أولًا: معنى القاعدة:
المراد بالمشقة الجالبة للتيسير: المشقَّةُ التي تنفكُّ عنها التكليفات الشرعية، أما المشقة التي لا تنفكُّ عنها التكليفات الشرعية؛ كمشقَّة الجهاد، وألم الحدود، ورجم الزناة، وقتل البغاة والمفسدين والجناة، فلا أثر لها في جلب تيسير، ولا تخفيف([1]).
قال العز ابن عبد السلام رحمه الله: «المشاقُّ ضربان:
أحدهما: مشقة لا تنفك العبادة عنها؛ كمشقة الوضوء، والغسل في شدة السَّبَرَات([2])، وكمشقة إقامة الصلاة في الحَرِّ والبَرْد، ولا سيما صلاة الفجر، وكمشقة الصوم في شدَّة الحَرِّ وطول النهار، وكمشقة الحج التي لا انفكاك عنها غالبًا، وكمشقة الاجتهاد في طلب العلم والرحلة فيه، وكذلك المشقة في رجم الزناة، وإقامة الحدود على الجناة، ولا سيما في حق الآباء والأمهات والبنين والبنات، فإن في ذلك مشقة عظيمة على مقيم هذه العقوبات؛ بما يجده من الرقة والمرحمة بها للسرَّاق والزناة والجناة من الأجانب والأقارب البنين والبنات؛ فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها؛ لأنها لو أثَّرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات في جميع الأوقات أو في غالب الأوقات، ولَفَات ما رُتِّب عليها من المثوبات الباقيات ما دامت الأرض والسموات.
الضرب الثاني: مشقة تنفك عنها العبادات غالبًا؛ وهي أنواع:
النوع الأول: مشقة عظيمة فادحة؛ كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأطراف؛ فهذه مشقة موجبة للتخفيف والترخيص؛ لأن حفظ المُهَج والأطراف لإقامة مصالح الدارين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات ثم تفوت أمثالها.
النوع الثاني: مشقة خفيفة؛ كأدنى وجع في إصبع، أو أدنى صداع، أو سوء مزاج خفيف؛ فهذا لا لفتة إليه ولا تعريج عليه؛ لأن تحصيل مصالح العبادة أولى من دفع مثل هذه المشقة التي لا يؤبه لها.
النوع الثالث: مشاقٌّ واقعة بين هاتين المشقتين، مختلفة في الخِفَّة والشِّدَّة؛ فما دنا منها من المشقة العليا، أوجب التخفيف، وما دنا منها من المشقة الدنيا، لم يوجب التخفيف؛ إلا عند أهل الظاهر؛ كالحُمَّى الخفيفة، ووجع الضرس اليسير، وما وقع بين هاتين الرتبتين مختلف فيه، ومنهم من يُلْحقه بالعليا، ومنهم من يُلحقه بالدنيا؛ فكلما قارب العليا كان أولى بالتخفيف، وكلما قارب الدنيا كان أولى بعدم التخفيف»اهـ([3]).
[1])) «شرح القواعد الفقهية» لأحمد الزرقا (ص157).
[2])) قال في «النهاية» (2/ 333): «السَّبَرَات: جمع سَبْرة بسكون الباء؛ وهي شدة البرد»اهـ.
[3])) «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» (2/ 9، 10).