كنت استمع البارحة لفضيلة الشيخ الشريف حاتم العوني رفع الله قدره وأعلى ذكره في سلسلتة الرائعة "مصادر السنة ومناهج مصنفيها" فسمعته يقول في الشريط الأول الدقيقة الخامسة بعد الساعة، يقول:
" أنه لم يسبق الإمام الترمذي إلى استعمال مصطلح الحديث الحسن بمعناه الاصطلاحي أحد " فكل من سبقه ما كانوا يستخدمون الحسن بالمعنى الاصطلاحي ولا كان عندهم الحديث المقبول ينقسم إلى صحيح وحسن "
قلت: قد حرر هذه المسألة بكلام قوي متين شيخنا المحدث الباحث المحقق أبو محمد عبد الله بن يوسف الجديع في كتابه "التحرير" ج2/ 819: 825)
قال في المبحث الثاني من الفصل الثاني تحت عنوان" تاريخ هذا المصطلح( الحسن)
(والتحقيق : أنه مسبوق ( يعني الترمذي)إلى استعمال هذا المصطلح بالمعنى الذي قصد إليه ، سبقه به أئمة الحديث ، لكنه لم يتحرر يومئذ بتعريف ، وفضل الترمذي أنه أول من صاغ قانونه ، وحرر تعريفه .
فممن استعمله قبله أو من معاصريه من أئمة الحديث :
( 1 ) الإمام مالك بن أنس ، وهو أقدم من عرف عنه ذكر ( الحديث الحسن ) .
وذلك فيما أخرجه الحافظ ابن أبي حاتم الرازي ( تقدمة الجرح والتعديل صى32،31 ) قال : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب ، قال : سمعت عمي ( يعني عبد الله بن وهب ) يقول : سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ؟ فقال : ليس ذلك على الناس ، قال : فتركته حتى خف الناس ، فقلت له : عندنا في ذلك سنة ، فقال : وما هي ؟ قلت : حدثنا الليث بن سعد ، وابن لهيعة ، وعمرو بن الحارث ، عن يزيد بن عمرو المعافري ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن المستورد بن شداد القرشي ، قال :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه " .
فقال : " إن هذا الحديث حسن ، وما سمعت به قط إلا الساعة " ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع .
وهذا الحديث لو تتبعته صرت إلى أنه ( حسن ) بالمعنى الاصطلاحي ، مع أن الاصطلاح لم يعرف بعد .
( 2 ) الإمام علي بن المديني .
ومما جاء عنه في ذلك في حديث عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان ذا وجهين في الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة " ، قال ابن المديني : " إسناده حسن , ولا نحفظه عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الطريق " (، والحديث الذي رواه عن سعيد بن جبير فهو حسن " ( نقله المزي في تهذيب الكمال(29/482 ) .
( 3 ) الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب " الصحيح " .
فقد نقل عنه الترمذي تحسينه لعدة أحاديث ، وذلك في كتابي " الجامع " و " العلل الكبير " ، جميعها مما يتطابق مع تعريف الحديث الحسن بما تقدم ، وعنى به البخاري درجة في الثبوت ، منها : حديث عثمان في تخليل اللحية في الوضوء ، وحديث ابن عباس في تخليل الأصابع ، وحديث عائشة في " ويل للأعقاب من النار " في الوضوء كذلك ، وغيرها .
( 4 ) أبو حاتم الرازي ، فحكم به على الحديث المعين ، قوله في ترجمة ( عمرو بن محمد ) الراوي عن سعيد بن جبير : " هو مجهول) ، والحديث الذي رواه عن سعيد بن جبير فهو حسن.(الجرح والتعديل(3/1/262)
وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن حديث رواه شعبة والليث عن عبد ربه بن سعيد ، واختلفا : فقال الليث : عن عمران بن أبي أنس .
وقال شعبة : عن أنس بن أبي أنس .
واختلفا : فقال الليث : عن ربيعة بن الحارث .
وقال شعبة : عن المطلب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " الصلاة مثنى مثنى ، تخشع ، وتضرع ، وتمسكن ، وتقنع بيديك _ يقول : يرفعهما _ وتقول : يا رب ، يا رب ، فمن لم يفعل ذلك لم يفعل ذلك فهيَ خداج " .
قال أبي : " ما يقول الليث أصح ؛ لأنه قد تابع الليث عمرو بن الحارث ، وابن لهيعة ، وعمرو والليث كانا يكتبان ، وشعبة صاحب حفظ " .
قلت لأبي : هذا الإسناد عندك صحيح ؟ قال : " حسن " .
قلت لأبي : من ربيعة بن الحارث ؟ قال : " هو ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب " . قلت : سمع من الفضل ؟ قال : " أدركه " . قلت : يحتج بحديث ربيعة بن الحارث ؟ قال : " حسن " . فكررت عليه مراداً فلم يزدني على قوله : " حسن " ، ثم قال : " الحجة سفيان وشعبة " .
قلت : فعبد ربه بن سعيد ؟ قال : " لا بأس به " . قلت : يحتج بحديثه ؟ قال : " هو حسن الحديث " ( علل الحديث رقم 365 ) .
قلت : حكم أبي حاتم على راو بكونه ( حسن الحديث ) كثير ، يأتي قريباً بعض مثاله .
قلت : والأشبه أن يكون ما اصطلحه الترمذي في عد الحديث الحسن قسيماً للصحيح في جملة الحديث المقبول ، مما أخذه عن شيخه البخاري ، وأخذه البخاري عن شيخه علي بن المديني .
ولا نعلم أحداً من أئمة هذا الشأن عاب على الترمذي هذا الاصطلاح عند ظهوره منه ، بل إن من جاء من بعد قد تواردوا على متابعة الترمذي في استعماله .
ويعتضد ما بينته عن الترمذي في معنى ( الحسن ) وعمن سبقه إليه أو وافقه فيه : ما شاع من استعمال إطلاق وصف ( حسن الحديث ) على الراوي ، فمن تأمل أحوال من أطلقت عليه هذه العبارة عند متقدمي العلماء وجدها صفة من يحكم على حديثه بالحسن الاصطلاحي .
فمن ذلك :
( 1 ) قال أحمد بن حنبل في ( شهر بن حوشب ) : " ما أحسن حديثه " ووثقة ، قال : " روى عن أسماء بنت يزيد أحاديث حساناً " ( الجرح والتعديل(2/1/383 ) .
( 2 ) وقال أبو داود في ( أشعث بن عبد الرحمن ) : " حسن الحديث " (سؤالات الأجري(النص:312) .
( 3 ) وقال أبو حاتم الرازي في ( عبد الله بن عبد الملك بن أبي عبيدة المسعودي ) : " حسن الحديث ، لا بأس به عنده غرائب عن الأعمش " (الجرح والتعديل(2/2/105) .
( 4 ) وقال أبو حاتم في ( محمد بن راشد المكحولي ) : " كان صدوقاً ، حسن الحديث " ( الجرح والتعديل(3/2/253 ).
( 5 ) وقال أبو حاتم في ( محمد بن عبد الله المرادي ) : " شيخ لشريك ، حسن الحديث ، صدوق " (الجرح والتعديل(3/2/309) .
وعلى نفس المعنى جرى الناقد أبو أحمد بن عدي في تحرير عبارات المتقدمين ، وإن كان قد جاء بعد الترمذي لكنه كان على سنن السابقين ، ومن أمثلة كلامه في ذلك :
نقل عن يحيى بن معين قوله في ( إبراهيم بن سليمان أبي إسماعيل المؤدب ) : " ضعيف " ، ثم قال : " هو عندي حسن الحديث ، ليس كما رواه معاوية بن صالح عن يحيى ، وله أحاديث كثيرة غرائب حسان ، تدل على أن أبا إسماعيل من أهل الصدق ، وهو ممن يكتب حديثه " ( الكامل(1/404) .
وقال ابن عدي في ( أبان بن يزيد العطار ) : " هو حسن الحديث متماسك ، يكتب حديثه ، وله أحاديث صالحة عن قتادة وغيره ، وعامتها مستقيمة ، وأرجو أنه من أهل الصدق " (الكامل(2/73) .
وقال ابن عدي في ( بريد بن عبد الله بن أبي بردة الأشعري ) وقد ذكر له حديثاً تفرد به : " هذا طريق حسن ، ورواة ثقات ، وقد أدخله قوم في صحاحهم ، وأرجو أن لا يكون ببريد هذا بأس " (الكامل/2/247) .
ولابن عدي بمثل المعنى في رواة آخرين (الكامل ) .
قلت : وقول ابن عدي : ( يكتب حديثه ) ولم يقل : ( يحتج به ) ؛ لأن من كان ( حسن الحديث ، صدوقاً ) لا يصلح الاحتجاج بخبره ابتداء حتى ينظر فيه ، فيعرف أنه محفوظ ، وإنما تكون عبارة ( يكتب حديثه ) جرحاً لو جاءت مفردة ، أو مضمونة إلى لفظ جرح .
نعم ، ربما قال الناقد في الراوي ( حسن الحديث ) وهو من الثقات المتقنين ، كما قال أحمد بن حنبل في أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج : " شعبة حسن الحديث عن أبي إسحاق ، وعن كل من يحدث عنه " ( تقدمة الجرح والتعديلص:176 ) ، وقال في ( عيسى بن يونس بن أبي إسحاق ) : " حديثه حسن " (مسائل الإمام أحمد رواية بن هانئ/2/197) ، وقال العجلي في ( سفيان بن عيينة ) : " كان حسن الحديث " (معرفة الثقات(النص 631) ، وقال أحمد بن حنبل في ( زيد بن أبي أنيسة ) : " إن حديثه لحسن مقارب ، وإن فيها لبعض النكارة ، وهو على ذلك حسن الحديث " (الضعفاء للعقيلي (2/74 قلت وزيد ثقة وأحسب النكارة التي عنى أحمد التفرد فإنه ربما أراد ذلك) ، وقال علي بن المديني : " ليس أحد أثبت في سعيد بن أبي سعيد المقبري من ابن أبي ذئب وليث بن سعد ومحمد بن إسحاق ، هؤلاء الثلاثة يسندون أحاديث حساناً ، ابن عجلان كان يخطئ فيها " ( معرفة الرجال لابن محرز(2/207 ) .
غير أن هذا قليل ، فيكون التأصيل : أن من قيلت فيه عبارة ( حسن الحديث ) فهو صدوق حسن الحديث على المعنى الاصطلاح ، حتى تدل قرينة على عدم إرادة ذلك .
ومن دلالة القرينة على عدم إرادة ذلك مثلاً قول ابن عدي في ( حسام بن مصك ) : " عامة أحاديثه إفرادات ، وهو مع ضعفه حسن الحديث ، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق " (الكامل3/366) .
فسائر قول ابن عدي مع النظر في كلام غيره من نقاد الحديث في ( حسام ) هذا ، يتبين أن حسن الحديث هنا لم يرد به المعنى الاصطلاحي له ، إنما ما يكون من حديث الراوي صالحاً للاعتبار .
خلاصة ما تقدم :
استعمال مصطلح ( الحديث الحسن ) قديم لأهل العلم بالحديث ، واقع في كلام المتقدمين ، يعنون به مرتبة من مراتب القبول والاحتجاج ، وإنما كان للترمذي فيه فضل الإبراز والتعريف).
انتهى