علمه، وكل هذا بفضل التربية الصالحة بعد فضل الله عز وجل، كانت أم أحد السلف تقول لابنها -وقد نشأ يتيما وأراد أن يتكسب للرزق وينشغل عن طلب العلم- فقالت له: (يا بني اطلب العلم! أكفك بمغزلي) .
    تعني: أنا التي أعمل، ولكن تفرغ أنت لكتاب الله وس

    مسائل سجود السهو
    السؤال نرجو منكم توضيح مسائل سجود السهو في الصلاة؟
    الجواب السهو لا يخلو من ثلاثة أحوال كلها مندرجة تحت أصلين: التحقق والشك؛ فإما أن يتحقق الزيادة أو يتحقق النقص أو يشك أنه زاد أو انتقص، ثم كل هذه الصور لا يخلو المصلي فيها: إما أن يكون إماما أو مأموما أو منفردا.
    فإذا سها في صلاته فزاد فيها وتحققت الزيادة وجب عليه أن يسجد لله سهوا، ويكون سجوده بعد السلام لا قبله كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي قال رضي الله عنه وأرضاه: وأنبئت أن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (ثم سجد سجدتين بعد ما سلم) ، وهنا جهالة المنبئ لا تضر؛ لأنه صحابي، ولذلك عن صحابي وبذلك هذا الحديث حجة لطائفة من أهل العلم الذين يختارون التفصيل، فيقولون: إن ما كان من الزيادة يكون بعد السلام، ويؤيد هذا النظر الصحيح فإن الزيادة خارجة عن الصلاة فكان المنبغي جبرها بخارج عن الصلاة لا بداخل فيها.
    وأما إذا تحقق النقص فإنه يسجد قبل السلام لا بعد السلام لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث المغيرة رضي الله عنه وأرضاه في صلاة المغرب، وحديث عبد الله بن مالك بن بحينه في الصحيحين وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام عن التشهد الأول وسبح له الناس فأشار إليهم من وراء ظهره أن قوموا فقاموا، قال رضي الله عنه: ثم جلس للتشهد فقبل أن يسلم سجد عليه الصلاة والسلام سجدتين ثم سلم) ، فهذا يدل على أن النقص يجبر قبل السلام.
    أما إذا شك هل زاد أو نقص فيبني على اليقين، فإذا شك في عددها بنى على الأقل، فإذا شك هل هي ثلاث ركعات أو أربع بنى على ثلاث، وإذا شك في قول هل قال: سمع الله لمن حمده أو لم يقل، يقول: سمع الله لمن حمده إذا كان في وقت التدارك، أو شك هل سبح في سجوده أو لم يسبح بنى على أنه لم يسبح، هذا إذا كان الموضع يمكن فيه التدارك، أما لو فات الموضع ولم يمكن التدارك للواجبات فإنه يبني على أنه لم يفعلها، فيسجد قبل السلام على ما ذكرنا، إذا: إذا تحققت الزيادة سجد بعد السلام، فإذا تحقق النقص سعد قبل السلام، وإذا شك بنى أنه على لم يفعل ثم يسجد قبل أن يسلم سجدتين لما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين، فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن اثنتين صلى أو ثلاثا فليصل اثنتين ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان ما صلاه أربعا -كما في رواية الصحيح- فالسجدتان ترغيم للشيطان، وإن كان ما صلاه خمسا -أي: الركعة التي زادها قطعا للشك - فالسجدتان تشفعانه) بمعنى: تلغي الزيادة.
    بقي السؤال: ما هو الشيء الذي ينقص وما هو الشيء الذي يزيد؟ يشترط في الشيء حتى يثبت السهو به أن يكون من جنس أقوال الصلاة وأفعالها، بمعنى: الزيادة إما أن تكون بقول وإما أن تكون بفعل، فالذي يزيد في الصلاة إما أن يزيد قولا وإما يزيد فعلا، وإذا زاد قولا أو فعلا فلابد أن يكون هذا القول من جنس أقوال الصلاة، ويشترط أن يكون هذا الفعل من جنس أفعال الصلاة، فلو أنه زاد فعلا ليس من جنس الصلاة، مثل: كان يصلي ففتح الباب، ففتح الباب ليس من جنس الصلاة، فحينئذ لا يسجد وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
    والفعل قد يكون من جنس أفعال الصلاة، مثل: أن يزيد ركعة أو يزيد سجدة، فهذا من جنس أفعال الصلاة.
    أما إذا زاد قولا ليس من جنس أقوال الصلاة فحينئذ يرد التفصيل: قد يوجب بطلان الصلاة وقد لا يبطلها، على التفصيل في مسألة الكلام في الصلاة.
    وأما إذا كانت الزيادة بالقول أو الفعل من جنس أقوال الصلاة وأفعالها، فلا يخلو القائل من أن يكون إماما أو مأموما أو منفردا، فإذا كان إماما أو منفردا فحكمه واحد، فإذا زاد في الصلاة أو انتقص منها أو شك فعل الشيء الذي ذكرناه على التفصيل، لكن إذا كان مأموما وزاد وراء الإمام أو انتقص فإن الإمام يحمل عنه تلك الزيادة وذلك النقص بشرط: أن يكون من الواجبات لا من الأركان؛ لأن الأركان لا يدخل فيها السهو بالنسبة للنقص، فمن نقص من صلاته ركوعا أو سجودا أو لم يقرأ الفاتحة، فهذا يجب عليه أن يقضي ركعة كاملة ولا يكفي أن يجبرها سجود السهو، فالذي يصلي وراء الإمام وينسى الفاتحة يجب عليه قضاء ركعة، والذي يصلي وراء الإمام وينسى الركوع أو السجود يجب عليه قضاء ركعة كاملة، ولو صلى وراء الإمام ولم يقرأ الفاتحة يقضي ركعة إلا في الأحوال المستثناة، لكن لو أنه ترك واجبا كما لو جاء وراء الإمام فقال الإمام: سمع الله لمن حمده.
    فرفع رأسه ونسي أن يقول: ربنا ولك الحمد، فقال الإمام: الله أكبر، فسجد معه فتذكر أنه نسي التحميد، نقول: يحمل الإمام عنك هذا السهو، فالإمام يحمل الواجبات، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (الإمام ضامن) ، والضمين هو: الحميل، فقوله: (الإمام ضامن) المراد به: أنه يحمل، وإذا كان الإمام يحمل: إما أن يحمل أركانا أو واجبات أو سننا، فلما علمنا أن الإمام لا يحمل الأركان وهذا بإجماع العلماء، علمنا أن المراد به إما الواجبات أو السنن التي لا يجب فعلها، ففهمنا أنه يحمل الواجبات ولا يحمل الأركان، وعلى هذا: فلو سها وترك واجبا قوليا أو فعليا؛ فإنه يسجد للسهو ضمانا لهذا النقص إماما ومنفردا، وأما المأموم فإن الإمام يحمل عنه، والله تعالى أعلم.

    حكم سماع الدف وضربه للرجال
    السؤال هل ضرب الدف مقيد بالأعراس فقط أم يتعدى إلى الأعياد والمناسبات؟
    الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فمن حيث الأصل الشرعي في قوله عليه الصلاة والسلام: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، يدل على أن ضرب الدف مباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحله وأذن به، وصحيح أنه أذن به بالنكاح لكن يقال: إنه من باب الإعلان، وإنما يستقيم تخصيصه بالنكاح إذا كان الأصل تحريم الدف، فجاء استثناء النكاح، وهذا معروف في الأصول عند العلماء رحمهم الله، أنه لا يقال: إن الشيء حرام ولا يجوز إلا في حالة كذا، إلا بدليلين؛ الدليل الأول يقتضي أن الأصل تحريمه، والدليل الثاني يستثني، فتقول: الأصل حرمته إلا ما دل الدليل على إذنه وحله وهي حالة الضرورة أو حالة الجواز فيتقيد بها، فيرد السؤال: هل الأصل حل الدف أو تحريمه؟ فلما كان الدف يختلف عن آلات الزمر والغناء، يختلف من جهة طبعه ويختلف من جهة تأثيره، وقد بينا هذا وأشرنا إليه، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم واختاره بعض مشائخنا رحمهم الله أن الأصل جوازه حتى يدل الدليل على تحريمه وأنه باق على البراءة الأصلية، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره للنكاح فقال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، فاختار له المباح وترك المحرم على الأصل، فدل على أنه مباح وجائز من هذا الوجه.
    وقال بعض أهل العلم: أن الدف الأصل تحريمه، قالوا: لأنه من آلات الغناء، وآلات الغناء والمجون تثير الفاحشة وتدعو إليها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل لهو باطل) ، فنقول: إن الأصل تحريمه حتى يدل الدليل على جوازه، فجاء الدليل من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، فنخصه بالنكاح، وهذا مشكل؛ لأنه لو كان الأصل تحريمه لما أحله في نذر المرأة، فالمرأة نذرت أن تضرب على رأسه بالدف، فلو كان الأصل تحريمه لكان عليه الصلاة والسلام -وهو الذي لا يأذن بالحرام على رأسه- قال لها: يا أمة الله! غني ولا تضربي بالدف، فبالإجماع لكن كونه يأذن به في النذر، فبالإجماع أن النذر لا يجب الوفاء به إذا كان بمحرم، والشريعة لا تتناقض، ولا يمكن أن يأتي ويقول لها: أوفي بنذرك؛ لأن الوفاء بالنذر واجب؛ لأنه إذا كان محرما فلا يجب الوفاء بمحرم.
    فدل على جواز الضرب به إذ لا يمكن أن يحل الله عز وجل لعباده شيئا محرما.
    فهذه مسألة خلافية، فلو قال شخص بتحليله وضرب به تأويلا للسنة فلا ينكر عليه ولا يثرب عليه؛ لأن له وجها من السنة وله سلف يقولون بقوله، وإذا قال بالتحريم فلا ينكر عليه ولا يثرب عليه، بل يفعل ما يعتقده.
    وانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، لو كان الدف الأصل تحريمه وجاءت المرأة تضرب على رأسه، فهل يترك أذنيه تسمع الدف وهو أورع الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وهو أتقى الناس لله عز وجل؟ ثم أمر بالوفاء بالنذر، فهل يسكت عليه الصلاة والسلام ويتركها؟ وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، فلو كان الأصل حرمة سماعه وحرمة ضربه لما أذن به عليه الصلاة والسلام وهو أتقى الخلق لله؛ ولذلك لا ينبغي أن تفخم هذه المسألة أكثر مما تستحق بأن يشنع على من يحرم أو يشنع على من يحل، فمن سمعه يتأول الحل فلا شيء عليه، ومن تركه يتقي الله عز وجل ويطلب الأورع لدينه فلا شيء عليه، لكن ننبه على مسألة: وهي أنه حتى ولو قلنا بحله فكون الإنسان يسمع الدف قائما قاعدا ويجعل الدف دائما عنده ويجعله سلوته لا شك أن هذا يؤثر على نفس الإنسان، فالضحك والمزح مباح، ولكن الإنسان إذا أكثر من سقطت مروءته ومات قلبه واستخف أمره نسأل الله السلامة والعافية، فحل الدف لا يقتضي من الإنسان أن يتوسع فيه أو أن نطبع الأشرطة ونعتني بالأشرطة التي فيها الدف ونتوسع في ذلك ونشغل الأخيار والصالحين بها! لا.
    بل ينبغي علينا أن نسمو إلى الأكمل وإلى الأفضل -حتى على القول بحله- وأن نشغل الناس بما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، وعلى هذا لا تفريط، فلو أنشدت الأناشيد الحماس التي تدعو إلى الجهاد في سبيل الله وتذكر بالسلف الصالح وأمجاد الأمة فهذا شيء ليس فيه من معارضة، وهو متفق مع الأصول الشرعية ويحدث في النفس محبة للخير ولبذل النفس في سبيل الله عز وجل، فكل هذا مندرج تحت أصول شرعية تقره ولا تنكره، وتثبته ولا ترفضه.
    وعلى هذا: فإن الذي يظهر -والعلم عند الله- أنه يبقى على الأصل، لكن لا يتوسع في هذا الأمر كما سبق وأن بينا ونبهنا عليه، والله تعالى أعلم.

    نصيحة تخص طلاب العلم
    السؤال أنا أطلب العلم ولكن بعض الأحيان يشق علي وأشعر أني لم أفهم شيئا وخاصة عند ذكر الخلافات فما هو الطريق الصحيح؟
    الجواب لا بد من التعب، والله تعالى يقول: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل:5] ، والعلم هو أثقل شيء؛ لأنه مستمد من الوحي، والله عز وجل لما أوحى إلى نبيه أخذه جبريل فغطه حتى رأى الموت، وكان إذا نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في شدة الحر أو في شدة البرد يتصبب جبينه عرقا -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، وأسند إلى أبي هريرة رضي الله عنه وفخذه تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل عليه الوحي فكادت فخذ أبي هريرة أن تنفصم من شدة الوحي الذي ينزل عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
    وفي الصحيح من حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ قال: فنزل عليه الوحي فغطي عليه الصلاة والسلام، وكان رجل يقول لـ عمر: (أحب أن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه) فكشف عن وجهه الثوب فإذا هو يغط كغطيط البكر من الوحي، وهذا مثل عند العرب: أن البكرة من الإبل إذا غطت من شدة ما تجد من اللأواء، قال: يغط كغطيط البكر من شدة ما يجد عليه الصلاة والسلام من الوحي، فهذا يدل على أن الوحي لا يؤخذ بسهولة؛ ولذلك قالوا في الحكمة: (من كانت له بداية محرقة، كانت له نهاية مشرقة) وقال حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه: (ذللت طالبا وعجزت مطلوبا) فعليك بالجد والاجتهاد في التحصيل، ولما كانت مراتب العلم والعلماء عالية ومنازلهم سامية في الدنيا والآخرة الباقية جعل الله عز وجل سبيل العلم عسيرا صعبا ومشقة وعناء.
    طالب العلم يكدح وينصب في طلب العلم وهو في بداية الطريق، فيجد من المشقة والمثبطات والمخذلات ما الله به عليم، حتى إذا صار عالما وضبط علمه، أصبحت في رقبته أمانة ومسئولية أن يعلم الجاهل وينبه الغافل ويرشد الحائر ويدل التائه وكلهم في رقبته وأمانة عليه، أمانة ومسئولية يسأل عنها بين يدي الله جل جلاله ويشفق على نفسه فيحمل هموم التعليم والتوجيه، فيأتيه الجاهل بجهله والسفيه بسفهه، ويحتقر ويؤذى، ومع ذلك: لو أن رجلا تصور مقدار ما يحمله العالم وهو يحضر درسه، هل يحضر الدرس أو يستعد لأسئلة الناس وإشكالاتهم أو جهل الناس أو تجاهلهم أو الكلام الذي يقوله إذا فسر على غير ظاهره أو حمل على غير محمله، فكل هذا يحمله؛ لأن العلم كله عناء؛ لأن وراءه الجنة الغالية والسلعة الزاكية؛ لأن الله اختارها للعلماء: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} [القصص:83] ، فهم أهل التقوى وهم أهل الرضا.
    فالذي يريد أن يطلب العلم لا يمكن أن يكون من أهل العلم ومن طلاب العلم بحق، إلا إذا جعل روحه في كفه، وجد واجتهد غاية جهده وبذل ما يستطيع بذله وصبر واصطبر، فإذا كان في بداية الطريق وهو طالب علم لا يستطيع أن يصبر في مجالس العلم فكيف غدا يسافر للناس؟! وكيف غدا يصبر الساعات على الفتاوى والمسائل التي فيها حل الفروج وفيها حل الدماء وحل الأموال؟! كيف يصبر على هذا كله؟ وكيف يسهر الليالي وهو يدارس العلم ويذاكره حتى لا يخطئ ويزل لسانه؟ كل هذا يحمل همه طالب العلم.
    العالم لا بد له من التعب، فالله جل جلاله لحكمته وعلمه بخلقه وتدبيره سبحانه وتعالى لعباده جعل بدايات الطريق دائما لطلاب العلم في تعب ونصب حتى يميز الخبيث من الطيب، فيا لله من أطيب الطيبين الذي جد واجتهد فأصبحت سآمة العلم له انشراحا وأنسا ولذة لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله.
    كان طالب العلم في القديم يهان ويتعب وينصب وهو غريب عن بلاده ووطنه، يسافر من أجل حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذهب إلى باب العالم وجد الناس يقتتلون عند أبواب العلماء لرواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت هناك الكتب مطبوعة، بل كان الحديث في الصدور لا في السطور، وكانت صدور العلماء جنة وروضة لهذا العلم، فكانوا يكدحون ويتعبون، يقفون على أبواب العلماء، ويزدحمون ويؤذون ويتساقطون ويدفع بعضهم بعضا ويجلي بعضهم بعضا، وكل ذلك من أجل بلوغ العالم، فإذا بلغوا العلماء وأخذوا عنهم حملوا هم ضبط الكلام الذي يقال، ثم إذا قيل لهم حملوا هم مراجعته.
    كان أبو عبيد القاسم بن سلام الجمحي رحمه الله برحمة واسعة إماما من أئمة العلم والعمل، وكان آية في علم القراءات، آية في علم التفسير، آية في علم الحديث ورواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، آية في الفقه أبو عبيد القاسم بن سلام آية في العلم والعمل والصلاح والتقوى، وقد كان له أتباع، فيحدث عن نفسه في طلب العلم: أنه كان يسافر ويتغرب إلى بلاد بعيدة، وكان يذهب من الصباح الباكر فيجد العناء والمشقة، وإلى آخر الليل وهو يجمع للأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسأل الله العظيم أن ينور قبره، وأن يعظم أجره، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه، هذا العالم لما تقرأ كتبه وما خلفه للأمة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن الفقه ومن العلم الزاكي المليء بالضبط والإتقان تعرف أنه تعب وجد واجتهد، يقول عن نفسه: كنت أتعب وأكدح حتى لا يأتي منتصف الليل إلا وقد سقط منه كل عضو، لكن يقول: فإذا تذكرت العلم الذي حزته والحديث الذي جمعته هانت علي تلك المصائب.
    كانوا ناصحين للأمة.
    طالب العلم حينما يتفكر ويتدبر أنه ربما يكون وحيد أهله أو وحيد مدينته، أو وحيد مصره وبلده، فالكل يرجع إليه، حينما يتذكر أنه قد يمسي يوما من الأيام ووراءه أمة، إما أن يقودها إلى الجنة أو إلى النار فحينئذ يشفق على نفسه، حينما يتذكر أن هذه الكلمة ربما يقف بها بين الجنة والنار.
    هناك مسائل كنا نسمعها في الصغر وما كنا نظن أن تكون لها أهمية، ثم وجدنا لها من عظيم البلاء والنفع ما الله به عليم، والله نشهد بذلك من كل قلوبنا رأيناه ولمسناه وحدثنا به العلماء رحمهم الله، فلا تتهم العلم بشيء، وإذا وجدت شيئا صعبا فاجتهد أن تضبطه.
    عليك -يا طالب العلم- أن تعلم أن العلم مراتب، فإذا كنت في بداية الطريق فلا تشتغل بالخلاف وإنما خذ زبدة القول وخذ القول الراجح بدليله، ونبه على أن المسألة خلافية على أصح القولين أو على أصح ثلاثة أقوال تنبيها باختصار، فإذا انتهيت من الدرس أخذت ما رجح في نظر شيخك واعتنيت بدليله ولقيت الله بالدليل، فإذا بلغت مرتبة أعلى أمكنك فيها أن تحصل الأدلة والردود والمناقشات وأن تعرف ما لم تطلع عليه من الأدلة فحينئذ حي هلا، وانتقل إلى مرتبة المقارنة والخلاف وإلا اقتصر على ما ذكرته لك من القول الراجح ولا تسأم ولا تمل، فالله أعلم كم في هذه الحروف من درجات، وأجور وحسنات.
    ولا يصبر الطالب على العلم ويتحمل مشاقه إلا إذا صلح قلبه بالإخلاص لله جل جلاله، ولا يمكن أن يجد الإنسان هذه اللذة إلا إذا جعل الله والدار الآخرة نصب عينيه، فتعلم لله وعلم في الله وجلس في مجالس العلم لله وفي الله وابتغاء رحمته، فلربما مجلس واحد تغفر فيه ذنوب العبد، وفي الحديث القدسي: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وإذا أحب الإنسان أن يجد ويجتهد في العلم فليحرص على الإخلاص، وإذا أصبحت في كل دقيقة وكل ثانية تراقب الله جل جلاله وتقصد من مجلسك واستماعك وكتابك ومذاكرتك وجه الله جل وعلا زكاك ربك وبارك لك في علمك، فصار قليله كثيرا؛ ولذلك قال بعض السلف: (كم من عمل يسير عظمته النية) ، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يملأ قلوبنا بالإخلاص لوجهه وابتغاء ما عنده، وأن يعفو عنا ويسامحنا فيما يكون من التقصير في إخلاصنا وإرادتنا لوجهه، والله تعالى أعلم.

    حكم إتلاف عضو غير عين المعتدي بالنظر
    السؤال بالنسبة الشخص المعتدي بالنظر، لو أتلف الشخص المعتدى عليه عضوا غير العين، فما الحكم في ذلك؟
    الجواب إذا أتلف غير النظر فإنه يضمن، ولا يحل له إلا إتلاف ما حصل منه الاعتداء، فإذا سرقت اليد تقطع اليد وما تقطع الرجل؛ لأن اليد هي التي سرقت، وبناء على ذلك: الاعتداء وقع بهذا العضو فسقطت حرمته؛ لأن الجناية وقعت به، والقصاص أحله الله عز وجل والاعتداء في مقابل الاعتداء أحله الله عز وجل بشرط سقوط الحرمة للعضو الذي يقتص منه، والله تعالى أعلم.


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •