النحو العربي والنص
د. عبد السلام السيد حامد
النحو العربي والنص : مدخل لبحث العلاقة بينهما - د . عبد السلام حامد (*)
أقصد بالنص هنا نص الكلام العربي الذي هو موضوع النظر في اللغة من أجل استنباط القواعد والتحليل والتفسير، لا النص بالفهم العام الذي له أشكال وأنماط كثيرة منها العلميّ (ككتب النحو نفسها) وغير العلمي، ومنها المتن والشرح والحاشية والنص النثريّ والمنظومات وما شابه هذه الأقسام. وتراث النحو العربي مليء بهذا كله، وهو مما يشكل مجالاً واسعاً للنظر وللبحث فيه من جوانب وزوايا نصية فكرية وثقافية مختلفة، كشهرة بعض النصوص ونفوذها وتأثيرها بحسب الزمان أو المكان أو نمط التأليف وما نتج عن ذلك. وبناءً على هذا يتحدد ما أقصده في العنوان السابق المثير لأفكار وأسئلة عديدة في ثلاثة محاور، الأول: موقف النحو العربي من نص اللغة، والثاني : علاقة هذا النحو بما يسمى "نحو النص"، والثالث : جدوى منهج نحو النص ومدى أهميته بالنسبة للنحو العربي.
والغرض من دراسة هذه الجوانب الثلاثة ومن البحث نفسه، تكوين رؤية شاملة لعلاقة هذا النحو بالنص على مستوى الأصول والقواعد والمنهج قديماً وحديثاً. ويأتي ذلك إيماناً بأن هذه الرؤية لها أهميتها في أنها تعد مدخلاً لدراسة هذه القضية التي يمكن أن توسع تفاصيلها وجوانبها بأشكال أخرى فيما بعد، وأنها تعد مراجعة ـ تحاول أن تجمع بين القرب والبعد ـ لأمور كلية قد ينسي تناول جزئياتها منفصلاً بعضها عن بعض عن أهمية النظر فيها مجتمعة لاستنباط نتائجها.
أولاً ـ موقف النحو العربيّ من النص:
نصوص الكلام العربي التي كانت أمام النحاة هي : القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والشعر، والنثر. وقد كان للنحاة العرب ثلاثة مواقف من هذه النصوص : الأول : موقف يتعلق بالتوثيق، والثاني : موقف يتعلق بالاستشهاد والتقعيد، والثالث : موقف يتعلق بالتحليل والتطبيق .
أ ـ موقف التوثيق :
ينصب هذا على توثيق ما سوى القرآن الكريم والحديث؛ لأن المقصود هنا توثيق علماء أصول النحو واللغة لنصوص الشعر والنثر، والضوابط التي وضعها هؤلاء تتعلق بمحاولة توثيق المرويّ من اللغة سنداً ومتناً على غرار ما تم في الحديث، وهي من الناحية النظرية جيدة ومقبولة، لكنها من الناحية العملية كان يحكمها "العصبية والمنافسة"؛ ولذا يبطل مفعول ضبط الرواية ـ كما حاول العلماء أن يقيموها ـ ويصير من اليسير تصفية هذه القضية وعزلها ([1]).
على أن أهم ما في هذه المسألة ما ترتب عليها من وجود شواهد شعرية داخلها الزيف والاضطراب وخالطها الضعف. وتصنف المظاهر العامة لهذه الشواهد فيما يأتي ([2]):
1 ـ الشواهد المجهولة النسبة. 2 ـ الشواهد المتعددة النسبة.
3 ـ الشواهد ذات الوجوه المتعددة. 4 ـ الشواهد المصنوعة.
5 ـ الشوهد المحرفة. 6 ـ الشواهد التي أسيء فهمها.
فالشواهد المجهولة النسبة وُضع لها ضابط هو ـ كما ذكر الأنباري ـ عدم الاستشهاد بما لا يعرف قائله، لكن هذا الضابط جاء متأخراً بعد جهد عظيم كان النحاة قد بذلوه في الشواهد واستنباط القواعد منها. ولذلك استمر الاعتماد على هذا النوع من الشواهد ([3]). والشواهد المتعددة النسبة تمثل نقطة ضعف لاحتمال كونها مصنوعة أو ملفقة وغير موثقة أو محرفة المتن، ولذا فهي في حاجة في وقتنا الحاضر إلى تنقية ومراجعة بعد توافر ظروف التحقيق الكثيرة المعاصرة.
والشواهد ذات الوجوه المتعددة قد تثبت القاعدة وقد تنفيها، وأسباب تعدد وجوهها أحد أمور ثلاثة هي : ورود أكثر من رواية عن الشاعر نفسه، والتغيير من الراوي، والتغيير من النحاة. والتغيير من الراوي والنحاة أدخل في دائرة الاحتمال والظن من غيرهما؛ وذلك لنصرة آرائهم ومذاهبهم القائمة على قواعد وتفريعات ولهجات وغايات مختلفة. من ذلك ما أنشده أبو العباس المبرد في قصر الممدود من الأبيات الآتية : للنمر بن تولب :
يسرّ الفتى طولُ السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعلُ
وليزيد بن الصعق :
فزِعتمْ لتمرين السياط وأنتـمُ يشنّ عليكم بالفنا كل مربـعِ
وللطرمّاح :
وأخرج أمّه لسواس سلمى لمعفور الفدا ضرِم الجنينِ
وقد بين علي بن حمزة الصواب في ذلك بقوله إن بيت النمر روايته : "طول السلامة والغنى"، وأن بيت ابن الصعق روايته "بالقنا"، وأن بيت الطرّماح روايته : "لمعفور الضنى"، ثم قال : " وهذا من فعل أبي العباس غير مستنكر!! لأنه ربما ركب هذا المذهب الذي يخالف فيه أهل العربية واحتاج إلى نصرته، فغيّر له الشعر واحتج به " ([4]) . ومثل هذا قول أفنون التغلبيّ :
أم كيف يَنفع ما تُعطي العَلوقُ به رئمان أنفٍ إذا ما ضُنَّ باللبـنِ
فقد" أنشده الكسائي في مجلس الرشيد بحضرة الأصمعي؛ فرفع "رئمان" فأنكر عليه الأصمعي ذلك وقال : إنه بالنصب، فقال له الكسائي : اسكت، ما أنت وهذا؟ يجوز الرفع والنصب والجر، فسكت، هذا مع أن حق المعنى والإعراب (فضلاً عن الرواية) النصب ـ كما بين ابن الشجري ـ لأن "رئمان" مفعول "تعطي" ([5]).
ومما ورد فيه هذا أيضاً قول طفيل الغنوي :
لأيّامها قِـيدت وأيامـها جَرَتْ لغُنْمٍ ولم تؤخذْ بأرضٍ وتُغصبِ
فقد جوّز بعض القدماء في "أيامها" الثانية الأوجه الثلاثة الرفع والنصب والجر. وكذلك قول كعب بن زهير :
ضخـمٌ مُقـلّّدُها عَبْـلٌ مُقيّـدُها في خَلْقها عن بنات الفحلِ تفضيلُ
ذكر ابن هشام أنه يجوز في " ضخم " الرفع والنصب والجر، والرفع على أربعة أوجه، والنصب بإضمار أمدح أو على أنه حال، والجر على أنه صفة لنضاخة (قبل ذلك ببيتين) على لفظها أو لعذافرة (قبل ذلك بثلاثة أبيات) على المعنى ([6]).
ومثل هذا عند المحدثين ما ورد في قول المرار بن منقذ ([7]):
ثـم تنهـدّ على أنمــاطها مثـلَ ما مالَ كثيـبٌ منقعرْ
عَبَـق العنبرُِ والمسـك بها فهيَ صفراء كعرجون العمرْ
فقد أجاز محققا المفضليّات جعل (عبق) اسماً مبتدأً وجر (العنبر) على أنه مضاف إليه، وعلى هذا يكون الخبر "بها"، وأجازا أيضاً جعل (عبق) فعلاً ماضياً والفاعل هو (العنبر) .
ومثل هذا التعدد المبنيّ على ما يجوز في الموضع الواحد في الشعر لا يمكن أن يكون قد صدر عن الشاعر؛ لأنه يمثل مفارقة للتاريخ الصحيح بالضرورة . ولقائل أن يقول إن هذا التعدد أمر مقبول لاعتبارات من أهمها : إثراء تعدد أوجه القراءة الشعرية المفتوحة، وظروف عدم التحقق من الرواية وفقد الدليل على الوجه التاريخي المحدد الصحيح، وصيرورة الشعر بعد رحيل قائليه ملكاً للثقافة العربية ومعطياتها اللغوية الائتلافية تقرؤه على النحو الذي تسمح به القواعد. وهذا القول صحيح إذا أعيا التحقيق التاريخي المستمد من منهج لغوي يجب الأخذ به، وهو منهج يفترض أن يقوم على أدلة مختلفة أهمها الاحتكام إلى الخصائص اللهجية للشاعر وطلب الاتساق في شعره، وضرورة الاطراد في شعر القبيلة، وتحري الصواب النحوي، ونفي التعدد في موضع مقتضاه التوحد ([8]).
والشواهد المصنوعة تكمن أدلة صناعتها في: النص على نسبة الصنعة لبعض النحاة، والطعن الصريح في بعض الشواهد ووسمها بالصنعة، كطعن المازني في شاهد تأنيث "السكّين" الذي أنشده الفراء :
فعيث في السَّنام غداةَ قرٍّ بسكيـنٍ موثّقة النصابِ
وكذلك نسبة بعض الشواهد إلى شعراء لم يوجدوا أصلاً أو شك في وجودهم، كالذي ينسب إلى مجنون بني عامر :
بكيتُ على سرب القطا إذ مررنَ بي فقلت ومثــلي بالبـكاء جديــرُ
أسربَ القطا هل من يعيـرُ جناحَه لعلّي إلى من قـد هويـتُ أطيـرُ
وظهور أمارات الصنعة في الرصف اللغوي لبعض الشواهد، كالأبيات التي يستشهد بها النحاة على لغة من يلزم المثنى الألف وفتح النون مثل :
أعرف منها الجيد والعينانا ومنخرين أشبـها ظبيـانا
والشواهد المحرفة لا يستبعد الباحث أن يكون بعض تحريفها من تعمد النحاة أنفسهم، ومما يدل على هذا اختلاف روايتها في كتب النحو عما هي عليه في مصادرها الأصلية، ومن أوضح الأمثلة على ذلك الاستشهاد على أن "أنْ" تجزم المضارع بقول امرئ القيس :
إذا ما ركبنا قـال ولدانُ أهلـنا تعالوا إلى أنْ يأتنا الصيدُ نَحطبِ
والرواية في الديوان (إلى أن يأتيَ الصيدُ نحطبِ) ، وكذلك الاستشهاد على الجزم بلن بقول كثير عزة :
أيادي سبا يا عزّ ما كنت بعدكمْ فلن يحلُ للعينيـن بعدك منظرُ
والرواية في الديوان المطبوع هكذا (فلم يحل للعينين) . ويعدّ تحريف الشواهد أكثر جوانب هذه القضية خطراً؛ لما ترتب عليها من تفريعات وآراء وجزئيات أسهمت في تضخيم قواعد النحو العربي وتعقيدها وحشوها بغير الصحيح وما لا فائدة فيه .
والشواهد التي أسيء فهمها نتجت عن عزل الشواهد من سياقها فكان لهذا أثر في القول بالتأويل بصوره المختلفة، ومن هذا توجيه الأشموني جر الملحق بجمع المذكر السالم بالكسرة في بعض ما ورد من الشعر بأنه لغة خاصة مع أنه في الحقيقة للضرورة الشعرية ([9])، وكذلك القول بأن ما ورد في الحديث " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " يعد مما جاء على لغة "أكلوني البراغيث" مع أن للحديث رواية أخرى مشهورة هي " إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" ([10]).
وقد كان الدافع الذي سمح للنحاة بأن يُدخلوا هذه الشواهد الضعيفة بأنواعها ومظاهرها المختلفة مجال النحو هو " مراعاة القواعد لا النصوص، فقد وجهوا جهدهم أساساً في الدراسة لخدمة القواعد فانزلق بهم ذلك إلى استخدام نصوص ما كان لها أن تستخدم أو على الأقل : كان ينبغي لها أن تُحقّق وتنخل قبل أن تستخدم " ([11]).
ب ـ موقف الاستشهاد والتقعيد :
مع القرآن :
النحو العربي ـ ككل العلوم العربية ـ نشأ في كنف النص القرآني وكان من أوائل العلوم التي اعتنت به، وكان هذا الاعتناء ـ في البدء ـ لصيانته وحفظه من وقوع اللحن والتحريف في قراءته. وموقف النحاة من القرآن من حيث الاستشهاد يتلخص في أنهم من الناحية النظرية كانوا يؤمنون بما قرره السيوطي من بعد وهو أن " كل ما ورد أنه قرئ به جاز الاحتجاج به في العربية سواءٌ أكان متواتراً أم شاذاً، وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة إذا لم تخالف قياساً معروفاً، بل (و) لو خالفته يحتج بها في ذلك الوارد بعينه ولا يقاس عليه نحو (استحوذ) " ([12]). وأما من الناحية العملية، فقد كان الأمر بخلاف ذلك؛ إذ إن معظمهم لم يستخدموا القرآن في دراسة مسائل النحو، ولم يولوه ما هو حقيق به من الاستشهاد والاحتجاج. والشواهد على ذلك كثيرة منها أن كتاب سيبويه ـ وهو قمة الدراسات السابقة عليه ودستور ما جاء بعده ـ فيه اعتماد يكاد يكون كاملاً على الشعر العربي القديم في الاستقراء وتقرير الأصول، وتغافل واضح عن آيات القرآن والشعر الإسلامي، ولا يزيد ما فيه من الآيات عن ثلاثمائة آية، ومعظمها يذكر بعد الشعر كأنما يساق بهدف التقرير والتوكيد لا الاستشهاد، وبناءً على هذا لا يُعَدّ من الغريب الزعم بأن " هذا الانصراف عن الاعتماد على النص القرآني في الاحتجاج قد شمل معظم النحاة تقريباً ... ماعدا "ابن هشام" الذي وجه الكثير من عنايته إليه، فزاد على تنظيمه للقواعد وترتيبها وحسن عرضها الاستدلال عليها من القرآن الكريم في غالب الأحوال كما يبدو ذلك في كتابه "شذور الذهب" وشرحه له " ([13]). ويقول ابن حزم : " والعجب ممن إن وجد لأعرابي جلف أو لامرئ القيس أو الشماخ أو الحسن البصري لفظاً في شعر أو نثر جعله في اللغة واحتج به وقطع به على خصمه، ولا يستشهد بكلام خالق اللغات ولا بكلام الرسول وهو أفصح العرب، وما في الضلال أبعد من هذا " ([14]).
وقد ترتب على هذه الظاهرة أمران : الأول : الاضطراب أمام النصوص القرآنية والاضطرار إلى توجيهها توجيهاً خاصاً بها. والثاني : رفضهم أحياناً بعض القراءات القرآنية لمخالفتها للقواعد المعدة لديهم المأخوذة من نصوص أخرى، وجعل القراءة مجال تطبيق الأحكام لا الاستنباط منها . وقد حمل لواء تلحين القراء والقراءات نحاة البصرة المتقدمون، ثم تابعهم غيرهم من اللغويين والمفسرين؛ فكان مما لحنوه القراءات الخاصة بالفصل بين المضاف والمضاف إليه، والعطف على معمولي عاملين مختلفين، وتسكين لام الأمر مع "ثم"، وتسكين الحركة الإعرابية ([15]). وكان أبو علي الفارسي على رأس هؤلاء، ومن شواهد هذا لديه وصفه لهمز "معايش" في قراءة ابن مجاهد عن نافع [الأعراف : 10] بأنه غلط([16]).
ولأجل هذا اجتهد ابن جني في كتابه "المحتسب" للدفاع عن القراءات الشاذة وذكر أن شذوذها لا يغض من ثبوت روايتها ولا من رسوخ قدمها في العربية، وكان مما قاله في ذلك أنه على رغم خروج الشاذ عن إطار القراءات السبع " إلا أنه مع خروجه عنها نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالروايات من أمامه وورائه، ولعله أو كثيراً منه مساوٍ في الفصاحة للمجمع عليه، نعم وربما كان فيه ما تلطف صنعته، وتعنف بغيره فصاحته، وتمطوه قوى أسبابه، وترسو به قدم إعرابه... ولسنا نقول ذلك فسحاً بخلاف القراء المجتمع في أهل الأمصار على قراءتهم، أو تسويفاً للعدول عما أقرته الثقات عنهم، لكن غرضنا منه أن نُري وجه قوة ما يسمى الآن شاذاً، وأنه ضارب في صحة الرواية بجرانه، آخذ من سمت العربية مهلة ميدانه، لئلا يَرى مُرًى أن العدول عنه إنما هو غض منه أو تهمة له. ومعاذ الله وكيف يكون هذا والرواية تنميه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟! والله تعالى يقول : " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " ([17]) .
والذي دعا النحاة إلى مثل هذا الموقف العملي السلبي من القرآن الكريم وقراءاته هو "التحرز الديني" ومعناه أنهم أرادوا أن يحفظوا للقرآن قدسيته وهيبته، وأن ينأوا به عما يشيع في مسائل النحو من تعدد الآراء وإعمال الذهن والأخذ والرد والرغبة في التصرف بحرية مع النص المدروس.
مع الحديث النبوي:
احتج علماء اللغة في كتبهم منذ بداية التأليف بالحديث. أما النحاة فقد سكتوا عن الاحتجاج به وأحجموا عن هذا من لدن سيبويه إلى أن جاء ابن مالك في القرن السابع الهجري؛ فاعتمد عليه وخالف العرف الشائع في هذا؛ فعلق أبو حيان في شرحه للتسهيل على ذلك وأنكر على ابن مالك فعله وعدّ سكوت القدماء عن الاستشهاد بالحديث منعاً متعمداً وعلله بأمرين، الأول: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، والثاني: وقوع اللحن فيما روي من الحديث؛ لأن كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ([18]). وبإثارة أبي حيان لهذه الفكرة وتعليقه عليها وتفسيره لها صارت الفكرة قضية مشهورة وموضوع بحث ونظر وصار فيها ثلاثة اتجاهات : اتجاه المنع وقد تزعمه أبو حيان وهو ممن جاء بعد ابن مالك مباشرة، واتجاه التوسط بين المنع والجواز ومن أبرز من مالوا إلى هذا أبو الحسن الشاطبي (ت 790) في شرح الألفية، واتجاه الجواز والسير على خطا ابن مالك، على نحو ما نجد عند الدماميني في شرحه للتسهيل والبغدادي في خزانة الأدب.
ويظهر موقف ابن مالك واضحاً من الحديث النبوي الشريف في كتابه " شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح "، وبرغم أن الغرض الأصليّ منه ـ كما يبدو من عنوانه ـ توجيه بعض وجوه الاستعمال والتراكيب المشكلة نحوياً في صحيح البخاري، جعله ابن مالك كتاباً نظرياً وتطبيقياً وجمع فيه بين التقعيد والتطبيق، معتمداً على مختلف أنواع الشواهد التي كان من أهمها الأحاديث؛ حتى إننا نرى مسائل أجازها ابن مالك وكان للحديث فيها القول الفصل، ومن ذلك :
ـ جواز ثبوت الخبر بعد "لولا" (وهو ما خفي على النحاة إلا الرماني وابن الشجري).
ـ وجواز حذف الموصول لدلالة صلته أو بعضها عليه ، وهو مما انفرد به الكوفيون ووافقهم الأخفش عليه؛ استناداً إلى الحديث : " مثَل المهجّر كالذي يُهدي بَدَنَة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً ثم دجاجة، ثم بيضة " .
ـ وصحة العطف على ضمير الرفع المتصل غير المفصول بتوكيد أو غيره، وهو مما لا يجيزه النحاة في النثر إلا على ضعف، ويزعمون أن بابه الشعر، والصحيح جوازه نظماً ونثراً ([19]).
وبذلك تبرز قيمة هذا الكتاب في أنه أول كتاب اختص الحديث النبوي الشريف بالدراسة النحوية، وقد تهيأ له من النصوص ما لم يتهيأ لكتاب في مثل حجمه الصغير ؛ إذ ضم سبعمائة وثلاثين شاهداً ما بين آية وحديث ومنظوم ومنثور، وتكاد شواهد النثر تتكافأ فيه مع شواهد الشعر إن لم تزد عليها، وبذا كان هذا الكتاب علامة نصيّة مميزة في تاريخ النحو العربي لها أثرها فيمن جاء بعد ابن مالك ([20]).
ومن الجدير بالذكر هنا أن تفسير أبي حيان لموقف النحاة الأوائل من الاستشهاد بالحديث بأنه كان امتناعاً للسببين السابق ذكرهما ـ هو الذي شاع فيما بعد وتناقله عنه العلماء الأقدمون وكان له أثره في الدراسات المعاصرة لدى المحدثين ومنهم الدكتور محمد عيد الذي اتفق مع أبي حيان في النتيجة ـ وهي أن أوائل النحاة امتنعوا عن الاحتجاج بالحديث واجتنبوه ـ واختلف معه في السبب؛ فقد كان رأيه أن الذي دفعهم إلى هذا هو التحرز الديني نفسه الذي كان سبب امتناعهم عن الاحتجاج بالقرآن الكريم، وأما ما يذكر في هذا من تعليل منع الاستشهاد بالحديث بأنه كان بسبب الرواية بالمعنى أو اللحن في المتن، فإن ذلك ـ في رأيه ـ لا يؤيده التاريخ المبكر لتوثيق الحديث وجمعه ومعاصرته لدراسة اللغة وجمعها وتقعيدها؛ إذ التقى الاثنان في زمن واحد دون أن يثمر هذا الاعتمادّ على الحديث في الاحتجاج والاستشهاد ([21]). لكنّ في هذه القضية تفسيراً آخر لابن الطيب الفاسي (ت 1170هـ) فهو يرى أن موقف القدماء لم يكن امتناعاً عن عمد بل كان سكوتاً وانصرافاً عن الاحتجاج بالحديث لعدم شهرته بينهم، وفي هذا الشأن يقول راداً على أبي حيان : " وحاصل ما قاله أن هؤلاء المذكورين لم يستدلوا بالحديث، ولا أثبتوا القواعد الكلية. وهذا لا دليل فيه على أنهم يمنعون ذلك ولا يجوزونه كما توهمه، بل تركهم له لعدم تعاطيهم إياه، وقلة إسفارهم عن محيّاه ... وأيضاً في الصدر الأول لم تشتهر دواوين الأحاديث ولم تكن مستعملة استعمال الأشعار العربية والآي القرآنية، وإنما اشتهر وكثرت دواوينه بعد، فعدم احتجاجهم به لعدم انتشاره بينهم، وعلماء الحديث غير علماء العربية. ولما تداخلت العلوم، وتشاركت في صدور العلماء استعملوا بعضها في بعض، وأدخلوا فناً في فن ... وبالجملة فكون هؤلاء لم يحتجوا بالحديث لا يلزم منه أنهم يمنعونه كما هو ظاهر لا خفاء فيه " ([22]). وأياً كان التفسير فالموقف واحد والأثر واحد : ظل النحو العربي حتى عصر ابن مالك غير معتمد على الحديث في الاستشهاد والتقعيد .
يتبع