سنة القراء في ابتداء التلاوة وختمها وأدلتها من الكتاب والسنة
د. إبراهيم أحمد إسماعيل إبراهيم [*]
ملخص البحث:
للقراء سنة وهدي عندما يبتدئون تلاوة القرآن, وكذلك عندما يختمون, هذه السنن بعضها مروي عن رسول الله ف وبعض أصحابه الكرام, ففي الابتداء: الاستعاذة, والبسملة, وفي الختام: التكبير والتهليل, ووصل آخر القرآن بأوله, والدعاء, وكلها موصولة بأسانيدها, وليست بدعاً ولا مخترعات كما يزعم بعض المتسرعين في الأحكام.
The Readers Rubric at beginning and ending the Quran recitation
There's a rubrics for the readers when begin to read the Quran as when they end reading. Some of These rubrics are transmitted for prophet Mohammed prayers and peace upon him and his companions. In the beginning: seeking refuge from devil, then basmalah and in the end: the enlargement of Allah and the eltahleel and connecting the end of the Quran by its beginning and the supplication and all of these things are right and have their grounds, they are not inventions nor bida as some of the hasty on the judgment claim.
المقدمة:
الحمد لله الذي أنعم علينا بإنزال القرآن الكريم, نوراً وهدى للمتقين, وحثنا على تلاوته ووعدنا عليها بالثواب الجزيل, فقال عزّ من قائل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ (سورة فاطر آية "29– 30). نحمده حمداً كثيراً يكافئ نعمه, ويوافي مزيده, والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه, محمد بن عبد الله, الذي شرّفه بهذا الكتاب العزيز, الذي فاق كل ما أنزله الله على سائر المرسلين من الكتب, وهيمن عليها بما أودع الله فيه من العلوم والحكم, وبما خصه الله من العجائب والإعجاز, فكان معجزة رسول الله ف القائمة على فم الدنيا, شاهدة على صدق رسالته, وتفوقها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, تتحدى العالم إنسه وجنه, وتخرص أفواه المعاندين والمكذبين, لذلك امتن الله على رسوله ف بهذه النعمة, في غير ما آية من الكتاب العزيز, مذكّراً له بها, وحاثاً له للاعتزاز بها, والشكر عليها, مثل قوله تعالى:" وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ " سورة الحجر آية "87", وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (سورة المائدة آية 48).
فعرف ف قدر هذه النعمة, فكان يتلوه آناء الليل وأطراف النهار, ويحث أصحابه والأمة من بعدهم على تلك التلاوة, مثل قوله ف: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة, والحسنة بعشر أمثالها لا أقول "الم" حرف, ولكن ألف حرفاً, ولام حرفاً وميم حرفاً"(1)
فاستجاب الصحابة y لحثّه ذلك, فكانوا يقرءونه بالليل حتى رُويَ أنه يُسمع لبيوتهم دويّ كدويّ النحل, ثم ورّثوه لمن جاء بعدهم من التابعين فكان لهم من ذلك نماذج, ولهم فيه مواقف وأقوال, ثم ورّثه التابعون لمن جاء بعدهم ومنهم بل وعلى رأسهم أئمة القراءة العشرة(2) رضوان الله عليهم أجمعين؛ إذ أن هؤلاء العشرة اختصوا من بين علماء الأمة بالاشتغال بالقرآن دون غيره, فكان القرآن الكريم هو شغلهم الشاغل قراءةً وإقراءً, وتحقيقاً وتدريساً, يتلونه آناء الليل وأطراف النهار؛ ولما كانت تلاوة القرآن الكريم عبادة؛ إذ أنه متعبد بتلاوته, كان لابد أن تكون هذه التلاوة على وفق الشرع, أي على وفق ما ثبت عن الرسول ف؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن كل عبادة لا تُقبل إلا إذا توفر لنا شرطان أساسيان هما:
أن تكون خالصة لوجه الله تعالى.
أن تكون موافقة لما شرع الله تعالى.
فإذا فقدت الشرط الأول كانت نفاقا أو من قِبل النفاق, وإذا فقدت الشرط الثاني كانت بدعة, وكل بدعة ضلالة كما هو معلوم, ومن هنا ينبغي أن يكون كل ما يتعلق بالتلاوة مسنوناً -أي ثابتاً بالسنة- ومن ذلك ما يتعلق بالابتداء في التلاوة وبالختام, عندما يفرغ القارئ من ختم القرآن؛ وذلك أنه يتصور أن يُحدث بعض الناس عند ابتداء القراءة لفظاً أو ألفاظاً يظن أنها تزيد من ثوابه أو تقربه من الله زُلفى, ومثل ذلك يُتصور أن يحدث عند ختم القرآن, فإذا فعل بعض الناس ذلك فينبغي أن يُعرض على ميزان السُنّة ليُعلم: هل ثبت ذلك عن الرسول ف فيُقرّ عليه ؟ أم لم يثبت فينبغي أن يُردّ عليه, ويُنهى عنه.
فهذا هو الذي أريد أن أحققه في هذا البحث إن شاء الله تعالى. والحق أننا كثيراً ما نسمع من يُسارع في تبديع الألفاظ التي يسمعها من بعض القراء لمجرد أنه لم يطّلع على دليل لها, وفي المقابل نجد بعض المتساهلين الذين يلصقون بالدين كل ما تهواه أنفسهم وإن لم يكن لهم عليه أي دليل !! ولذلك فلابد من التحقيق في أمر هذه الألفاظ التي يطلقها بعض القراء في ابتداء التلاوة أو ختامها, حتى يتبين الحق, وينجلي الأمر, وهذا هو موضوع هذا البحث.
وقد سلكت فيه المنهج الاستقرائي الوصفي بتتبع الأخبار والآثار الواردة في ذلك وتمحيصها من الناحية الثبوتية والدلالية للوصول إلي الحكم الصحيح المطابق للحق, وهذا المنهج كالآتي:
أولاً: خطة البحث: وهي كما يلي:
قسمت البحث إلى مبحثين, وجملة مطالب, ثم الخاتمة وهي نتيجة البحث.
المبحث الأول فيما يتعلق بابتداء التلاوة، وفيه مطلبين:
المطلب الأول في الاستعاذة: معناها, دليلها, حكمها ولفظها.
المطلب الثاني في البسملة: لفظها, حكمها, مكانها وكيفية تركيبها مع الاستعاذة.
المبحث الثاني: فيما يتعلق بانتهاء القراءة, وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الألفاظ التي تقال في قطع القراءة قبل الختام.
المطلب الثاني: فيما يتعلق بالختام: التكبير –التهليل– وصل آخر القرآن بأوله, الدعاء.
الخاتمة: وفيها نتائج البحث.
- نسبت كل الآيات التي استشهدت بها إلى سورها وبينت رقمها وذلك في صلب البحث.
- خرّجت الأحاديث الواردة في البحث وبينت مصادرها ودرجتها من الصحة والضعف, وذلك في الهوامش.
- ترجمت لمعظم الأعلام الوارد ذكرهم في البحث, وتركت الترجمة لبعض الأعلام اعتماداً على شهرتهم وطلباً للإيجاز والاختصار.
- جعلت فهرساً للمراجع, وآخر للأعلام, وذلك في نهاية البحث.
المبحث الأول
فيما يتعلق بأحكام ابتداء القراءة
المطلب الأول
في الاستعاذة: معناها دليلها حكمها
لفظها الجهر والإسرار بها ومكانها
أما معناها: فيقول الفيروزآبادي(3): "العوذ الالتجاء كالعياذ, والمُعاذ, والمعاذة, والتعوّذ, والاستعاذة"(4), ويقول الراغب الأصفهاني(5): "العوذ الالتجاء إلى الغير والتعلق به, يقال عاذ فلان بفلان, ومنه قوله تعالى: ﴿أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين﴾ (سورة البقرة آية 67), ﴿وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون﴾ (سورة الدخان آية 20), وقوله ﴿معاذ الله﴾ (سورة يوسف آية 23)- أي نلتجئ إلي الله ونستنصر به أن نفعل ذلك؛ فإن ذلك سوء نتحاشى من تعاطيه(6).
وخلاصة هذا المعنى الالتجاء إلى الله والاستنصار به من هذا العدو, الشيطان الرجيم؛ وذلك أن الإنسان لا يراه, ولا يستطيع دفعه عنه فلا حيلة للإنسان منه إلا الالتجاء إلى الله وحده, يقول الشيخ علي النوري(7):"... ومنها أن المطلوب من الاستعاذة الالتجاء والاعتصام والاستجارة بالله جل وعلا من ضرر الشيطان في دينٍ ودُنيا, فإنه لا يكفّه عن ذلك إلا الله القادر عليه لا غيره؛ لأنه شرير بالطبع, لا يقبل جُعلاً, ولا يؤثّر فيه جميل, ولا يمكن علاجه بنوع من أنواع الحيل التي تعالج بها بنو آدم "(8). فهذا هو معنى الاستعاذة والحكمة من البدء بها.
وأما دليلها, فهو قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (سورة النحل آية 98).
أما حكم الاستعاذة شرعاً فمذهب جمهور القراء أنها مندوبة, فهؤلاء حملوا الأمر على الندب الذي هو أحد معنييه, والمعنى الآخر الوجوب وهو الأصل عند علماء الأصول يقول إمام الحرمين الجويني(9): "والأمر هو استدعاء الفعل بالقول ممن دونه على سبيل الوجوب, وصيغته إفعل, وعند الإطلاق والتجرد عن القرينة يحمل عليها, إلا ما دلّ الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة فيحمل عليه"(10). ويقول العلامة ابن قدامة الحنبلي(11): "مسألة: إذا ورد الأمر متجرداً عن القرائن اقتضى الوجوب في قول الفقهاء وبعض المتكلمين, وقال بعضهم يقتضى الإباحة؛ لأنها أدنى الدرجات, فهي مُستيقَنة, فيجب حمله على اليقين. وقال بعض المعتزلة يقتضي الندب.... الخ"(12), ثم أيّد ابن قدامة رأي الفقهاء: وهو القول بالوجوب بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة, وأقوال الصحابة. فرأي جميع الفقهاء أن الأمر المجرد من القرائن يفيد الوجوب, وهنا الأمر واضح من الله سبحانه الاستعاذة من الشيطان في بداية القراءة, فما هي القرينة التي صرفت الأمر إلى الندب عند القراء y؟
فلننظر إلى أقوالهم لنتعرف على ذلك:
يقول الإمام ابن الجزري(13):" ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة مستحبة في القراءة بكل حال, في الصلاة وخارج الصلاة, وحملوا الأمر في ذلك على الندب وذهب داود بن علي وأصحابه إلى وجوبها حملاً للأمر على الوجوب كما هو الأصل, حتى أبطلوا صلاة من لم يستعذ, وقد جنح الإمام فخر الدين الرازي إلى القول بالوجوب, وحكاه عن عطاء بن أبي رباح, واحتج له بظاهر الآية من حيث الأمر, والأمر ظاهره الوجوب, وبمواظبة النبي ف عليها؛ ولأنها تدرأ شرّ الشيطان, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولأن الاستعاذة أحوط, وهو أحد مسالك الوجوب. وقال ابن سيرين: إذا تعوّذ في العمر مرة واحدة تكفي في إسقاط الوجوب, وقال بعضهم: كانت واجبه على النبي ف دون أمته"(14).
وخلاصة هذه الخلافات التي ذكرها الإمام ابن الجزري هي كالآتي:
قوم قالوا هي مندوبة في الصلاة وغيرها, وقد نسب هذا القول للجمهور.
قوم قالوا هي واجبة, وقد نسب هذا القول للظاهريّة من الفقهاء, وشاركهم فيه فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير كما ذكره الإمام ابن الجزري, والذي يترجح للباحث هو القول الثاني؛ للأدلة الآتية:
ما تقدم من أنّ الأمر عند الأصوليين يفيد الوجوب ما لم تصرفه قرينة عن ذلك, ولا نجد هنا قرينة تصرف الأمر للندب, إلا أن يقول قائل: أن القراءة نفسها ليست واجبة, فكيف تكون الاستعاذة لها واجبة ؟, ويُجاب على ذلك بأنه لا مانع أن يكون في العمل المستحب شيء واجب, وذلك مثل الصلاة المستحبة, فإنهم لم يختلفوا في أن قراءة الفاتحة فيها واجبة.
ماحكاه ابن الجزري عن الرازي: بأنه رَوى هذا الوجوب عن عطاء بن أبي رباح, وعطاء تابعيٌ جليل من تلاميذ ابن عباس.
ما احتج به الرازي: من أن الاستعاذة تدرأ الشيطان, ودرء الشيطان واجب, ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب إذا كان مقدوراً للمُكلّف, وهي قاعدة فقهية مشهورة بين الفقهاء, لا أعلم فيها خلافاً بينهم, فالراجح إذن أن الاستعاذة واجبة في الصلاة وغيرها, أما القول بالإباحة الذي رُوى عن بعضهم فهو في غاية السقوط؛ لأن الإباحة لا تحتاج إلى أمر؛ ولأن الاستعاذة ذِكر والذكر يدور أمره بين الوجوب والندب.
وأما لفظها فهو عند الجمهور: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" دون نقص أو زيادة, وذلك موافقة للفظ القرآن الكريم, يقول الإمام أبو عمرو الداني(15): "أعلم أن المستعمل عند الحذاق من أهل الأداء في لفظها: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" دون غيره؛ وذلك لموافقة الكتاب والسنة, فأما الكتاب فقول الله عزّ وجل لنبيه ف: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ (سورة النحل آية 98), وأما السُنة فما رواه نافع بي جُبير بن مطعِم عن أبيه عن النبي ف أنه استعاذ قبل القراءة بهذا اللفظ بعينه وبذلك قرأت, وبه آخذ".(16) فهذا النص عن هذا الإمام الحُجة يرجح الاقتصار على هذا اللفظ, دون زيادة أو نقص, ويقول الإمام ابن أبي مريم(17): "أما الاستعاذة فالمُرضي فيها المتلقي عن السلف, الموافق للتنزيل هو: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, جهراً عند إرادة الابتداء بالقراءة وإلى هذا ذهب أبو عمرو, عاصم, وروى أيضاً عن كثير من العلماء؛ ووجه ذلك: أنّا نُدبنا إلى ذكر ذلك في قوله تعالى: ﴿إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ (سورة النحل آية 98), وليس زيادة على هذا, فينبغي أن لا يزاد عليه.
وروي أن رجلاً كان يقرأ على أبي بن كعب, فقال: (أعوذ بالله السميع العليم, فقال له: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كما أمرك الله حين يقول: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ (سورة النحل آية 98))(18) ومع هذا التوكيد على الاقتصار على لفظ القرآن فان هنالك من العلماء من لم ير بأساً بالزيادة عليه إن كانت للتنزيه, وعلى رأس هؤلاء العلماء الأفاضل الإمام الشاطبي(19) حيث قال:"
إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستــعذ جهاراً من الشيطان بالله مسجلا
على ما أتى في النحل يسراً وإن تزد لربك تنـزيهاً فلست مجـهّلا(20)
يقول أحد شراح الشاطبية وهو الشيخ ابن القاصح(21):" أي استعذ على اللفظ الذي نزل في سورة النحل, جاعلاً مكان (استعذ) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم", ومعنى يسرا: أي ميسرا, وتيسيره قلة كلماته, وزيادة التنزيه أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم, وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, ونحو ذلك, وقوله لست مجّهلاً: أي لست منسوباً إلى الجهل؛ لأن ذلك كله صواب ومروي, قيل هذه الزيادة وإن أطلقها فإنها مقيدة بالرواية, ولم يروِها بل نبّه على مذهب الغير"(22) فالإمام الشاطبي لا يرى بأساً بالزيادة على هذا اللفظ إن كان للتنزيه, وتبعه على ذلك الشارح ابن القاصح, فالشاطبي بكلامه هذا يكون قد خالف أصل قصيدته وهو التيسير, وصاحبه الإمام الداني الذي أكد على الاقتصار على لفظ القرآن, وروى في ذلك حديثاً مرفوعاً كما تقدم وخلاصة القول في هذا الخلاف أن العلماء, فيه على مذهبين:
المذهب الأول: القول بالاقتصار على لفظ القرآن:﴿أعوذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ وهذا أدلته أقوى, وعليه جهابذة علماء القراءات.
المذهب الثاني: القول بجواز الزيادة على هذا اللفظ تنزّه بها لله سبحانه وتعالى, وهذا القول لم أجد له أدلة قوية تسنده, وغاية ما هناك فهو استحسان لبعض أئمة القراءة, ومنهم الإمام الشاطبي, وإن الذي تطمئن إليه النفس هو القول الأول, وهو الاقتصار على لفظ القرآن دون زيادة أو نقص, فينبغي اعتماده والمصير إليه.
وأما الجهر والإسرار بها فإن الذي عليه الحذاق من أئمة القراءة هو الجهر بها وهو قول جمهور القراء إلا خلافاً ضئيلاً رواه بعضهم, وهذا القول هو الذي اعتمده الإمام الشاطبي حيث قال:
إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستعذ جهاراً من الشيطان بالله مسجلا(23)
وأشار إلى ضعف مقابله بقوله:
وإخفاؤُه فصل أباه وُعاتنا وكم من فتى كالمهدوي فيه أعْمَلا (24)
غير أن العلماء اشترطوا لهذا الجهر أربعة شروط:
أن تكون القراءة بحضرة من يستمع, احترازا من الانفراد.
أن يكون في ابتداء الدرس.
أن لا يكون مُسرّا بقراءته.
أن لا يكون في الصلاة.
وقد نظمها صاحب إتحاف البريّة بقوله:"
إذا ما ردت الدهر تقرأ فاستـعذ جهاراً من الشيطان بالله مسـجلا
بشرط استماع وابتداء دراسة ولا مخفيا أو في الصلاة فحصلا"(25)
وأما محلها: ففي ابتداء القراءة ولا يصح غيرها عند المحققين, يقول الإمام ابن الجزري:" الثالث في محلها: وهو قبل القراءة إجماعاً, ولا يصح قول بخلافه عند أحد ممن يعتبر قوله, وإنما آفة العلم التقليد, فقد نُسب إلى حمزة وأبي حاتم ونقل عن أبي هريرة t وابن سيرين وإبراهيم النخعي وحكي عن مالك وذكر أنه مذهب داود بن علي الظاهري وجماعته عملا بظاهر الآية وهو: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله﴾ (سورة النحل آية 98), فدل على أن الاستعاذة بعد القراءة, وحكي قول آخر وهو الاستعاذة قبلُ وبعدُ ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره ولا يصح شيء من هذا عن من نقل عنه, ولا ما استُدلّ به لهم".(26)
فهذه هي أحكام الابتداء بالاستعاذة, وبقيت مسائل نذكرها إتماماً للفائدة وهي:
إذا كانوا جماعة في حلقة, مثلاً: هل يستعيذ كل واحد منهم أم يكتفون باستعاذة الأول منهم؟
إذا قطع القارئ قراءته لأمر طارئ ثم عاودها, هل يعيد الاستعاذة أم يكتفي بالأولى؟
أما الإجابة على السؤال الأول: اختلف أهل العلم في ذلك بناءاً على: هل وجوبها كفائياً أم عينياً ؟ فعلى القول بالوجوب الكفائي فيكفيهم استعاذة الأول منهم بداهة, وأما على القول بالوجوب العيني فينبغي ان يستعيذ كل واحد منهم عند قراءته.
وأما الإجابة على السؤال الثاني: فإن القارئ إذا قطع القراءة لا يخلو ذلك من ثلاث حالات:
أن يكون لأمر عارض: كسؤال أو عطاس ونحو ذلك.
أن يكون القطع لأمر يتعلق بالقراءة: كإصلاح خطأ لأحد الطلاب ونحو ذلك ففي هاتين الحالتين قال أهل العلم. ليس عليه إعادة الاستعاذة.
أن يكون قطع القراءة لكلام خارج القراءة ولو لردّ سلام ونحوه ففي هذه الحال ينبغي ان يعيد الاستعاذة.
الدليل على هذه المسائل قول الإمام المحقق ابن الجزري:" إذا قرأ جماعة جملة فهل يلزم كل واحد منهم الاستعاذة أو تكفي استعاذة بعضهم ؟ لم أجد فيها نصاً ويحتمل أن تكون كفاية أو تكون عينياً, على كل من القولين بالوجوب, والاستحباب, والظاهر الاستعاذة لكل واحدة لأن المقصود اعتصام القارئ, والتجاؤه بالله تعالى من شر الشيطان كما تقدم؛ فلا يكون تعوذ واحد كافياً عن آخر كما اخترناه في التسمية على الأكل, وذكرناه في غير هذا الموضع وأنه ليس من سنن الكفايات... إذا قطع القارئ القراءة لعارض من سؤال أو كلام يتعلق بالقراءة لم يعد الاستعاذة وذلك بخلاف ما إذا كان الكلام أجنبياً, ولو رداً للسلام فإنه يستأنف الاستعاذة وكذا لو كان القطع إعراضاً عن القراءة كما تقدم والله اعلم ".(27)
المطلب الثاني
البسمـــــــلة
وهي اسم منحوت من قولنا بسم الله الرحمن الرحيم, وهي آية من سورة الفاتحة في العدد الكوفي والمكي, وبعض آية من كل سور القرآن عدا براءة, خلافاً لمن قال أنها ليست من القرآن؛ لأنها كتبت في المصحف, وقد أجمع الصحابة على تجريده من كل ما ليس بقرآن؛ يقول الإمام النووي(28): "وينبغي أن يحافظ على قراءة ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾, في أول كل سورة سوى براءة فإن أكثر العلماء على أنها آية كتبت في المصحف وقد كتبت في أوائل السور سوى براءة, فإن قرأها كان مثبتاً قراءة الختمة أو السورة, وإذا أخلّ بالبسلمة كان تاركاً لبعض القرآن عند الأكثرين, فإن كانت القراءة في وظيفة عليها جُعل كالأسباع, والأجزاء التي عليها أوقاف وأرزاق, كان الاعتناء بالبسملة أشد ليستحق ما يأخذه يقيناً؛ فإنه أخلّ به لم يستحق شيئاً من الوقف عند من يقول: البسملة آية من أوائل السور, وهذه دقيقة نفيسة, يتأكد الاعتناء بها وإشاعتها)(29), ويقول الإمام الداني:" ولا خلاف في التسمية في أول فاتحة الكتاب, وفي أول كل سورة ابتدأ القارئ بها, ولم يصلها بما قبلها من مذهب من فصل أو لم يفصل, فأما الابتداء برءوس الأجزاء التي في بعض السور فأصحابنا يخيِّرون القارئ بين التسمية وتركها في مذهب الجميع"(29)
وقد جرى خلاف بين الفقهاء, هل هي آية أو بعض آية من القرآن أم ليست آية ولا بعض آية إلا التي في سورة النمل ؟ فهذا الخلاف إنما هو بين الفقهاء, أمّا الراء فلا أعلم خلافاً بينهم أنها من القرآن في أوائل السور عدا براءة, فإما أنها آية أو بعض آية, وقد ذكر الإمام ابن الجزري هذا الخلاف خالطاً بين مذاهب القراء والفقهاء قائلاً:" الثامن في حكمها وهل هي آية في أول كل سورة كتبت فيه أم لا ؟.
وفي هذه المسألة اختلف الناس فيها, وبُسط القول فيها في غير هذا الموضع, ولا تعلق للقراءة بذلك, إلا أنه لما جرت عادة أكثر القراء للتعرّض لذلك لم نُخلِ كتابنا منه لتُعرف مذاهب أئمة القراءة فيها فنقول,اختُلف في هذه المسألة على خمسة أقوال:
أحدها: أنها آية من الفاتحة فقط, وهذا مذهب أهل مكة والكوفة ومن وافقهم, وروى قولا للشافعي.
الثاني: أنها آية من أول الفاتحة ومن أول كل سورة وهو الأصح من مذهب الشافعي, ومن وافقه, وهو رواية عن أحمد ونسب إلى أبي حنيفة,
الثالث: أنها آية من أول الفاتحة, بعض آية من غيرها وهو القول الثاني للشافعي.
الرابع: أنها آية مستقلة في أول كل سورة لا منها, وهو المشهور عن أحمد, وقول داود وأصحابه وحكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي, وهو من كبار أصحاب أبي حنيفة.
الخامس: أنها ليست بآية ولا بعض آية من أول الفاتحة ولا من أول غيرها, وإنما كتبت للتيمن والتبرك, وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري ومن وافقهم, وذلك مع إجماعهم أنها بعض آية من سورة النمل, وإن بعضها آية من سورة الفاتحة "(30)
وهذا الخلاف من الفقهاء غريب حقا ! وأغربه مذهب مالك وأبي حنيفة القائل بأنها ليست من القرآن إلا التي في سورة النمل ولا أدري لماذا هذا الخلاف ؟ فهي القراءات آية في العدد المكي والكوفي من سورة الفاتحة, وهى عند جميع القراء بعض آية في كل القرآن؛ لأنها كتبت في المصحف, وتناقلها القراء على ذلك عن شيوخهم, والقراءات توقيفية كما هو معلوم, ولما كان الأمر يتعلق بالقرآن, فينبغي أن يكون القول الفصل فيه لأصحاب القراءات لا إلى الفقهاء, وهذا كما يُرجَع في حديث اختلف في صحته إلى أهل الحديث؛ لأنهم أهل الشأن, وإنا نشك في نسبة نفي قرآنية البسملة إلى الإمامين الجليلين: أبى حنيفة ومالك م؛ وذلك لسببين: الأول أنها كتبت في المصحف وأجمعت الأمة على أن مابين دفتي المصحف هو القرآن دون زيادة أو نقصان, الثاني: ثبت في القراءات المتواترة أنها آية من سورة الفاتحة كما تقدم, وأجمعوا أنه لا يجوز إنكار شيء من القراءات المتواترة. أما القول بأنها كتبت في المصحف للتبرك فيحتاج إلى دليل مرفوع إلى الذين كتبوا المصحف وأنّى هو ؟!!.
فقد ثبت أن الصحابة أجمعوا على تجريد المصحف مما ليس بقرآن ولذلك فنحن نقول على يقين: أن ما نسب إلى الإمامين هو من خطأ النقلة عنهم, أو من عدم فهم لقوليهما, وانظروا إلى ما قاله المحقق ابن الجزري:"... وقوله: إن قالون ومن تابعه من قراء المدينة لا يعتقدونها آية من الفاتحة فيه نظر؛ إذ قد صح نصاً أن إسحاق بن محمد المسيبي أوثق أصحاب نافع وأجلّهم قال: سألت نافعاً عن قراءة "بسم الله الرحمن الرحيم" فأمرني بها وقال: اشهد أنها آية من السبع المثاني, وإن الله أنزلها, روى ذلك الإمام أبو عمرو الداني بإسناد صحيح, وكذلك رواه أبو بكر بن مجاهد عن شيخه موسى بن إسحاق القاضي عن محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه... وحكى أبو القاسم الهذلي عن مالك أنه سأل نافعا عن البسملة فقال: السُنة الجهر بها, فسلّم له وقال: كل علم يُسأل عنه أهله "(31).
وأما مكانها فهي في الابتداء يُؤتى بها بعد الاستعاذة, وأما بين السور فليس بموضوعنا, لأن موضوعنا ابتداء التلاوة وختامها. وأما كيفية تركيبها مع الاستعاذة, فيقول الشيخ الصفاقسي:" وأما الوقف عليها فإن كانت مع البسملة جاز فيها لكل القراء أربعة أوجه:
1- الأول الوقف عليها وهو أحسنها.
2- الثاني الوقف على التعوذ ووصل البسملة بأول القراءة.
3- الثالث وصلها والوقف على البسملة, ولا تُسكّن ميم الرجيم ولا تُخفى لأجل باء (بسم).
4- الرابع وصلها ووصل البسملة بأول القراءة, سواء كانت القراءة أول سورة أم لا(32).
وخلاصة هذا التقسيم كالآتي:
الأول: الوقف على الاستعاذة, ثم الوقف على البسملة, ثم الابتداء بأول السورة ويسمى هذا: بقطع الجميع.
الثاني: وصل الاستعاذة بالبسملة, ووصل البسملة بأول السورة ويسمى هذا: بوصل الجميع.
الثالث: قطع الاستعاذة عن البسملة, ووصل الثاني البسملة بأول السورة ويسمى هذا قطع الأول ووصل الثاني بالثالث.
الرابع: وصل الاستعاذة بالبسملة, وقطع البسملة عن أول السورة, ويسمى هذا بوصل الأول وقطع الثاني, وهذه الأوجه جائزة لجميع القراء وهي من الأوجه الاختيارية.
يتبع