رحمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم
شيرين شاكر علي
لقد منَّ الله على خلقه برسول كريم، فكان الرحمة المهداة للعالمين يحدو بهم نحو طريق الفلاح، ويضع خطط التغيير والإصلاح، محفوفاً برعاية الله، مستنيراً بهدي الله، لا يأخذ الناس في دعوته بالمكر والحيلة ولا بالعنف والإكراه، بل يترفق بهم، ويلين لفظاظتهم ويخاطبهم بما يفهمون، وهو يعلمهم ويرشدهم بما فيه مصلحة لهم من خيري الدنيا والآخرة.
وسنعرض هنا بعضاً من صور رحمته صلى الله عليه وسلم مع أهله وأصحابه وأزواجه وأمته ومع الأطفال ومع الحيوان والنبات؛ ليزداد تعلقنا به صلوات ربي وسلامه عليه.
قال تعالى: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]:
فما المقصود ب ( العالمين )؟
ذكر بعض أهل التفسير بأنهم جميع العالم المؤمن والكافر. فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة السابقة من العذاب والمسخ والخسف والقذف، فهو أمان للخلق من العذاب إلى نفخة الصور، ويدخل معهم الملائكة أيضاً، قال صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: هل أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ قال: نعم كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله تعالى عليّ في القرآن بقوله سبحانه: ﴿ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾ [التكوير:20].
ويأتي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا تُنْزَعُ الرحمةُ إلاّ مِنْ شَقِّي » - رواه أحمد وأبو داود - ليحضنا على الرحمة مع جميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر والبهائم والمملوك منها وغير المملوك..
والشفقة لا تسلب من قلب امرئ إلا كان شقياً؛ لأن الرحمة في الخلق رقة القلب، والرقة في القلب علامة الإيمان، فمن لا رقة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شقي، فمن لا يرزق الرقة شقي.. وكنتيجة لرحمتنا بمن حولنا يرحمنا الله ويحسن إلينا ويتفضل علينا، فالرحمة مقيدة باتباع الكتاب والسنة.
وكان / صلى الله عليه وسلم / رحمة في الدين والدنيا، أما في الدين؛ فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة، وأهل الكتاب كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثبات، فدعاهم إلى الحق وبيَّن لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميَّز الحلال عن الحرام. ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار. وكان التوفيق قريناً له.. قال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ ﴾ [فصلت:44]..أما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب ونصروا ببركة دينه.
ومن ذلك قوم شعيب الذين سألوا نبيهم:{أسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين} فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم، وأما نبي الرحمة ونبي التوبة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً.
وكذلك الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين، لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم على عاد، ولكن قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾. [لأنفال:33].
ولقد أرسل الله رسوله رحمة للناس كافة؛ ليأخذ بأيديهم إلى الهدى، وما يهتدي إلا أولئك المتهيئون المستعدون وإن كانت الرحمة تتحقق للمؤمنين ولغير المؤمنين، ولقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لقومه ورحمة للبشرية كلها من بعده، والمبادئ التي جاء بها كانت غريبة في أول الأمر على ضمير البشرية، لبعد ما كان بينهما وبين واقع الحياة الواقعية والروحية من مسافة، ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئاً فشيئاً من آفاق هذه المبادئ.
ف الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية، وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة لمن يريد أن يستظل بها، ويستروح فيها نسائم السماء الرخيمة في هجير الأرض المحرق وبخاصة هذه الأيام.
وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حسن هذه الرحمة ونداها وهي حائرة شاردة في متاهات المادية وجحيم الحروب وجفاف الأرواح والقلوب، ثم يظهر عنصر الرحمة الأصيل في تلك الرسالة، عنصر التوحيد الذي ينقذ البشرية من أوهام الجاهلية ومن أثقال الوثنية ومن ضغط الوهم والخرافة والذي يقيم الحياة على قاعدتها الركينة؛ فيربطها بالوجود كله وفق نواميس واضحة وسنن ثابتة، تكفل لكل إنسان أن يقف مرفوع الرأس فلا تنحني الرؤوس إلا لله الواحد القهار.
وما بعث الله محمداً إلا لإنقاذ البشرية من شقاء الجاهلية، فهو في سلمه وحربه رحمة للإنسانية ولهذا لم يقل سبحانه رحمة للمؤمنين وإنما قال للعالمين فالله تعالى جعله الرحمة المهداة رحم به الإنسانية جمعاء؛ لأنه جاءهم بالخلاص من الشقاوة العظمى، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة الدينية والدنيوية، فعلَّمهم بعد الجهالة، وهداهم بعد الضلالة وأنقذهم من براثن الشرك والوثنية، فكان رحمة للعالمين؛ حتى الكفار رُحموا به، حيث أخرَّ الله عقوبتهم فلم يستأصلهم بالعذاب كالخسف والمسخ والغرق كما حدث للأمم السابقة إكراماً لرسوله عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾، وحين حمل رسول الله السلاح؛ إنما كان الغرض منه إنقاذ البشرية من الشقاء بقوة الحديد والنار كالطبيب الذي يستعمل المبضع لينقذ المريض من خطر داهم محقق.
حثه صلى الله عليه وسلم على الرحمة:
عن عبد الله بن عَمرو بن العاص يَبْلُغُ به النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « الرّاحِمونَ يَرْحَمُهُمْ الرّحمن، ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السّماءِ، والرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمن، مَنْ وَصَلَها وَصَلَتْهُ، وَمَنْ قَطعها بَتَّتْه ». رواه الإمام أحمد والترمذي قال أبو عِيسَى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وعن أبي موسى رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لن تؤمنوا حتى تراحموا ) قالوا: يارسول الله كلنا رحيم قال: (( إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكن رحمة العامة )). رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح..
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أفضل المؤمنين رجل سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء، سمح الاقتضاء )). رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( غفر الله لرجل كان قبلكم، كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، سهلاً إذا اقتضى )). رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب والبخاري في البيوع.
رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم بأمَّته
ولقد اشتهر أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كسرت رباعيته قال: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»، فظهر أنه يوم القيامة يقول: «أمتي، أمتي»، فهذا كرم عظيم منه في الدنيا وفي الآخرة، وإنما حصل فيه هذا الكرم وهذا الإحسان لكونه رحمة، فإذا كان أثر الرحمة الواحدة بلغ هذا المبلغ؛ فكيف كرم من هو رحمن رحيم؟.
و قد ورد في بعض كتب التفسير عند قوله تعالى:﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّك فَتَرْضَى ﴾ [الضحى: 5]، أنه لمَّا نزلت عليه هذه الآية قال: "اللهم لا أرضى يوم القيامة و واحد من أمَّتي في النار".
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: « إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً. فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ. فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ » رواه مسلم وقال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وقد روي من غير وجهٍ.
محبته لأمته أن لا يهلكهم الله ولو آذوه:
عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم - أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (( هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أحُدٍ ؟ قال: لقد لَقِيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يومَ العقبةِ إِذ عرَضتُ نفسي على ابنِ عبد يا ليل بن عبد كُلال فلم يُجِبني إلى ما أردتْ فانطلقتُ وأنا مَهمومٌ على وَجهِي، فلم أستَفق إلا وأنا بقرنِ الثَّعالب، فَرَفَعتُ رأسي، فإذا أنا بَسحابةٍ قد أظلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جِبريل، فناداني فقال: إِن الله قد سمعَ قولَ قومكَ لك وما رَدوا عليك، وقد بعث اللهُ إِليكَ مَلَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شِئتَ فيهم، فناداني ملكُ الجبال فسلم عليّ ثم قال: يا محمد، فقال: ذلكَ فيما شئتَ، إن شِئتَ أن أطبِقَ عليهم الأخْشَبَينِ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابهم من يَعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشركُ بهِ شيئاً )) رواه مسلم.
دعاء رسول الله للميت:
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الأشجعي رضي الله عنه، يَقُولُ: صَلَّى رَسُولُ اللّهِ عَلَى جِنَازَةٍ. فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ. وَاعْفُ عَنْهُ. وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ. وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ. وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ. وَأَبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ. وَأَهْلاً خَيْراً مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجَاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ. وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ (أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ)». قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذلِكَ الْمَيِّتَ. رواه مسلم (7/27).
وفيه أن الاستغفار في حق الصغير لرفع الدرجات، وقيل المراد بالصغير والكبير الشاب والشيخ. وقد يكون سؤال من الله أن يغفر له ما كتب في اللوح المحفوظ أن يفعله بعد البلوغ من الذنوب حتى إذا كان فعله كان مغفوراً وإلا فالصغير غير مكلف لا حاجة له إلى الاستغفار.
الأمَّة المرحومة
إنَّ هذه الأمة.. الأمة المحمدية هي أمة مرحومة؛ لأنها لا تجتمع على ضلالة ولا محرم، واختلاف علمائها رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذاباً، روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله «اختلاف أصحابي رحمة».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أن قريش قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك قال: وتفعلون ؟ قالوا: نعم، قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: " إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين وإن شئت حسنة لهم باب التوبة والرحمة قال: " بل باب التوبة والرحمة ". رواه أحمد (1/345) واللفظ له، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
أشد الناس عذاباً:
عن خالد بن حكيم بن حزام قال: « تناول أبو عبيدة رجلاً بشيء فنهاه خالد بن الوليد، فقال: أغضبت الأمير، فأتاه فقال: إني لم أرد أغضبك، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة أشد الناس عذاباً للناس في الدنيا» رواه الإمام أحمد.
وعن عائشةَ رضيَ اللَّه عنها قالت: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: (( اللهمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شيئاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمّتِي شَيْئاً فَرَفِقَ بهم فأَرْفُقْ بِهِ )). رواه مسلم وابن حبان.
اختياره للأسهل في جميع الأمور:
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله " رواه البخاري.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: " أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ. حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ، وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى. فَقَالَ: (( إِنَّهُ لَوَقْتُهَا. لَوْلاَ أَن أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي )) رواه مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل )). رواه ابن حبان.
وعن بكر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا أنا مت كانت وفاتي خيراً لكم تعرض علي أعمالكم فإذا رأيت خيراً حمدت الله وإن رأيت شراً استغفرت الله لكم )). رواه ابن سعد مرسلاً وقال البيهقي رجاله رجل الصحيح.
أدى الأضحية عن أمته:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: « أن رسول الله ذبح كبشاً أقرن بالمصلى، أي بعد أن قال: بسم الله والله أكبر. وقال: اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي ».
جسد الأمة:
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ترى المؤمنون في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسَدِه بالسَّهَر والحُمَّى )). رواه البخاري.
الفرق بين التوادد والتراحم والتعاطف:
قال ابن أبي جمرة: " الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينهما فرق لطيف، فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضاً بأخوة الإيمان لا بسبب شئ آخر، وأما التوادد فالمراد به التواصل الجالب المحبة كالتزاور والتهادي، وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضا كما يعطف الثوب عليه ليقويه ".
رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم بالصحابة
قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ ﴾. [آل عمران:159].
ويمضي السياق القرآني في جولة جديدة.. جولة محورها شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقيقته النبوية الكريمة وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة؛ ومدى ما يتجلى فيها من رحمة الله بهذه الأمة وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة، فنجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس.
يتوجه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بطيب قلبه وإلى المسلمين بتذكيرهم نعمة الله عليهم به.. فهي رحمة الله نالته ونالتهم؛ فجعلته صلى الله عليه وسلم رحيماً بهم، ليناً معهم ولو كان فظاً غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب ولا تجمعت حوله المشاعر. فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة وود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء؛ ويحمل همومهم ولا يعينهم بهمة ويجدون عنده الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت حياته مع الناس ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة؛ بل أعطاهم كل ما كانت يداه في سماحة ندية ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم. وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه؛ نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة الرحيمة.
وكأن الله جل جلاله يقول له: فبرحمة الله يا محمد ورأفته بك، وبمن آمن بك من أصحابك، لنت لهم، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه، وأغضبت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه، لتركك ففارقك ولم يتبعك ولا ما بعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم.
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾. (التوبة:128).
اليسر في العبادات:
عن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أَمَّ قوماً فليخفف فإنَّ منهم الكبير، وفيهم المريض وإنَّ فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده فليُصلِّ كيف شاء ". رواه مسلم.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلِّلَ عليه، فقال: ما له ؟، قالوا: رجل صائم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر أن تصوموا في السفر عليكم برخصة الله التي رخص لكم ". رواه البخاري (1946).
وقال ابن عمر: " من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة ". وروى الطبري من طريق مجاهد قال: " إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصائم، ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك، وقالوا فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك "..
وأخرج البخاري عن ابن عباس قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمسِ فسأل عنه فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يباع لا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ".
عن عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللّهِ أَنَّهُ يَقُولُ: لأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلأَصُومَنَّ النَّهَارَ مَا عِشْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ: « آنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذلِك؟» فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ: « فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذلِكَ. فَصُمْ وَأَفْطِرْ. وَنَمْ وَقُمْ: وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِك. قَالَ: « صُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ » قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: « صُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْماً. وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ » قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ: «لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذلِك » قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا: لأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاَثَةَ الأَيَّامَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللّهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي » رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ )) قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ الله قَال:(( إِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلِي. إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِيني فَاكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ )). رواه البخاري ومسلم.
وذلك رحمة لهم، فلا يمنع التحريم فإن من رحمته لهم أن حرمه عليهم، وأما مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن تقريراً بل تقريعاً وتنكيلاً، فاحتمل منهم ذلك لأجل مصلحة النهي في أكيد زجرهم، لأنهم إذا باشروا ظهرت لهم حكمة النهي وكان ذلك أدعى إلى قلوبهم لما يترتب عليهم من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك، والجوع الشديد ينافي ذلك، وقد صرح بأن الوصال يختص به لقوله " لست في ذلك مثلكم " وقوله " لست كهيئتكم " هذا مع ما انضم إلى ذلك من استحباب تعجيل الفطر.
كرهه أن يحمل حقداً على أصحابه:
وروي عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً فأني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ". رواه أبو داود والترمذي.
فقد أُخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسعى في تحصيل مقام سلامة صدورنا من الغل والحسد وغير ذلك، فإن من كان غير سليم الصدر محروم من الخيرات كلها. فكان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس، وأرغبهم في العفو مع القدرة، فإنه صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يخرج من الدنيا وقلبه راض عن أصحابه من غير سخط على أحد منهم، وهذا تعليم للأمة أو من مقتضيات البشرية.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى أحد أصحابه في حالة شدة وبأس يحزن لأجل ذلك حزناً شديداً ويرق قلبه ويبكي متأثراً من ذلك الموقف، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله فقال: قد قضى، قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا فقال: " ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه " وكان عمر رضي الله عنه يضرب فيه بالعصا ويرمى بالحجارة ويحثى بالتراب ". رواه البخاري، ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أصابني جهد شديد فلقيت عمر بن الخطاب فاستقرأته آية من كتاب الله فدخل داره وفتحها عليَّ فمشيت غير بعيد فخررت لوجهي من الجهد والجوع، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسي فقال: " يا أبا هريرة ". فقلت: لبيك رسول الله وسعديك، فأخذ بيدي فأقامني وعرف الذي بي إلى رحله، فأمر لي بعيس من لبن فشربت منه ثم قال: " عد فاشرب يا أبا هر " فعدت فشربت، ثم قال: " عد " فعدت فشربت حتى استوى فسار كالقدح، قال: فلقيت عمر وذكرت له الذي كان من أمري، وقلت له: تولى ذلك من كان أحق به منك ياعمر، والله لقد استقرأتك الآية ولأنا أقرأ لها منك. قال عمر: والله لأن أكون أدخلتك أحبُّ من أن يكون لي مثل حمر النعم " رواه البخاري..
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشْفَقْتُ إنْ أغْتَسِلَت أن أهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَروا ذَلِكَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو صَلَّيْتَ بأصْحَابِكَ وَأنْتَ جُنُبٌ ؟ فأخْبَرْتُهُ بالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الاغْتِسَالِ وَقُلْتُ: إنِّي سَمِعْتُ الله يقولُ: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ إنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾. فَضَحِكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً ». رواه أبو داود.
إنه لا يجعل أيامهم كلها مواعظ:
قال ابن مسعود رضي الله عنه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا " متفق عليه.
المعلم الحنون:
عن مسعود بن الحكم قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقلت: رحمك الله. فرماني القوم بأَبصارهم وضربوا بأَيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتُهم يُصْمتوني سكتُّ. قال: فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي وأمي، ما رأيتُ معلِّماً أحسنَ تعليماً منه. ما ضرَبني ولا سبَّني، ثم قال: « إنّ هذه الصَّلاةُ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيءٌ مِن كَلاَمِ الآدَمِيِّينَ، إنَّمَا هو التَّسْبِيحُ والتَّحْمِيدُ والتَّكْبِيرُ ».
يتبع