الحديث الثاني هو حديث أبي هريرة في اطالة الغرة والتحجيل الذي ضعف شطره الأخيرالألباني رحمه الله تعالى تبعا لشيخ الاسلام وتلميذه ابن القيم وقالوا انه مدرج من كلام الصحابي أبي هريرة أخطأ بعض الرواة فرفعه الى النبي عليه الصلاة والسلام ووصله بكلامه , فعبارة (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ".) قالها أبو هريرة بعد أن روى الحديث المرفوع (" إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء)
والحديث متفق عليه بين الشيخين , وما اتفقا عليه قد اتفقت الأمة بعدهما على قبوله بلا نزاع
قال الألباني في الصحيحة
(" إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ".
وهو متفق عليه بين الشيخين، لكن قوله: " فمن استطاع ... " مدرج من قول أبي
هريرة ليس من حديثه صلى الله عليه وسلم كما شهد بذلك جماعة من الحفاظ كالمنذري
وابن تيمية وابن القيم والعسقلاني وغيرهم ) انتهى
ونقل في الضعيفة كلام ابن القيم مقرا له مستشهدا به
( فقال هذا في " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " (1/316) : فهذه الزيادة مدرجة في الحديث من كلام أبي هريرة لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بين ذلك غير واحد من الحفاظ، وكان شيخنا يقول: هذه اللفظة لا يمكن أن تكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الغرة لا تكون في اليد، لا تكون إلا في الوجه، وإطالته غير ممكنة، إذ تدخل في الرأس فلا تسمى تلك غرة.) انتهى
فتبين مما سبق أن شيخ الاسلام وتلميذه قد أعلا الرواية بالادراج أما غيرهما فلم أجد لهما عبارة صريحة في ذلك
أما المنذري فقد قال (وقد قيل: إن قوله: من استطاع إلى آخره، إنما هو مدرج من كلام أبي هريرة موقوف عليه، ذكره غير واحد من الحفاظ، والله أعلم.) انتهى
فالمنذري قال (قد قيل ) , وهذه صيغة تمريض عند أهل الحديث وصيغة المبني للمجهول عند أهل العربية
فمثلها لا يفصح عن مذهب ناقلها , وهو أيضا لم يفصح لنا عن أسماء هؤلاء الحفاظ فلن يخرجوا من دائرة المجاهيل
أما الحافظ ابن حجر فلم يقل أبدا بأن الرواية موقوفة على ابي هريرة ولا أعلها بالادراج , وهذا كلامه ينطق بالحق
قال في الفتح
(وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ مِنَ التَّطْوِيلِ فِي التَّحْجِيلِ فَقِيلَ إِلَى الْمَنْكِبِ وَالرُّكْبَةِ وَقَدْ ثَبَتَ عَن أبي هُرَيْرَة رِوَايَة ورأيا
وَعَن بن عمر من فعله أخرجه بن أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ
وَقِيلَ الْمُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ إِلَى نِصْفِ الْعَضُدِ وَالسَّاقِ وَقِيلَ إِلَى فَوق ذَلِك )) انتهى
فقد ثبت عن أبي هريرة رواية ورأيا , أي مرفوعا وموقافا من قوله (رأيه)
وكذا عن ابن عمر , ورام الألباني تضعيفها لكن لها متابع يقويها فهي شاهد حسن لرواية أبي هريرة تدل على أنه يتفرد بهذا العمل
وبعد أن ذكر الحافظ قول من استحب اطالة الغرة والتحجيل , ذكر من قال بعدم مشروعيتها , وهم المالكية , ورواية عن أحمد , وأسرف بعض المالكية فنقلوا الاتفاق على عدم الاستحباب , وهذا من الاجماعات التي وصف الامام أحمد ناقلها بأنه من الكاذبين , الا اذا أراد قائلها أصحاب مذهبه فيكون حينئذ من الصادقين
ثم قال الحافظ بعد ذلك
((وَقَالَ بن بَطَّالٍ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكَعْبِ وَالْمِرْفَقِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ وَكَلَامُهُمْ مُعْتَرَضٌ مِنْ وُجُوهٍ وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ صَرِيحَةٌ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَلَا تَعَارُضَ بِالِاحْتِمَالِ
وَأَمَّا دَعْوَاهُمُ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ بِمَا نَقَلْنَاهُ عَن بن عُمَرَ وَقَدْ صَرَّحَ بِاسْتِحْبَابِه ِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّة ِ وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمُ الْإِطَالَةَ الْمَطْلُوبَةَ بِالْمُدَاوَمَة ِ عَلَى الْوُضُوءِفَمُعْتَرَضٌ بِأَنَّ الرَّاوِيَ أَدْرَى بِمَعْنَى مَا رَوَى كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ إِلَى الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم))
وكلامه واضح بين لا يحتاج الى تعليق
وقال أيضا ابن القيم ((وقد اختلف الفقهاء فى ذلك، وفيها روايتان عن الإمام أحمد.إحداهما: يستحب إطالتها، وبها قال أبو حنيفة والشافعى، واختارها أبو البركات ابن تيمية وغيره.
والثانية: لا يستحب، وهى مذهب مالك، وهى اختيار شيخنا أبى العباس.) انتهى
وأبو العباس هو ابن تيمية وأبو البركات هو جده وهو حنبلي أيضا
ويقصد الحافظ ابن حجر برواية مسلم المصرحة بالاستحباب الأولى التي رواها عمارة بن غزية
عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرِ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ "، ثُمَّ قَالَ: " هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ. وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إِسْباغِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكمْ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ»
والرواية الثانية موافقة لرواية البخاري
وقوله ( هَكَذَاا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ.)
لايذر أي ريب في كون هذا الفعل مرفوعا الى النبي عليه الصلاة والسلام قولا وفعلا
ولا يمكن أن يكذب أبو هريرة و فقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام يتوتضأ هكذا كما فعل أبو هريرة حين أشرع في العضد وفي الساق
وقوله (فمن استطاع منكم فليطل غرته ) لا يمكن أن يقوله أبو هريرة لأنه خطاب عام الى الأمة
وأبو هريرة حين تكلم بالحديث لم يكن معه الا نعيم المجمر , فلو كان الكلام كلامه لقال (فاذا استطعت فأطل غرتك وتحجيلك)
وزعموا أن نعيما تفرد بهذا الحديث عن أبي هريرة , وهذا لا يضره لأنه ثقة قد لازم أبا هريرة سنين عددا وروى عنه ما لم يروه الا هو
لكنه لم يتفرد فقد توبع برواية ليث بن أبي سليم وهو ضعيف وشيخه غير معروف
لكن ذكر الدارقطني في العلل روايتين قويتين تشهدان بقوة لرواية نعيم -أبو صالح وأبو زرعة - ورجالها ثقاث محتج بهم الا أنه كعادته رجح عليها الرواية الموقوفة .
قال الدارقطني في العلل (8-170)
عَنْ يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جَمِيعًا، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ...قَالَ: إِنَّكُمْ مَحْشُرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ.))انتهى
والموقوف لا يعل المرفوع بل يقويه , وهذا اخبار عن أحوال يوم القيامة فلا يمكن أن يقال الا يسماع من النبي عليه الصلاة والسلام
--------------
ولعل بعضهم يستمسك برواية الامام أحمد والتي فيها تصريح بالشك من نعيم في رفع هذا اللفظ أو وقفه على أبي هريرة
حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرِ،
أَنَّهُ رَقِيَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَرَفَعَ فِي عَضُدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ "
فَقَالَ نُعَيْمٌ: لَا أَدْرِي قَوْلُهُ: " مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ "
مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ)) انتهى
لكن هذه الرواية في اسنادها ضعف بسبب الراوي عن نعيم وهو فليح
فانه صدوق لكن ضعفه ابن معين وابن المديني و النسائي في رواية
وقال أبو داود , ليس بشيء .
لذلك لخص حاله الحافظ فقال (صدوق كثير الخطأ)
وهذ الزيادة لا يبعد أن تكون من أوهامه , لذلك أخرجه الشيخان عن ثقتين وهما سعيد بن أبي هلال
وعمارة بن غزية عن نعيم المجمر بدون هذه الزيادة مع أن فليحا هذا من رجالهما لكن تحايدا هنا اخراج الحديث من طريقه
والمقصود أن هذه العبارة لو كانت من كلام الصحابي لاستحال خفاؤها عن مثليهما ,
وسيأتي باذن الله كتابة بعض الأمثلة التي ميز فيها البخاري كلام النبي عليه الصلاة والسلام من كلام الرواة , والفصل بين الاسانيد التي قد تتداخل على بعض المحدثين بما تستبين به طريقة البخاري في الدقة والتمحيص والتثبت بما لم يسبقه اليه أحد
ولن يلحقه أحد من بعد .
وبذلك استوى على عرش الحديث
ولن يدركه أحد ولو سعى السعي الحثيث