يقول الشيخ عبدالله بن جبرين على شرح الطحاوية-قال المؤلف: [وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار لا مسلمة الاختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه .. هاه .. لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم لله، ولينظر من أي الفريقين هو؟ والله الموفق.فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل، فإنه مركوز في الفطر، وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة، وقد خرج من بين الصلب والترائب -والترائب: عظام الصدر- ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين في ظلمات ثلاث، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا ، ومحال توهم عمل الطبائع فيها لأنها موات عاجزة ولا توصف بحياة، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير. فإذا تفكر في ذلك، وانتقال هذه النطفة من حال إلى حال؛ علم بذلك توحيد الربوبية، فانتقل منه إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا علم بالعقل أن له رباً أوجده؛ كيف يليق به أن يعبد غيره؟ وكلما تفكر وتدبر ازداد يقيناً وتوحيداً، والله الموفق؛ لا رب غيره ولا إله سواه!].
وجوب البحث عن الحق على كل عاقل
ذكر أن الإنسان عادة ما يتبع ما عليه آباؤه ومجتمعه، ولكن لا يكون ذلك حجة له، ولا يكون معذوراً بذلك، فالذين قالوا: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173] يقال: لا نهلككم بفعلهم، بل كلٌ يعذب بذنبه؛ فآباؤكم عليهم ذنوب وأنتم عليكم ذنوب، وأبناؤكم عليهم ذنوبهم التي اقترفوها وعملوها، ولو كان السبب أو المضل هو الأول.وذلك لأن الله تعالى فطر العباد على معرفته، والواجب عليهم أن يتأملوا ما فطروا عليه، وأن يتعقلوا خلقه، وأن يتعقلوا هذا الكون الذي بين أيديهم، وأن يتفكروا في مخلوقات الله تعالى، ومنه يخرجون إلى نتيجة وهي توحيد الربوبية، وهو أن هذا الكون له رب خالق مدبر، وأنه لم يخلق عبثاً كما في قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] يعني: مهملاً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:37-40].يعني: يتدبر الإنسان مبدأ أمره ومبدأ تكوينه، وهو أنه قد كان في صلب أبيه، ثم خرج واستقر في رحم أمه، كما في قوله تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ [المرسلات:20-22] جعله الله في قرار مستقر لا تصل إليه الأيدي، ولا تعمل فيه الطبائع، ولا تقدر عليه الحيل. انقطعت عنه التدابير، فأخرجه الله بعد أن كوّنه بشراً سوياً كما في قوله تعالى: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37] وقال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر:67] يعني: أطفالاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا [غافر:67] ، فهذا التدبير وهذا التنقل ليس للطبيعة فيه مجال، بل الترتيب والتربية هي خلق الله وتدبيره وتكوينه.فإذا عرف الإنسان هذا الكون وأنه لا بد له من مدبر وخالق ومتصرف، استقر بذلك توحيد الربوبية في عقله، وعرف أن له رباً، ثم بعد ذلك يتنقل من تفكير إلى تفكير فيقول:ما دام أن لهذا الكون رباً وخالقاً ومدبراً فإن لهذا الرب الخالق المدبر حقوقاً علينا! فما هي تلك الحقوق؟هي أن نعبده وحده، وأن نقر به إلهاً، وأن نصرف له حقوقه التي فرضها علينا وبعد أن يسأل عن هذه الحقوق ويعرفها، فإذا عرف التزم بالتقرب بها، والتزم بأن يعبد الله بها، وأن يحرص على الاستسلام لله، وبذلك يكون من أهل السعادة. فكونه يقنع بما كان عليه آباؤه من الكفر والضلال والبدع والشرك والخرافات التي تمجها الأسماع وتنكرها الطباع ويقول: هكذا وجدت أبي! يقال: هذا خطأ! لماذا لم تسأل عن الحق؟ أترضى أن تكون مقلداً لا تدري ما الناس فيه؟! هؤلاء الذين يتبعون الناس ويتبعون ما هم عليه من خطأ؛ هم الذين إذا سئلوا في القبر: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ يقول أحدهم: هاه .. هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيعذبون في قبورهم على هذه المقالة، ولا ينفعهم أنهم سمعوا الناس وأنهم قلدوا الناس، بل الواجب على العاقل من حيث هو أن يستعمل عقله في معرفة خالقه ومدبره، وألّا يرضى بما الناس عليه دون أن يمحص تلك الأقوال والأعمال التي يعملها الناس، ودون أن يعرف الحق أو يبحث عنه؛ فإنه إذا بحث عن الحق عرفه، وإذا عرفه لزمه العمل به، وإذا لزمه العمل به وأداه كما ينبغي سعد وأصبح من أهل الخير.